هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها ، ليست بحاجة إلى برهان يقام على صوابها؛ لأنها حقيقة يدركها الإنسان بفطرته إدراكا مباشرا أو تكاد؛ وأعني بها أن الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يطالب أن تجيء المحاكاة قولا بقول وفعلا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المحال؛ فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتها، لكنها لا تجيء مطابقة لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها. وإن أصحاب المعرفة بدنيا النبات ليزعمون لنا بأنك لن تجد في ملايين الملايين من وحدات النبات، ورقتين تطابق إحداهما الأخرى في كل أجزائها، وذلك هو سر الحياة في شتى كائناتها: أن يكون لكل كائن على حدة فردية لا يشاركه فيها كائن آخر، وحتى التوائم، فمهما بلغ التشابه بينهم، فيكفي لاختلافهم اختلاف البصمات.
وإذا كان ذلك هو مبدأ الحياة في تصويرها للأحياء من أدناها إلى أعلاها، فكيف بالإنسان الذي جعله الله مسئولا عما يفعل، لا يشفع له أن يكون قد جرى في فعله مجرى السالفين، وإذن فهي - كما قلت - حقيقة توشك أن تكون من البدائه الأولية؛ ألا يكون المقصود بمحاكاة الأواخر للأوائل، محاكاة لا تدع مجالا للإبداع وللإرادة الحرة تختار لتقع عليها تبعة اختيارها.
فماذا نعني حين نوصي المعاصرين بأن يترسموا في سيرهم خطو السالفين؟ ماذا نعني حين ندعو إلى إحياء تراث الآباء ليسري في حياتنا الحاضرة سريان الزيت في الزيتونة؟ ماذا نعني حين نلتمس لأنفسنا طريقا نجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟ ولقد يسهل على بعضنا - أحيانا - أن يطالبوا الشاعر في يومنا بأن ينظم على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون، أو أن يحكم القاضي في الناس بما كان يحكم به قضاة الأمس البعيد، ولكن ماذا عساهم أن يقولوا في علماء اليوم وبين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلم به أحد من السابقين - ولست أريد بالسابقين أولئك الذين عاشوا منذ كذا قرنا من الزمان، بل أريد من عاش منهم في القرن الماضي أو الذي سبقه؟ إن حياة الناس اليوم، ليست كلها مركبات لفظية، صيغت شعرا أو نثرا، حتى يسهل علينا أن نطالب المعاصرين بأن يحركوا أقلامهم أو ألسنتهم بمثل ما تحركت عند القدماء ألسنة وأقلام، بل الحياة أبحاث علمية تجري في المعامل، والحياة مكنات تدور تروسها وعجلاتها في المصانع، والحياة نظم في التعليم، ونظم في الإدارة، ونظم في إنتاج السلع وتوزيعها، والحياة طائرات وصواريخ، والحياة نقل للأعضاء من بدن إلى بدن، والحياة استزراع للصحراء، بل هي استزراع للهواء وسطح الماء. وإن طريق القول ليطول بنا، لو أخذنا نسرد الأمثلة بالمئات، لنقول ماذا هي حياة اليوم، فكيف يجوز للوهم أن يتوهم بأن حياة العصر يمكن أن تصب بحذافيرها في قوالب السالفين؟
ومع ذلك، فهنالك معنى مفهوم - نبحث عنه لنبسطه فيصير واضحا بعد إبهام - إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياء يسري به في جسم الحياة الحاضرة. وإن ذلك المعنى المبهم ليأخذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحو يجعلها محاكاة في «الاتجاه» لا في خطوات السير، محاكاة في «الموقف» لا مادة المشكلات وأساليب حلها، محاكاة في «النظرة» لا في تفصيلات ما يقع عليه البصر، محاكاة في أن يكون العربي الجديد مبدعا لما هو أصيل، كما كان أسلافه يبدعون، دون أن تكون الثمرة المستحدثة على يدي العربي الجديد هي نفسها الثمرة التي استحدثها العربي القديم، محاكاة في «القيم» التي يقاس عليها ما يصح وما لا يصح، كما يأخذ زيد من خالد مسطرته ليقيس عليها قطعة من قماش، بعد أن كان خالد لا يقيس عليها إلا خطوطا على ورق؛ المسطرة واحدة، وأما المواد المقيسة فمختلفات. وهكذا تكون حالنا إذا ما استعرنا من الأقدمين «قيمة» عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة.
2
والقيم كثيرة، تلك التي كانت تنتظم حياة أسلافنا فكرا وسلوكا، والتي يمكن أن نستعيرها لحياتنا المعاصرة، لتكون هي الحلقة الرابطة بين ماض وحاضر، لكني سأقصر الحديث في هذا المقال على إحداها، فأتعقبها تحليلا وتوضيحا؛ لأبين كيف كانت منزلتها في فكر السلف، وكيف يمكن امتدادها إلى حياتنا الفكرية الراهنة، فتصبح إحدى همزات الوصل التي تجعل من الحلقات سلسلة متصلة أولا بآخر.
والقيمة التي اخترتها لتكون مدار النظر، هي الطريقة الإدراكية التي أزعم أنها كانت نهجا مأثورا عند آبائنا العرب والمسلمين، فطريقتهم في التفكير - فيما أزعم - لم تكن تصعد من الشواهد الجزئية، والأحداث الجارية، إلى المبدأ العام الذي يستقطبها، بل كانت تهبط من مبدأ يفرض نفسه عليهم فرضا؛ ليستخرجوا منه ما يستخرجونه من قواعد للفكر والسلوك. على أن مصادر ذلك الإلزام قد تتعدد، فإما أن يكون المبدأ المفروض ملزما لكونه وحيا من السماء، أو إلهاما بفكرة، أو حدسا لها (بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حدس، وهو أن يكون الإدراك عيانا عقليا مباشرا) أو أن يكون ملزما؛ لأنه تقليد راسخ، أو عرف بين الناس تواترت به الأعوام.
وسنضرب للقارئ أمثلة من مجالات التفكير على اختلافها؛ ليرى كيف كانت الحركة هابطة من العام إلى الخاص، لا صاعدة من الخاص إلى العام، لا فرق بين أن يكون المجال مجال علم رياضي أو طبيعي، أو أن يكون مجال أدب أو فن، أو مجال لغة أو تشريع، ففي جميع الحالات كان العقل العربي يلمع أولا بالمبدأ العام، ثم يتدرج منه نزولا إلى تفصيلات التطبيق.
ولنبدأ باللغة العربية؛ لأن أول ما يميز العربي - بداهة - هو أن لسانه عربي. وإذا كان ذلك صحيحا بالنسبة إلى كل لغة وأصحابها، فهو صحيح بصفة خاصة بالنسبة إلى العربي؛ وذلك لأن عبقرية العرب الأولى، هي - كما قد قيل - في لسانهم. إنهم لم يعتزوا بشيء اعتزازهم بلغتهم؛ إذ هي لم تكن بينهم مجرد أداة للتفاهم، بل كانت أكثر من ذلك، كانت هي المجال الأساسي الذي انصبت عليه طاقتهم الفنية. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو معجزة الإسلام.
فانظر إلى هذه اللغة، تجد مفرداتها قد جاءت انبثاقا من ينابيع، فتدفقت منها مجموعات مجموعات، وكأن هذه المجموعات انعكاس للقبائل والعشائر، يرتد كل منها إلى جد كبير. وأما تلك الينابيع الدفاقة بمجموعات الألفاظ، فهي الأصول الثلاثية - في الأعم الأغلب - ويكفيك الأصل الثلاثي لتظل تخرج من جوفه مشتقاته، فيكون لك من هذه المشتقات ما تواجه به مواقف الحياة الواقعة جميعا. إنك في اللغات الأخرى قد تضطر في حالات كثيرة إلى حفظ المفردات كما هي، وبغير تعليل؛ لأنها هكذا جاءت، وأما في العربية فعندك أصل واحد - هو الثلاثي في معظم الأحيان - ولا ضرورة بعد ذلك لحفظ المفردات، وكل ما عليك أن تفعله، هو أن تشتق من ذلك الجذر أي فرع تشاء؛ فهي لغة تنسقها قواعد مطردة، لا يشذ فيها إلا أقل من القليل. والقواعد بدورها تنحدر من مبدأ يضمها، فإذا عرفت المبدأ، نزلت منه إلى القواعد، ومن القواعد تنزل إلى مواقف التطبيق.
صفحة غير معروفة