فلما رآهما لوط، قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض، وقال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما، واغسلا أرجلكما ... (تكوين 19: 1-2)
ومع ذلك فإن مزيدا من الإمعان في التوراة، يرفع عدد آلهة المجمع، حيث نجد عددا لا بأس به من الآلهة، فهناك: «إل صبلوت» إله الجنود، و«إله عليون» الإله العلي، و«إل شداي» الإله الشديد أو القدير، و«إل شلم» إله السلام، و«إل جبور»، و«إل رحبوت» و«إل يراه» ويمكن لخبرة الباحث في تاريخ الديانات وفي الميثولوجي، أن يشتم في هذه الأسماء، أسماء لآلهة مواضع ومناطق وظواهر طبيعية فترجمة «إل صبلوت» يمكن أيضا أن تكون «إله الظباء» أو الإله الظبي أو التيس، وهو إله معروف في تاريخ الديانات كرمز للخصب، و«إل عليون» يمكن أن يكون إله مكان مرتفع كقمة جبل أو بركان أو ما شابه ذلك و«إل شداي» يمكن أن يترجم إضافة إلى كونه الشديد، إلى إله الشذى أو الرائحة أو الريح (الدال تختلط بالذال في الساميات)، و«إل يراه» رمز واضح لإله الماء والري والخصب، وينطق أيضا «يراخ»، والمصريون يقولون:«المطر يرخ.» ويتضح للمدقق في التوراة أن إل يراه كان إلها لبئر أو لعين من الماء فهو يلتقي بهاجر «على عين الماء التي في طريق شور» (تكوين 16: 7)، ويأمرها بالرجوع إلى سيدتها فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: «أنت إيل رئي.» والمعنى أن هاجر تعلم أن هناك أكثر من إله فميزت الإله الذي قابلته «الذي تكلم معها» وعرفت فيه إله الري، بأنه «أنت إيل رئي.» وقد اكتشفت أنه إله الري بالذات، والسبب «لأنها قالت: أها هنا رأيت بعد روية» (تكوين 16: 13)؛ أي ارتويت بعد عطش كاد يكون موتا «روية»، ثم إنها صادفت ذات الإله بعد ذلك عندما أخذها إبراهيم النبي بأمر زوجته سارة إلى البرية، حيث تركها هناك مع طفلها إسماعيل، حيث تظهر علامات إله الخصب مرة أخرى حين «طرحت الولد تحت إحدى الأشجار» (تكوين 21: 15)، وأخذت تبحث عن الماء، «وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء» (تكوين 21: 19)، لذلك «دعت البئر بئر لحي رئي» (تكوين 16: 13)، ولعل النص في الأصل «دعت البئر لهي رئي»؛ أي إله الري والماء.
ويظهر الإله «لهي رئي» في أكثر من موضع في العهد الإبراهيمي، لكن مع تداخل يهوه، الذي لم يظهر إلا في العهد الموسوي، بيد الكاتب المتأخر الذي خلط بين العهدين، وذلك في قصة تضحية إبراهيم بابنه لربه، وطقس التضحية يرتبط عادة بإلهة الخصب والري، طلبا للغيث والري، كما يرتبط بطقس الجنس الجماعي، والموضع الذي ذهب إبراهيم ليضحي فيه بولده يأتي في النص القائل «فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يراه»» (تكوين 22: 14)، وهنا يرد «يهوه» بمعنى الإله مضافا إلى «يراه» فهو إله الري، وفي أكثر من موضع نجد اسحاق بن إبراهيم يسمي بئر هذه المنطقة «بئر لحي رئي»، أو ما افترضنا «بئر لهي رئي» أي إله الري وليس إله الرؤية بمعنى البصيرة (التكوين 24، 62، 25، 11).
وهناك أمر يرتبط بهذا الإله هو إشارة المؤرخين العرب والمسلمين إلى هبوط النبي إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل جزيرة العرب، لكن التوراة لم تشر إلى هذا الأمر بوضوح، وإن كنا قد استطعنا أن نعثر على متفرقات بالتوراة، يمكن أن تربط إبراهيم وجزيرة العرب، وأثبتناه بالأدلة في بحثنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر»، ويرتبط أيضا بهاجر وبالإله الذي التقت به عند البئر «إله رئي»، وبطقس ذبح الابن الذي كاد أن يقوم به النبي إبراهيم (وهو أحد طقوس عبادة الخصب، حيث كانت التضحية بالابن البكر شرعة واجبة في عبادات الخصب بطول المنطقة وعرضها فكان العباد يذبحون البكر ويحرقونه في حجر الإله).
والتوراة تورد الأمر الإلهي لإبراهيم بقولها: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة» (تكوين 22: 2)؛ لذلك «دعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يراه، حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى» (تكوين 22: 14).
والنص يعني أن الرب أمر إبراهيم بذبح ابنه إسحق، وهو ما لا يتفق مع شرعة التضحية بالبكر، والبكر هو إسماعيل، والعرب والمسلمون يؤكدون أن الذبيح كان إسماعيل، وهو ما يتسق مع تلك الشرعة القديمة. وإذا كان إسماعيل في التوراة، وفي كتب التراث الإسلامي هو الجد البعيد لعرب الجزيرة، فإن ذلك كله يذهب بنا إلى جزيرة العرب، في رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل حيث تركهما هناك، لكن بعد أن كاد يضحي بولده في «أرض المريا» لذلك سمي الموضع «يهوه يراه» وأنه يسمى حتى اليوم، أو بتعبير التوراة: يقال اليوم «جبل الرب يرى»، وهو ما تعنيه تماما اللفظة العربية «المروة»، التي تتركب من ملصقين هما «الإله» و«مروة» أو «مروي» وتشير إلى الري والخصب.
ولم تزل «المروة» موضعا مقدسا في بلاد الحجاز، باعتقاد أن قدسيته موروثة منذ أيام النبي إبراهيم، وشعيرة الهرولة بين الصفا والمروة أحد شعائر الحج الأساسية، ويتبعه ضمن الطقوس شعيرة الذبح.
وتقول كتب التراث الإسلامي: إن الصفا والمروة كانا مقدسين قبل الإسلام بزمان وظلا مقدسين في العصر الجاهلي، وكان الجاهليون يهرولون بينهما؛ لأنه على الصفا كان الصنم «إساف» أو «أصاف» أي يوسف، وأن على المروة كان الصنم «نائلة»، وإن يوسف في الأسطورة قد جامع نائلة داخل الكعبة، لذا نشأ طقس الهرولة بينهما في الجاهلية، مدا وإيصالا لحبل الوصال بينهما، وهذا الجماع كان بدوره أحد طقوس عبادة الخصب في الديانات القديمة (ولنلاحظ أن نائلة في العامية نايلة، وفي العربية يعبرون عن وصال المرأة بكلمة نالها، وفي العامية المصرية: نيلها).
وتأسيسا على كل هذه المعاني سنقوم بالربط بين «إيل يراه» أو «إل يرخ» وبين القمر، باعتبار القمر كان يرتبط دوما بالعبادة الخصبية التي كانت تقوم في البوادي، والاسم «يرخ» كان أحد أسماء القمر في العبادات السامية وله أسماء عدة مشتقة من «يراه»، فهو أيضا «رخ»، «يرخ»، و«الورخ» و«يرح»، وكان أشهر مقار عبادته فيما يفيدنا به أنيس فريحة، المدينة التي حملت اسم «أريحا»!
8
صفحة غير معروفة