جاء السوفسطائيون فأنكروا هذا، كان الاعتقاد من قبلهم أن هناك فرقا بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وبعبارة أخرى أن هناك فرقا بين ما أدركه أنا من الشيء وبين الشيء في الخارج، فقد أنظر إلى الأرض فأراها مسطحة وهي في الخارج وفي حقيقة الأمر مكورة، وقد أرى السراب ماء وفي الخارج لا ماء، فالشيء في الخارج موجود استقلالا عن ذهني وحواسي، ولكن هؤلاء السوفسطائيين أتوا ينكرون هذا أيضا، فبروتاجوراس كان يعلم أن ليس هناك وجود خارجي مستقل عما في أذهاننا، فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا اختلفنا في رؤية شيء، فما أراه أنا حق بالنسبة لي وما تراه أنت حق بالنسبة لك، واستمر بروتاجوراس في نظريته فقال: ليس هناك خطأ، بل مستحيل وجود الخطأ، فكل ما تراه صواب لك، بل لفظتا الخطأ والصواب لا معنى لهما، فليس هناك شيء يسمى حقا في ذاته أو في الواقع أو نحو ذلك، ويظهر أن الذي دعا بروتاجوراس إلى هذا أنه رأى أن المعلومات التي تصل إلينا إنما تصل من طريق الحواس، وإدراك الحواس مختلف عند الناس، فلا يمكن الاعتماد عليها لإدراك أن هناك شيئا حقا خارجيا في الواقع.
وتابعه على ذلك جورجياس السوفسطائي، فقد وضع كتابا عنوانه «الطبيعة أو اللاوجود» حاول فيه أن يقيم الدليل على هذه القضايا الثلاث «لا شيء موجود»، «إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرف»، «وإذا أمكن أن يعرف فلا يمكن إيصاله إلى الغير».
أما القضية الأولى التي تقرر أن لا شيء موجود، فقد تابع فيها الفلاسفة الإيليين الذين أنكروا وجود الأشياء التي تقع تحت الحواس، والذين أثبتوا أن صفة الوجود وحدها هي الموجودة، أما كل هذه الأشياء التي تملأ جوانب الكون والتي تطرأ عليها الحركة والتغير فباطلة خدعتنا بها الحواس، وكان جورجياس يستعير منهج زينو من قبله في الجدل، ويعتمد على بارمنيدس في آرائه في أصل الكون ليثبت بذلك بطلان المحسات، فكان مثلا يقول: إذا كان ثمت في الوجود شيء فلا بد أن تكون له بداية، وهو إما أن يكون قد نشأ من العدم، أو من وجود سابق له، فأما النشأة من العدم فمستحيلة؛ لأن شيئا لا يخرج من لا شيء، وأما تسلسله من وجود قبله، فهذا ينفي أن تكون له بداية، وإذن فلا شيء موجود.
وأما القضية الثانية التي تقرر أنه حتى لو فرضنا وجود شيء فلا تمكن معرفته، فهي نتيجة لازمة لعقيدة السوفسطائيين في اعتماد تحصيل المعرفة على الحواس وحدها دون العقل، وما دامت إدراكات الحواس تختلف عند الأشخاص، بل تختلف عند الشخص الواحد في الظروف المختلفة، فلا يمكن الجزم بحقيقة الشيء كما هو، وترتيب المعرفة على الحواس يؤيد أيضا قضية جورجياس الثالثة؛ لأن ما يصل عن طريق الحس لا يمكن نقله إلى شخص آخر.
وقد تابع من أتى بعد من السوفسطائيين هذه التعاليم وطبقوها على السياسة والأخلاق، فقالوا إذا لم يكن هناك حق في الخارج، وكان ما يظهر للشخص أنه حق، فحق بالنسبة إليه وحده، فلا يمكن أن يكون هناك قانون خارجي أخلاقي عام يخضع له الناس جميعا، وإنما المسألة ترجع إلى إحساس الشخص نفسه، فما تراه حقا فحق لك، وما رأيت عمله فاعمله ويكون عمله مشروعا.
ويتبع هذا رأيهم في القانون، فليس هناك قانون عام مؤسس على العدالة أو نحو ذلك؛ لأنه ليس هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، وليس هناك قانون عادل في نفسه، وإنما قوانين الدولة كما قال بولس
وثراسيماكوس
Thrasymachus
اختراع الضعفاء ليخضعوا بها الأقوياء، وليختلسوا منهم ثمار قوتهم، وإذا بلغ إنسان من القوة مبلغا يستطيع معه الخروج على القانون من غير أن يعاقب، فله الحق في الخروج؛ لذلك يعدون أول من رأى أن القوة هي الحق.
وهذه التعاليم كما ترى تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي، للدين، للأخلاق، لكل نظم الدولة، ومن ثم كانوا مثارا لسخط من أتى بعدهم من الفلاسفة، وموضعا لانتقادهم وهدم تعاليمهم، ولكنهم من غير شك نشروا التعليم في بلاد اليونان، وهيجوا الأفكار للبحث والمناقشة في أساس الأخلاق، فمهدوا الطريق لتعاليم سقراط وأفلاطون، وأسسوا علم البلاغة، ووجهوا اهتمام الناس إليه، وكان لتعاليم السوفسطائيين أثر مختلف في عقول الباحثين في العصور المختلفة.
صفحة غير معروفة