ضحك الرجل وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!
نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره، قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع، تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ (دسوقي) حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف وقال: يسعد الله مساءكم.
سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه، قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟
قال سليمان نتمشى شوية في الطراوة.
كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر، سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة، أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك، لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، وتطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته، نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت، قال سليمان: الله يرحمه، كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب في الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك، كان ساعات يغيب عن وعيه ولما يفوق يسألني: ابننا مش هيرجع يا ابني؟ أقول له: أنت مش فاكر اسمه يا ابه؟ فيقول: ابننا اللي في بلاد بره. أقول له: إن شاء الله يرجع لما يأخذ الدكتوراه. يقول لي: ربنا يسلمه يا بني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له: ده ابننا أحمد يا ابه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.
صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت، والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر، وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء. حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه؟ البركة فيك أنت يا دكتور، ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك، وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا ففتح فمه مترددا وقال: الموت حق يا سي الدكتور، وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنضرة.
في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي، ولكنه تشكك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.
قال لأخيه ضاحكا: المهم أنك معمر البيت، تجهم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئا، لاحظ أن حامدا قد بدا عليه الحرج وتأوه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع، ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطح نور الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه، اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تظهر بؤس أصحابها أكثر مما تخفيه، تأملهم طويلا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل.» لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء وجلابيبهم القذرة، وطواقيهم التي تغطي رءوسا متعبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.
قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين، تذكر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية، قال لنفسه: إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: ترى هل يظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراه إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثا، تمثل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق، بدا له أنه طوفان أسود يغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها والمعادلات التي شقي في اكتشافها، قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم: ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائما ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.
عبروا المزلقان وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت، وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة.
صفحة غير معروفة