تقدم بالتهمة ضد سقراط ثلاثة من أعدائه هم: مليتس
Melitus ، وليكون
Lycon
وأنيتس
Anytus ، وكان المألوف إذ ذاك أن يقف المتهم أمام القضاة باكيا مستعطفا مسترحما، وأن يقدم زوجه وأبناءه لعلهم يثيرون في نفوس القضاة العطف والرحمة، ولكن سقراط أبى ذلك على رجولته، وكم دهش القضاة وكم ثارت ثائرتهم حين وقف سقراط يدافع عن نفسه، فلم يكن قوله منصرفا إلى رد الاتهام وإلى تبرئة نفسه مما نسب إليها، ولكنه أخذ يشفق على قضاته في موقفهم المخزي، ويتوجع لما يصيب النفوس من فساد، ويود لو استطاع أن يتمم المهمة التي بدأها وهي تطهير الشباب من مثل هذا الشر والفساد، ولو استرحم سقراط لظفر بالبراءة ولكنه لم يفعل، فأصدر القضاة حكمهم بأغلبية ضئيلة جدا بثبوت التهمة عليه، تمهيدا لحكم يليه يحدد فيه الجزاء، وكان القانون ينص على أنه إذا ثبتت تهمة على متهم، وجب أن يقترح المدعي عقوبة كما يقترح المتهم عقوبة أخرى، ثم يترك للقضاء اختيار ما يراه من العقوبتين، فاقترح المتهمون الثلاثة عقوبة الإعدام، وطلب إلى سقراط أن يعلن اقتراحه، فأجاب في تهكم لاذع إنه لم يرتكب جرما ولكنه عني بالإصلاح، وإذا كان لا بد من إبداء رأيه فيما يستحق من الجزاء فهو أن يتربع منصبا في مجلس القضاء جزاء وفاقا لما قدم للشعب من خير، هنا ثارت ثائرة الغضب من القضاة ولم يترددوا في أن يقرروا عقوبة الإعدام على سقراط بأغلبية كبيرة.
أرستوفان.
قضى سقراط في سجنه ثلاثين يوما ينتظر تنفيذ الموت، وكان أصدقاؤه يغرونه خلالها بالفرار، ولم يكن الفرار من السجن شاقا ولا عسيرا، فقديما فر فيلسوف آخر من سجنه هو أناكسجوراس الذي أعانه على الفرار بركليس، وقليل من الدنانير كانت تكفي لرشوة الحارس وتمهيد الهروب.
سجن سقراط، وفيه اجتمع تلاميذ سقراط حول أستاذهم يحاورونه في مسائل الحياة والموت والخلود.
ولكن سقراط لم يستمع إلى إغراء أصدقائه، ورفض رفضا حاسما أن يفر من وجه الموت، فذلك خور وجبن، وواجب على الفرد أن يطيع القانون، فإذا ما قضى بالموت وجب أن تقدم النفس طائعة، ولعل في هذا أسطع دليل على أن سقراط لم يكن ثائرا في وجه القانون والعادات والتقاليد الموروثة كما اتهمه بذلك أعداؤه، فلما جاء الأجل المحتوم وقدم لسقراط قدح السم تجرعه في إقدام، ونحب أن نسوق في هذا المكان فصلا كتبه أفلاطون عن موت سقراط، وأجراه على لسان صديق من أصدقائه الذين شهدوه ساعة الموت: «... نهض سقراط ودخل غرفة الحمام ليغتسل، وتبعه كريتو
Crito ، وأشار إلينا بأن ننتظره حتى يعود، فأخذ الحديث يدور بيننا حول النكبة التي حلت بنا، وذكرنا أننا سنقضي بقية الحياة أيتاما، فأخذنا الجزع من هول المصاب، ولما فرغ من اغتساله وجاء إليه أبناؤه الثلاثة وكانوا صبيا وطفلين، كما قدمت سيدات أسرته، حدثهم قليلا في حضرة كريتو، ثم أمرهم بالانصراف، وعاد إلينا وكانت الشمس قد أوشكت على الغروب؛ لأنه قضى في الحمام فترة طويلة، فلما أخذ مجلسه بيننا لم يكثر من حديثه، ثم دخل ضابط واقترب منه وقال: «يا سقراط، أود ألا تخطئ كما يخطئ غيرك، فإنهم يسخطون ويلعنون حينما أتقدم إليهم بجرعة السم، ولست في ذلك إلا صادعا بما أمرت به، ولكني وجدت فيك أثناء إقامتك في السجن رجلا نبيلا وديعا جليلا، لا تقاس بمن شهد هذا المكان من قبل، ولست أشك في أنك لن تنقم أو تثور، والآن - وأنت عالم بما جئت أعلنه إليك - وداعا، وحاول ما استطعت أن تحتمل ما ليس من احتماله بد.» وانفجر الرجل باكيا وانصرف، فنظر إليه سقراط وقال: «وداعا ، وسأفعل ما تريد.» ثم التفت إلينا وقال: «ما أرحم هذا الرجل، إنه لم ينقطع عن زيارتي طول إقامتي، وكثيرا ما كنت أناقشه، فأرى فيه رجلا من أقوم الرجال، وهو يبكي من أجلي بكاء صادرا عن عطف كريم، تعال إلي يا كريتو، دعنا ننفذ الأمر، ومر أحدا بإحضار السم إذا كان قد تم إعداده وإلا فقل لهم يعدوه.» فأجاب كريتو: «إن أشعة الشمس يا سقراط لا تزال تسطع فوق الجبال ولم تغب بعد، وأنا أعلم أن من قبلك كانوا لا يشربون السم إلا في ساعة متأخرة بعد إعلانهم، وبعد أن يأكلوا طعام العشاء، ويحتسوا الخمر كما يشاءون، بل إن منهم من زاول شئون الحب مع من يحب، فلا تتعجلهم، ولا يزال في الوقت متسع.» قال سقراط: «إن هؤلاء الذين ذكرتهم يا كريتو كانوا على حق فيما فعلوا ما داموا قد توهموا أنهم يكسبون من وراء ذلك شيئا، وأنا كذلك على حق فيما أفعل ما دمت أحسب أنني لن أجني من التسويف شيئا، إلا أن أضع نفسي من نفسي موضع السخرية حينما أتعلق بأسباب الحياة، وأحاول أن أبقي منها حشاشة ذاهبة ولا ريب، اذهب وافعل ما آمرك به ولا تعارض.» فلما سمع ذلك كريتو أشار برأسه إلى غلام على مقربة منه فخرج ولم يلبث أن عاد وفي صحبته رجل يحمل في يده كأسا، ولم يكد يراها سقراط حتى قال: «حسنا يا صديقي العزيز، أرجو أن تشير إلي بما أفعل؛ لأنك قد مرنت على مثل هذا الأمر.» فأجاب الرجل: «لا شيء أكثر من أن تجرع السم، ثم تمشي قليلا فإذا ما شعرت بثقل في ساقيك فنم، وسيكون للسم أثره المطلوب.» ثم قدم القدح إلى سقراط، فتناوله باسما لم يضطرب ولم يمتقع لونه ونظر إلى الرجل قائلا: «لا أظن القانون يحول بيني وبين الآلهة الآن، فلأصل لهم ولأضرع إليهم أن أوفق إلى رحلة سعيدة.» قال هذا وشرب القدح في رزانة وهدوء، وكنا نحن في بكاء لا ينقطع ثم حبسنا الدمع لما رأيناه يرفع إلى فمه الكأس، ولكني لم ألبث طويلا حتى انفجرت بالبكاء مرة ثانية وابتل وجهي بالدموع، ولم أكن في ذلك أبكي سقراط، إنما أندب حظي العاثر إذ فقدت هذا الصديق الوفي، ونهض كريتو إذ عجز هو كذلك عن حبس البكاء، وكان لنحيبه صوت يبعث الأسى، فنفذ إلى قلوب الحاضرين جميعا ما عدا سقراط، فقد قال لنا: «ماذا تفعلون يا صفوة الأصدقاء؟ لقد صرفت النسوة من أجل هذا، وخشيت أن يكون منهن مثل هذا العبث، فقد سمعت أن من الخير للرجل أن يسلم النفس في هدوء، فصمتا واحتمالا.» فاعترانا الخجل إذ سمعنا منه الحديث، وكففنا الدمع المنهمر، أما هو فقد أخذ يجول حتى شعر بساقيه يثقلان، فرقد وظهره للأرض كما أوصاه الرجل الذي أمسكه، واختبر ساقيه وقدميه، وضغط على قدمه ضغطة قوية، وسأله هل شعر بها؟ فأجاب أن لا، وضغط على فخذيه، ثم أخذ يسير نحو رأسه قليلا قليلا، قائلا إن جسده آخذ في التصلب والبرودة، وهنا مسح سقراط بيده على صدره وقال: عندما يصل السم إلى قلبه ستكون نهايته. ولما برد أسفل البطن كشف عن نفسه ما أسدل فوقه من غطاء وقال: وهي آخر ما لفظت شفتاه من حديث: «أنا مدين بدين إلى إسيكيو لابيوس يا كريتو، فرده إليه ولا تهمل.» فأجاب كريتو: «سأفعل ذلك، أليس لديك ما توصي به غير هذا؟» فلم يجب سقراط، وبعد قليل اهتز هزة عنيفة، فنشر الرجل فوق وجهه الغطاء، ولاحظ كريتو أن عينيه مفتوحتان فأطبق عليهما الجفنين، وأقفل فمه المفتوح.»
صفحة غير معروفة