ولما كان التأويل مجالا يتعرض فيه المؤول للخطأ، رأى ابن رشد أن يكون للقائم بالتأويل شروط، هي أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني؛ إذ الناس على ثلاثة مراتب في قدراتهم الإدراكية، فمرتبة منها هي أولئك العلماء، ومرتبة ثانية هي صنف من الناس مدى قدرته هو أن يستخدموا القياس الجدلي دون القياس البرهاني . والفرق الجوهري بينهما هو أنه بينما البرهاني يبنى على مقدمات يقينية، يكتفي القياس الجدلي بأن تكون المقدمات مشهورة بين الناس، سواء أكانت يقينية في ذاتها أم لم تكن. وكذلك في الناس صنف ثالث، لا يتجاوز في قدراته حدود القياس الخطابي، أعني أن يساق لهم القول على نحو يستريحون إليه ولا عليهم بعد ذلك أن يكون مستدلا من مقدماته استدلالا برهانيا أو جدليا، فمن هذه الجماعات الثلاث، لا يجوز التأويل إلا لجماعة القياس البرهاني.
وهنا نعود إلى ما يمكن للمؤول أن يقع فيه من خطأ، فيقول ابن رشد إنه إذا ما كان من أهل العلم البرهاني، فالخطأ معذور، وأما الخطأ الذي يقع من غير العلماء إذا ما تعرضوا لتأويل الشريعة، فهو إثم محض. والمسألة في مجال النظر الفلسفي كالمسألة في مجال الفقه: «فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة، إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا، كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر.»
13
وما تلك الشروط المطلوبة إلا «أن يعرف الأوائل العقلية، ووجه الاستنباط منها.»
14
وخلاصة القول هي «أن النظر في كتب القدماء (يقصد فلسفة اليونان) واجب بالشرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم، ومقصدهم، هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا لينظر فيها ... فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله.»
15
ويضرب ابن رشد لذلك مثلا، فيقول: «إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات؛ لأن قوما شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري.»
16
4
صفحة غير معروفة