ولم يكن يشوب هذا الاستقلال - فيما يدعي البعض - إلا أن بعض الحكام كانوا أصلا من أجناس غير مصرية، وهذه الحقيقة الصغيرة هي التي اعتمد عليها الأوروبيون فضخموها، وعلى أساسها حكموا حكمهم الخاطئ، أن مصر لم تتمتع يوما ما بالاستقلال.
ولكن هذه الحقيقة الصغيرة مع هذا لا تعيب استقلالنا ولا تخدشه؛ فأي أسرة من الأسر الحاكمة في الدول الأوروبية في العصور الوسيطة والحديثة كانت تنتسب للشعب الذي تحكمه انتسابا نقيا خالصا؟ إن نابليون الذي يعتز به الفرنسيون حتى اليوم لم يكن فرنسيا، بل هو من أهل جزيرة كورسيكا، والأسرة الحاكمة الحالية في إنجلترا ترجع إلى أصل جرماني، وهتلر زعيم ألمانيا السابق من أصل نمساوي، والأمثلة غير هذه كثيرة.
فإذا أضفنا إلى هذا أن مدلول الوطنية في العالم الإسلامي في العصور الوسطى كان يصطبغ بالصبغة الدينية، عرفنا أن استقلال مصر في تلك العصور لم يكن في مفهومه المتعارف وقتذاك ينقصه أي مقوم من مقومات الاستقلال، فالمسلم الصيني - على سبيل المثال - كان إذا حل في الشام أو في مصر أو في المغرب لم يشعر أنه غريب، ولم يشعره أهالي تلك البلاد أنه غريب، بل كان يعتبر نفسه في وطنه أينما حل.
فانتماء الخلفاء الفاطميين إلى الجنس العربي، أو على الأصح انتماء أولهم المعز لدين الله إلى الجنس العربي، لا يعيب استقلال مصر في العصر الفاطمي المزدهر الحافل بكل علائم التقدم والحضارة، وإذا كان المعز عربيا فإن من تبعه من أولاده وأحفاده كانوا مصريين لحما ودما، ولدوا في مصر، ونشئوا في مصر، وقادوا الجيوش باسم مصر، وحكموا إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف؛ حتى لقد كان المؤرخون المسلمون يسمون الدولة الفاطمية دولة الخلفاء المصرية.
وعندما خرج صلاح الدين إلى الجهاد الأكبر ضد الصليبيين الذي توج بانتصاره الحاسم في وقعة حطين التي مهدت له الطريق لاستعادة بيت المقدس وتحرير فلسطين، فإنه كان يحارب بالجيوش المصرية وباسم مصر التي هو سلطانها.
وعندما صمد الملك الكامل محمد أو الملك الصالح نجم الدين أيوب للغارات الصليبية التي هددت مصر حتى انتصرا عليها ورداها خائبة، فإنهما كانا يدافعان عن أرض الوطن بجيوش الوطن.
يضاف إلى هذا أن مصر امتازت في كل عصورها بخاصة مميزة، فهي قادرة دائما على هضم كل غريب وصهره في بوتقتها وتمصيره تمصيرا تاما في وقت قصير.
ولكنه الاستعمار دائما في كل وقت وفي كل مكان، أمضى أسلحته تحطيم الروح المعنوية في الشعوب المستعمرة، وفي شبابها بوجه خاص، عن طريق التربية والتعليم، بما يدسه في الكتب والصحف من آراء تهدف دائما إلى فقدان الثقة بالنفس والإيمان بالله وبالوطن، وتحطيم المثل العليا، ونشر كل ما يدعو إلى الرخاوة والدعة والكسل والذلة.
فالطالب الفرنسي والطالب الإنجليزي يعلمان في مدارسهما كل صغيرة وكبيرة عن تاريخ فرنسا وإنجلترا وأبطالهما، والطالب المصري في المدارس المصرية كان إلى عهد قريب لا يعرف عن تاريخ بلاده إلا القدر الضئيل، وبالصورة المشوهة، فمن من شباب مصر كان يعلم شيئا تفصيليا عن بطولة المصريين في مواقع حطين ودمياط والمنصورة ورشيد للدفاع عن مصر والشرق الإسلامي ضد خطر الصليبيين والإنجليز؟
ومن من شباب مصر كان يعلم شيئا تفصيليا عن بطولة جيش مصر في وقعة عين جالوت للدفاع عن مصر والشرق، بل والعالم الأوروبي كله، ضد خطر التتار المخرب المدمر؟
صفحة غير معروفة