قيمة من التراث تستحق البقاء
ابن رشد في تيار الفكر العربي
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
من وحي الكعبة
تربية الضمير الديني
الشعائر وما وراءها
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
ذلك دور المسلمين
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
الدين والتدين وعلم الدين
صفحة غير معروفة
ويبقى الود ما بقي العتاب
أقولها كلمة صدق
نمل ونحل
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
بقعة زيت على محيط هادئ
كلمات تحت كلمات
أبراج بلا نوافذ
حرية الذين يعلمون
بل من هنالك نبدأ
أضداد تتزاحم!
صفحة غير معروفة
طالبة وطالب
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
النفخة الكذابة
قالت الشمس للسحب
حوار مع وراق
مغامرات محسوبة!
قوة المستغني
قراءة في كراسة مجهولة
هيا إلى اقتحام العقبة
صفحة غير معروفة
سؤال عن الثقافة وجوابه
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
حوار على الورق (1)
حوار على الورق (2)
حوار على الورق (3)
مصر هي أنت يا صديقي
لك أنت الولاء يا مصر
قيمة من التراث تستحق البقاء
ابن رشد في تيار الفكر العربي
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
صفحة غير معروفة
من وحي الكعبة
تربية الضمير الديني
الشعائر وما وراءها
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
ذلك دور المسلمين
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
الدين والتدين وعلم الدين
ويبقى الود ما بقي العتاب
أقولها كلمة صدق
نمل ونحل
صفحة غير معروفة
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
بقعة زيت على محيط هادئ
كلمات تحت كلمات
أبراج بلا نوافذ
حرية الذين يعلمون
بل من هنالك نبدأ
أضداد تتزاحم!
طالبة وطالب
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
صفحة غير معروفة
النفخة الكذابة
قالت الشمس للسحب
حوار مع وراق
مغامرات محسوبة!
قوة المستغني
قراءة في كراسة مجهولة
هيا إلى اقتحام العقبة
سؤال عن الثقافة وجوابه
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
حوار على الورق (1)
صفحة غير معروفة
حوار على الورق (2)
حوار على الورق (3)
مصر هي أنت يا صديقي
لك أنت الولاء يا مصر
قيم من التراث
قيم من التراث
تأليف
زكي نجيب محمود
قيمة من التراث تستحق البقاء
1
صفحة غير معروفة
هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها ، ليست بحاجة إلى برهان يقام على صوابها؛ لأنها حقيقة يدركها الإنسان بفطرته إدراكا مباشرا أو تكاد؛ وأعني بها أن الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يطالب أن تجيء المحاكاة قولا بقول وفعلا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المحال؛ فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتها، لكنها لا تجيء مطابقة لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها. وإن أصحاب المعرفة بدنيا النبات ليزعمون لنا بأنك لن تجد في ملايين الملايين من وحدات النبات، ورقتين تطابق إحداهما الأخرى في كل أجزائها، وذلك هو سر الحياة في شتى كائناتها: أن يكون لكل كائن على حدة فردية لا يشاركه فيها كائن آخر، وحتى التوائم، فمهما بلغ التشابه بينهم، فيكفي لاختلافهم اختلاف البصمات.
وإذا كان ذلك هو مبدأ الحياة في تصويرها للأحياء من أدناها إلى أعلاها، فكيف بالإنسان الذي جعله الله مسئولا عما يفعل، لا يشفع له أن يكون قد جرى في فعله مجرى السالفين، وإذن فهي - كما قلت - حقيقة توشك أن تكون من البدائه الأولية؛ ألا يكون المقصود بمحاكاة الأواخر للأوائل، محاكاة لا تدع مجالا للإبداع وللإرادة الحرة تختار لتقع عليها تبعة اختيارها.
فماذا نعني حين نوصي المعاصرين بأن يترسموا في سيرهم خطو السالفين؟ ماذا نعني حين ندعو إلى إحياء تراث الآباء ليسري في حياتنا الحاضرة سريان الزيت في الزيتونة؟ ماذا نعني حين نلتمس لأنفسنا طريقا نجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟ ولقد يسهل على بعضنا - أحيانا - أن يطالبوا الشاعر في يومنا بأن ينظم على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون، أو أن يحكم القاضي في الناس بما كان يحكم به قضاة الأمس البعيد، ولكن ماذا عساهم أن يقولوا في علماء اليوم وبين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلم به أحد من السابقين - ولست أريد بالسابقين أولئك الذين عاشوا منذ كذا قرنا من الزمان، بل أريد من عاش منهم في القرن الماضي أو الذي سبقه؟ إن حياة الناس اليوم، ليست كلها مركبات لفظية، صيغت شعرا أو نثرا، حتى يسهل علينا أن نطالب المعاصرين بأن يحركوا أقلامهم أو ألسنتهم بمثل ما تحركت عند القدماء ألسنة وأقلام، بل الحياة أبحاث علمية تجري في المعامل، والحياة مكنات تدور تروسها وعجلاتها في المصانع، والحياة نظم في التعليم، ونظم في الإدارة، ونظم في إنتاج السلع وتوزيعها، والحياة طائرات وصواريخ، والحياة نقل للأعضاء من بدن إلى بدن، والحياة استزراع للصحراء، بل هي استزراع للهواء وسطح الماء. وإن طريق القول ليطول بنا، لو أخذنا نسرد الأمثلة بالمئات، لنقول ماذا هي حياة اليوم، فكيف يجوز للوهم أن يتوهم بأن حياة العصر يمكن أن تصب بحذافيرها في قوالب السالفين؟
ومع ذلك، فهنالك معنى مفهوم - نبحث عنه لنبسطه فيصير واضحا بعد إبهام - إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياء يسري به في جسم الحياة الحاضرة. وإن ذلك المعنى المبهم ليأخذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحو يجعلها محاكاة في «الاتجاه» لا في خطوات السير، محاكاة في «الموقف» لا مادة المشكلات وأساليب حلها، محاكاة في «النظرة» لا في تفصيلات ما يقع عليه البصر، محاكاة في أن يكون العربي الجديد مبدعا لما هو أصيل، كما كان أسلافه يبدعون، دون أن تكون الثمرة المستحدثة على يدي العربي الجديد هي نفسها الثمرة التي استحدثها العربي القديم، محاكاة في «القيم» التي يقاس عليها ما يصح وما لا يصح، كما يأخذ زيد من خالد مسطرته ليقيس عليها قطعة من قماش، بعد أن كان خالد لا يقيس عليها إلا خطوطا على ورق؛ المسطرة واحدة، وأما المواد المقيسة فمختلفات. وهكذا تكون حالنا إذا ما استعرنا من الأقدمين «قيمة» عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة.
2
والقيم كثيرة، تلك التي كانت تنتظم حياة أسلافنا فكرا وسلوكا، والتي يمكن أن نستعيرها لحياتنا المعاصرة، لتكون هي الحلقة الرابطة بين ماض وحاضر، لكني سأقصر الحديث في هذا المقال على إحداها، فأتعقبها تحليلا وتوضيحا؛ لأبين كيف كانت منزلتها في فكر السلف، وكيف يمكن امتدادها إلى حياتنا الفكرية الراهنة، فتصبح إحدى همزات الوصل التي تجعل من الحلقات سلسلة متصلة أولا بآخر.
والقيمة التي اخترتها لتكون مدار النظر، هي الطريقة الإدراكية التي أزعم أنها كانت نهجا مأثورا عند آبائنا العرب والمسلمين، فطريقتهم في التفكير - فيما أزعم - لم تكن تصعد من الشواهد الجزئية، والأحداث الجارية، إلى المبدأ العام الذي يستقطبها، بل كانت تهبط من مبدأ يفرض نفسه عليهم فرضا؛ ليستخرجوا منه ما يستخرجونه من قواعد للفكر والسلوك. على أن مصادر ذلك الإلزام قد تتعدد، فإما أن يكون المبدأ المفروض ملزما لكونه وحيا من السماء، أو إلهاما بفكرة، أو حدسا لها (بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حدس، وهو أن يكون الإدراك عيانا عقليا مباشرا) أو أن يكون ملزما؛ لأنه تقليد راسخ، أو عرف بين الناس تواترت به الأعوام.
وسنضرب للقارئ أمثلة من مجالات التفكير على اختلافها؛ ليرى كيف كانت الحركة هابطة من العام إلى الخاص، لا صاعدة من الخاص إلى العام، لا فرق بين أن يكون المجال مجال علم رياضي أو طبيعي، أو أن يكون مجال أدب أو فن، أو مجال لغة أو تشريع، ففي جميع الحالات كان العقل العربي يلمع أولا بالمبدأ العام، ثم يتدرج منه نزولا إلى تفصيلات التطبيق.
ولنبدأ باللغة العربية؛ لأن أول ما يميز العربي - بداهة - هو أن لسانه عربي. وإذا كان ذلك صحيحا بالنسبة إلى كل لغة وأصحابها، فهو صحيح بصفة خاصة بالنسبة إلى العربي؛ وذلك لأن عبقرية العرب الأولى، هي - كما قد قيل - في لسانهم. إنهم لم يعتزوا بشيء اعتزازهم بلغتهم؛ إذ هي لم تكن بينهم مجرد أداة للتفاهم، بل كانت أكثر من ذلك، كانت هي المجال الأساسي الذي انصبت عليه طاقتهم الفنية. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو معجزة الإسلام.
فانظر إلى هذه اللغة، تجد مفرداتها قد جاءت انبثاقا من ينابيع، فتدفقت منها مجموعات مجموعات، وكأن هذه المجموعات انعكاس للقبائل والعشائر، يرتد كل منها إلى جد كبير. وأما تلك الينابيع الدفاقة بمجموعات الألفاظ، فهي الأصول الثلاثية - في الأعم الأغلب - ويكفيك الأصل الثلاثي لتظل تخرج من جوفه مشتقاته، فيكون لك من هذه المشتقات ما تواجه به مواقف الحياة الواقعة جميعا. إنك في اللغات الأخرى قد تضطر في حالات كثيرة إلى حفظ المفردات كما هي، وبغير تعليل؛ لأنها هكذا جاءت، وأما في العربية فعندك أصل واحد - هو الثلاثي في معظم الأحيان - ولا ضرورة بعد ذلك لحفظ المفردات، وكل ما عليك أن تفعله، هو أن تشتق من ذلك الجذر أي فرع تشاء؛ فهي لغة تنسقها قواعد مطردة، لا يشذ فيها إلا أقل من القليل. والقواعد بدورها تنحدر من مبدأ يضمها، فإذا عرفت المبدأ، نزلت منه إلى القواعد، ومن القواعد تنزل إلى مواقف التطبيق.
صفحة غير معروفة
إذا بدأت من كلمة «عقد» - مثلا - انبثقت لك فروع قد تبدو متباعدة المعاني، لكنها معان من أسرة واحدة، جدها الأول هو هذا الثلاثي، فمنه تجيء: عاقد، ومعقود، وعقد (بسكون القاف)، وعقد (بكسر العين) وعقيدة، وعقدة، ومعقد ... إلخ. وإنك لتعرف مدى علمية هذه اللغة واطرادها، إذا حاولت أن ترجع إلى ما يقابل هذه المعاني الفرعية في الإنجليزية - مثلا - فعندئذ تجد كل معنى قد جاء من ناحية، بحيث لا يدرك الفاحص صلة الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة، وعليك في الإنجليزية - في حالة كهذه - أن تحفظ كل لفظة بمعناها، مستقلة عن أخواتها. وأما في العربية فإذا عرفت الجد عرفت شجرة الأسرة بكل فروعها، من الإخوة إلى أبناء العمومة والخئولة، إلى الأحفاد وما بعد الأحفاد.
وبسبب هذه الروابط العضوية في مفردات اللغة العربية، كان في مقدور بعض علماء اللغة (ولا سيما مدرسة البصرة) أن تضع القواعد «العقلية» العلمية التي يقاس إليها في معرفة الصواب والخطأ، وفي صياغة كلمات جديدة للمواقف الجديدة، دون الخروج على أصول اللغة وروحها.
3
ونسوق مثلا آخر للنهج العقلي عند أسلافنا، وهو النهج الذي يجعل سيره - كما قلنا - متجها من مبدأ عام مجرد، إلى تطبيقاته. وسنأخذ هذا المثل من أحد ميادين الفكر الفلسفي، وهو ميدان «الأخلاق». ولقد تعمدنا اختيار هذا الميدان، لكون «الأخلاق» طابعا مميزا للثقافة العربية والإسلامية، إذا ما أجرينا موازنة بينها وبين ثقافات أخرى؛ فبينما نجد من الثقافات الأخرى ما يضع ارتكازه على التحليل العلمي لظواهر الطبيعة، ومنها ما يدير أرجاءه حول محور العسكرية والقتال والغزو، منتصرا مرة ومدحورا مرة أخرى، ومنها ما يجعل الأولوية للإبداع الفني من عمارة ونحت وتصوير؛ نجد الثقافة العربية والإسلامية قد أقامت بناءها على ركيزة أساسية، هي المبادئ التي ينبغي أن تحكم طرق التعامل بين الناس، وتلك هي مبادئ الأخلاق.
ونرجع إلى ألمع فيلسوف عربي في مجال «الأخلاق»، وهو ابن مسكويه، لنطالع كتابه «تهذيب الأخلاق، وتطهير الأعراق»، متجهين بأنظارنا نحو منهج السير، فلا نكاد نقرأ صفحاته الأولى، حتى يتبين ذلك المنهج في جلاء، ويظل يزداد لنا وضوحا كلما أوغلنا في القراءة، فهو منذ البداية يبحث عن المبدأ العام الذي يصلح لأن تشتق منه قواعد الأخلاق، التي على أساسها نميز بين ما هو خير وما هو شر في الفعل الإنساني.
وكان ذلك المبدأ العام عند ابن مسكويه هو: طبيعة النفس الإنسانية؛ ما جوهرها الذي تتميز به من سائر الطبائع؟ لأننا إذا ما عرفنا حقيقة الإنسان التي فطر عليها لكي يكون إنسانا، عرفنا بالتالي بأي مقياس نقيس الأفضل والأرذل، فكل صفة أو فعل، تدنو بصاحبها - أو يدنو بصاحبه - من تمثل الجوهر الإنساني، كانت تلك الصفة، أو كان ذلك الفعل فضيلة. وضد ذلك هو الرذيلة. ولا يفوت ابن مسكويه أن يلفت أنظارنا إلى أن الكمال في الإنسان من حيث هو إنسان، ليس مجرد حاصل جمع كمالات أجزائه، كأن يكون البصر سليما والسمع دقيقا، والكبد والرئتان ... إلخ؛ إذ الحكم على أخلاقية الإنسان لا يبنى على هذه الأعضاء في أدائها لوظائفها البدنية، وإنما يبنى ذلك الحكم على أن يحقق الإنسان من حيث هو كائن متكامل، الغاية التي من أجلها صوره الله إنسانا.
ولا يطول النظر بابن مسكويه، حتى يتبين له أن للنفس قوتين، ولكل منهما كمالها، فله - من جهة - «القوة العالمة» وكمالها إدراك المعارف والعلوم، ثم له - من جهة أخرى - القوة العاملة، وكمالها تدبير وسائل العيش ونظمه تدبيرا محكما.
وما دمنا قد وضعنا الأساس العام، فيسهل علينا بعد ذلك أن نستخرج القواعد الفرعية التي يجب اتباعها، لكي يتحقق لنا الكمال الذي تتطلبه فطرة الإنسان. ولعل هذا الموضع من الحديث، أن يكون أنسب موضع تجري فيه مقارنة سريعة بين الوقفة العربية في منهاجها، والوقفة اليونانية؛ وذلك لأن أقل إلمام بالفلسفة اليونانية، يدفع صاحبه دفعا إلى السؤال: ولماذا يكون هذا الاتجاه في السير من المبدأ العام إلى المواقف التطبيقية، مميزا للعقل العربي؟ أليس هو بعينه ما قد جرى عليه فلاسفة اليونان، بل وغيرهم من فلاسفة سائر العصور؟ وأضف إلى ذلك أن ابن مسكويه قد أخذ عن أفلاطون أخذا مباشرا تحليل النفس إلى جوانبها الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية.
وجوابنا على هذا السؤال ذو شقين: أولهما أنه لولا أن العقل العربي قد تميز بهذه الصفة نفسها التي تميز بها العقل اليوناني، من حيث وضع المبدأ الأول، ثم النزول منه إلى نتائجه، لما استطاع ذلك العقل العربي أن يتمثل الفلسفة اليونانية التي نقلها إلى لغته العربية نقلا كاد أن يكون كاملا. وثانيهما أن ابن مسكويه - شأنه في ذلك شأن سائر الفلاسفة المسلمين - لم يقصر نفسه على الحدود الأفلاطونية، بل إنه استخدمها مع غيرها من المصادر التي بين يديه، في تكوين فكرته الخاصة. على أن ما يعنينا نحن في هذا المقال، هو معالم الوقفة العربية والإسلامية عند التفكير النظري. ولا يغير من الأمر شيئا بعد ذلك، أن يكون هنالك من شاركوه في تلك المعالم؛ كلها أو بعضها.
ولقد جاء هذا الطريق النازل من المبدأ العام إلى الموقف الخاص، من حيث التفكير النظري في فلسفة الأخلاق، متطابقا أشد التطابق مع ما تقتضيه العقيدة الإسلامية في هذا الباب؛ إذ إن مبادئ الأخلاق عند تلك العقيدة، هي ما نزل وحيا من الله سبحانه على نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام. وإذن فنحن مرة أخرى أمام فكرة ترتسم لنا بادئ ذي بدء، ومنها نبدأ سيرنا نحو التطبيق في عالم السلوك. فلو سئلنا بعد ذلك: كيف عرفتم أن الفعل الفلاني فضيلة؟ كان جوابنا: عرفناه فضيلة؛ لأنه متفق مع الفكرة الأولى الموحى بها.
صفحة غير معروفة
وليس مثل هذا الاتجاه في السير هو الملحوظ دائما عند جميع الشعوب ومختلف الثقافات، فهنالك من يرون أن نقطة البدء لم تكن مبدأ كاملا، أو فكرة عامة، بل كانت نقطة البدء خبرات إنسانية في ممارسة الحياة مع وقائع الطبيعة والمجتمع، ثم استخلص الإنسان مع الزمن ما قد نفعه، وما قد ألحق به الضرر، فجعل الأول خيرا والثاني شرا. ومعنى ذلك أنه بينما أسس الحياة الخلقية نراها نحن وكأنها هبطت علينا من السماء، فقد يراها سوانا وكأنها نبتت لهم من جوف الأرض.
4
ومن وقفة العربي في فلسفته الأخلاقية، حيث جعل الأسبقية للمبادئ العامة، يتلقاها وحيا أو حدسا أو تقليدا وعرفا، وعليه تطبيقها بغض النظر عن النتائج التي تترتب في مجرى حياته العملية على هذا التطبيق، أقول: من تلك الوقفة في مجال الأخلاق، ننتقل إلى وقفة له أخرى شبيهة، في مجال الفنون، سواء في ذلك فن الأدب أو فن التصوير أو غيرهما من فروع الإبداع الفني. فها هنا كذلك نجد اتجاه السير نازلا من «الفكرة» العامة إلى تفصيلات تجسدها. إن الفنان العربي لا يبدأ من لقطة حسية إلى فكرة تكمن وراءها - كما قد تكون هي الحال عند رجال الفن في ثقافات أخرى - بل يبدأ الفنان العربي من تصور عقلي مجرد، ثم يضع له التفصيلات التي تلائمه.
ولما كان الشعر هو الفن العربي الأول بلا نزاع ولا شك، فانظر إلى الشاعر العربي من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي. إنه إذا ما تغزل، فالأرجح أن ترتسم في ذهنه صورة مثلى للمرأة على إطلاقها، كأنما هو يبدأ بتعريف منطقي للمرأة «النوع» وليس الذي أمام تصوره امرأة بعينها، حتى ولو أطلق على الصورة التي يتمثلها اسما، فقال إنها ليلى، أو هند، وحتى لو حاول أن يخلع ذلك الثوب العام لامرأة بعينها؛ لأنه في هذه الحالة يرفع تلك المرأة المفردة إلى الفكرة المثلى المقصورة، ولا ينتقص من الصورة المثلى لكي تتناسب مع البشر ونواقصه .
وإذا وصف الشاعر العربي حصانا، فقال عنه إنه: «مكر، مفر، مقبل مدبر معا، كجلمود صخر حطه السيل من عل» فهو إنما يصور المثال الأفلاطوني للحصان كما ينبغي أن يكون، ثم يخلع ذلك التعريف الأمثل على حصانه الفرد، ولا يعنيه ألا يكون حصانه الفرد مطابقا للمثل الأعلى المرسوم. وهكذا قل في شتى الصفات التي ينعت بها الشاعر العربي سائر الأشياء، فشعره أقرب إلى أن يكون صورة لفكره منه إلى أن يكون صورة لحسه. ولقد كان العقاد في تعريفه للشاعر إنما يعرف الشاعر العربي قبل أي شاعر سواه، وذلك حين قال عن الشعر إنه مقتبس من نفس الرحمن، وأن الشاعر الفذ هو للأناسي بمثابة الرحمن للشاعر؛ أي أن الشاعر ينزل منزلة وسطى بين الخالق من جهة وسائر المخلوقات من جهة أخرى، فيستلهم من الله سبحانه وتعالى صورا مجردة، ومنها يهبط إلى الكائنات الجزئية التي تتفاوت بعدا أو قربا من تلك الصور المجردة، وبذلك يكون الشاعر أقرب من غيره إلى فهم حقائق الكائنات؛ لأن بين يديه النماذج الإلهية التي على ضوئها ينفذ إلى حقائق الأفراد.
ولعل شيوع «الحكمة» في الشعر العربي أن يكون دالا على تلك الخاصة المميزة التي أشرنا إليها، وهي نزوع العقل العربي نحو إدراك الحقيقة في صورتها المجردة العامة، حتى ولو لم يكن قد صادف لها في دنيا الكائنات الجزئية أفرادا تؤيد صوابها. ومن ناحية أخرى نقول كذلك إن نزوع العقل العربي نحو ما هو مجرد، يدركه بلمعة مباشرة، لا استخلاصا من أمثلة فردية، قد جر وراءه نتيجة أخرى في الأدب العربي القديم، وهو خلوه من أدب القصة وأدب المسرح، لماذا؟ لأن هذا الأدب إنما يرتكز أساسا على تصوير اللحظات الجزئية، متمثلة في سلوك الأفراد، وفي خاطرات الوجدان، فإذا لم تكن «الجزئيات» المفردة من أحداث ومن أشخاص تسترعي انتباه الأديب، انصرافا منه إلى ما هو مجرد وعام، سقط من حسابه - بالتالي - أدب القصة، وأدب المسرح.
ومن وقفة العربي إزاء الفن الأدبي، ننتقل إلى وقفته في مجال الفن التشكيلي من تصوير وزخرفة وما إليهما، فها هنا كذلك نرى في وضوح ما قد زعمناه، وهو ميل العربي نحو رؤية المجرد العام، غاضا بصره - عن عمد أو عن غير عمد - عن التفصيلات التي تميز الأفراد. إن المصور العربي والإسلامي، إذا ما صور شخوصا إنسانية أو حيوانية، صورها على كثير من الإبهام، فالملامح مدمج بعضها في بعض، وليست مفصلة، على نحو ما يرسم الفنان التجريدي في عصرنا، إلى حد كبير، فهل نسرف في التعليل إذا قلنا إن الفنان العربي بمثل هذا التجريد والتبسيط، يستهدف الأنواع والأجناس، لا الأفراد، أو قل إنه يستهدف تصوير «الفكرة» وليس تصوير الفرد المتعين الذي يجسدها؛ إذ الأفراد - في عقيدته - مصيرهم إلى زوال، وهو إنما ينشد الدوام والخلود، والدائم الخالد هو «الفكرة» لا تجسيداتها المشخصة الفانية، حتى ليحق لنا أن نؤكد ما كررناه في مناسبات كثيرة أخرى، وهو أن ثقافتنا العربية التقليدية، محورها «مبادئ» لا «أشياء»، أي أن محورها «أخلاق» لا «جمال» (وأستخدم هذه الكلمة بالمعنى المقصود بها في الأستاطيقا أو ما يطلق عليه في مباحث الفلسفة اسم علم الجمال)، وربما كان ذلك هو ما قصد إليه ماسنيون، في حديثه عن طرق التعبير الفني عند المسلمين؛ إذ قال: إنه لا وجود «للأشياء» في الفكر الإسلامي، والمسلمون في فن التصوير يسقطون الوجوه والملامح لبطلانها.
وهذه الإشارة من ماسنيون تفتح لنا بابا للحديث عن موقف المسلم من الفن التشكيلي بصفة عامة، فلماذا لم يوجه إليه الفنان الإسلامي اهتماما كافيا، وصب معظم طاقته الفنية في هذا المجال التشكيلي على فن الزخارف؟ أكان ذلك خوفا على نفسه من الردة إلى الوثنية؟ أكان استجابة منه لمانع ديني ورد صراحة في الشريعة الإسلامية؟ أم كان ذلك قصورا من الفنان الإسلامي، لا أكثر ولا أقل؟
والجواب عندنا هو أن الأمر لا يعلله شيء من هذه الفروض، بل يعلله على الوجه الصحيح طريقة العربي في إدراك الحقيقة المجردة قبل تجسيداتها المفصلة، وتطبيق ذلك في مجال الفن هو أن يتجه الفنان إلى هندسة الأشكال لما تنطوي عليه من حقائق رياضية، ولأن رؤية الحقائق في تجريدها، هي عنده أقرب الطرق التي ينتقل بها إلى شهود الله عز وجل. ويخيل إلي أنك إذا ما سألت فنانا عربيا أو إسلاميا: لماذا لا تتجه إلى «الواقع»؟ لأجاب: وهل يكتمل الواقع إلا إذا مددنا الوجود الجزئي إلى ما يرتبط به من جوانب وراء هذا الواقع؟ إن «الواقع» لا يقتصر على الجزئي كما تحدده حدوده المرئية، بل إن ما هو متضمن وراء تلك الحدود، جزء من حقيقة ذلك الجزئي نفسه، وأنا (والكلام للفنان الذي نفترضه) أصور «الحقيقة» الواقعة، بجانبيها المنظور والمستور معا.
ولست أريد أن تفلت مني هذه الفرصة، قبل أن أدحض الزعم بأن الإسلام يحرم الفن التشكيلي (التصوير والنحت) بدليل الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» ولن أجد ما أستند إليه خيرا من نص ورد في ذلك عند «أبي علي الفارسي» النحوي، في مخطوطة ذكرها بشر فارس في كتابه عن «سر الزخرفة العربية»، وقال إن تلك المخطوطة موجودة في مكتبة البلدية بالإسكندرية، فأبو علي الفارسي يقيم رأيه على أساس لغوي في فهمنا للحديث الشريف السالف الذكر، قياسا على فهمنا للآية القرآنية الكريمة:
صفحة غير معروفة
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا (سورة الأعراف) فيقول أبو علي الفارسي إن الإشارة هنا إلى «العبادة» لا إلى من «صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال.» وعلى هذا الغرار ينبغي أن نفهم الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» فالمقصود هو أولئك الذين يضعون الله (تعالى) في صورة يعبدونها، لا الذين يصورون كائنا ما، دون أن تكون فكرة العبادة واردة في الأذهان.
وإذن فلا بأس في أن يكون للمسلم فن تشكيلي. وخلاصة ما أردنا أن نثبته عن الفن العربي والإسلامي في هذا المجال، هو أنه فن «فكرة» قبل أن يكون فنا مراده أن يعكس الكائنات على الخامة التي يستخدمها، بكل تفصيلاتها أو ببعضها، على سبيل المحاكاة للمحاكاة ذاتها. وإذا قلنا إنه فن «فكرة»، فقد قلنا بالتالي إنه فن للمبادئ المجردة، لا للمخلوقات المجسدة.
5
هذه صور من مجالات الفكر والفن في تراثنا العربي والإسلامي، سقناها لنبين بها ما قد زعمناه، من أن اتجاه العقل العربي، إذ هو ينتج فكرا أو يبدع أدبا وفنا، هو أن يسير من مبدأ عام يأخذه منذ البداية مأخذ التسليم، نزولا إلى ما يترتب عليه من تفصيلات الحياة العملية. وأهمية هذه الطريقة في النظر والعمل، هي أن يدخل الإنسان خضم الحياة مزودا ببوصلة تهديه سواء السبيل.
وواضح أنها طريقة تختلف كثيرا عما يقتضيه المنهج العلمي في هذا العصر الذي استحدث له منهجه مع النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ فمنهج العلم - إذا كان علما طبيعيا (أعني الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ... إلخ) - يقتضينا أن نبدأ بالمعطيات الجزئية صعودا إلى المبدأ العام أو القانون العلمي.
على أن الاقتصار على أحد هذين المنهجين دون الآخر في جميع ميادين الفكر والفن، له خطورته البالغة في حياة الناس. فإذا كان لأبناء الحضارة الغربية القائمة من شكاة يصرخون بها في ألم وحسرة، فهي أن طغيان العلم ومنهجه على الإنسان، قد قضى على شعور الفرد بذاته المستقلة المتميزة؛ لأن ما هو خاضع للعلم، مشترك وموحد بين الناس أجمعين، فماذا يصنع الفرد المتميز بشخصيته، بجوانبه الفريدة التي تميز بها، ويريد أن يفصح عنها في حياته الجارية.
وكذلك إذا كانت لنا أبناء الأمة العربية من شكاة نصرخ بها في خشية وقلق، فتلك هي أننا لو أسلمنا كل جوانب حياتنا لمبادئ صاغها لنا الآباء الأولون، فماذا نصنع بتفصيلات الحياة العصرية المليئة بالعلوم والصناعات، إذا رأينا أن تلك التفصيلات تأبى أن تنصاع للمبادئ المأخوذة بادئ ذي بدء مأخذ التسليم؟
وهنا ينشأ السؤال الهام، وهو: أمن الحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما حياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولة سلفا؟ أهو مستحيل على الإنسان أن يحيا في ساحة من قسمين، لكل منهما منهجه الذي يلائمه؛ فقسم للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات؛ ويكون له منهجه القائم على تقصي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسم آخر لحياة القيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مهتديا بمبادئ مسبقة.
على أننا حتى في هذا القسم الثاني، لا بد من مرونة التكيف كلما ارتد إلينا سلوكنا العملي بنتائج ليست هي التي أردناها، ففي حالات كهذه لا مناص من مراجعة المبادئ، لنحل غيرها مكانها، وفي هذه المراجعة المستمرة، والسائرة مع الأحداث، يكون تطور الحياة وتجددها نحو ما هو أصلح وأرقى.
وعودا بنا على ما بدأنا به في عنوان هذا المقال، ففي تراثنا الفكري والفني قيمة سارية، هي النزوع نحو الاهتداء بمبادئ أولية قبل الخوض فيما نهم بالخوض فيه، ونحن هنا نقول إنها قيمة تستحق منا أن نبقي عليها في ميادين الحياة الخلقية والفنية، ولا نستثني إلا ميدان العلوم؛ لأنه ميدان لا حيلة للإنسان فيه إلا أن يلتزم منهج التفكير العلمي، وبالتالي فلا اختلاف فيه بين شعب وشعب من حيث الخصائص القومية. على أننا نعود إلى الإشارة بأن القيمة الموروثة في جوانب الحياة اللاعلمية، وإن تكن حقيقة منا بالبقاء، لما تحمله في طيها من ملامح مميزة، إلا أنه لا مندوحة لنا عن تعديلها هنا وهناك، آنا بعد آن، كلما جاءتنا الدنيا بمشكلات يستعصي حلها بذلك الجانب الموروث.
صفحة غير معروفة
ابن رشد في تيار الفكر العربي
1
مجال النظر في هذا البحث محدود بالكتب الثلاثة الآتية لابن رشد: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» و«تهافت التهافت»، وهي الكتب التي عرض فيها ابن رشد آراءه الخاصة، في مشكلات كانت قد لبثت فترة طويلة من الزمن، مدارا للنظر عند رجال الفكر المسلمين. ولم يكن ابن رشد في هذه الكتب - كما كان في معظم كتبه الأخرى - شارحا لفلسفة غيره، مع كل ما تميز به ذلك الشرح من أصالة، وما اشتمل عليه من إضافات.
ولقد انتهت بي محاولة النظر، إلى نتائج أرجح لها الصواب، وأرجو أن تكون جديرة بالعرض والمناقشة، ومن أهم تلك النتائج ما يلي:
أولا:
كانت الغاية عند ابن رشد، هي أن يبين أن ما جاء في الشريعة وحيا، فيما له صلة بحقيقة الكون ، هو نفسه ما يستخلصه العقل من دراسته للكون دراسة مباشرة، فكأنما نحن أمام كتاب واحد كتب بلغتين: كتاب الإسلام وكتاب الكون، فنقرأ في هذا ما نقرؤه في ذاك، شريطة أن نحسن فهم اللغة التي ينطق بها كل منهما.
فسلك ابن رشد إلى غايته تلك طريقين، جعل لكل طريق منهما مؤلفا خاصا. أما أول الطريقين فهو أن يبدأ الرحلة من الشريعة لينتهي إلى النتائج التي كان العقل قد وصل إليها في دراسته للكون، وكان ذلك في كتاب «مناهج الأدلة»، وأما الطريق الثاني فهو أن يسير في الاتجاه المضاد، بأن يبدأ الرحلة هذه المرة من النتائج التي حققتها الدراسة العقلية - وهي ما أطلق عليه اسم الحكمة - لينتهي إلى ما أوردته الشريعة وحيا، وكان ذلك في كتاب «فصل المقال». وإذن فالغاية من الكتابين واحدة، وإن يكن قد وصل إليها بالسير في اتجاهين متضادين.
وفي هذا المعنى يقول ابن رشد: «... فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور، التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة، أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة؛ أعني لا على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، ولهذا المعنى اضطررنا نحن، في هذا الكتاب (أي «مناهج الأدلة») أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها، وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة ... لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة، ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول، أعني: فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة.»
1
لكننا نلاحظ أن ابن رشد وهو يسير رحلته بادئا من الشريعة في كتابه «مناهج الأدلة» قد عزز القول بذكر موضوعات مما كان محورا للنظر بين الأطراف المختلفة، على حين أنه في سيره المضاد، البادئ من الحكمة، في كتابه الآخر «فصل المقال»، كاد يقتصر على حديث في قواعد المنهج، دون أن يتعرض للمسائل العينية التي كانت مطروحة للبحث.
صفحة غير معروفة
ثانيا:
كان ابن رشد أقل إقناعا من خصومه أمام الفكر الإسلامي، وبالتالي لم يترك بعده أثرا يؤثر في دنيا المسلمين، يتكافأ مع الأثر الذي تركه هؤلاء الخصوم - والغزالي منهم بصفة خاصة - فلم يكن عجيبا أن تقل شهرته بينهم عما كان ينبغي لها أن تكون. يقول برتراند رسل: «فيلسوفان إسلاميان يقتضيان منا وقفة خاصة، أحدهما من فارس هو ابن سينا، والآخر من إسبانيا هو ابن رشد. أما ابن سينا فقد كان أبعدهما صوتا بين المسلمين، وأما ابن رشد فكان أكثر شهرة من زميله بين المسيحيين.»
2
ومدار الضعف عند ابن رشد في موقعه من تيار الفكر العربي الإسلامي - كما أراه - هو: (أ)
أنه كان أكثر اهتماما بقواعد المنهج، منه بالتطبيق على فحوى المشكلات نفسها. (ب)
وأنه في بعض المواضع - خصوصا عند إقامته لدليلي العناية والاختراع (في مناهج الأدلة) - قد صادر على المطلوب؛ إذ أيد الشريعة بالشريعة. (ج)
وأنه في نقده للمتكلمين، بأنهم استخدموا الأدلة الجدلية، وكان ينبغي لهم أن يستخدموا الأدلة البرهانية، كان في نقده هذا نفسه - فيما أرى - أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان.
ثالثا:
كان من أهم النتائج التي انتهيت إليها من النظر في كتب ابن رشد الثلاثة التي ذكرتها، أن هنالك تشابها في بنية الحركة الفكرية في العالم العربي إبان القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وبنيتها إبان القرن التاسع عشر والعشرين، من حيث أن كليهما متفق على أن شريعة الإسلام هي بمثابة الأساس في بنيان الفكر العربي. ثم وفد إلى ذلك الفكر من خارج الحدود فكر آخر، مؤسس على العقل (هو فلسفة اليونان في الحالة الأولى، وهو علوم عصرنا الحاضر في الحالة الثانية)، وفي كلتا الحالتين، رأى فريق من رجال الفكر بأن في ذلك الوافد خطرا يتهدد الفكر الأصيل، بينما وجد فريق آخر ألا خطر هناك، لما بين الوافد والأصيل من اتفاق في الغاية، وإن اختلفا في طرق الوصول. وكان ابن رشد - في الحالة الأولى - أبرز من حمل هذه الدعوى.
فإذا صح هذا التشابه بين العصرين في البنية الفكرية - مع الاختلاف البعيد بينهما في المادة الفكرية المعروضة - كان لنا في هذه المحاولة التي ننظر من خلالها إلى ابن رشد وموقفه، ما قد نهتدي به في حياتنا الثقافية الراهنة.
صفحة غير معروفة
2
يستهل ابن رشد كتابه «فصل المقال» بقوله: إن الغرض منه هو أن يسأل عن «النظر في الفلسفة وعلوم المنطق» إن كان مباحا بالشرع أم محظورا. ولكي يجيب لنفسه عن سؤاله هذا، رأى أن يحدد «فعل الفلسفة» فقال عنه: «إنه ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها.»
3
ولما كان «اعتبار الموجودات بالعقل» قد جاء به الأمر في غير ما آية من كتاب الله، كقوله تعالى:
فاعتبروا يا أولي الألباب ، ثم لما كان «الاعتبار» - كما فهمه ابن رشد - «ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، أو بالقياس.»
4
كان معنى ذلك هو أن استعمال القياس العقلي، أو قل إنه العقلي والشرعي معا، أمر واجب بحكم الشريعة نفسها؛ فهذه الشريعة لا تقتصر على أن تجيزه، بل هي توجبه.
وإنما يبلغ القياس أتم درجاته، فيما يسمى بالقياس البرهاني، فكيف تتم معرفة الإنسان لله تعالى معرفة برهانية عن طريق دراسة مخلوقاته، إلا إذا سبقتها دراسة تفصيلية لمنطق القياس بأنواعه وأجزائه وقواعده؟
فإذا تقرر أن دراسة هذا المنطق واجبة بحكم الشريعة نفسها، ما دام هذا المنطق هو من النظر بمنزلة الآلات من العمل، وجب علينا أن نستعين بما خلفه القدماء في هذا المجال؛ لأن رجال العلم في أي ميدان، لا يبدءون نظرهم العلمي من الصفر، وكأن أحدا لم يسبقهم إلى شيء منه، بل الحياة العلمية مستمرة، يأخذها عصر عن عصر ليضيف إلى ما أخذه، ثم يسلم الحاصل إلى العصر الذي يليه، فإن كان «غيرنا» قبل ملة الإسلام - هكذا قال ابن رشد - قد ترك شيئا، فيجب الأخذ عنه، «سواء أكان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة.»
5
صفحة غير معروفة
على أن يكون أخذنا عنهم مقترنا بالتمحيص النقدي «فإذا كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه.»
6
هذا هو شيء مما بدأ به ابن رشد كتابه «فصل المقال»، فكان حريصا منذ البداية على أن يطمئن بأن الفلسفة جائزة، بل هي واجبة بحكم الشريعة، وهو موقف - كما نرى - يجعل للشريعة أسبقية منطقية على الفلسفة، فكأنما أحكام الشريعة عنده هي بمثابة المسلمات الأولى، التي يشتق منها ما يجوز بالنسبة إلى الفكر الفلسفي وما لا يجوز. وفي رأينا أن ذلك الموقف من ابن رشد يتعارض مع طبيعة الوقفة الفلسفية إذا أخذت على حقيقتها؛ لأن الفلسفة على حقيقتها تأبى المسلمات، مما قد يثير عندنا شيئا من الريبة في أن يكون ابن رشد قد كان يداري العامة حتى لا يتهموه بالزندقة، وهي ريبة تشبه تلك الريبة التي استشعرها ابن رشد نفسه إزاء الغزالي، حين قال عنه: «إنه مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف.»
7
ثم يعلل تقلبه هذا في «تهافت التهافت» بأنه ربما كان مداراة للعامة، لينفي عن نفسه الظنة بأنه يرى رأي الحكماء، فيقول ابن رشد في ذلك: «كبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب (تهافت الفلاسفة)، ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.»
8
ومعنى هذا كله، هو أن ما زعمه ابن رشد عن نفسه (في مناهج الأدلة، ص185) من سيره مرة من الشريعة إلى الفلسفة، ومرة من الفلسفة إلى الشريعة، على تطابق في الحالتين من حيث النتيجة، ليس صوابا كل الصواب؛ إذ كان سيره من الفلسفة إلى الشريعة أقل رتبة من السير الآخر المضاد؛ لأنه اشترط على نفسه فيه أن يكون مستندا إلى إيمان مسبق بالشريعة، فإذا قيل - كما يقال أحيانا - إن كتاب «فصل المقال» قد جاء دفاعا عن الفلسفة ضد أعدائها، استدركنا على هذا القول بأنه كان دفاعا منقوصا في جانب من أهم جوانبه.
3
قلنا إن الشريعة والحكمة تتأديان إلى حقيقة واحدة، فما الذي يضمن لنا ألا تتعارضا؟ هنا يجيب ابن رشد جوابا لا يقنع إلا المؤمنين مقدما بشريعة الإسلام. ومؤدى جوابه هو أن الشريعة حق والحكمة حق، ولما كان الحق لا يتعدد، كانت الشريعة والحكمة هوية واحدة، وإن اختلفتا في طريقة التعبير، وهذه هي عبارة ابن رشد في ذلك، يقول: «وإذ كانت هذه الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا - معشر المسلمين - نعلم، على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني (يقصد مجال الفلسفة) إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.»
9
صفحة غير معروفة
وواضح أن ذلك من قبيل الأحكام «القبلية» التي يصدرها الإنسان قبل النظر لا بعده، ولو كان المتكلم من غير «معشر المسلمين» لما قطع مقدما بأن «هذه الشريعة حق» على نحو ما قطع ابن رشد.
مرة أخرى نرى ابن رشد يجعل إيمانه بالشريعة بمثابة المسلمة الشارطة، وكان الأجدر للتفكير الفلسفي أن يستقل بذاته، حتى إذا ما انتهى إلى ما يؤيد الشريعة، جاء هذا التأييد أقوى دلالة. وفي هذه الحالة لو سئلنا: ما الذي يضمن لنا ألا تتعارض الشريعة والحكمة؟ كان جوابنا هو: إنه لا ضمان، فهذه هي الشريعة قائمة كما هي قائمة، وها نحن أولاء باذلون الجهد النظري في استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفي البرهاني، فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا، وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف، والأخذ بما أنتجه البحث العقلي، أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان العقلي.
إنه إذا انتهى النظر العقلي إلى معرفة تتعارض مع ما ورد في الشريعة عن موضوعها، فلا سبيل أمامنا إلا تأويل ظاهر النص تأويلا، معناه - كما يحدده ابن رشد - هو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب.»
10
وهنا يفيض ابن رشد في شروط التأويل إفاضة نحس من حديثه فيها أنه يريد أن تضيق حدود التأويل، بحيث لا نلجأ إليه إلا فيما لا حيلة لنا أمامه، إلا أن نؤول ظاهر الشريعة فيه. وحتى في هذه الحالات الضرورية، سنجد في ظاهر الشريعة في مواضع أخرى، ما يؤيد تأويلنا ذاك؛ يقول: «إنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا - إذا اعتبر وتصفحت سائر أجزائه - وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد.»
11
وظاهر الشريعة من حيث جواز التأويل أو عدم جوازه، ثلاثة أصناف: فهنالك ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله قط، وظاهر مقطوع بتأويله، وصنف ثالث يقع بين الطرفين، وهو موضع خلاف، فيلحقه بعضهم بالقسم الأول، ويلحقه آخرون بالقسم الثاني. لكن من ذا الذي يقرر للناس هذا التقسيم؟ من ذا الذي يقطع بالتأويل هنا وبعدم جواز التأويل هناك؟ إنه الإجماع الذي يقرر ذلك.
وفي هذا الموضع يلفت ابن رشد أنظارنا إلى نقطة هامة، هي استحالة هذا الإجماع في الأمور النظرية؛ إذ كيف يتحقق الإجماع إلا إذا عرفنا جميع العلماء الموجودين في عصر معين، ثم استطلعنا آراءهم واحدا واحدا في المسألة المطروحة، على شرط ألا يكون هنالك من العلماء من نجهل وجوده، أو نعلمه، لكنه يكتم رأيه. وإذا كان الموضوع موضوع تأويل لظاهر الشريعة، ازداد الأمر صعوبة؛ لأن العلماء قد يتفقون على ضرورة التأويل في موضع من المواضع، ثم يختلفون على طريقته. وإذا كان ذلك كذلك فكيف جاز لأبي حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» أن يكفر الفلاسفة المسلمين كأبي نصر الفارابي وابن سينا، على خرقهم للإجماع في التأويل؟
12
مع أنه يكفي أن يكون هنالك من الفلاسفة من يخرق الإجماع، حتى نقول إنه إذن لا إجماع هناك، على أننا نلحظ في هذا تناقضا من ابن رشد، ولا ندري كيف السبيل إلى فضه، وهو أنه في الوقت الذي يجعل الإجماع مدارا لقسمة الشريعة إلى أصنافها الثلاثة من حيث جواز التأويل وعدم جوازه، نراه يلفت أنظارنا إلى ما يشبه الاستحالة في أن يتحقق إجماع على الإطلاق.
صفحة غير معروفة
ولما كان التأويل مجالا يتعرض فيه المؤول للخطأ، رأى ابن رشد أن يكون للقائم بالتأويل شروط، هي أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني؛ إذ الناس على ثلاثة مراتب في قدراتهم الإدراكية، فمرتبة منها هي أولئك العلماء، ومرتبة ثانية هي صنف من الناس مدى قدرته هو أن يستخدموا القياس الجدلي دون القياس البرهاني . والفرق الجوهري بينهما هو أنه بينما البرهاني يبنى على مقدمات يقينية، يكتفي القياس الجدلي بأن تكون المقدمات مشهورة بين الناس، سواء أكانت يقينية في ذاتها أم لم تكن. وكذلك في الناس صنف ثالث، لا يتجاوز في قدراته حدود القياس الخطابي، أعني أن يساق لهم القول على نحو يستريحون إليه ولا عليهم بعد ذلك أن يكون مستدلا من مقدماته استدلالا برهانيا أو جدليا، فمن هذه الجماعات الثلاث، لا يجوز التأويل إلا لجماعة القياس البرهاني.
وهنا نعود إلى ما يمكن للمؤول أن يقع فيه من خطأ، فيقول ابن رشد إنه إذا ما كان من أهل العلم البرهاني، فالخطأ معذور، وأما الخطأ الذي يقع من غير العلماء إذا ما تعرضوا لتأويل الشريعة، فهو إثم محض. والمسألة في مجال النظر الفلسفي كالمسألة في مجال الفقه: «فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة، إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا، كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر.»
13
وما تلك الشروط المطلوبة إلا «أن يعرف الأوائل العقلية، ووجه الاستنباط منها.»
14
وخلاصة القول هي «أن النظر في كتب القدماء (يقصد فلسفة اليونان) واجب بالشرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم، ومقصدهم، هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا لينظر فيها ... فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله.»
15
ويضرب ابن رشد لذلك مثلا، فيقول: «إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات؛ لأن قوما شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري.»
16
4
صفحة غير معروفة
حين فرغ ابن رشد من كتابه «فصل المقال» كان بذلك قد فرغ من رحلته الأولى، التي بدأها بالنظر فيما خلفه القدماء من فلسفة ومنطق، لينتهي إلى أن الشريعة تؤيده وتحث عليه؛ لأنه بمثابة النظر في الموجودات المصنوعة، نظرا يدل على صانعها. فانتقل بعد ذلك إلى رحلته الثانية المضادة في اتجاهها لاتجاه الرحلة الأولى؛ إذ هي تبدأ هذه المرة من النظر في الشريعة نظرا يدل آخر الأمر على أنه هو ما كان النظر العقلي قد تأدى إليه، وكانت هذه الرحلة الثانية هي موضوع كتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
بدأه بإشارة سريعة إلى عمله في المرحلة الأولى، ليبين للقارئ أنه إنما يستأنف بجهده الحالي جهدا سابقا، فقال: «لما كنا قد بينا، قبل هذا، في قول أفردناه (يشير بذلك إلى «فصل المقال») مطابقة الحكمة للشرع وأثر الشريعة بها، قلنا هناك إن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها فرض الجمهور، وأن المؤول فرض العلماء.»
17
وبهذه الإشارة السريعة لخص ابن رشد نتيجة من أهم النتائج التي قدمها في كتابه الأول، وهي قسمة الناس إلى جمهور وعلماء. أما الجمهور فلا يجوز له مجاوزة الشرع في ظاهر نصوصه، وأما العلماء فهم وحدهم الذين لهم حق تأويل ذلك الظاهر بمعان مجازية مضمرة فيه، ولكن لا يحل لهؤلاء العلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، لماذا؟ لأن التأويل يوصل إليه بالقياس البرهاني، على حين أن مدى ما يمكن للجمهور بلوغه هو القياس الخطابي، فإذا أنت حدثت الجمهور بما لا يفهمونه، أحدثت لهم اضطرابا وحيرة بغير جدوى.
كان الهدف الرئيسي أمام ابن رشد من «مناهج الأدلة» هو البحث «عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها.»
18
وذلك لأن طوائف أخرى من رجال الفكر في عصره، تأولوا ظاهر الشرع بمعان من عندهم، وقدموها للناس على أن تلك التأويلات هي عقائد الإسلام. ولما كانت تأويلات الطوائف المختلفة متباينة متنافرا بعضها مع بعض، أخذت كل طائفة تقذف ما عداها بأنها إما مبتدعة، وإما كافرة مستباحة الدم والمال.
ويعين ابن رشد الطوائف التي يريد مناقشتها من أجل تفنيدها، لكي يتقدم هو بعد ذلك بما يراه في طريقة النظر إلى العقائد، بحيث يتبين صلتها بالتفكير العقلي، فيقول: «وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية.»
19 (ولم يذكر الصوفية بين الطوائف، مع أنه تناولها بالمناقشة أيضا).
ويجمل ابن رشد اتهامه للطوائف الأربعة جميعا، قبل أن يبدأ في القول المفصل، فيقول: «كل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى، التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع. وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة.»
صفحة غير معروفة
20
ونقرأ هذا الاتهام الموجه إلى الطوائف المذكورة كلها، ثم ننتقل فورا إلى الطائفة الأولى التي قدمها للمناقشة - وهي الحشوية - فإذا هي بحكم مبدئها لا تأخذ بالتأويل، وتلتزم الظاهر التزاما متطرفا، حتى لتحرم إعمال العقل في شيء منه.
فليس وجه النقص - إذن - في طائفة الحشوية، أنها أولت ظاهرا بمجاز، بل وجه النقص فيها هو أنها انصرفت عن الأدلة العقلية في معرفة وجود الله، قائلة إن طريق هذه المعرفة هو «السمع» لا «العقل»، أي أنه يكفي للإيمان بوجود الله أن يكون صاحب الشرع قد ألقى هذه الحقيقة على مسامع الناس، والشأن في معرفة وجود الله هو نفسه الشأن في كل ما يطلب منا الإيمان به، كالمعاد وغيره، مما لا مدخل فيه للعقل. هذا هو وجه النقص في الحشوية؛ لأنها كانت بموقفها ذاك - بعبارة ابن رشد فيها - «مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع، مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى، ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به.» إذ دعا الناس إلى التصديق بوجود البارئ بأدلة عقلية منصوص عليها في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى:
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وأراني مضطرا إلى السؤال في هذا الموضع - لأنه موضع نموذجي يمثل ما سوف يتكرر في كتاب «مناهج الأدلة» من أوله إلى آخره - كيف يكون التمثيل لفكرة ما، بآيات من القرآن الكريم، دليلا عقليا برهانيا، وهو نوع الأدلة الذي يجده ابن رشد مميزا للعلماء؟ إننا إذا اتخذنا من آية ما مقدمة نبني عليها قياسنا، كان القياس قائما على منقول لا على معقول، مما يزيل عنه صفة البرهان، اللهم إلا إذا كان المعنى الذي أراده ابن رشد هو ما قد يرد في الآية من موضوعات كونية تصلح للبحث العقلي؛ ففي الآية السابقة - مثلا - ذكر لموضوع «خلق» الله للناس في حاضرهم وفي ماضيهم، ليكون ذلك بمثابة الإشارة إلى ما يمكن التحول إلى بحثه بحثا عقليا، وهو في هذا المثل موضوع «الخلق»، وكيف يفهم بالبراهين العقلية، إما أن يكون ذكر الآية في حد ذاته هو البرهان، فذلك ما أعجز عن رؤيته، وأقول ذلك تعليقا على ما فهمته من المقدمة المستفيضة التي قدم بها المرحوم الدكتور محمود قاسم لتحقيقه لكتاب «مناهج الأدلة»، والتي شعرت خلالها في مواضع كثيرة منها، بأنه يرى أن ذكر الشواهد القرآنية هو في ذاته برهان عقلي على ما يراد إقامة البرهان عليه من الشريعة.
وكأنما تخيل ابن رشد في تعليقه على قصور الرؤية الحشوية، أن أنصار هذه الطائفة قد ردوا على اعتراضه، بقولهم إنه إذا كانت الأدلة العقلية مطلوبة للوصول إلى معرفة الشريعة، لوجب أن يعرض النبي عليه السلام تلك الأدلة العقلية عندما عرض دعوته إلى الإسلام، وهو اعتراض أراه وجيها، لم يجب عليه ابن رشد بما يتناسب مع قوته، إذا قال ما معناه إن العرب جميعا تعترف بوجود الله سبحانه، فلم يكن من الضروري لصاحب الدعوة أن يسوق فيها من الأدلة على وجوده أكثر من أدلة شرعية، فإذا كان بين الناس من لا تسعفه قواه العقلية في متابعة تلك الأدلة، فهؤلاء وحدهم هم الذين يكون إيمانهم قائما على السماع.
ثم ينتقل ابن رشد إلى طوائف الأشعرية وسائر المتكلمين، فيجدهم على نقيض الحشوية؛ إذ هم يريدون ألا يكون التصديق بوجود الله إلا بالعقل، وطريقة ذلك عندهم هي أن يضعوا المقدمات التي يظنون بها اليقين، ثم يستخلصون منها النتائج، مثال ذلك أن يضعوا المقدمات الآتية؛ ليقيموا عليها حدوث العالم، ثم ليقيموا على هذا الحدوث وجود الله الذي أحدثه، والمقدمات هي: (1)
الجواهر لا تنفك عن الأعراض. (2)
الأعراض حادثة. (3)
صفحة غير معروفة