كان أرسطو يقول بحرية الإرادة، وعاب على سقراط رأيه في الفضيلة لأنه يستلزم الجبر، فعند سقراط أن التفكير الصحيح يستتبع حتما العمل الصالح، وهذا معناه أن ليس له إرادة في اختيار الخير والشر؛ لأن الإنسان الذي يفكر صحيحا لا يفعل الخير اختيارا بل جبرا، وعلى العكس من ذلك أرسطو فهو يرى أن الإنسان مخير بين أن يعمل الخير والشر وقادر على فعل كل منهما، ولم يتعرض أرسطو إلى بيان المشاكل التي تعترض نظرية حرية الإرادة والتي هي مثار الجدل الشديد بين الفلاسفة المحدثين.
أرسطو مع أحد تلاميذه في أثينا. (5) رأيه في الدولة
ليس علم السياسة في نظر أرسطو منفصلا عن علم الأخلاق، بل هو يرى أن الأول قسم من الثاني، فعلم الأخلاق إما أن يبحث في أخلاقية الأفراد أو في أخلاقية الجماعات، والثاني هو المسمى عادة بالسياسة، وهناك سبب آخر للاتصال بين القسمين، وهو أن أخلاقية الفرد لا تجد غايتها إلا في الدولة، وبعبارة أخرى في المعيشة الاجتماعية، ولا يمكن أن يصل الفرد إلى غايته بدونها.
وقد وافق أرسطو أفلاطون في أن الغرض من الدولة إسعاد أفراد الشعب، وبدونها لا يمكن أن يسعدوا؛ لأن الإنسان حيوان سياسي بالطبع، ويعني من قوله «بالطبع» ما تقدمت الإشارة إليه من أن الدولة غاية محتمة له، وجزء أساسي من وظائفه، ويرى أن الدولة صورة والفرد هيولى، وأن وظيفة الدولة تربية الأفراد على الفضيلة وتهيئة الأسباب لهم ليكونوا فاضلين، وبدون ذلك لا يكون الإنسان إنسانا إنما يكون وحشا ضاريا.
يرى أرسطو أن أصل الدولة يرجع إلى الأسرة، فأول كل شيء كان الفرد، ثم أخذ الفرد يبحث عن رفيق في الحياة فكانت الأسرة (والأسرة في نظره تشمل الرقيق؛ لأن أرسطو كأفلاطون لم ير عيبا في نظام الرق)، ومن مجموعة أسر تكونت القرية ثم المدينة، ومن مجموعة قرى ومدن كانت الدولة.
هذا هو الأصل التاريخي للدولة، ولكن أهم من أصلها التاريخي في نظر أرسطو أن الأسرة وإن سبقت الدولة في التاريخ فالدولة سبقت الفرد والأسرة في الفكر؛ لأن الدولة هي الغاية، والغاية تسبق الوسائل في الفكر كما تقدم، فالدولة من حيث هي صورة سابقة على الأسرة من حيث هي هيولى، وإذ كانت الأشياء تشرح بغاياتها فالأسرة تشرح بالدولة لا العكس.
وليست الدولة مجموعة من الأسر تكوم كما يكوم الرمل بل هي جسم عضوي، وليست علاقة الجزء بالجزء علاقة آلية (ميكانيكية) بل هي علاقة عضوية، فالدولة لها حياة خاصة، وأعضاؤها لها حياة كذلك، وحياة هذه الأعضاء داخلة ضمن الحياة العليا وهي حياة الدولة، وإذ كان الفارق بين الجسم العضوي واللاعضوي أن الأول له غاية في نفسه، والثاني له غاية خارجة عنه كانت الدولة لها غاية في نفسها، والفرد كذلك له غاية في نفسه، وأن غاية الدولة تتضمن غاية الفرد، وبعبارة أوضح كل من الدولة والفرد له غاية وكل له حياة وكل له حقوق، ومن ثم كان هناك نظران يعدهما أرسطو غير صائبين؛ الأول: الرأي الذي يقول بحياة الأفراد وينكر حياة الدولة، وبعبارة أخرى يقول بأن للفرد غاية في نفسه ولا يقول بأن للدولة حياة مستقلة، والرأي الثاني: من يعكس هذا ويقول بحياة الدولة حياة حقة، وينكر حقيقة حياة الأعضاء، فالذين يرون أن الدولة ليست إلا أفرادا مكدسة، وأن الدولة ليس لها غاية إلا حماية الأفراد وإسعادهم وليس لها وجود مستقل ولا غاية مستقلة، هؤلاء يمثلون الرأي الأول الخاطئ، وهؤلاء يخضعون الدولة لمصلحة الفرد، وينظرون إليها كأنها وسيلة فقط لحماية أرواح الأفراد وملكهم، لا غرض لها في نفسها وإنما غرضها خدمة الأفراد، فهذا النظر لا يقر بأن للدولة حياة ولا بأنها جسم عضوي، وكأن أرسطو بهذا يفند نظرية «العقد الاجتماعي» التي ذاعت في القرن الثامن عشر، كما يرد على النظر الحديث القائل بأن الدولة ليس لها من وظيفة إلا أن تضمن أن حرية الفرد لا يحد منها إلا حق الأفراد الآخرين في أن يتمتعوا بمثل حريته، ويمثل الرأي الآخر الخاطئ ما ذهب إليه أفلاطون من إنكاره حياة الأعضاء، فهو يرى أن الأعضاء لا شيء، وأن الدولة هي كل شيء، ومن أجل ذلك يضحي بالفرد للدولة، ويرى أنه لا يعيش إلا لمصلحتها وليس للفرد غاية في نفسه. يرى أفلاطون أن الدولة وحدة متجانسة الأجزاء ليس لأجزائها حياة مستقلة، ولكن أرسطو يرى أن حياة الدولة حياة جسم عضوي فهو وحدة وأجزاؤه مرتبط بعضها ببعض ولكنها غير متجانسة، ولكل جزء حياته الخاصة، وكما أخطأ أفلاطون في نظره إلى الفرد كذلك أخطأ في نظره إلى الأسرة، فأرسطو يرى أن الأسرة كالفرد جزء حقيقي من الكل الاجتماعي وهو الدولة، وهو جسم عضوي في جسم عضوي وله غاية في نفسه وله حقوق خاصة، أما أفلاطون فيرى أن يلغي نظام الأسرة لمصلحة الدولة بالاشتراكية في النساء وبتربية الأولاد في المربى العام، فقضى بذلك على الأسرة التي هي جزء لا بد منه للدولة في نظر أرسطو.
لم يحصر أرسطو أقسام الدولة حصرا تاما؛ لأنه رأى أن أشكال الحكومة تختلف باختلاف البيئة والزمان، ولكنه قسمها أقساما على سبيل المثال لا الحصر، فقال إن هناك ستة نماذج للحكومة، منها ثلاثة جيدة وثلاثة رديئة، ورداءة الرديئة أتت من أن فيها نوع إفساد للجيدة، وهذه الستة هي: (1)
حكومة الفرد، وهي حكم فرد لأمة بحكم أنه متفوق عليها في عقله وحكمته؛ فهو لذلك يحكمها طبيعيا فإذا فسد هذا نشأت: (2)
حكومة الاستبداد، وهي أن يحكم الفرد لكن لا لكفايته وحكمته بل لقوته. (3)
صفحة غير معروفة