فكيف لمثل ذلك الموقف أن يدوم، وهو وإن يكن قد أقام بناءه على عمد قوية في جانب، فقد أقامه كذلك على عمد واهية متداعية في جانب آخر. نعم كان من علامات القوة والصحة أن نضع أنفسنا مع العصر في موكب سيره؛ لأنه عصرنا، ولكنها كانت علامات ضعف ومرض، أن ننسى أننا إنما كنا ننقل إلى أنفسنا «غذاء» يزيد من شعورنا بهويتنا الأصيلة هو غذاء لا بد منه لا نستغني عن شيء منه إلا إذا أردنا لأنفسنا انتحارا حضاريا، ولكنه مع ذلك «غذاء» وليس صنما للعبادة. ولقد كنت لفترة طويلة واحدا من أولئك الذين ضلوا سبيل الحق في هذا الصدد، فبالغت كما بالغوا، حتى أراد لي الله رؤية أهدى.
وكان من طبائع الأمور أن نتحول في سيرنا من مرحلة إلى أخرى تليها، لم تجئ لتعتدل بنا في وقفتها ونظرتها، بل جاءت لتأخذ بثأرها وتنتقم، وهي مرحلة تريد لنا أن نسترد ذاتنا المفقودة في متاهة الفكر الغربي، وشيئا فشيئا نظرنا، فإذا نحن قد تقوقعنا في شرنقة أنفسنا، وحسبنا أننا بذلك قد رددنا الذات الضائعة. ويكفيك أن تنظر إلى الجادين من شباب هذا الجيل لتراهم - وتراهن - وهم الشباب الذين نتوقع منهم الفطرة البشرية نفسها أن يطيروا إلى المستقبل بأجنحة النسور قد داروا على أعقابهم، ولووا رقابهم ليتجهوا بأبصارهم إلى الوراء لا ليستمدوا منه «الغذاء» الذي يسري قوة وصحة في الدماء، ثم لينصرفوا بتلك الصحة القوية نحو إبداع عصر جديد، بل زلوا كما زل رجال المرحلة السابقة، وظنوا أن الكنز المنقول عن الماضي، إنما هو مقصود لذاته، نتعشقه بالنظر من بعيد، ونلمسه بأصابعنا لنتبرك به.
فالمرحلة الثانية - وهي التي نحياها اليوم - هي مقلوب المرحلة الأولى، في كل منهما حسنة نتمسك بها، وفي كل منهما سيئة ندعو الله البرء منها. فالحسنة في المرحلة الأولى هي الإصرار على متابعة الغرب في كل جديد يبدعه، لعلنا ذات يوم أن نشارك بدورنا في ذلك الإبداع، والحسنة في المرحلة الراهنة هي إصرارنا على تحقيق ذواتنا بالانتماء الصحيح إلى منابعنا، لكن السيئة في كل من المرحلتين هي الزهو الأجوف، الذي يريد أن يكتفي بما عنده، وأن يجعل نفسه وكأنه في غنى عن الجانب الآخر. على أن التشابه بين المرحلتين في هذه السيئة ليس تشابها كاملا، فالمرحلة الأولى تتفوق على هذه المرحلة الراهنة تفوقا ظاهرا، في أن رجال المرحلة الأولى جمعوا جديد الغرب إلى تليد التراث. وكل ما في الأمر أنهم كانوا أميل إلى الزهو بما نقلوه عن الغرب، في حين أن أبناء هذه المرحلة الحاضرة لا يريدون أن يسمعوا إلا صوتا واحدا، وأن يصموا آذانهم عن كل صوت سواه. وفي هذا الجو الفكري سألني السائل سؤاله: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟
إن أكذوبة الأكاذيب يا أخانا، في هذه المرحلة الثقافية التي نعيشها، هي ذلك الباطل الذي شاع وذاع، حتى ملأ القلوب والأسماع، بأنه إما الإسلام، وإما هذا العصر بعلومه وفنونه، فلو أراد المسلم إسلاما صحيحا - هكذا يريدون أن يقولوا - فليترك العصر بما فيه، وإذا رأينا أحدا منا يميل إلى العصر وخصائصه عددناه متنكرا لإسلامه. وإني لأزعم زعمين هنا، يلتقيان معا عند نقطة واحدة، أولهما أن المسلم الحق يستحيل عليه ألا يصل إلى أخص خصائص هذا العصر، عن طريق إسلامه نفسه. وأما الزعم الثاني فهو أنك لن تجد خاصة واحدة من الخواص التي على دعائهما قام هذا العصر بحضارته الجديدة، إلا وأنت واجد كذلك بأنها خاصة حضنا عليها الإسلام. ولننتقل من تعميم إلى تفصيل وتخصيص.
ولا بد لي على سبيل التمهيد، أن أضع في رأس القارئ فكرة، وأظل أدقها دقا حتى ترسخ جذورها في تلافيف دماغه، وهي - على بساطتها ووضوحها - كثيرا ما تفلت، مع أنها في الحقيقة مفتاح هام من مفاتيح النظرة العلمية الصحيحة، وتلك هي أن اللفظة من ألفاظ اللغة، أو الجملة، أو الصفحة، أو الكتاب، ليس هو «الشيء» الذي جاءت تلك الرموز اللغوية كلها لتشير إليه. إن كلمة «خبز» ليست هي الخبز الذي نأكله، ولو اكتفيت من الخبز باللفظة الدالة عليه، لهلكت بإذن الله جوعا. إن كلمة «وردة» ليست هي الوردة التي نشمها، ولو اقتصرت من الوردة على اسمها، لما نعمت بشيء من عبقها الجميل. وهكذا قل في كل رمز من رموز اللغة كائنا ما كان. وبناء على هذه البديهية التي أضعها بين يديك، يصبح واجبا على القارئ الجاد كلما قرأ، أن ينفذ ببصيرته خلال الألفاظ التي يقرؤها ليرى ماذا وراءها من «حقائق»؛ لأن المادة المقروءة نفسها - كما قلنا - ليست تلك الأشياء التي جاءت تلك المادة المقروءة لتشير إليها.
وبعد هذا التمهيد الموجز الهام، أتوجه إليك بالسؤال الآتي: ما هي في رأيك دعائم هذا العصر وحضارته؟ هل تشك في أن العلم بقوانين الطبيعة في مختلف ظواهرها هو في مقدمة تلك الدعائم؟ فأحسبك على إلمام كاف بالسيرة العلمية في تاريخ الإنسان، وكيف أنها لم تلتفت إلى علوم الطبيعة لتجعلها محورا أساسيا إلا منذ القرن السادس عشر على وجه التقريب. وأما قبل ذلك فقد كان هنالك بالطبع تفكير علمي، لكنه لم يكن يتجه إلى الطبيعة نفسها بالبحث، إلا باهتمام أقل من القليل. وسؤالي إليك هنا هو هذا: أفي الإسلام ما يحضك، أم فيه ما يصدك عن العلم؟ إنني عند كتابة هذا السؤال رأيت أن أرجع إلى معجم القرآن الكريم لأرى كم ورد «العلم» في آياته وبأي المعاني قد ورد، فإذا الذي أمامي في المعجم عدة صفحات، جاء فيها ما يزيد على سبعين صورة من ألفاظ دالة على «العلم» ومشتقاته، وتحت كل صورة منها عدد لم أحصه من الآيات القرآنية الكريمة ومواضعها. فإذا ضممنا هذا القدر الهائل إلى قدر هائل آخر عن مادة «فكر»، وما يشتق منها علميا، فإننا أمام كتاب جعل للعلم وللفكر منزلة هيهات أن تجد لهما منزلة أعلى منها في أي مصدر آخر. إنه لم يرد للإنسان علما مجرد العلم، بل أراد له «رسوخا» فيه، وهداه إلى وجوب التفرقة بين العلم والظن، فليس المراد معرفة تقام على ظنون، بل المراد معرفة تقام على علم. وليس المراد للإنسان أن ينساق مع الهوى، بل المراد أن يهتدي بالعلم الذي لا يعرف الهوى.
وأعود بك إلى البديهية التي وضعتها بين يديك لتكون مفتاحا من مفاتيح النظرة العلمية، وأعني بها ضرورة الانتقال من الكلمة المقروءة إلى الحقائق الكامنة وراءها، والتي جاءت الكلمة لتشير إليها لا لتكون بديلا لها نكتفي به، فإذا قرأنا في كتاب الله أن يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، فإننا لا نفعل إلا القليل القليل. القليل إذا نحن اقتصرنا على حفظ الآية وتلاوتها وترتيلها مرات تعد بملايين الملايين ، وإنما يكمل إيماننا بالآية الكريمة حين ننتقل من لفظتها إلى ما وراء ذلك اللفظ من حقائق السماوات والأرض . وماذا في أي علم من علوم الطبيعة؛ من فلك إلى فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان، لا يندرج فيما هو من خلق السماوات والأرض؟ فإذا سألتني: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب؟ فأجيبك: نعم يكفينا شريطة أن ننفذ خلال كلماته إلى ما ترشد إليه تلك الكلمات، فلنحفظ تلك الكلمات الكريمة، ولنعلم أطفالنا أن يحفظوها، ولنتلها تلاوة لا تنقطع بالليل ولا بالنهار، لكن كل ذلك لا يجعلنا من «العلماء» الذين عرفوا شيئا عن خلق السماوات والأرض، إلا إذا أضفنا إلى الكلمة ما وراءها.
اللغة كائن عجيب فهي تحمل دائما في طيها سرا مكنونا. ومن أغرب أسرارها، أنها لا تؤدي لك وظيفتها إلا إذا جاوزتها إلى شيء خارج عنها، فإذا قلت لمسافر إن الطائرة تقلع في الساعة التاسعة صباحا، فإن قولك هذا يؤدي الغاية منه عند المسافر إذا هو بدأ منه ليتحول عنه إلى فعل يقوم به فيلحق بالطائرة، لكنه إذا ما أخذ يردده وهو جالس مكانه، فلن يبلغ قولك غايته. وهكذا قل في حالة من حالات اللغة حين تستخدم أداة للعلم (إذ هنالك الحالات التي تقصد اللغة لموسيقاها) فإذا قرأت قول الله تعالى:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
كان ذلك بمثابة الأمر بأن تفرق بين ما هو علم وما هو مجرد ظن أو مجرد رأي، لتأخذ بالأول وتهمل الثاني، لكن تنفيذ هذا الأمر الإلهي لا يتم بتكراره ألف مرة وأنت على مقعدك، بل يتم تنفيذ الأمر بأن تنهض من فورك، وتأخذ في الدراسة التي تبين لك الفوارق التي تميز العلم من مجرد الظن، حتى إذا ما تكاملت لك تلك الدراسة أو جوانب منها، أخذت بوعي وفهم وشعور بالتبعة الأخلاقية تغربل ما يقال لك من عبارات في مجالات الجد، غربلة تفصل بها القمح عن الشعير، أعني أن تفصل العلم عن سمادير الظنون. لقد أشار القرآن الكريم إلى «أسماء» قال عنها:
صفحة غير معروفة