لقد خرج التتار من أواسط آسيا بقضهم وقضيضهم في جموع حاشدة تضم عددهم وأسلحتهم ودوابهم، ألوف الألوف لا يدينون بدين سماوي ولا يتحضرون بحضارة ما، بل لا يفهمون معنى الحضارة ولا يقدرونها، وظلوا سنوات طوالا يتقدمون والنصر حليفهم، لا يمنعهم مانع، ولا تصدهم حصون أو قلاع، ولا تقف أمامهم جيوش أو دول، وهم في نشوة النصر يخربون ويقتلون ويسلبون وينهبون، فقضوا على دولة خوارزم بعد نضال عنيف، وقضوا على الخلافة العباسية في بغداد، ثم تقدموا فاستولوا على الشام، ووصلوا أخيرا إلى حدود مصر عند غزة، فتملك الفزع سكان الشرق الأوسط من هذا الشعب الذي لا يهزم أبدا.
وأرسل هولاكو رسله إلى سلطان مصر العظيم سيف الدين قطز ينذره بالويل والثبور إن هو لم يسلم ولم يخضع، ولكن قطز مزق الرسائل، وقتل الرسل، وعلق رءوسهم على أبواب القاهرة، وخرج بجيوش مصر، وبث الحماس في جنوده، وانتصر لأول مرة على جيوش التتار في وقعة عين جالوت الحاسمة.
ولأول مرة يذوق التتار - منذ خرجوا من قلب آسيا - طعم الهزيمة، ثم توالت عليهم الهزائم إلى أن طردوا من الشام جميعا، ولم ينتصر قطز إلا بقوة إيمانه، فإن الرواية تذكر أن الجيش المصري أوشك على التخاذل في بدء المعركة، فتقدم قطز الصفوف، وألقى بخوذته على الأرض، وصاح صيحته المشهورة: «وا إسلاماه! يا الله، انصر عبدك قطز على التتار.»
آمن هذا العبد بربه فنصره الله على أعدائه هذا النصر المبين.
لو أننا كنا نعلم شبابنا في المدارس هذه الحقائق التاريخية، لخلقناهم خلقا آخر يؤمن بالله وبالوطن وبالمثل العليا، ويضحي في سبيل ذلك بكل ما يملك، حتى بالروح، ولكنها سياسة الاستعمار وأتباعه كانت تغطي هذه الصفحات المشرقة من تاريخنا.
واجبنا إذن أن نكشف للشباب هذه الأكذوبة الكبرى التي خلقها الاستعمار يوم دخوله مصر، ومن الواجب أن تخرج معه يوم خروجه ، وواجبنا أيضا أن نثبت لشبابنا إثباتا علميا صحيحا أن مصر كانت في معظم عصورها مستقلة استقلالا تاما، وأن نبرز أمامهم أمجادنا الحربية والحضارية.
الاستعمار البريطاني ليس وليد القرن التاسع عشر
وواجبنا أخيرا أن نثبت لشبابنا حقيقة أخرى هامة غفل عنها الكثيرون، وهي أن الاستعمار الأوروبي لبلادنا ولبلاد الشرق الأوسط لم يكن وليد القرن التاسع عشر، بل هو حلقة من سلسلة محاولات قديمة، هدف بها الأوروبيون إلى استعمار مصر والشرق العربي.
بدأت هذه السلسلة بمحاولات الأوروبيين غزو هذه البلاد باسم الصليب، ولكن مصر تزعمت بلدان هذا الشرق العربي، واستطاعت أن ترد حملات هؤلاء الأوروبيين مرة ومرات، وأعطتهم دروسا قاسية لا يمكن أن ينسوها أبدا، لعل أخطرها أسر ملك فرنسا لويس التاسع في موقعة فارسكور، وسجنه بمدينة المنصورة، ولا يجوز أن نستمع إلى قالة القائلين إن هذه كانت حربا دينية صرفة، فنحن لو استثنينا الحملة الصليبية الأولى وما صاحبها من حماس ديني، نجد أن الحملات التالية كلها كانت حملات استعمارية بحتة، الهدف الأول والأخير منها استعباد هذه البلاد، وإفناء أهليها، والسيطرة على مواردها، وإن كان قواد هذه الحملات وجنودها قد لبسوا مسوح الدين، فإنما ليخدعوا العالم وليحققوا مآربهم باسم الدين، وإلا فإن الدين المسيحي - دين المحبة والسلام - لا يمكن أن يقر الوحشية التي اتصف بها الصليبيون في حروبهم.
قاومنا إذن هذه الحلقة الاستعمارية الأوروبية الأولى، ونجحنا في مقاومتها لأننا كنا مؤمنين ولأننا كنا أقوياء، وكانت لنا مثل عليا نحارب من أجلها.
صفحة غير معروفة