مقدمة
1 - فلاسفة يونيا1
2 - الفيثاغوريون
3 - الإيليون1
4 - هرقليطس
5 - إمبذقليس
6 - المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
7 - أناكسجوراس
8 - السوفسطائيون
9 - سقراط
صفحة غير معروفة
10 - أفلاطون
11 - أرسطو (أرسططاليس)
12 - الرواقيون
13 - الأبيقوريون
14 - الشكاك أو اللاأدرية
15 - عصر الاختيار
16 - الأفلاطونية الحديثة
أهم مصادر الكتاب
مقدمة
1 - فلاسفة يونيا1
صفحة غير معروفة
2 - الفيثاغوريون
3 - الإيليون1
4 - هرقليطس
5 - إمبذقليس
6 - المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
7 - أناكسجوراس
8 - السوفسطائيون
9 - سقراط
10 - أفلاطون
11 - أرسطو (أرسططاليس)
صفحة غير معروفة
12 - الرواقيون
13 - الأبيقوريون
14 - الشكاك أو اللاأدرية
15 - عصر الاختيار
16 - الأفلاطونية الحديثة
أهم مصادر الكتاب
قصة الفلسفة اليونانية
قصة الفلسفة اليونانية
تأليف
زكي نجيب محمود وأحمد أمين
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
منذ سنين عهد إلي بتدريس علم الأخلاق في مدرسة القضاء، فساقني ذلك إلى دراسة الفلسفة؛ لأن الأخلاق فرع من فروعها، ولا يفهم الفرع حق الفهم إلا إذا فهم الأصل، وكان من أثر هذا العهد ترجمتي كتاب «مبادئ الفلسفة»، للدكتور أ. س. رابوبورت، وتمنيت في مقدمته أن يكون «طليعة كتب واسعة تظهر في هذا الموضوع النافع»، ثم تعاقبت الأزمان وانقضت السنون وانصرفت عن الفلسفة إلى غيرها، ولم يقع - مع الأسف - ما تمنيت، ولم يخرج إلى اللغة العربية من الكتب الفلسفية ما يشفي علة أو ينقع غلة، إلا العمل الجليل الذي اضطلع به أستاذنا «أحمد لطفي السيد بك» من ترجمة كتب أرسطو «الأخلاق» و«الكون والفساد» و«الطبيعة»، ولكنها مع جلالتها وعلو قيمتها - وإن شئت فقل لجلالتها وعلو قدرها - لا تناسب إلا الخاصة أو خاصة الخاصة؛ لعمقها وتطلبها الجهد في فهمها، وحاجتها إلى كتب أولية في الفلسفة تهدي إلى غايتها.
حتى إذا عرضت لوصف الحياة العقلية عند العرب وألفت في ذلك «فجر الإسلام» و«ضحاه»، ووصلت في التأليف إلى المعتزلة والمتكلمين في العصر العباسي رأيت أنهم تعرضوا لمسائل هي من صميم الفلسفة اليونانية، ورأيت أن لا بد لفهمها من الرجوع إلى منابعها؛ لأعرف كيف فهموها وكيف نقلوها وما الذي زادوا عليها، فاضطررت إلى العودة إلى كتب الفلسفة أستعرض مسائلها، وأتفهم غوامضها، ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وأمثالهما قد خلطوا حقا وباطلا، فكثيرا ما نسبوا القول إلى غير قائله، وترجموا حياة الفيلسوف ترجمة لا يقرها التاريخ الصحيح، وخلعوا عليها من خيالهم الإسلامي ما لا يتفق وحياة الفلاسفة اليونانيين الوثنيين، فكان لا بد من الرجوع إلى الكتب الأجنبية التي خطت خطوات فسيحة في تعرف الصواب، بما استكشفوا من آثار، وعثروا عليه من كتب، ومحصوا من آراء.
وقبل ذلك شعر هذا الشعور الأستاذ «سانتلانا» عند دراسته للفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية، فقد قال في مقدمة محاضراته: «إذا لم يكن من السائغ لذي أدب من الإفرنج أن يجهل ما كان عليه حكماء اليونان، فكيف يسوغ ذلك لمصري ومسلم؟ والعلوم الإسلامية مؤسسة منذ بدء نشأتها على علوم اليونان وأفكار اليونان، بل وعلى أوهام اليونان، حتى لا يكاد يفهم آراء حكماء الإسلام، ولا مذاهب قدماء المتكلمين، ولا بدع المبتدعين، من لم يكن له بحكمة اليونان معرفة شافية لا مجرد إلمام، وهذا لا يحتاج إلى برهان، بل نعول فيه على العيان، فصار هذا التاريخ والحالة هذه كالمقدمة الضرورية لتاريخ التمدن الإسلامي، لا يسع أحدا من هذه الأمة إهماله، ولا طالب الحكمة جهله.»
فلما عاودت القراءة في الفلسفة بدت مني رغبة في أن أكتب خلاصة ما أقرأ فذلك أدعى إلى وضوح الفكرة في ذهني، وإلى أن ينتفع - بما انتفعت به - غيري، وكان من حسن حظي أن رأيت أخي وزميلي الأستاذ «زكي نجيب محمود» يرغب رغبتي ويتمنى أمنيتي، فتعاونا معا على إخراج هذا الكتاب وتقديمه للقراء.
وليس لنا فيه أفكار جديدة ولا آراء مبتكرة، فلسنا من علماء الفلسفة المتخصصين لها والمتبحرين فيها، وكل عملنا أننا قرأنا الموضوع في كتب متعددة وأخذنا خلاصتها، وصغناه صياغة أقرب إلى ذهن القارئ العربي، وتخيرنا ما هو أنسب له وأقرب إلى ذوقه، فليس عملنا تأليفا بالمعنى الدقيق للتأليف، ولا ترجمة بالمعنى الدقيق للترجمة؛ ولذلك اخترنا للدلالة على ما عملنا كلمة «تصنيف»، فلعلها أدل على القصد، وأصدق في الوصف.
راعينا فيه قدر الإمكان وضوح الفكرة وبساطة التعبير حتى أسميناه «قصة»، كما راعينا الاقتصار على أهم المسائل وأصولها دون التوسع في فروعها وجزئياتها . •••
ثم تطورت الفكرة من تقيد بنقل صورة للفلسفة اليونانية إلى نقل صورة بسيطة للفلسفة عامة، من فلسفة إسلامية وفلسفة حديثة، واتسع الأمل في إخراج «سلسلة فلسفية» تشمل تاريخ الفلسفة في جميع عصورها، كما تشمل كتبا صغيرة تصف أشهر المذاهب الفلسفية وأشهر رجالها، ودعا ذلك إلى أن أوسع دائرة ما يحقق هذه الرغبة، ويملأ هذا الفراغ.
وكان من أكبر ما بعث على هذا التطور أني رأيت أكثر الأدب الذي يخرجه العالم الشرقي أدبا خفيف الوزن، تنقصه عمق الفكرة، وغزارة المادة، يعنى بالشكل أكثر مما يعنى بالموضوع، ويلعب بالألفاظ ولا يلعب بالمعاني، وأنه لا بد للأديب الحق من وقوف تام على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال، وبالجملة على فروع الفلسفة، فذلك يجعل نتاجه أقوم، وتفكيره أعمق، وأفقه أوسع، ومنابع تفكيره أغزر، ويحمله على أن يفلسف الأدب، ولا يتسنى ذلك إلا إذا أدبنا له الفلسفة.
صفحة غير معروفة
من أجل هذا كله عملنا على أن نقدم لجمهرة المثقفين في هذه «السلسلة» صورة مصغرة لنواحي التفكير الفلسفية، عسى أن تبعث فيهم رغبة في التعمق وشوقا إلى الاستزادة، وعسى يكون من وراء ذلك غزارة في الأدب، وعمق في الإنتاج، وعسى أن يكون من وراء ذلك باعثا للقادرين على أن يخرجوا كتبا أوفى بالغرض، وأكثر تحقيقا للفكرة.
والله أسأل أن يمدنا بتوفيقه، ويشملنا برعايته، ويكلل عملنا بالنجاح.
أحمد أمين
2 أبريل سنة 1935
مقدمة
مدارس أثينا. تبين الصورة مجموعة من فلاسفة المدارس الفلسفية اليونانية المختلفة (بريشة رفائيل). (1) كيف بدأت الفلسفة
لم يكد يظهر الإنسان على وجه الأرض، حتى دأب يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه غريزة حب البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به سخية كريمة، فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى الفكر ما يحصل به ضرورات العيش ويرد به عادية الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مسرفة في التقتير، اكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت، وتحصيل الضروري من أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شيء، قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلا من تلك الحياة التي كانت تقنع بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه، ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة، ولم يعد يصدر في ذلك عن شعور ووعي يستنفدان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء، بل أصبح كثير من شئون العيش عادة آلية يديرها اللاشعور، وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ الفينة بعد الفينة، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يحلم بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن واحد، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير سوى أساطير ينسجها له الخيال فيرويها، لتكون له عقيدة وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت «الميثولوجيا»
1
أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق، وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة، وخف عنه العذاب الذي كانت تسلطه عليه الضرورات ليدأب في جمع القوت ودرء الخطر، واستقبل عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ بجانب عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شيء من ترف الفكر وإبداع الفن، وإذ ذاك تغير موقفه، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لأمره فيطيع، بل أخذ يساهم في تعديل قانون الحياة، وأخذ يفكر في خلق السموات والأرض، ويسائل نفسه: لماذا كان هذا هكذا ولم يكن غيره؟ وكيف نشأ ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة. (2) متى بدأت الفلسفة
صفحة غير معروفة
كانت قيادة الفكر عند الأمة اليونانية منذ القرن العاشر قبل ميلاد المسيح في أيدي الشعر والشعراء، وكانت السيادة فيه لهذا الخيال الرائع الذي تراه في الشعر، والذي يستهوي الأمة في مراحل الطفولة، فكانت قصائد هومر
Homer ،
2
وهزيود
Hesiod
3
شائعة ذائعة بين الناس يحفظونها وينشدونها، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد حدث في الأمة اليونانية انقلاب خطير كان عظيم الأثر في شتى نواحي الحياة، وكان الطابع الذي وسم به ذلك الانقلاب هو حرية الفرد وظهور شخصيته، فقد بسط اليونان سلطانهم على البلاد المجاورة، واتسعت أملاكهم اتساعا عظيما، أدى إلى هجرة اليونان أفواجا إلى مستعمراتهم الجديدة، فخالطوا شعوبها ودرسوا ما لها من أخلاق وعادات تباين ما ألفوه في بلادهم، فوسع ذلك من أفقهم القصصي، واقترن ذلك التوسع في الاستعمار بانقلاب سياسي واجتماعي في بلاد اليونان نفسها؛ إذ بدأت سلطة الأشراف تتزعزع وتميل إلى السقوط، وساعد على ذلك نظام جديد اصطنعه اليونان في معاملتهم الاقتصادية، أعني نظام النقد الذي استبدلوه بنظام المقايضة أو تبادل السلع، ونشأ عن هذا التطور الاقتصادي طبقة جديدة موسرة، تنافس هؤلاء النبلاء الذين ورثوا ضياعهم عن آبائهم، وما هو إلا أن نشب بين الفريقين - النبلاء من ناحية، وباقي الشعب من ناحية أخرى - عراك حاد عنيف، انتهى بسيادة الطبقة الجديدة، فانتصرت الديمقراطية، واعتز أفراد الشعب بحريتهم التي ناضلوا من أجلها عصرا طويلا، وأخذوا يرقبون عن كثب شئون البلاد بأنفسهم.
وظهرت شخصية الفرد في الشعر كما ظهرت في السياسة، فقد كان الشعراء من قبل ينظمون القصائد دون أن ينفسوا عن مشاعرهم المكبوتة في صدورهم، فهذا «هومر» يقص عليك أقاصيص الأبطال وأساطير الآلهة مستقلة عن نفسه، فكان من أثر هذا الانقلاب أن ظهر عنصر جديد في الشعر أضيف إلى تلك الملاحم القديمة، هو الشعر الغنائي الذي هو أشد فنون الشعر اتصالا بالنفس، فتغير موقف الشاعر عما كان عليه من قبل، واتسع المجال أمامه لخلجات نفسه، وانفعالات حسه، بل أصبحت عواطف الشاعر هي المحور الذي تدور عليه القصيدة الغنائية كلها، وبهذا ظهرت شخصيته ظهورا لا تخطئه الأبصار والأسماع.
ولم ينج الدين عند اليونان من هذه الغزوة الفردية، فقلبت بعض أوضاعه القديمة، وأزيح من الطريق كل ما يحول بين الشخص وآلهته، فأصبح اتصاله بها مباشرا، لا يحتاج إلى وساطة الوسطاء.
انقلاب في الاجتماع، وانقلاب في الاقتصاد، وانقلاب في الفن، وانقلاب في الدين، أدى كله إلى ظهور الشخصية الفردية، وانتقل بالإنسان خطوة فكرية جديدة جريئة، من رواية الأساطير وقصص القصص إلى العلم والتفكير، ولم يعد يطمئن إلى تقديس الكون وعبادة ظواهره، فأخذ يبحث عن عللها وأسبابها لكي يرضي منطقه الجديد المستقيم، وهو إلا يكن قد بلغ في ذلك أول الأمر مبلغا كبيرا، فقد جمع لنفسه طائفة قيمة من المعلومات الصحيحة، كانت ينبوعا تفجرت منه الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد. (3) معنى الفلسفة
صفحة غير معروفة
وما دمنا قد تعرضنا لمعنى الفلسفة وحدودها، فجدير بنا أن نحاول وضع حد فاصل بين الفلسفة وما عداها من صنوف العلم والمعرفة ونبين عم تبحث، وفيم تتحدث؟ وهل نستطيع أن نضع لها تعريفا جامعا مانعا تجمع على صحته المذاهب الفلسفية المختلفة؟
أما التعريف الجامع المانع فشاق عسير، بل هو متعذر مستحيل في الفلسفة، وإن كان هينا يسيرا في العلم؛ ذلك لأن كلمة الفلسفة لم تستقر على مدلول واحد طوال العصور، إنما اختلف معناها اختلافا بعيدا، كما اختلفت مباحثها اختلافا أبعد، فقد كانت في بدء حياتها أما رءوما تضم إلى صدرها أنواع المعرفة جميعا، ولكن أخذ صغارها - كلما تقادم العهد - يشتد ساعدها وتزداد رشدا، حتى نمت نموا أدى بها إلى اعتزال ذلك الصدر الحنون، والاتجاه نحو الاستقلال في البحث ... فقد كانت علوم الطبيعة والفلك والنفس فصولا من مبحث واحد - هو الفلسفة - فلما اكتمل نموها أصبحت علوما مستقلة كما نراها اليوم، وإذن فتعريف الفلسفة اليونانية لا يصدق على الفلسفة الحديثة بحال من الأحوال.
ومما يزيد الأمر عسرا أن وجهة النظر قد تباينت في المذاهب المختلفة، فكان لكل منها تعريف يلائم وجهة نظرها، فمثلا يعرف بعضهم الفلسفة بأنها «تعرف الموجود المطلق»، وبالطبع ينكر أشياع المذهب المادي هذا التعريف إنكارا تاما؛ لأن ذلك الموجود المطلق المجرد عن المادة ليس له حقيقة في نظرهم، كما يرفضه «سبنسر»؛ إذ يرى أنه - وإن كان ذلك المطلق موجودا حقا - يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمره شيئا، وإذن فمن العبث أن يكون غرضا تنشده الفلسفة، وأخيرا نرى من الفلاسفة المحدثين من يمج هذا البحث ولا يسيغه، فسواء لدى هؤلاء أكان ذلك المطلق موجودا أم غير موجود، وسواء لديهم أكانت معرفته في مقدور البشر أم فوق مقدورهم، فليست تجدي معرفته نفعا، ومن الغفلة أن ببذل الإنسان من وقته وجهده ذرة في هذه السبيل، وينبغي للفلسفة أن تولي وجهها شطرا آخر.
فهذه مذاهب أربعة، ينكر المذهب منها ما يثبته الآخر، فكيف تستطيع أن تؤلف بين هذه المذاهب المتناكرة في تعريف واحد؟ وإذن فلن نسوق إلى القارئ تعريفا للفلسفة؛ لأنه مستحيل أو عسير، وهب أنه هين ميسور، أفلا يكون افتياتا على حقه أن نسارع إلى إثبات التعريف له في طليعة الكتاب دون أن يلم بالمذاهب الفلسفية المختلفة إلماما ما؟ أولم يكن من حقه أن نقدم إليه تلك المذاهب مبسوطة مشروحة، حتى إذا ما فرغ من دراستها كان له أن يشاطر في تكوين الحكم وصوغ التعريف؟ (4) الفرق بين الفلسفة والعلم
ولكن إذا تركنا الآن تعريف الفلسفة فلا أقل من أن نسوق إلى القارئ بعض معالمها التي تميزها عن فروع المعرفة الأخرى كي يستعين بها على تكوين الرأي وفهم الموضوع، ولعل أول ما يخطر من تلك الفروق الأساسية التي تفصل بين الفلسفة والعلوم الأخرى: أن كل علم يلتزم جانبا واحدا من الكون يختصه بالبحث والدراسة، ولا يكاد يمس الجوانب الأخرى، فأما الفلسفة فتتخذ من الكون بأسره موضوعا لدرسها، وهي تنشد توحيد المعرفة ما استطاعت إليه سبيلا، فهذا علم النبات لا يعدو دائرة النبات، وهذا علم الفلك لا يتجاوز أجرام السماء، وتلك الجيولوجيا تقنع بطبقات القشرة الأرضية، وقل مثل ذلك في كل العلوم، أما الفلسفة فلا تكفيها أجرام السماء ولا ظواهر الأرض، بل تتسع وتسعى لتركز الكون كله في قضية واحدة تكون مدار بحثها، فإذا كانت العلوم تجمل ألوف الجزئيات في قانون واحد فإن الفلسفة تحاول أن تجمل هذه العلوم نفسها وتخضعها جميعا لقانون واحد.
ولما كانت العلوم كما ترى لا تتعقب ظواهر الوجود لتردها جميعا إلى أصل واحد، وقف كل منها في بحثه عند حد يرسمه لنفسه، ويتخذه أساسا لدراسته، مسلما بصحته، ولم يحاول أن يسير خطوة واحدة وراء ذلك الحد المرسوم، أما الفلسفة فلا تجيز لنفسها أن تقف في بحثها عند عنصر من العناصر، أو ظاهرة من الظواهر، دون أن تحاول تذليلها وتحليلها، ثم تجاوزها إلى ما بعدها، وهكذا إلى أن تصل إلى المبدأ الأول الذي يدور حوله الوجود بأسره، وإذن فالفلسفة تبدأ سيرها حيث ينتهي شوط العلوم، وهاك أمثلة توضح ما نريد:
يبحث علم الهندسة في قوانين المكان، فعالم الهندسة يفرض وجود المكان، ثم يبني على هذا الفرض قوانينه المختلفة، ولكن هل سمعت عالم هندسة وقف يسائل نفسه ما المكان؟ وهل أجاز لنفسه الشك في أن يكون ثمت مكان في العالم الخارجي؟ كلا، فهو يفرض صحته أولا بحيث لا يحتاج في وجوده إلى الدليل والبرهان، أما الفيلسوف فيبدأ عمله حيث انتهى زميله العالم، فهو يستهل دراسته بهذا السؤال: ما حقيقة هذا المكان الذي فرضه العلم؟ ثم يظل يتابع البحث لعله يدرك حقيقته، كي يؤلف منه ومن ظواهر الوجود الأخرى وحدة شاملة، كذلك تفرض الهندسة طائفة من البدائه لا تجوز أن تكون محلا للجدل والشك: فالكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات متساوية أنتجت كميات متساوية، والخطان المتوازيان لا يتلاقيان مهما امتدا، وما إلى ذلك مما هو مشهور عند طلاب الهندسة، نعم يصر العلم على أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان في كل مكان وفي كل زمان، هما لا يتلاقيان الآن، ولم يتلاقيا يوما منذ الأزل، ولن يتلاقيا يوما إلى آخر الأبد، هما لا يتلاقيان فوق الأرض، ولا يتلاقيان على سطح المريخ أو القمر، بل لا يتلاقيان على الكواكب التي لم يدركها البصر ... ما أعجب العلم في أحكامه! فمن أدراه بهذا؟ وكيف أطلق حكمه هذا في يقين لا يعرف الشك، مع أنه لم ير إلا عددا قليلا من الخطوط المتوازية لا تصلح مطلقا أن تكون أساسا للحكم على كل الخطوط المتوازية فوق الأرض وحدها، وفي هذا الزمان وحده، فضلا عن الماضي والمستقبل، وعن القمر والمريخ وما لا يدركه البصر من الكواكب؟! ولكن هذا الذي أقنع العلم لن يرضي الفلسفة، هي لا تطمئن إلى هذا الركون والركود، ولا تستقر إلا إذا وجدت للظواهر ما يؤيدها تأييدا ثابتا تاما.
وكما يسلم علماء الهندسة بوجود المكان تسليما لا يحتمل الشك، كذلك نرى علماء الطبيعة يفرضون وجود المادة فرضا لا يعوزه الدليل، ثم يقيمون عليها أبحاثهم حتى يخلصوا إلى طائفة من القوانين تتحكم في المادة، فهم يقولون مثلا إن المادة تمتد بالحرارة وتنكمش بالبرودة ... ولكن هل شهدت عالم طبيعة وقف عند المادة وقفة قصيرة يسائل نفسه عن جوهر الوجود المادي، ويتردد كثيرا، ويشك طويلا في وجودها، ويقول باحتمال ألا يكون ثمت مادة إلا في وهم الإنسان؟ كلا، فمنتهى ما يبلغ إليه العلم الطبيعي في بحثه أن يحاول تحليل المادة إلى عناصرها الأولى، فهي كهرباء، أو هي أثير، أو هي ذرات، إلى آخر هذه الفروض التي تقوم كلها على أساس واحد، وهو أن المادة موجودة فعلا وليس في وجودها شك ولا ريب.
وليس هذا التسليم المطمئن قاصرا على علمي الهندسة والطبيعة إنما هو سمة تراها في العلوم جميعا، خذ مثلا آخر: قانون السببية الذي هو من أكثر العلوم بمثابة الأساس من البناء، إذا تحطم الأساس انهار في أثره البناء، ذلك أن العلم يبحث طائفة من الظواهر، فإذا اتفقت كلها على نتيجة واحدة أيقن أن كل ما يطرأ على العالم من ظواهر هذه الفصيلة لا بد أن تنتهي إلى النتيجة نفسها، ما دامت الظروف الملابسة ثابتة لم تتغير: فعلم الحيوان مثلا يقرر أن الجمل حيوان آكل للعشب، وهو لا يقصر الحكم على الجمال التي تعيش بين ظهرانينا، والتي يمكن أن تجرى عليها التجربة، بل يسحب حكمه على الماضي، ويصبه على المستقبل، دون أن تساوره خلجة من الشك في صحة هذا القانون، وكل وثائقه التي يقدمها إليك إن طالبته بالدليل هو أنه أقام التجربة على طائفة كبيرة من الجمال فألفاها تأكل العشب ولا تأكل اللحم، وبناء على قانون السببية لا بد أن يكون كل جمل كذلك بغض النظر عن الزمان والمكان!
سل العلم عن خصائص الماء، يجبك أنه يتجمد في درجة الصفر، وهو كذلك يبني حكمه على قانون السببية، فما دام الماء الذي وقع تحت نظره يتجمد في درجة الصفر فلا بد أن يصدق هذا الحكم على كل ماء في كل زمان وفي كل مكان ... إذن فقانون السببية بديهي عند العلم لا يجوز فيه البحث، وهولا يطيق أن يسمع منك أن هذا القانون قد يكون خطأ من أساسه، ومن الجائز ألا يتسع إلى درجة الشمول المطلق، فهو يلقي بهذه المشكلات الملتوية على عاتق الفلسفة تضطلع بها دونه.
صفحة غير معروفة
ترى من هذا كله أن العلوم على اختلافها تفرض وجود الكون، وتسلم ببعض الأسس تتخذها مبدأ لأبحاثها، فأما الفلسفة فتنكر هذا التسليم أشد إنكار، وتصر على أن تغوص إلى أبعد الأغوار، حتى تصل إلى جوهر الوجود، وهي لا تجيز لنفسها أن تركن إلى حكم من الأحكام بالغا ما بلغ من القوة والذيوع، إلا إذا أيده الدليل القاطع، بل هي لا تقف عند هذا، ولكنها تسائل عن سبب الوجود وخلقه، وعن الأصل الذي عنه انبعثت الكائنات جميعا، أهو عنصر واحد أم أكثر؟ أهو مادة أم روح أم شيء يخالف المادة والروح معا؟ وإن كان مادة فكيف انبثق منه الروح، وإن كان روحا فكيف صدرت عنه المادة؟ هو خير أم شر؟ وإن كان خيرا فكيف أنشأ عنه ما نرى في العالم من شرور؟
وخلاصة القول أن الفلسفة تختلف عن العلم في أنها تنظر إلى العالم كله كوحدة مترابطة متماسكة، تكون بأسرها موضوع بحثها، أي إنها لا تختص بالدراسة جانبا من الكون دون جانب، كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتت لديها ثبوتا لا يدع مجالا للريب والشك، فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين الفلسفة والعلم.
ولا بأس من أن نشير إلى صفة ثالثة هي من أخص خصائص الفلسفة، وأعني بها «التجريد» أي إنها تحاول ما استطاعت ألا تربط الفكرة المعينة بجسم من الأجسام، بل تريد أن تصل إلى الأفكار الخالصة المجردة، وليس هذا هينا ولا يسيرا عند الكثرة الغالبة من أفراد البشر؛ لأن الإنسان مفطور بطبيعته أن يأخذ من العالم ما يصله عن طريق الحواس، ثم لا يكاد يصدق بعد ذلك شيئا، وحتى لو اضطر اضطرارا إلى التفكير فيما لا يحس بإحدى الحواس، فإنه يحاول أن يصبغه بالصبغة المادية التي يفهمها عقله، فتراه مثلا يصف الله تعالى بالنور؛ لكي يقرب إلى ذهنه صورة مجردة لا يقوى على فهمها في غير ثوبها المادي، وبديهي أن الله تعالى ليس نورا - بمعنى الكلمة المادي - كما أنه ليس حرارة أو كهرباء.
ولا تألو الفلسفة جهدا في تحطيم هذه القيود، والارتفاع بالعقل البشري إلى مستوى يستطيع معه أن يسيغ الأفكار المجرد دون أن يلجأ إلى المادة يستعين بها على تصوير ما يريد. (5) أين بدأت الفلسفة
لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك، تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير، الذي يحاول أن يوحد بين ظواهر الكون المتنافرة، والذي يرفض التسليم الساذج رفضا تاما، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر، نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه، من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح، لم ينشأ ولم ينم إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعا: هم اليونان القدماء.
إن كانت الفلسفة - كما قال بحق أفلاطون - تبنى على المعارف العلمية الصحيحة، مهما تكن قليلة ضئيلة، فلا شك في أن بلاد اليونان كانت مهدها.
فقد عرفت الصين شيئا كثيرا عن مبادئ الأخلاق العلمية التي يستعين بها الناس على معرفة طرق العيش وفن الحياة، ولكنها لم تنظر إلى ظواهر الكون نظرة علمية باحثة، وسادت في فارس أفكار عن الخير والشر، ولكنها لم تتجاوز الرغبة في انتصار الخير على الشر فيما نشب بينهما من عراك، ولم تكن ثم دراسة عقلية تسير بالفكر نحو العلم الصحيح، وامتلأت الهند بالأساطير الدينية ولم تتناول بالدرس الدقيق ظواهر الكون.
نعم كان في مصر طائفة كبيرة من العقائد تدور حول النفس وما يطرأ على الحياة بعد الموت، ولكن لم يثبت أن كان لديها من العلوم الإيجابية النظرية شيء كثير، ولو عرف المصريون كثيرا من علوم الرياضة لما رأينا في كتب فيثاغورس محاولات أولية للهندسة، مع العلم بأن عهده في التاريخ جاء بعد اتصال اليونان بالمصريين اتصالا وثيقا واستمدادهم من المصريين بعض معارفهم وحضارتهم، فليست القواعد العملية التي استعملها المصريون في أغراضهم كقياس الأرض وبناء الأهرام، هي العلم الذي قصده كوبرنيكس، وجاليلو، وكبلر، ونيوتن.
لم تستمد الفلسفة اليونانية فلسفتها من تلك الأمم القديمة، ولكن خلقها اليونان خلقا، وأنشأوها إنشاء، فهي وليدتهم وربيبتهم، ويستطيع الباحث أن يرجع بالفلسفة خطوة بعد خطوة حتى يصل إلى مهدها في بلاد اليونان دون أن يشعر في خلال البحث بحلقة مفقودة أو غامضة.
ونحن إذا ذكرنا بلاد اليونان في هذا المقام، لا نقصر هذا الاسم على هذه البلاد التي تسمى به اليوم فحسب، إنما نضيف إليها المستعمرات اليونانية - وهي في الواقع مهد الفلسفة - فقد بسط اليونان نفوذهم ونشروا سلطانهم في آسيا الصغرى وجزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا وجزء من شمال أفريقيا. في تلك المستعمرات ولدت الفلسفة وشبت، قبل أن تنتقل إلى أرض اليونان نفسها، حيث وصلت على أيدي الفحول الثلاثة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى درجة عالية من النضوج.
صفحة غير معروفة
ومرت الفلسفة عند اليونان في مراحل ثلاث: ما قبل سقراط، وفيها نشأت الفلسفة، ثم من السوفسطائيين إلى آخر عهد أرسطو، وفيها بلغت الفلسفة اليونانية رشدها، وأخيرا ما بعد أرسطو حتى بدء العصور الوسطى، وفيها أخذت الفلسفة اليونانية في التدهور ... ولكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث سمات وصفات تظهرها وتميزها، سنحدثك عنها بعد.
الفصل الأول
فلاسفة يونيا1
كان مهد الفلسفة الذي فيه نشأت، وفي كنفه درجت، إقليم يوناني في آسيا الصغرى، منه مدينة كانت تدعى ملطية
Miletus ، فيها أضاءت نار الفكر الفلسفي خافتة محصورة أول الأمر، ثم شاء لها القدر أن يمتد نورها ويتوهج، ويتعهد بالنماء، حتى يبلغ شأوا بعيدا.
في ملطية - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخصص شطرا من حياته في التفكير المجرد من كل القيود، فنظر إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالمظاهر المختلفة، والكائنات المتنوعة، وأخذ يتفكر في خلقها ويحاول تعليلها.
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى إعمال الفكر، هذا التغير الدائب الذي يطرأ على الأشياء جميعها، فها هو ذا كل شيء - كانت ما كانت مرتبته في الحياة - يكون بعد أن لم يكن، ويظل حينا يقصر أو يطول، ثم ينحل ويتلاشى كأن لم يغن بالأمس، فأنى جاء وإلى أين ذهب؟ إنه لم يخلق من العدم ولم ينحدر إلى العدم، بل تكون من مادة موجودة فعلا، ثم استحال إلى مادة لا تزال موجودة كذلك، فمهما يكن من أمر هذه الأشياء التي تراها في الأرض أو في السماء، ومهما يكن من ألوانها المختلفة وأشكالها المتباينة، فهي جميعا أجزاء من مادة بعينها، يطرأ عليها التغير والتحول، فماذا عسى أن تكون تلك المادة؟
هذا سؤال عرضته الطائفة الأولى من الفلاسفة في يونيا، وحاولوا الإجابة عنه.
إذن فقد فكر الإنسان أول ما فكر، في «المادة» التي يتألف منها الوجود، وهذا طبيعي معقول؛ لأن عقل الطفولة الفج لا يستطيع أن يفهم أو يسيغ إلا العالم المادي الذي يحيط به، وهو لا يقوى على التفكير في المسائل العقلية غير المحسة إلا بعد النضوج، فليس غريبا أن تبدأ الفلسفة بالتفكير في المادة التي خيل إليها وقتئذ أن لا وجود لغيرها، وأن ليس الإنسان نفسه إلا ظاهرة مادية من ظواهرها، ثم تدرج صاعدة حتى تصل إلى التفكير المجرد المطلق عند أفلاطون وأرسطو.
وكان أعلام تلك المدرسة اليونية رجال ثلاثة: طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمينس. (1) طاليس
صفحة غير معروفة
Thales
624ق.م-550ق.م (تقريبا)
أرسل الإنسان بصره إلى الكون يستطلع تلك المادة التي تتكون منها الأشياء جميعا، والتي ترتد إليها الأشياء جميعا، وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فلن يصادف إلا عددا قليلا من ألوان المادة التي يجوز عقلا أن تكون كذلك؛ إذ لا بد لتلك المادة الأولية المنشودة أن تكون مرنة شديدة المرونة في قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وألا تكون محدودة الصفات محصورة الخواص حتى تتسع لكل شيء، أفلا تستطيع أن تحزر ماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته، ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو أصبح صباح؟ إنها الماء! فليس عجيبا إذن أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، ويجهر بأن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فو غاز حينا، وسائل حينا، وصلب حينا، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد، يسبح فوق لجج مائية ليس لأبعادها نهاية، ويرجح أرسطو أن يكون طاليس قد خلص إلى هذه النتيجة لما رأى أن الحياة تدور مع الماء وجودا وعدما، فتكون الحياة حيث الماء وتنعدم حيث ينعدم.
تلك خلاصة موجزة لرأي طاليس في نشأة الكون، وقد كان عالما بالرياضة، عالما في الفلك، حتى قيل إنه تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث سنة 585ق.م قبل وقوعه، وقيل أيضا إنه علم المصريين كيف يقيسون ارتفاع الهرم بواسطة ظله، وإنه ابتكر طريقة لمعرفة أبعاد السفن من الشاطئ بالوقوف على نشز عال من الأرض، ولكنه في الفلسفة لم يؤثر عنه إلا هذان المبدآن: الكون يتألف من ماء، والأرض قرص يسبح فوق ماء!
وإذا كانت هذه الفكرة الساذجة هي كل إنتاجه الفلسفي، فكيف جاز لنا أن نحشره في زمرة الفلاسفة، بل نجمع على أنه أبو الفلسفة ومنشئها؟
2
ولكنك إن كنت تستطيع أن تنكر على الفلسفة المائية خطرها وقدرها، فلن تنكر على طاليس أنه أول إنسان حاول أن يفسر الكون، لا بالأساطير ولا بقوى الآلهة المتعددة التي اتخذها أسلافه، بل على أساس علمي، وسواء فشلت محاولته أم لم تفشل، فهي المحاولة الفلسفية الأولى على كل حال، ولم تطالب طاليس أن يأتيك بتعليل صحيح للكون؟ ألا يكفيك أنه أثار المشكلة لخلفه؟ ألا يكفيك أنه وضع الأساس فجاء من بعده يقيمون البناء عليه؟ ثم ألا يكفيك أنه طبع الفلسفة طابعا خاصا ظل يلازمها إلى عهد سقراط؟ نعم، هو أول من أدرك أن هذه الكائنات المتباينة لا بد أن تكون قد صدرت عن أصل واحد، ثم أخذ يبحث عن ذلك الأصل، فشق بذلك الطريق، وأخذت الفلسفة تدور حول هذه المشكلة وتجيب عن سؤاله: رأى طاليس أن الماء أصل الوجود، وقال أنكسمندر: بل هو مادة لا تحدها حدود، وأعلن انكسمينس أنه الهواء، وذهب الفيثاغوريون إلى أنه العدد، وأجاب هرقليطس بل هو النار، ورده إمبذوقليس إلى عناصر أربعة، وقال ديمقريطس: إنه ذرات ... وهكذا لبث الفلاسفة يقتفون أثر زعيمهم طاليس في جوهر البحث وأساسه، وإذن فطاليس هو الذي صبغ الفلسفة فيما قبل سقراط بتلك الصبغة المادية التي عرفت بها، وحسبه ذلك خطرا. (2) أنكسمندر
Anaxemander
611ق.م-547ق.م (تقريبا)
صفحة غير معروفة
كلا! لا يمكن أن يكون الماء أصلا للوجود، فمهما بلغ الماء من المرونة وقابلية التشكل، فهو ذو صفات معروفة معينة تستطيع أن تميزه بها عن المواد الأخرى، ومعنى ذلك أن ثمت صفات تناقض صفات الماء؛ (لأنك لا تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها، فلا تفهم الحرارة إلا إذا اقترنت في ذهنك بالبرودة، فإذا انعدم هذا التقابل انعدمت كذلك الخصائص والصفات)، وما دام الأمر كذلك، فلا يعقل أن تكون المخلوقات جميعا على تناقض صفاتها مشتقة من أصل واحد ذي صفة معينة معروفة، إنما أصل الكون مادة لا شكل لها، ولا نهاية ولا حدود.
هكذا قال أنكسمندر ثاني فلاسفة المدرسة اليونية، والذي يقال عنه: إنه كان تلميذا لطاليس لأنه عاصره وعاش معه في ملطية، وكان واسع العلم بالجغرافيا والفلك، وربما كان أول فيلسوف يوناني كتب رسائل في الفلسفة، ولكنها فقدت، وقوله هذا الذي أشرنا إليه مردود عليه؛ لأنه لا يمكن كذلك أن تنشأ الأشياء كلها ولها هذه الصفات المختلفة من مادة لا شكل لها، وإلا فمن أين جاءت صفات الحديد والنحاس والخشب وما إلى ذلك وهي مختلفة كل الاختلاف مع أنها اشتقت جميعا من مادة واحدة لا تميزها صفات كما يقول؟
كذلك لم يستطيع أنكسمندر أن يوضح في جلاء كيف تكون العالم - أو العوالم المتعددة كما كان يعتقد - من تلك المادة التي يحدثنا عنها، وكل ما تظفر به منه شرح غامض لا تكاد تتبين منه صورة جلية، ولكنه قدم لنا رأيا في نشأة الحياة وتطورها فوق الأرض لعله قريب جدا مما وصل إليه العلم الحديث في أواخر القرن الماضي، فقد كان يرى أن الأرض كانت سائلا ثم أخذت تتجمد شيئا فشيئا، وفي خلال ذلك كانت تنصب فوق الأرض حرارة لافحة تبخر من سائلها بخارا يتصاعد ويكون طبقات الهواء، فهذه الحرارة عندما التقت ببرودة الأرض كونت الكائنات الحية، وقد كانت تلك الكائنات أول أمرها منحطة، ثم سارت في طريق التطور إلى درجات أعلى فأعلى بما فطر فيها من دافع غريزي يدفعها إلى الملاءمة بين أنفسها والبيئة الخارجية. إذن فقد كان الإنسان في أول مراحل حياته سمكة تعيش في الماء، فلما انحسر الماء بفعل التبخر اضطرت الأسماك المختلفة إلى الملاءمة بينها وبين البيئة، فانقبلت زعانفها على مر الزمان أعضاء صالحة للحركة على الأرض اليابسة، وهي ما ترى من أرجل وأيد، ولعلك مدرك في سهولة ما بين هذا الرأي ونظرية «دارون» من شبه. (3) أنكسمينس
Anaximenes
588ق.م-524ق.م (تقريبا)
إذا كان الماء الذي فرضه طاليس أصلا للكون لم يصادف من العقل اطمئنانا؛ لأنه ليس من الشمول بحيث يسع الكون بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر التي ليس لها شكل ولا حدود لم تسلم من النقد، فقد نهض أنكسمينس واختار مادة ثالثة فيها الشمول الذي ينقص الماء ، وفيها الصفات التي تعوز مادة أنكسمندر: ألا وهي الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ في نظره جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت، أليست الحياة في صميمها أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ إذن فهي الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون شيئا، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر، والهواء إذا أمعن في تخلخله انقلب نارا، فإذا ارتفعت كونت الشموس والأقمار، وإذا هو أمعن في التكاثف انقلب سحابا، ثم أنزل السحاب ماء، ثم تجمد الماء فإذا هو تربة وصخور، هذا وليست الأرض إلا قرصا مسطوحا يسبح في الهواء.
وقد يظن الباحث للوهلة الأولى أن أنكسمينس قد انحط بالفلسفة عن المستوى الذي كان قد بلغه أنكسمندر؛ ذلك لأنه عاد إلى موقف طاليس، بفرضه أن العنصر الأول الذي نشأ منه الكون كان مادة معينة محدودة، ولكن مهما قيل في هذا فلا شك في أن أنكسمينس قد تقدم بالفلسفة خطوة إلى الأمام بعد أنكسمندر؛ إذ كان هذا الأخير مهوشا غامضا حين أراد أن يبين كيف تخرج المادة التي لا شكل لها هذه الأشياء التي تراها، أما أنكسمينس فيعلل تنوع الأشياء بالتخلخل والتكاثف، ولو أنا أخذنا بنظرية هؤلاء الفلاسفة القدماء من أن أنواع المادة على تعددها واختلاف ألوانها إنما نشأت في الأصل من نوع واحد لاعترضتنا مشكلة عسيرة، هي هذا الاختلاف الذي نراه في صفات العناصر الموجودة بيننا، فمثلا لو كانت هذه الورقة مكونة حقيقة من هواء، فبم نعلل لونها وسائر صفاتها؟ إما أن تكون هذه الصفات موجودة في أول الأمر في المادة الأصلية أولا، فإن كانت موجودة فيها نتج أن المادة الأولى لم تكن مادة واحدة متجانسة كالهواء، ولا بد أنها كانت مزيجا من أنواع مختلفة من المادة، وإن كانت غير موجودة فيها فكيف نشأت للأشياء خواصها؟ كيف تخرج من الهواء تلك الصفات التي نراها في الأشياء مع أنها ليست فيه؟ لعل أيسر سبيل للتخلص من هذه المشكلة هي أن نبني الكيف على أساس الكم، فنعلل الأول بالثاني، بمعنى أن صفة الشيء نتيجة كمية المادة التي تشغل الحيز، وذلك ما قصد إليه أنكسمينس بالتخلخل والتكاثف.
الفصل الثاني
الفيثاغوريون
The Phthagoreans
صفحة غير معروفة
فيثاغورس.
أطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى زعيمهم فيثاغورس
، وهو شخصية قوية رائعة تستوقف النظر بين صفحات التاريخ، ولكنها مبهمة غامضة، لا تكاد تستبين العين قسماتها في وضوح وجلاء، فكأنما هو عملاق يروح ويغدو وراء ستار، فلا يرى منه الرائي إلا ظلا هائلا يتردد في جيئة وذهاب، وإنما طمست معالمه لاختلاف الرواية في ترجمته اختلافا واسعا، ولما شاع عنه من الأساطير والقصص، فبين أيدينا تراجم ثلاث كتبت عنه بعد موته بمئات السنين، فانتحلت له من الأخبار والمعجزات ما شاء وهم كاتبيها، حتى أصبح فيثاغورس أقرب إلى أبطال الخيال منه إلى أشخاص التاريخ.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف في ترجمة حياته، فقد استطاع المؤرخون أن يستخرجوا من أشتات الروايات طائفة من الحقائق الصحيحة: ولد فيثاغورس بين سنتي 580 و570ق.م في جزيرة «ساموس»
1
حيث درج في طفولته وشبابه، ثم هاجر منها إلى كروتونا
Crotona
في جنوبي إيطاليا، ويقال إنه عرج على مصر وبعض بلاد الشرق فطاف في أرجائها قبل أن يلقي عصا تسياره في كروتونا، ولم يكد يستقر فيها حتى أنشأ الجمعية الفيثاغورية، وظل على رأسها يقودها ويدبر أمرها بقية حياته، ولم تكن تلك الجمعية في أول أمرها مدرسة فلسفية، بل كانت جمعية تدعو إلى الإصلاح الديني ومكارم الأخلاق، وطهارة النفس من الرجس والدنس، وكان أعضاؤها يرتدون لباسا أبيض شعارا لهم، قد آثروا في عيشهم الخشونة والتقشف؛ لأن الجسم لم يكن في رأيهم إلا سجنا حبس فيه الروح، فينبغي أن نحطم من قيوده وأغلاله ما وسعنا التحطيم، ولا بد لنا أن نسلك بنفوسنا كل سبيل لتخليصها من سجنها على ألا يكون الانتحار سبيلا مشروعا؛ «لأن الإنسان ملك لله».
ولعل ما حدا بفيثاغورس إلى إنشاء هذه الجمعية رغبة قديمة كان يطمح إلى تحقيقها منذ شبابه؛ ذلك أن طاغية جبارا يدعى «بوليكراتس» كان يحكم ساموس وطن فيثاغورس، وكان يسوم أهله الذل والعذاب، فكان ذلك حافزا لفيثاغورس في مستهل حياته على التفكير في النظم الاجتماعية القائمة، ومن أي نواحيها أصيبت بالفساد، فلما اكتمل نضوجه العقلي، وكتبت له الزعامة الفكرية وهو في كروتونا أراد أن يكون جماعة مثالية، تحقق المثل الأعلى الذي ينشده، فوثق بين أعضائها برباط الإخاء، ودعاهم أن يسلكوا في الحياة صراطا مستقيما يلتزمونه مهما كلفهم ذلك من عناء.
ولم تكن هذه الجماعة سياسية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولكن سرعان ما اصطدمت شعائرهم ونظمهم بالسياسة؛ لأنهم أرادوا أن ينشروا مبادئهم ويفرضوا تعاليمهم على أهل «كروتونا»؛ فنتج عن ذلك اضطهاد الحكومة للفيثاغوريين، فأحرقت مكان اجتماعهم، وفرقت شملهم، وقتلت بعضهم وشردت آخرين، غير أن الجماعة استردت قوتها بعد، واستمرت في عملها، ولكن لم يسمع عنها شيء يستحق الذكر بعد القرن الخامس قبل الميلاد.
صفحة غير معروفة
كانت الجمعية الفيثاغورية ذات نزعة صوفية غامضة، وهذا ما جعل الناس يحوكون حولها الأساطير، كما كانت لهم نزعة علمية وفنية تستحق التقدير، فرقوا الصناعات والفنون والرياضة البدنية، والموسيقى، والطب، والعلوم الرياضية، حتى رووا أن فيثاغورس ابتكر 47 نظرية من نظريات أوقليدس
Euclid ، وحتى يرى بعضهم أن الجزء الأول من كتاب أوقليدس من ابتكار فيثاغورس.
اتصلت تلك الطائفة الفيثاغورية بمذهب ينتمي إلى شاعر قديم يدعى أورفيوس
Orpheus ، قيل فيما روي عنه من الأساطير أنه استطاع أن يحرك الجماد بقوة أشعاره وسحر غنائه، فاستمدوا منه كثيرا من الموسيقى وأصولها، كما أخذوا عنه القول بتناسخ الأرواح من بدن إلى بدن، ومن إنسان إلى إنسان أو حيوان، ثم اقتفوا أثره في حياة الزهد والتقشف وضرورة تطهير النفس وخلاصها مما يدنسها من آثار الجسم، ولكن الفيثاغوريين سلكوا إلى طهار النفس سبيلا قد تبدو عجيبة أول أمرها، وقد يظهر عليها أنها لا يربطها بالغرض الذي يرمون إليه علاقة أو صلة، ولكنها في الواقع سبيل مؤدية إلى الغاية المقصودة، فقد رأوا أن تطهير النفس من أدران الجسد لا تكون إلا بالتفكير في الفلسفة والعلوم؛ لأنهما مظهران للنشاط العقلي والروحي ، كما أن تعشقهما يؤدي إلى إهمال الجسد ولذائذه ... ومن هنا أخذت تصطبغ تلك الجمعية الدينية الخلقية بالصبغة الفلسفية، واستحقوا من أجلها أن يكونوا فصولا في تاريخ الفلسفة، وينتجوا رأيا في مادة الكون، هو في الواقع استمرار لما سبقهم من الآراء، ولكنه مع ذلك خطوة خطتها الفلسفة إلى الأمام؛ إذ نلمح فيه انتقالا من المادية اليونية إلى محاولة التفكير المجرد الذي لا يقوم على الحس والمادة.
ويجب أن ننبه هنا إلى شيء هام، وهو أنا إذا قلنا الفلسفة الفيثاغورية فليس معنى ذلك أن كل ما فيها من آراء قال بها فيثاغورس نفسه، وإنما قالت بها جمعيته؛ إذ لم يتسن العلم بما كان من فيثاغورس نفسه وما كان من تلاميذه.
قال الفيثاغوريون: «إن سبيل معرفة الأشياء أوصافها.» ولكن أكثر الأوصاف ليست عامة في الأشياء، فهذه ورقة خضراء، ولكن ليس كل الورق أخضر، بل بعض الأشياء لا لون له، وهذا الشيء حلو، ولكن ليس كل شيء حلوا، وهكذا الشأن في المشمومات والمسموعات والمرئيات وغيرها، إنما هناك صفة واحدة عامة في كل شيء هو العدد، فكل شيء جسماني أو غير جسماني له صفة العدد، وبعبارة أخرى: «لا يمتاز شيء عن شيء إلا بالعدد، فالعدد هو جوهر الوجود وحقيقته.» هكذا ارتأى الفيثاغوريون، ولهم في ذلك منطق مستقيم إلى حد ما؛ لأنك إن أنعمت النظر في الأشياء جميعا وجدتها تتميز عن بعضها بصفات معينة: فللوردة مثلا خواص تعرف بها، وللنار خواص بعينها وهكذا قل في كل شيء، ولكن تلك الصفات أعراض قد تكون وقد لا تكون، أي إنك تستطيع أن تتخيل في غير عسير كونا يخلو من اللون والطعم والرائحة، ولكن ثمت حقيقة لا يمكن أن نتخيل الأشياء بدونها، وهي العدد، خذ مثلا عشر برتقالات، فلا يشق عليك أن تتصور لونها أحمر أو أخضر أو بلا لون، ولا يشق عليك أن تتصورها حلوة أو مرة أو ملحة أو بلا طعم، وإذن فهذه الصفات ليست جوهرا يدوم ما دامت البرتقالات، ولكنه يستحيل عليك أن تتصورها غير قابلة للعدد؛ وعلى ذلك تكون قابلية العدد صفة لازمة لا تزول إلا بزوال الأشياء نفسها.
فكر في كل شيء تر العدد له أساسا، فنسبة الأشياء بعضها إلى بعض عبارة عن عدد، فإن قلت إن هذه الشجرة أطول من تلك كان معنى ذلك أن الوحدات الطولية في الشجرة الأولى أكثر عددا من وحدات الشجرة الثانية، وهذا النظام الذي يشمل الكون هو في حقيقته عدد أيضا؛ لأنك حين تقول إن صفوف الجند مرتبة منظمة، فإنما تعني قولك إن الجنود على أبعاد متساوية، يفصل كل جندي عن الآخر عدد من الوحدات القياسية مساو للذي يليه وهكذا، ثم استمع إلى نغمات الموسيقى وفكر في أمرها تجدها عددا كذلك؛ لأنها ليست في الواقع إلا موجات صوتية واهتزازات وترية تقاس بوحدات معروفة في علم الصوت، ويقارن بعضها ببعض بعدد تلك الوحدات.
لم تتردد المدرسة الفيثاغورية بعد ذلك في اعتبار العدد أساسا للكون وأصلا لمادته، فكل ما تقع عليه عيناك مركب من أعداد، أي إن العدد هنا كالماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس، فهذه الأرض وذلك القمر والهواء والماء والقلم والمحبرة وما إليها مصنوعة من أعداد، ولعل ما دفع الفيثاغوريين إلى هذا الرأي العجيب خلطهم بين وحدة الحاسب ووحدة الهندسة واعتبارهما شيئا واحدا، فنحن اليوم نفرق بين الواحد الحسابي الذي هو وحدة العدد والنقطة التي هي وحدة الهندسة، فالمائة من الكتب مثلا مكونة من آحاد ولكل واحد منها وجود حقيقي، أما الخط المستقيم فمكون من نقط وليس للنقطة وجود حقيقي، بل هي مفروضة فقط، ولكن الفيثاغوريين ظنوا أولا أن الواحد والنقطة شيء واحد، ثم رتبوا على ذلك الظن كل هذه النتائج الغريبة،
2
فبناء على نظريتهم هذه يكون الخط المستقيم مكونا من نقط معلوم عددها (كما أن العدد مكون من آحاد معلوم عددها)، ولما كان السطح عبارة عن خطوط مستقيمة متجاورة، والحجم عبارة عن سطوح متلاصقة، إذن فكل كتلة مادية ذات حجم هي عبارة عن مجموعة من النقط يمكن حسابها، وبعبارة أخرى هي مجموعة من الآحاد، أي إنها مركبة من الأعداد.
صفحة غير معروفة
وقد نقدهم الفلاسفة بعد نقدا شديدا أدى الفيثاغوريين إلى تعديل بعض آرائهم.
فالأعداد إذن عندهم مادة الكون مهما اختلفت أشياؤه وصوره، ولما كانت الأعداد كلها متفرعة عن الواحد لأنها مهما بلغت من الكثرة فهي واحد متكرر، كان الواحد أصل الوجود عنه نشأ وتكون.
ولكن الأعداد تنقسم إلى فردية وزوجية، وهذا علة انشطار الكون إلى محدود ولا محدود، فالفردي اللامحدود، والزوجي المحدود، ولكن كيف ارتبط الفردي باللامحدود والزوجي بالمحدود؟ محل نظر وغموض.
وقد وضعوا قائمة بعشر أضداد هي عماد الكون وهي: (1) الفردي والزوجي. (2) المحدود واللامحدود. (3) الواحد والكثير. (4) اليمين واليسار. (5) الذكر والأنثى. (6) المستقيم والمعوج. (7) السكون والحركة. (8) النور والظلمة. (9) الخير والشر. (10) المربع والمستطيل.
وقد غلوا في نظرياتهم العددية حتى خرجوا بها عن المعقول، وأبعدوا في الوهم والخيال، فيقولون - مثلا - 1 نقطة و2 خط و3 سطح و4 صلب جامد و5 صفات طبيعية و6 حياة ونشاط و7 عقل وصحة وحب وحكمة، وهذا لا يعقل إلا أن يكون رمزا، وقد اشتهروا بالرمز حتى في أقوالهم الحكمية.
3
ويقدسون عدد 10؛ لأنه مجموع الأرقام الأربعة الأولى: 1 + 2 + 3 + 4، ويحلفون به ويضعونه في صورة الهرم هكذا:
وهذا كما ترى: إغراق في الوهم.
ويطبقون المعنويات على نظريتهم في العدد، فيقولون مثلا: إن العدل هو رد المثل إلى مثله، فإذا أساء أحد إلى إنسان أنزل به مثل ما أساء، وشطحوا في ذلك فجعلوا العدالة عددا مربعا؛ لأنه حاصل ضرب عدد متساويين: واختاروا لذلك عدد أربعة؛ لأنه يساوي 2 × 2.
وهكذا ذهبت المدرسة الفيثاغورية إلى أن جوهر الكون أعداد رياضية تتركز كلها في الواحد، وأنت ترى من ذلك أنهم خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية (الفيزيقية) التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة - هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها - أعني التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها، ولئن كان مجهود المدرسة الفيثاغورية في ذلك الانتقال ضئيلا مملوءا بالأوهام فإن الفلسفة مدينة لهم بالمحاولة الأولى في ذلك على كل حال.
صفحة غير معروفة
وللفيثاغوريين آراء فلكية قيمة ، منها: نقضهم للفكرة السائدة في ذلك الحين من أن الأرض مركز الكون؛ إذ قرروا أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول النار المركزية، وليست هذه النار المركزية هي الشمس؛ لأن الشمس نفسها تدور حولها، وقد كانوا بذلك أول من اتجه بالنظر الفلكي هذا الاتجاه الصحيح، الذي أدركه كوبرنيكس وسار به نحو الدقة العلمية شوطا بعيدا.
الفصل الثالث
الإيليون1
بدأت الفلسفة في يونيا - كما رأيت - طبيعية مادية، لا ترى إلا أجساما يطرأ عليها الكون والتحول والفناء، وتتعاورها الحركة والسكون، وانتقلت الفلسفة إلى جماعة الفيثاغوريين، فانتقلوا بها من تلك المرحلة المادية التي اعتمدت في الوصول إلى حقيقة الكون على الحواس وحدها وما تنقله إلى الذهن من صور، إلى مرحلة لا تقتصر على الحس والمادة، بل تعدوهما إلى الفكر المجرد، ولكن دفعة الفيثاغوريين لها في هذه السبيل كانت ضعيفة محدودة، إلى أن أتيحت لها هذه المدرسة الجديدة التي قامت في إيليا
Elea ، فدفعتها إلى الأمام دفعة قوية، وظفرت الفلسفة على أيديهم بقبس من الحقيقة المنشودة، «وهل الفلسفة منذ أول عهدها بالحياة حتى اليوم إلا مجهود واحد متصل الحلقات مرتبط المراحل، للكشف عن الحقيقة التي تتجرد من سترها شيئا فشيئا؟» ولن يزال الإنسان يواصل عناء البحث والتفكير، ولن تزال الحقيقة تبرز وتبدو وتزداد في الذهن جلاء ووضوحا. (1) إكزنوفنس
Xenophanes
سنة 570ق.م
ولد في كولوفون من أعمال يونيا، وقضى الشطر الأعظم من حياته ضاربا في مناكب الأرض، يطوف المدن وينشد فيها الشعر والغناء في المحافل والأعياد، ولم يزل يجول ويطوف وينشد ويغني حتى نيف على التسعين، ولا يقطع التاريخ إن كان ذهب إلى إيليا أو لا، ولكن أخذ عنه - من غير شك - رأس هذه المدرسة وهو «بارمنيدس» بعض آرائه، فمن أجل ذلك عد من المدرسة الإيلية.
أخذ إكزنوفنس ينتقل من بلد إلى بلد، يروي للناس قصائده الرائعة، في الرثاء تارة وفي الهجاء طورا، ولكنه بث في ثنايا أشعاره آراء في الدين والفلسفة، جاءت متناثرة كأنما هي عرض غير مقصود، وهو بالإصلاح الديني أشد صلة منه بالفلسفة، فقد هاجم اليونان في دينهم هجوما عنيفا زعزع العقائد وزلزل الآلهة التي اتخذها اليونان، والتي صوروها في الأساطير والأشعار القديمة في صورة البشر، فهي تمكر وتخدع وتسرق، وتغضب وترضى، وتبغض وتحب، فأخذ إكزنوفنس يسخر من هؤلاء الذين استباحت عقولهم أن تسيغ آلهة تولد وتموت وتضطرب مع البشر فيما يضطربون فيه، وينحو باللائمة المرة على «هومر» و«هزيود» اللذين ساقا في شعرهم تلك الصور الشائنة للآلهة،
2
صفحة غير معروفة
كلا! إنما رب الكون إله واحد؛ لأن الكمال لا يتعدد، وهو لا يشبه البشر في الصورة أو في نوع التفكير، فهو «كله عين وكله أذن وكله عقل» وهو إذا فكر في الأشياء لا يلقى في التفكير مشقة ولا عناء؛ لأن التفكير يصدر منه كما يصدر الضوء عن الشمس، ولكنا إذا اتهمنا الإنسان بأنه يصور الله على صورته هو لا على حقيقته كما هي، فسنسائل أنفسنا: وكيف السبيل إلى معرفة الحقيقة المطلقة مجردة عن فكر الإنسان، وهنا يجيب إكزنوفنس نفسه فيقول: «لم تر الدنيا ولن ترى إلى الأبد رجلا يستطيع أن يعرف الإله معرفة صحيحة دقيقة ... وحتى لو شاءت المصادفة لإنسان أن يقول في الله الحق كاملا، فهو نفسه لن يعرف أنه يقول الحق.»
ولم يعتقد إكزنوفنس أن العالم شيء والله شيء آخر، يحكمه وهو منفصل عنه كما يحكم القائد جنوده، بل الله والعالم حقيقة واحدة، وإذن فقد كان مذهبه أقرب إلى الحلول.
من ذلك ترى أن إكزنوفنس كان متمما للفيثاغوريين، فلم يعد واحدهم الحسابي يقنعه ويرضيه، بل الواحد عنده هو الكون بأسره لا يعتريه تغير ولا تبدل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وقد جاء بعده «بارمنيدس» وبنى الفلسفة الإيلية على هذا الأساس، كما سترى بعد قليل.
وقد رأى «إكزنوفنس» في العالم رأيا نحب أن نوجزه قبل أن نطوي عنه الحديث، فقد صادفته في أنحاء الأرض التي جاس خلالها قواقع وأصداف وآثار لأسماك، فأيقن أن هذا اليابس قد خرج من البحر أولا وسيغوص في البحر مرة ثانية، وبذلك ينمحي البشر من الوجود، ولكن الأرض ستعود فترتفع مرة ثانية، وسيبدأ الإنسان سيرته الاولى، ثم تغوص الأرض وينمحي الإنسان، وهكذا دواليك، فأما الشمس والنجوم التي تراها سابحة في الفضاء فقطع من البخار المشتعل، ولا تدور الشمس حول الأرض، بل تمضي في خط مستقيم، حتى إذا داهمها الليل اختفت في الأفق البعيد إلى غير رجعة، ثم تولد في عالم الغيب شمس جديدة تشرق علينا في الصباح، وهكذا تطلع على الناس في كل يوم شمس تنشأ أثناء الليل من بخار الماء ... ومهما سخرنا اليوم من ذلك الرأي الساذج، فقد كان له أثر قوي في هدم عقائد اليونان الباطلة، وكان نقضها غرضا يملي على إكزنوفنس كل أفكاره، فقد أراد بهذا الرأي الذي قد نهزأ منه أن يقنع الناس أن هذه الشمس وما إليها مهما بلغت من القوة لا يجوز أن ينزلها الإنسان منزلة العبادة والتقديس؛ لأنها تزول وتفنى. (2) بارمنيدس
ولد في إيليا سنة 514ق.م، ولم يكد يبلغ حد النضوج حتى أجال النظر في جوانب الكون، يتفكر في خلق السماء والأرض وما بينهما، يلتمس لهذه الأشياء المتنافرة في ظاهرها علة جامعة، وأصلا شاملا، فرأى الأشياء قلبا حولا، لا يكاد شيء منها يستقر على حال لحظة واحدة، فهو في غد غيره اليوم، بل قد يكون ملء ناظريك الآن ويفنى غدا، فهذا الرجل الذي تراه أمامك ولا تشك في وجوده، سيزول وينمحي بعد حين، ويصبح كأن لم يكن، فأنت على حق إن قلت إنه موجود، وأنت على حق إن قلت إنه غير موجود؛ لأن الوجود وعدم الوجود يتعاورانه، فهو هذا وهو ذاك، وقل مثل ذلك في كل شيء. وقف بارمنيدس وسط هذا العباب الزاخر من الأشياء، ينشد الحقيقة الدائمة الثابتة الخالدة، التي لا ينتابها تغير ولا فناء. نظر إلى الأشياء فأدرك أنه إنما يحس منها صفاتها، وهذه الصفات متغيرة فانية، إلا شيئا واحدا ثابتا هو الوجود
Being ، فصفة الوجود هي جوهر الكون، هي أصل الكائنات جميعا، بل هي وحدها الحقيقة وكل ما عداها وهم خادع، وهو إذا ذكر الوجود فلا يدخل في حسابه الأشياء التي تقع تحت الحس؛ لأنها فانية، وإذن فهي لا تستقيم مع خلود الوجود، إنما يعني وجودا - أي كينونة - لا يتغير ولا يصير، ولا ينشأ ولا يفنى، وليس له ماض ولا حاضر ولا مستقبل، بل هو يمتد حتى يستوعب الأبد والأزل دون أن يعرف معنى الزمن - لأن الزمن تغير وتحول - والوجود وحدة لا تنقسم ولا تتجزأ، ولا تطرأ عليها الحركة والاضطراب - لأنهما صورة للتحول وليس التحول من صفاته - وليست للوجود صفات إلا صفة واحدة هي الوجود.
ذلك - من غير شك - تجريد في الفكر لم تعهده الفلسفة من قبل، فهو لم يلتمس علة الكون في ماء ولا هواء مما يرى بالعين ويحس باليد، ولم يلتمسه في العدد الذي يتصل بالأشياء المحسة صلة وثيقة، بل أنكر الأشياء جميعا واعتبرها في حكم العدم واعترف بحقيقة واحدة لم نصل إليها من طريق الحواس، بل بالعقل المجرد الخالص، أعني بها الكينونة - أي الوجود - ولكن الطفرة متعذرة مستحيلة، فلم يستطع بارمنيدس أن يثبت على تجريده الفكري إلى النهاية، بل انكفأ راجعا إلى المادة، يلتمس عندها القالب الذي يصب فيه فكرته، فحقيقة الكون وجود مطلق غير مقيد، ولكنه يشغل حيزا من مكان، وهو كري في شكله! والحيز والشكل من صفات المادة التي تلازمها وتميزها.
من أجل هذا اختلف المؤرخون في النظر إلى بارمنيدس، ففريق يضعه في طليعة القائلين بالمذهب العقلي
Idealism
لأنه أنكر الأشياء ولم يحسب لها حسابا باعتبارها صورا زائفة باطلة، توهمنا بها الحواس الخادعة، أي إنه لا يؤمن بالحواس، ويرفض ما تقدمه إليه من صور رفضا قاطعا، ولا يركن إلا للعقل وحده يستوحيه ويستهديه في سبيله إلى الحق الخالد، وفريق آخر يصر على حشره في زمرة الطائفة المادية الطبيعية الحسية، التي ترى من الكون مادة تدرك بالحس، ألم يصور لنفسه الكون كريا تحده الحدود ويشغل المكان؟ وهل يكون ذلك إلا مادة؟
صفحة غير معروفة
وقد بقي هذان الشطران المتناقضان عند «بارمنيدس» دون أن يؤلف بينهما، بل دون أن يدرك تناقضا بينهما، فأما خلفاؤه - أمبذوقليس وديمقريطس - فقد تناولا الشطر المادي وأقاما على أساسه فلسفتيهما، فإن كان الوجود لا يطرأ عليه الكون والفساد، والوجود قوامه المادة في رأيهما، إذن فالمادة لا تستحدث ولا تفنى، وأما ما نرى من حدوث الأجسام وفنائها، فهو تجمع الذرات المادية أو تفرقها، أما جوهرها وحقيقتها فأزلي أبدي.
وبقي الشطر العقلي المجرد من فلسفة بارمنيدس لا تمتد إليه يد البحث حتى أدركه أفلاطون فهذبه وسما به إلى مستوى التجريد الخالص.
وأنت ترى من ذلك في وضوح أن بارمنيدس كان حلقة الاتصال بين مرحلة طبيعية حسية سبقته، ومرحلة عقلية ستجيء من بعده. (3) زينو
zeno
ولد في إيليا نحو سنة 489ق.م، انتهت به الدراسة والبحث إلى أن يذهب مع بارمنيدس فيما ذهب إليه، وأخذ يكتب فصولا لا يضيف فيها إلى الفلسفة جديدا، بل يؤدي بها رأي سالفه.
فهو يرى ما ارتآه بارمنيدس في نظرية «الوجود» وفي أن عالم الحس وهم باطل، يعتريه التغير والزوال، مع أن الحقيقة الخالدة لا تتغير ولا تزول، ولكن لم يرد أن يسوق الفكرة ليفرضها عليك فرضا، لا يستند إلى الحجة المقنعة والدليل المبين، بل يسلك بك طريقا مستقيمة، إلا تكن مؤدية إلى غاية من اليقين الثابت فهي تلقي في نفسك الحيرة، وتبعثك على التفكير.
انظر إلى العالم الحسي، أعني عالم الأشياء: الأرض والسماء وما يحويان من الجوامد والأحياء، تلاحظ فيه خاصتين واضحتين؛ فهو متغير متحول، وهو كثرة من الأفراد والأنواع والأجناس، ونحن إنما نزعم لك أن حقيقة الكون لا تعرف ذلك التغير والتحول ولا هذه الكثرة المتنافرة، فهي ثابتة على صورة واحدة، وهي شيء واحد لا كثرة فيه، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن جوهر الكون حقيقة لا تتحرك ولا تتعدد، فأما الحركة التي نراها تطرأ على الأشياء، وأما تعدد الكائنات، فكلاهما مستحيل لا يؤيده الدليل، وإذا ثبت ذلك لزم أن يكون مبعثهما - أي الأشياء نفسها - مستحيلا كذلك، وإنما هي ظلال تنخدع بها الحواس، لا تمت إلى الحقيقة نفسها بسبب، اللهم إلا إن كانت سترا تكمن الحقيقة وراءه، وهاك الدليل على بطلان الكثرة والحركة. (3-1) الدليل على بطلان الكثرة
إن كانت الكثرة حقيقة واقعة - ونعني بالكثرة أن الكون ليس شيئا واحدا بل وحدات كثيرة متراكمة - كان الكون لا متناهيا في الكبر، ولا متناهيا في الصغر في وقت واحد، فهو لا متناه في الصغر؛ لأنه مؤلف من وحدات كما فرضت أولا، ولا بد أن تبلغ تلك الوحدات من الصغر حد اللانهاية بحيث لا يكون لها حجم؛ لأنه إن كان للوحدة حجم سقطت عنها صفة الوحدة وأصبحت قابلة للانقسام إلى وحدات أصغر منها، فإذا سلمنا بأن كل وحدة على انفراد لا حجم لها لزم أن يكون الكون الذي يتكون منها لا حجم له كذلك؛ لأنه حاصل جمعها.
وكذلك يكون الكون لا متناهيا في الكبر؛ لأن له جرما لا شك فيه، وكل جرم قابل للانقسام إلى جزيئات لا نهاية لعددها، ومهما بلغت تلك الجزيئات من الصغر، فهي إذا ضربت في عدد لا نهائي، كان الناتج كونا عظيما يمتد إلى ما لا نهاية.
وإذن ففرض الكثرة يؤدي إلى نتيجتين متناقضتين لا يسلم بهما معا منطق سليم، فلم يعد أمامك سبيل إلا أن تنكر إنكارا باتا، وأن تسلم بأن الكون كله شيء واحد لا يقبل التجزئة، وأن هذه الأجزاء التي تراها متفرقة باطلة ليس لها وجود. (3-2) الدليل على بطلان الحركة (أ)
صفحة غير معروفة
إذا أردت أن تقطع مسافة ما، فستقطع نصفها الأول ويبقى أمامك نصفها الثاني، ثم ستقطع نصف هذا النصف ويبقى نصفه الآخر، وهكذا ستظل تقطع نصفا ويبقى نصف إلى ما لا نهاية، وإذن فلن تصل إلى غايتك المقصودة إلى الأبد. (ب)
تسابق رجل وسلحفاة، فهب أن السلحفاة تقدمت عشرة أمتار قبل أن يبدأ الرجل: نظرا لبطء سيرها، وكانت سرعة الرجل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فلما بدأ الرجل وقطع عشرة الأمتار التي تفصله عن السلحفاة، وجد أنها قد تقدمت مترا (أي عشر المسافة التي قطعها هو) فلما قطع هذا المتر كانت السلحفاة قد تقدمت عشر المتر، فإذا قطع هذا العشر، تكون قد تقدمت جزءا من مائة من المتر ، وهكذا يظلان إلى ما لا نهاية، فلو ظل المتسابقان إلى آخر الدهر فلن يلحق الرجل السلحفاة. (ج)
إذا انطلق سهم في الهواء، فلا بد أن يكون في أية لحظة زمنية ثابتا في مكان معين؛ لأنه لا يجوز أن يكون في اللحظة الواحدة في مكانين مختلفين، ولكن إذا كان السهم في كل جزء زمني ساكنا في مكان بعينه، لزم أن يكون في مجموع الفترة الزمنية ساكنا كذلك؛ لأن استمرار السكون ينتج سكونا ولا يولد حركة.
من هذه الأمثلة الثلاثة، يتضح أن الحركة مستحيلة الحدوث وإن خيل إلينا أنها حقيقة واقعة؛ لأنك - كما ترى - إن فرضت حدوث الحركة، تورطت في سلسلة من المتناقضات، لا تستقيم مع العقل والمنطق.
وليست هذه الفروض التي يتقدم بها «زينو» صبيانية تافهة، كما يبدو للنظرة العجلى، بل قد آثار بها مشكلة لا تزال حتى اليوم مجال البحث والنظر، هي مشكلة الزمان والمكان: هل هما محدودان أم لا نهائيان؟ فمثلا مجرد القول أن ثم مكانا اعتراف ضمني بأنه محدود، ولكنا نعود فنقول من جهة أخرى ماذا عسى أن يكون خارج تلك الحدود غير مكان آخر وآخر إلى ما لا نهاية؟ وإذن فالمكان لا نهائي ولا تحده الحدود!
أثار زينو هذه المشكلة وهو في سبيل البرهنة على استحالة الكثرة والحركة، وقد خلص من ذلك إلى نتيجته التي كان يرمي إليها، وهي أنه ما دام في فرض الكثرة والحركة كل هذا التناقض فلا يمكن أن تكونا حقيقتين، ولا بد أن يكون في الوجود كائن واحد - كما قال بارمنيدس - هو الوجود نفسه، في وحدة لا تعرف التعدد، وفي سكون لا يعرف الحركة، وعلى أساس هذا التناقض نفسه، أنكر «كانت» فيما بعد حقيقة المكان والزمان وقرر أنهما باطلان وليس لهما وجود في الواقع الخارجي، بل هما من خلق أنفسنا، وحيلة اخترعتها عقولنا لتستعين بها على التعبير عن أفكارنا؛ إذ كنا لا نستطيع أن نفكر تفكيرا مطلقا بمعزل عنهما.
ولما كان مبعث هذا التناقض كله هو اختلاف في حقيقة الكون - هل هو واحد فقط ليس له مكان بحكم واحديته ولا زمان بحكم سكونه؟ أو هو كثير توجد وحداته في المكان وتتحرك في الزمان؟ - فقد تقدم هيجل
Hegel
في العصور الحديثة بحل يوفق بين الطرفين، فليس الكثير والواحد طرفين متناقضين فيما يرى، بل هما وجهان لحقيقة واحدة يلتقيان في نهاية الأمر لو أنك سموت بتفكيرك إلى مرتبة فوق المستوى الضيق المعهود، يقول «هيجل» إن الكمية في معناها الصحيح هي كثير في واحد، وواحد في كثير، ولا يمكن الفصل بين العنصرين؛ فكومة القمح وحدة ولكنها تتألف من أجزاء كثيرة، فهي واحد إن نظرت إليها من ناحية، وهي كثير إن نظرت إليها من ناحية أخرى، وقل مثل ذلك في كل شيء، هو واحد باعتبار جملته، وهو كثير باعتبار وحداته التي يتألف منها، ومن الخطأ أن تحاول التفريق بين هذين الوجهين، فلن تجد واحدا لا يتكون من وحدات كثيرة، ولن تجد وحدات لا تأتلف في واحد، ولو حاولت ذلك كنت كمن يريد أن يظفر بعصا لها طرف واحد.
وقد كان أرسطو يعد زينو مخترع الجدل، وليس يعنى أي جدل، إنما يعنى الجدل الفلسفي، وهو البحث على الحقيقة من طريق المناقشة والحوار وإظهار المتناقضات عن هذا النمط، وهو نوع مهر فيه أيضا «أفلاطون» و«كانت» و«هيجل». •••
صفحة غير معروفة
وأيا ما كان فقد خطت الفلسفة الإيلية بالفكر الإنساني خطوة فسيحة نحو توحيد الحقيقة، والتوحيد - كما تعلم - هو الهدف الذي يسير العقل نحو الوصول إليه في كل ناحية من نواحيه: يقصد إليه في الدين فنراه يسير من تعدد الآلهة إلى توحيدها، ويقصد إليه في العلوم فنراه يجمع أشتات الحقائق تحت طائفة محصورة من القوانين، ويقصد إليه في الفلسفة فينشد جوهرا واحدا يطوي تحت لوائه كل ظواهر الكون، مهما اشتدت تباينا وتنافرا.
إلا أن توحيد الحقيقة عند الإيليين، لم يكن تاما كاملا، فلو أنعمنا النظر في فلسفتهم ألفينا فيها غموضا، فقد زعموا أن جوهر الكون وحقيقته هو الوجود نفسه، ثم جمدوا عند هذا الحد، ولم يبينوا كيف صدرت الأشياء من تلك الحقيقة الأولى ، بل عمدوا إلى إقامة الدليل على بطلانها، فهل يريد «زينو» أن ينكر العالم الحسي بتاتا؟ هل ينكر أنه كان يمشي في شوارع «إيليا »؟ وإذا مد يده فهل ينكر أنه مدها؟ وهل إذا خرج من بيته إلى مكان آخر ينكر أنه تحرك؟ الظاهر أنه لا يريد ذلك، وإلا كانت فلسفته مهزلة، وهب أنه يريد أن يقول إن هذا العالم الحسي وهم؛ فذلك لا يمنع من المطالبة بتعليل هذا الوهم نفسه: كيف نشأ، وما علاقته بالحقيقة الخالدة؟ ثم أليس الوهم في ذاته حقيقة كالحقيقي سواء بسواء، كلاهما موجود وكلاهما ينشد علته؟ سم هذا الكتاب الذي بيدك وهما، أو سمه حقيقة، فلا نحسب أن اختلاف الأسماء يزحزح الموقف قيد أنملة؛ وبناء على هذا تكون الفلسفة الإيلية قد خلفت وراءها عالمين يقفان جنبا إلى جنب، دون أن تؤلف بينهما في وحدة متناسقة: عالم الحقيقة أي الوجود، وعالم الوهم أي الأشياء.
ولعل الإيليين قد اضطروا إلى هذه التثنية اضطرارا، حين أعجزهم تعليل نشأة العالم الحسي من الحقيقة الخالدة، وقد كان ذلك العجز محتما لا مفر منه ما داموا قد فرضوا الحقيقة مجردة من الصفات والحركة، وإذن فيستحيل أن يخرج عالم مليء بالصفات والخصائص من أصل غير ذي صفة أو خاصة.
ألق بنظرك إلى الوراء، لترى معالم الطريق التي سلكتها الفلسفة من أول عهدها حتى تركها الإيليون، فقد استهلت المدرسة اليونية تفكيرها بإثارة هذا السؤال: ما هو الأصل الأول الذي تفرعت عنه الأشياء؟ وأجابت هي نفسها بأنه الهواء أو الماء أو ما إليهما، ثم أعقبتها المدرسة الثانية - أعني الفيثاغوريين - فانتهى بها التفكير إلى أنه الأعداد الرياضية، ثم تلتها المدرسة الثالثة - وهم الإيليون - فقررت أنه الوجود المطلق المجرد.
أمعن النظر إلى آراء هذه المدارس الثلاث، تجد أن الأولى قد أضافت إلى أصل الأشياء كما وكيفا؛ لأنها فرضت أنه مادة ذات حجم وصفات، أن الثانية قد أنكرت أحدهما وأبقت الآخر، أنكرت الكيف وأثبتت الكم، فأصل الكون أعداد رياضية لها كمية وليس لها صفات، وأن الثالثة قد جردته من الكم والكيف جميعا، فلا هو كمية مادية تقبل التجزئة، ولا هو تميزه صفات وخصائص وأشكال، بل هو فكرة مجردة من كل شيء، هو فكرة الوجود أي الكينونة لا أكثر ولا أقل.
وأنت ترى من ذلك أن انتقال الفلسفة من المدرسة اليونية الأولى إلى المدرسة الإيلية الثالثة، هو انتقال من المرحلة الحسية الساذجة إلى مرتبة الفكر المجرد، والفيثاغوريون هم حلقة الاتصال.
الفصل الرابع
هرقليطس
Heracleitus
ولد في أفسوس من أعمال آسيا الصغرى حوالي سنة 535ق.م، ومات سنة 475ق.م، بعد أن عمر نحو ستين عاما، كان معاصرا في بعضها لبارمنيدس، أي إنه ساير المدرسة الإيلية وهي في أعلى ذراها.
صفحة غير معروفة