مقدمة
1 - فلاسفة يونيا1
2 - الفيثاغوريون
3 - الإيليون1
4 - هرقليطس
5 - إمبذقليس
6 - المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
7 - أناكسجوراس
8 - السوفسطائيون
9 - سقراط
10 - أفلاطون
11 - أرسطو (أرسططاليس)
12 - الرواقيون
13 - الأبيقوريون
14 - الشكاك أو اللاأدرية
15 - عصر الاختيار
16 - الأفلاطونية الحديثة
أهم مصادر الكتاب
مقدمة
1 - فلاسفة يونيا1
2 - الفيثاغوريون
3 - الإيليون1
4 - هرقليطس
5 - إمبذقليس
6 - المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
7 - أناكسجوراس
8 - السوفسطائيون
9 - سقراط
10 - أفلاطون
11 - أرسطو (أرسططاليس)
12 - الرواقيون
13 - الأبيقوريون
14 - الشكاك أو اللاأدرية
15 - عصر الاختيار
16 - الأفلاطونية الحديثة
أهم مصادر الكتاب
قصة الفلسفة اليونانية
قصة الفلسفة اليونانية
تأليف
زكي نجيب محمود وأحمد أمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
منذ سنين عهد إلي بتدريس علم الأخلاق في مدرسة القضاء، فساقني ذلك إلى دراسة الفلسفة؛ لأن الأخلاق فرع من فروعها، ولا يفهم الفرع حق الفهم إلا إذا فهم الأصل، وكان من أثر هذا العهد ترجمتي كتاب «مبادئ الفلسفة»، للدكتور أ. س. رابوبورت، وتمنيت في مقدمته أن يكون «طليعة كتب واسعة تظهر في هذا الموضوع النافع»، ثم تعاقبت الأزمان وانقضت السنون وانصرفت عن الفلسفة إلى غيرها، ولم يقع - مع الأسف - ما تمنيت، ولم يخرج إلى اللغة العربية من الكتب الفلسفية ما يشفي علة أو ينقع غلة، إلا العمل الجليل الذي اضطلع به أستاذنا «أحمد لطفي السيد بك» من ترجمة كتب أرسطو «الأخلاق» و«الكون والفساد» و«الطبيعة»، ولكنها مع جلالتها وعلو قيمتها - وإن شئت فقل لجلالتها وعلو قدرها - لا تناسب إلا الخاصة أو خاصة الخاصة؛ لعمقها وتطلبها الجهد في فهمها، وحاجتها إلى كتب أولية في الفلسفة تهدي إلى غايتها.
حتى إذا عرضت لوصف الحياة العقلية عند العرب وألفت في ذلك «فجر الإسلام» و«ضحاه»، ووصلت في التأليف إلى المعتزلة والمتكلمين في العصر العباسي رأيت أنهم تعرضوا لمسائل هي من صميم الفلسفة اليونانية، ورأيت أن لا بد لفهمها من الرجوع إلى منابعها؛ لأعرف كيف فهموها وكيف نقلوها وما الذي زادوا عليها، فاضطررت إلى العودة إلى كتب الفلسفة أستعرض مسائلها، وأتفهم غوامضها، ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي وأمثالهما قد خلطوا حقا وباطلا، فكثيرا ما نسبوا القول إلى غير قائله، وترجموا حياة الفيلسوف ترجمة لا يقرها التاريخ الصحيح، وخلعوا عليها من خيالهم الإسلامي ما لا يتفق وحياة الفلاسفة اليونانيين الوثنيين، فكان لا بد من الرجوع إلى الكتب الأجنبية التي خطت خطوات فسيحة في تعرف الصواب، بما استكشفوا من آثار، وعثروا عليه من كتب، ومحصوا من آراء.
وقبل ذلك شعر هذا الشعور الأستاذ «سانتلانا» عند دراسته للفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية، فقد قال في مقدمة محاضراته: «إذا لم يكن من السائغ لذي أدب من الإفرنج أن يجهل ما كان عليه حكماء اليونان، فكيف يسوغ ذلك لمصري ومسلم؟ والعلوم الإسلامية مؤسسة منذ بدء نشأتها على علوم اليونان وأفكار اليونان، بل وعلى أوهام اليونان، حتى لا يكاد يفهم آراء حكماء الإسلام، ولا مذاهب قدماء المتكلمين، ولا بدع المبتدعين، من لم يكن له بحكمة اليونان معرفة شافية لا مجرد إلمام، وهذا لا يحتاج إلى برهان، بل نعول فيه على العيان، فصار هذا التاريخ والحالة هذه كالمقدمة الضرورية لتاريخ التمدن الإسلامي، لا يسع أحدا من هذه الأمة إهماله، ولا طالب الحكمة جهله.»
فلما عاودت القراءة في الفلسفة بدت مني رغبة في أن أكتب خلاصة ما أقرأ فذلك أدعى إلى وضوح الفكرة في ذهني، وإلى أن ينتفع - بما انتفعت به - غيري، وكان من حسن حظي أن رأيت أخي وزميلي الأستاذ «زكي نجيب محمود» يرغب رغبتي ويتمنى أمنيتي، فتعاونا معا على إخراج هذا الكتاب وتقديمه للقراء.
وليس لنا فيه أفكار جديدة ولا آراء مبتكرة، فلسنا من علماء الفلسفة المتخصصين لها والمتبحرين فيها، وكل عملنا أننا قرأنا الموضوع في كتب متعددة وأخذنا خلاصتها، وصغناه صياغة أقرب إلى ذهن القارئ العربي، وتخيرنا ما هو أنسب له وأقرب إلى ذوقه، فليس عملنا تأليفا بالمعنى الدقيق للتأليف، ولا ترجمة بالمعنى الدقيق للترجمة؛ ولذلك اخترنا للدلالة على ما عملنا كلمة «تصنيف»، فلعلها أدل على القصد، وأصدق في الوصف.
راعينا فيه قدر الإمكان وضوح الفكرة وبساطة التعبير حتى أسميناه «قصة»، كما راعينا الاقتصار على أهم المسائل وأصولها دون التوسع في فروعها وجزئياتها . •••
ثم تطورت الفكرة من تقيد بنقل صورة للفلسفة اليونانية إلى نقل صورة بسيطة للفلسفة عامة، من فلسفة إسلامية وفلسفة حديثة، واتسع الأمل في إخراج «سلسلة فلسفية» تشمل تاريخ الفلسفة في جميع عصورها، كما تشمل كتبا صغيرة تصف أشهر المذاهب الفلسفية وأشهر رجالها، ودعا ذلك إلى أن أوسع دائرة ما يحقق هذه الرغبة، ويملأ هذا الفراغ.
وكان من أكبر ما بعث على هذا التطور أني رأيت أكثر الأدب الذي يخرجه العالم الشرقي أدبا خفيف الوزن، تنقصه عمق الفكرة، وغزارة المادة، يعنى بالشكل أكثر مما يعنى بالموضوع، ويلعب بالألفاظ ولا يلعب بالمعاني، وأنه لا بد للأديب الحق من وقوف تام على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال، وبالجملة على فروع الفلسفة، فذلك يجعل نتاجه أقوم، وتفكيره أعمق، وأفقه أوسع، ومنابع تفكيره أغزر، ويحمله على أن يفلسف الأدب، ولا يتسنى ذلك إلا إذا أدبنا له الفلسفة.
من أجل هذا كله عملنا على أن نقدم لجمهرة المثقفين في هذه «السلسلة» صورة مصغرة لنواحي التفكير الفلسفية، عسى أن تبعث فيهم رغبة في التعمق وشوقا إلى الاستزادة، وعسى يكون من وراء ذلك غزارة في الأدب، وعمق في الإنتاج، وعسى أن يكون من وراء ذلك باعثا للقادرين على أن يخرجوا كتبا أوفى بالغرض، وأكثر تحقيقا للفكرة.
والله أسأل أن يمدنا بتوفيقه، ويشملنا برعايته، ويكلل عملنا بالنجاح.
أحمد أمين
2 أبريل سنة 1935
مقدمة
مدارس أثينا. تبين الصورة مجموعة من فلاسفة المدارس الفلسفية اليونانية المختلفة (بريشة رفائيل). (1) كيف بدأت الفلسفة
لم يكد يظهر الإنسان على وجه الأرض، حتى دأب يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه غريزة حب البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به سخية كريمة، فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى الفكر ما يحصل به ضرورات العيش ويرد به عادية الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مسرفة في التقتير، اكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت، وتحصيل الضروري من أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شيء، قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلا من تلك الحياة التي كانت تقنع بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه، ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة، ولم يعد يصدر في ذلك عن شعور ووعي يستنفدان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء، بل أصبح كثير من شئون العيش عادة آلية يديرها اللاشعور، وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ الفينة بعد الفينة، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يحلم بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن واحد، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير سوى أساطير ينسجها له الخيال فيرويها، لتكون له عقيدة وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت «الميثولوجيا»
1
أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق، وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة، وخف عنه العذاب الذي كانت تسلطه عليه الضرورات ليدأب في جمع القوت ودرء الخطر، واستقبل عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ بجانب عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شيء من ترف الفكر وإبداع الفن، وإذ ذاك تغير موقفه، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لأمره فيطيع، بل أخذ يساهم في تعديل قانون الحياة، وأخذ يفكر في خلق السموات والأرض، ويسائل نفسه: لماذا كان هذا هكذا ولم يكن غيره؟ وكيف نشأ ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة. (2) متى بدأت الفلسفة
كانت قيادة الفكر عند الأمة اليونانية منذ القرن العاشر قبل ميلاد المسيح في أيدي الشعر والشعراء، وكانت السيادة فيه لهذا الخيال الرائع الذي تراه في الشعر، والذي يستهوي الأمة في مراحل الطفولة، فكانت قصائد هومر
Homer ،
2
وهزيود
Hesiod
3
شائعة ذائعة بين الناس يحفظونها وينشدونها، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد حدث في الأمة اليونانية انقلاب خطير كان عظيم الأثر في شتى نواحي الحياة، وكان الطابع الذي وسم به ذلك الانقلاب هو حرية الفرد وظهور شخصيته، فقد بسط اليونان سلطانهم على البلاد المجاورة، واتسعت أملاكهم اتساعا عظيما، أدى إلى هجرة اليونان أفواجا إلى مستعمراتهم الجديدة، فخالطوا شعوبها ودرسوا ما لها من أخلاق وعادات تباين ما ألفوه في بلادهم، فوسع ذلك من أفقهم القصصي، واقترن ذلك التوسع في الاستعمار بانقلاب سياسي واجتماعي في بلاد اليونان نفسها؛ إذ بدأت سلطة الأشراف تتزعزع وتميل إلى السقوط، وساعد على ذلك نظام جديد اصطنعه اليونان في معاملتهم الاقتصادية، أعني نظام النقد الذي استبدلوه بنظام المقايضة أو تبادل السلع، ونشأ عن هذا التطور الاقتصادي طبقة جديدة موسرة، تنافس هؤلاء النبلاء الذين ورثوا ضياعهم عن آبائهم، وما هو إلا أن نشب بين الفريقين - النبلاء من ناحية، وباقي الشعب من ناحية أخرى - عراك حاد عنيف، انتهى بسيادة الطبقة الجديدة، فانتصرت الديمقراطية، واعتز أفراد الشعب بحريتهم التي ناضلوا من أجلها عصرا طويلا، وأخذوا يرقبون عن كثب شئون البلاد بأنفسهم.
وظهرت شخصية الفرد في الشعر كما ظهرت في السياسة، فقد كان الشعراء من قبل ينظمون القصائد دون أن ينفسوا عن مشاعرهم المكبوتة في صدورهم، فهذا «هومر» يقص عليك أقاصيص الأبطال وأساطير الآلهة مستقلة عن نفسه، فكان من أثر هذا الانقلاب أن ظهر عنصر جديد في الشعر أضيف إلى تلك الملاحم القديمة، هو الشعر الغنائي الذي هو أشد فنون الشعر اتصالا بالنفس، فتغير موقف الشاعر عما كان عليه من قبل، واتسع المجال أمامه لخلجات نفسه، وانفعالات حسه، بل أصبحت عواطف الشاعر هي المحور الذي تدور عليه القصيدة الغنائية كلها، وبهذا ظهرت شخصيته ظهورا لا تخطئه الأبصار والأسماع.
ولم ينج الدين عند اليونان من هذه الغزوة الفردية، فقلبت بعض أوضاعه القديمة، وأزيح من الطريق كل ما يحول بين الشخص وآلهته، فأصبح اتصاله بها مباشرا، لا يحتاج إلى وساطة الوسطاء.
انقلاب في الاجتماع، وانقلاب في الاقتصاد، وانقلاب في الفن، وانقلاب في الدين، أدى كله إلى ظهور الشخصية الفردية، وانتقل بالإنسان خطوة فكرية جديدة جريئة، من رواية الأساطير وقصص القصص إلى العلم والتفكير، ولم يعد يطمئن إلى تقديس الكون وعبادة ظواهره، فأخذ يبحث عن عللها وأسبابها لكي يرضي منطقه الجديد المستقيم، وهو إلا يكن قد بلغ في ذلك أول الأمر مبلغا كبيرا، فقد جمع لنفسه طائفة قيمة من المعلومات الصحيحة، كانت ينبوعا تفجرت منه الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد. (3) معنى الفلسفة
وما دمنا قد تعرضنا لمعنى الفلسفة وحدودها، فجدير بنا أن نحاول وضع حد فاصل بين الفلسفة وما عداها من صنوف العلم والمعرفة ونبين عم تبحث، وفيم تتحدث؟ وهل نستطيع أن نضع لها تعريفا جامعا مانعا تجمع على صحته المذاهب الفلسفية المختلفة؟
أما التعريف الجامع المانع فشاق عسير، بل هو متعذر مستحيل في الفلسفة، وإن كان هينا يسيرا في العلم؛ ذلك لأن كلمة الفلسفة لم تستقر على مدلول واحد طوال العصور، إنما اختلف معناها اختلافا بعيدا، كما اختلفت مباحثها اختلافا أبعد، فقد كانت في بدء حياتها أما رءوما تضم إلى صدرها أنواع المعرفة جميعا، ولكن أخذ صغارها - كلما تقادم العهد - يشتد ساعدها وتزداد رشدا، حتى نمت نموا أدى بها إلى اعتزال ذلك الصدر الحنون، والاتجاه نحو الاستقلال في البحث ... فقد كانت علوم الطبيعة والفلك والنفس فصولا من مبحث واحد - هو الفلسفة - فلما اكتمل نموها أصبحت علوما مستقلة كما نراها اليوم، وإذن فتعريف الفلسفة اليونانية لا يصدق على الفلسفة الحديثة بحال من الأحوال.
ومما يزيد الأمر عسرا أن وجهة النظر قد تباينت في المذاهب المختلفة، فكان لكل منها تعريف يلائم وجهة نظرها، فمثلا يعرف بعضهم الفلسفة بأنها «تعرف الموجود المطلق»، وبالطبع ينكر أشياع المذهب المادي هذا التعريف إنكارا تاما؛ لأن ذلك الموجود المطلق المجرد عن المادة ليس له حقيقة في نظرهم، كما يرفضه «سبنسر»؛ إذ يرى أنه - وإن كان ذلك المطلق موجودا حقا - يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمره شيئا، وإذن فمن العبث أن يكون غرضا تنشده الفلسفة، وأخيرا نرى من الفلاسفة المحدثين من يمج هذا البحث ولا يسيغه، فسواء لدى هؤلاء أكان ذلك المطلق موجودا أم غير موجود، وسواء لديهم أكانت معرفته في مقدور البشر أم فوق مقدورهم، فليست تجدي معرفته نفعا، ومن الغفلة أن ببذل الإنسان من وقته وجهده ذرة في هذه السبيل، وينبغي للفلسفة أن تولي وجهها شطرا آخر.
فهذه مذاهب أربعة، ينكر المذهب منها ما يثبته الآخر، فكيف تستطيع أن تؤلف بين هذه المذاهب المتناكرة في تعريف واحد؟ وإذن فلن نسوق إلى القارئ تعريفا للفلسفة؛ لأنه مستحيل أو عسير، وهب أنه هين ميسور، أفلا يكون افتياتا على حقه أن نسارع إلى إثبات التعريف له في طليعة الكتاب دون أن يلم بالمذاهب الفلسفية المختلفة إلماما ما؟ أولم يكن من حقه أن نقدم إليه تلك المذاهب مبسوطة مشروحة، حتى إذا ما فرغ من دراستها كان له أن يشاطر في تكوين الحكم وصوغ التعريف؟ (4) الفرق بين الفلسفة والعلم
ولكن إذا تركنا الآن تعريف الفلسفة فلا أقل من أن نسوق إلى القارئ بعض معالمها التي تميزها عن فروع المعرفة الأخرى كي يستعين بها على تكوين الرأي وفهم الموضوع، ولعل أول ما يخطر من تلك الفروق الأساسية التي تفصل بين الفلسفة والعلوم الأخرى: أن كل علم يلتزم جانبا واحدا من الكون يختصه بالبحث والدراسة، ولا يكاد يمس الجوانب الأخرى، فأما الفلسفة فتتخذ من الكون بأسره موضوعا لدرسها، وهي تنشد توحيد المعرفة ما استطاعت إليه سبيلا، فهذا علم النبات لا يعدو دائرة النبات، وهذا علم الفلك لا يتجاوز أجرام السماء، وتلك الجيولوجيا تقنع بطبقات القشرة الأرضية، وقل مثل ذلك في كل العلوم، أما الفلسفة فلا تكفيها أجرام السماء ولا ظواهر الأرض، بل تتسع وتسعى لتركز الكون كله في قضية واحدة تكون مدار بحثها، فإذا كانت العلوم تجمل ألوف الجزئيات في قانون واحد فإن الفلسفة تحاول أن تجمل هذه العلوم نفسها وتخضعها جميعا لقانون واحد.
ولما كانت العلوم كما ترى لا تتعقب ظواهر الوجود لتردها جميعا إلى أصل واحد، وقف كل منها في بحثه عند حد يرسمه لنفسه، ويتخذه أساسا لدراسته، مسلما بصحته، ولم يحاول أن يسير خطوة واحدة وراء ذلك الحد المرسوم، أما الفلسفة فلا تجيز لنفسها أن تقف في بحثها عند عنصر من العناصر، أو ظاهرة من الظواهر، دون أن تحاول تذليلها وتحليلها، ثم تجاوزها إلى ما بعدها، وهكذا إلى أن تصل إلى المبدأ الأول الذي يدور حوله الوجود بأسره، وإذن فالفلسفة تبدأ سيرها حيث ينتهي شوط العلوم، وهاك أمثلة توضح ما نريد:
يبحث علم الهندسة في قوانين المكان، فعالم الهندسة يفرض وجود المكان، ثم يبني على هذا الفرض قوانينه المختلفة، ولكن هل سمعت عالم هندسة وقف يسائل نفسه ما المكان؟ وهل أجاز لنفسه الشك في أن يكون ثمت مكان في العالم الخارجي؟ كلا، فهو يفرض صحته أولا بحيث لا يحتاج في وجوده إلى الدليل والبرهان، أما الفيلسوف فيبدأ عمله حيث انتهى زميله العالم، فهو يستهل دراسته بهذا السؤال: ما حقيقة هذا المكان الذي فرضه العلم؟ ثم يظل يتابع البحث لعله يدرك حقيقته، كي يؤلف منه ومن ظواهر الوجود الأخرى وحدة شاملة، كذلك تفرض الهندسة طائفة من البدائه لا تجوز أن تكون محلا للجدل والشك: فالكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات متساوية أنتجت كميات متساوية، والخطان المتوازيان لا يتلاقيان مهما امتدا، وما إلى ذلك مما هو مشهور عند طلاب الهندسة، نعم يصر العلم على أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان في كل مكان وفي كل زمان، هما لا يتلاقيان الآن، ولم يتلاقيا يوما منذ الأزل، ولن يتلاقيا يوما إلى آخر الأبد، هما لا يتلاقيان فوق الأرض، ولا يتلاقيان على سطح المريخ أو القمر، بل لا يتلاقيان على الكواكب التي لم يدركها البصر ... ما أعجب العلم في أحكامه! فمن أدراه بهذا؟ وكيف أطلق حكمه هذا في يقين لا يعرف الشك، مع أنه لم ير إلا عددا قليلا من الخطوط المتوازية لا تصلح مطلقا أن تكون أساسا للحكم على كل الخطوط المتوازية فوق الأرض وحدها، وفي هذا الزمان وحده، فضلا عن الماضي والمستقبل، وعن القمر والمريخ وما لا يدركه البصر من الكواكب؟! ولكن هذا الذي أقنع العلم لن يرضي الفلسفة، هي لا تطمئن إلى هذا الركون والركود، ولا تستقر إلا إذا وجدت للظواهر ما يؤيدها تأييدا ثابتا تاما.
وكما يسلم علماء الهندسة بوجود المكان تسليما لا يحتمل الشك، كذلك نرى علماء الطبيعة يفرضون وجود المادة فرضا لا يعوزه الدليل، ثم يقيمون عليها أبحاثهم حتى يخلصوا إلى طائفة من القوانين تتحكم في المادة، فهم يقولون مثلا إن المادة تمتد بالحرارة وتنكمش بالبرودة ... ولكن هل شهدت عالم طبيعة وقف عند المادة وقفة قصيرة يسائل نفسه عن جوهر الوجود المادي، ويتردد كثيرا، ويشك طويلا في وجودها، ويقول باحتمال ألا يكون ثمت مادة إلا في وهم الإنسان؟ كلا، فمنتهى ما يبلغ إليه العلم الطبيعي في بحثه أن يحاول تحليل المادة إلى عناصرها الأولى، فهي كهرباء، أو هي أثير، أو هي ذرات، إلى آخر هذه الفروض التي تقوم كلها على أساس واحد، وهو أن المادة موجودة فعلا وليس في وجودها شك ولا ريب.
وليس هذا التسليم المطمئن قاصرا على علمي الهندسة والطبيعة إنما هو سمة تراها في العلوم جميعا، خذ مثلا آخر: قانون السببية الذي هو من أكثر العلوم بمثابة الأساس من البناء، إذا تحطم الأساس انهار في أثره البناء، ذلك أن العلم يبحث طائفة من الظواهر، فإذا اتفقت كلها على نتيجة واحدة أيقن أن كل ما يطرأ على العالم من ظواهر هذه الفصيلة لا بد أن تنتهي إلى النتيجة نفسها، ما دامت الظروف الملابسة ثابتة لم تتغير: فعلم الحيوان مثلا يقرر أن الجمل حيوان آكل للعشب، وهو لا يقصر الحكم على الجمال التي تعيش بين ظهرانينا، والتي يمكن أن تجرى عليها التجربة، بل يسحب حكمه على الماضي، ويصبه على المستقبل، دون أن تساوره خلجة من الشك في صحة هذا القانون، وكل وثائقه التي يقدمها إليك إن طالبته بالدليل هو أنه أقام التجربة على طائفة كبيرة من الجمال فألفاها تأكل العشب ولا تأكل اللحم، وبناء على قانون السببية لا بد أن يكون كل جمل كذلك بغض النظر عن الزمان والمكان!
سل العلم عن خصائص الماء، يجبك أنه يتجمد في درجة الصفر، وهو كذلك يبني حكمه على قانون السببية، فما دام الماء الذي وقع تحت نظره يتجمد في درجة الصفر فلا بد أن يصدق هذا الحكم على كل ماء في كل زمان وفي كل مكان ... إذن فقانون السببية بديهي عند العلم لا يجوز فيه البحث، وهولا يطيق أن يسمع منك أن هذا القانون قد يكون خطأ من أساسه، ومن الجائز ألا يتسع إلى درجة الشمول المطلق، فهو يلقي بهذه المشكلات الملتوية على عاتق الفلسفة تضطلع بها دونه.
ترى من هذا كله أن العلوم على اختلافها تفرض وجود الكون، وتسلم ببعض الأسس تتخذها مبدأ لأبحاثها، فأما الفلسفة فتنكر هذا التسليم أشد إنكار، وتصر على أن تغوص إلى أبعد الأغوار، حتى تصل إلى جوهر الوجود، وهي لا تجيز لنفسها أن تركن إلى حكم من الأحكام بالغا ما بلغ من القوة والذيوع، إلا إذا أيده الدليل القاطع، بل هي لا تقف عند هذا، ولكنها تسائل عن سبب الوجود وخلقه، وعن الأصل الذي عنه انبعثت الكائنات جميعا، أهو عنصر واحد أم أكثر؟ أهو مادة أم روح أم شيء يخالف المادة والروح معا؟ وإن كان مادة فكيف انبثق منه الروح، وإن كان روحا فكيف صدرت عنه المادة؟ هو خير أم شر؟ وإن كان خيرا فكيف أنشأ عنه ما نرى في العالم من شرور؟
وخلاصة القول أن الفلسفة تختلف عن العلم في أنها تنظر إلى العالم كله كوحدة مترابطة متماسكة، تكون بأسرها موضوع بحثها، أي إنها لا تختص بالدراسة جانبا من الكون دون جانب، كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتت لديها ثبوتا لا يدع مجالا للريب والشك، فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين الفلسفة والعلم.
ولا بأس من أن نشير إلى صفة ثالثة هي من أخص خصائص الفلسفة، وأعني بها «التجريد» أي إنها تحاول ما استطاعت ألا تربط الفكرة المعينة بجسم من الأجسام، بل تريد أن تصل إلى الأفكار الخالصة المجردة، وليس هذا هينا ولا يسيرا عند الكثرة الغالبة من أفراد البشر؛ لأن الإنسان مفطور بطبيعته أن يأخذ من العالم ما يصله عن طريق الحواس، ثم لا يكاد يصدق بعد ذلك شيئا، وحتى لو اضطر اضطرارا إلى التفكير فيما لا يحس بإحدى الحواس، فإنه يحاول أن يصبغه بالصبغة المادية التي يفهمها عقله، فتراه مثلا يصف الله تعالى بالنور؛ لكي يقرب إلى ذهنه صورة مجردة لا يقوى على فهمها في غير ثوبها المادي، وبديهي أن الله تعالى ليس نورا - بمعنى الكلمة المادي - كما أنه ليس حرارة أو كهرباء.
ولا تألو الفلسفة جهدا في تحطيم هذه القيود، والارتفاع بالعقل البشري إلى مستوى يستطيع معه أن يسيغ الأفكار المجرد دون أن يلجأ إلى المادة يستعين بها على تصوير ما يريد. (5) أين بدأت الفلسفة
لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك، تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير، الذي يحاول أن يوحد بين ظواهر الكون المتنافرة، والذي يرفض التسليم الساذج رفضا تاما، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر، نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه، من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح، لم ينشأ ولم ينم إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعا: هم اليونان القدماء.
إن كانت الفلسفة - كما قال بحق أفلاطون - تبنى على المعارف العلمية الصحيحة، مهما تكن قليلة ضئيلة، فلا شك في أن بلاد اليونان كانت مهدها.
فقد عرفت الصين شيئا كثيرا عن مبادئ الأخلاق العلمية التي يستعين بها الناس على معرفة طرق العيش وفن الحياة، ولكنها لم تنظر إلى ظواهر الكون نظرة علمية باحثة، وسادت في فارس أفكار عن الخير والشر، ولكنها لم تتجاوز الرغبة في انتصار الخير على الشر فيما نشب بينهما من عراك، ولم تكن ثم دراسة عقلية تسير بالفكر نحو العلم الصحيح، وامتلأت الهند بالأساطير الدينية ولم تتناول بالدرس الدقيق ظواهر الكون.
نعم كان في مصر طائفة كبيرة من العقائد تدور حول النفس وما يطرأ على الحياة بعد الموت، ولكن لم يثبت أن كان لديها من العلوم الإيجابية النظرية شيء كثير، ولو عرف المصريون كثيرا من علوم الرياضة لما رأينا في كتب فيثاغورس محاولات أولية للهندسة، مع العلم بأن عهده في التاريخ جاء بعد اتصال اليونان بالمصريين اتصالا وثيقا واستمدادهم من المصريين بعض معارفهم وحضارتهم، فليست القواعد العملية التي استعملها المصريون في أغراضهم كقياس الأرض وبناء الأهرام، هي العلم الذي قصده كوبرنيكس، وجاليلو، وكبلر، ونيوتن.
لم تستمد الفلسفة اليونانية فلسفتها من تلك الأمم القديمة، ولكن خلقها اليونان خلقا، وأنشأوها إنشاء، فهي وليدتهم وربيبتهم، ويستطيع الباحث أن يرجع بالفلسفة خطوة بعد خطوة حتى يصل إلى مهدها في بلاد اليونان دون أن يشعر في خلال البحث بحلقة مفقودة أو غامضة.
ونحن إذا ذكرنا بلاد اليونان في هذا المقام، لا نقصر هذا الاسم على هذه البلاد التي تسمى به اليوم فحسب، إنما نضيف إليها المستعمرات اليونانية - وهي في الواقع مهد الفلسفة - فقد بسط اليونان نفوذهم ونشروا سلطانهم في آسيا الصغرى وجزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا وجزء من شمال أفريقيا. في تلك المستعمرات ولدت الفلسفة وشبت، قبل أن تنتقل إلى أرض اليونان نفسها، حيث وصلت على أيدي الفحول الثلاثة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى درجة عالية من النضوج.
ومرت الفلسفة عند اليونان في مراحل ثلاث: ما قبل سقراط، وفيها نشأت الفلسفة، ثم من السوفسطائيين إلى آخر عهد أرسطو، وفيها بلغت الفلسفة اليونانية رشدها، وأخيرا ما بعد أرسطو حتى بدء العصور الوسطى، وفيها أخذت الفلسفة اليونانية في التدهور ... ولكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث سمات وصفات تظهرها وتميزها، سنحدثك عنها بعد.
الفصل الأول
فلاسفة يونيا1
كان مهد الفلسفة الذي فيه نشأت، وفي كنفه درجت، إقليم يوناني في آسيا الصغرى، منه مدينة كانت تدعى ملطية
Miletus ، فيها أضاءت نار الفكر الفلسفي خافتة محصورة أول الأمر، ثم شاء لها القدر أن يمتد نورها ويتوهج، ويتعهد بالنماء، حتى يبلغ شأوا بعيدا.
في ملطية - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخصص شطرا من حياته في التفكير المجرد من كل القيود، فنظر إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالمظاهر المختلفة، والكائنات المتنوعة، وأخذ يتفكر في خلقها ويحاول تعليلها.
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى إعمال الفكر، هذا التغير الدائب الذي يطرأ على الأشياء جميعها، فها هو ذا كل شيء - كانت ما كانت مرتبته في الحياة - يكون بعد أن لم يكن، ويظل حينا يقصر أو يطول، ثم ينحل ويتلاشى كأن لم يغن بالأمس، فأنى جاء وإلى أين ذهب؟ إنه لم يخلق من العدم ولم ينحدر إلى العدم، بل تكون من مادة موجودة فعلا، ثم استحال إلى مادة لا تزال موجودة كذلك، فمهما يكن من أمر هذه الأشياء التي تراها في الأرض أو في السماء، ومهما يكن من ألوانها المختلفة وأشكالها المتباينة، فهي جميعا أجزاء من مادة بعينها، يطرأ عليها التغير والتحول، فماذا عسى أن تكون تلك المادة؟
هذا سؤال عرضته الطائفة الأولى من الفلاسفة في يونيا، وحاولوا الإجابة عنه.
إذن فقد فكر الإنسان أول ما فكر، في «المادة» التي يتألف منها الوجود، وهذا طبيعي معقول؛ لأن عقل الطفولة الفج لا يستطيع أن يفهم أو يسيغ إلا العالم المادي الذي يحيط به، وهو لا يقوى على التفكير في المسائل العقلية غير المحسة إلا بعد النضوج، فليس غريبا أن تبدأ الفلسفة بالتفكير في المادة التي خيل إليها وقتئذ أن لا وجود لغيرها، وأن ليس الإنسان نفسه إلا ظاهرة مادية من ظواهرها، ثم تدرج صاعدة حتى تصل إلى التفكير المجرد المطلق عند أفلاطون وأرسطو.
وكان أعلام تلك المدرسة اليونية رجال ثلاثة: طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمينس. (1) طاليس
Thales
624ق.م-550ق.م (تقريبا)
أرسل الإنسان بصره إلى الكون يستطلع تلك المادة التي تتكون منها الأشياء جميعا، والتي ترتد إليها الأشياء جميعا، وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فلن يصادف إلا عددا قليلا من ألوان المادة التي يجوز عقلا أن تكون كذلك؛ إذ لا بد لتلك المادة الأولية المنشودة أن تكون مرنة شديدة المرونة في قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وألا تكون محدودة الصفات محصورة الخواص حتى تتسع لكل شيء، أفلا تستطيع أن تحزر ماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته، ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو أصبح صباح؟ إنها الماء! فليس عجيبا إذن أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، ويجهر بأن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فو غاز حينا، وسائل حينا، وصلب حينا، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد، يسبح فوق لجج مائية ليس لأبعادها نهاية، ويرجح أرسطو أن يكون طاليس قد خلص إلى هذه النتيجة لما رأى أن الحياة تدور مع الماء وجودا وعدما، فتكون الحياة حيث الماء وتنعدم حيث ينعدم.
تلك خلاصة موجزة لرأي طاليس في نشأة الكون، وقد كان عالما بالرياضة، عالما في الفلك، حتى قيل إنه تنبأ بكسوف الشمس الذي حدث سنة 585ق.م قبل وقوعه، وقيل أيضا إنه علم المصريين كيف يقيسون ارتفاع الهرم بواسطة ظله، وإنه ابتكر طريقة لمعرفة أبعاد السفن من الشاطئ بالوقوف على نشز عال من الأرض، ولكنه في الفلسفة لم يؤثر عنه إلا هذان المبدآن: الكون يتألف من ماء، والأرض قرص يسبح فوق ماء!
وإذا كانت هذه الفكرة الساذجة هي كل إنتاجه الفلسفي، فكيف جاز لنا أن نحشره في زمرة الفلاسفة، بل نجمع على أنه أبو الفلسفة ومنشئها؟
2
ولكنك إن كنت تستطيع أن تنكر على الفلسفة المائية خطرها وقدرها، فلن تنكر على طاليس أنه أول إنسان حاول أن يفسر الكون، لا بالأساطير ولا بقوى الآلهة المتعددة التي اتخذها أسلافه، بل على أساس علمي، وسواء فشلت محاولته أم لم تفشل، فهي المحاولة الفلسفية الأولى على كل حال، ولم تطالب طاليس أن يأتيك بتعليل صحيح للكون؟ ألا يكفيك أنه أثار المشكلة لخلفه؟ ألا يكفيك أنه وضع الأساس فجاء من بعده يقيمون البناء عليه؟ ثم ألا يكفيك أنه طبع الفلسفة طابعا خاصا ظل يلازمها إلى عهد سقراط؟ نعم، هو أول من أدرك أن هذه الكائنات المتباينة لا بد أن تكون قد صدرت عن أصل واحد، ثم أخذ يبحث عن ذلك الأصل، فشق بذلك الطريق، وأخذت الفلسفة تدور حول هذه المشكلة وتجيب عن سؤاله: رأى طاليس أن الماء أصل الوجود، وقال أنكسمندر: بل هو مادة لا تحدها حدود، وأعلن انكسمينس أنه الهواء، وذهب الفيثاغوريون إلى أنه العدد، وأجاب هرقليطس بل هو النار، ورده إمبذوقليس إلى عناصر أربعة، وقال ديمقريطس: إنه ذرات ... وهكذا لبث الفلاسفة يقتفون أثر زعيمهم طاليس في جوهر البحث وأساسه، وإذن فطاليس هو الذي صبغ الفلسفة فيما قبل سقراط بتلك الصبغة المادية التي عرفت بها، وحسبه ذلك خطرا. (2) أنكسمندر
Anaxemander
611ق.م-547ق.م (تقريبا)
كلا! لا يمكن أن يكون الماء أصلا للوجود، فمهما بلغ الماء من المرونة وقابلية التشكل، فهو ذو صفات معروفة معينة تستطيع أن تميزه بها عن المواد الأخرى، ومعنى ذلك أن ثمت صفات تناقض صفات الماء؛ (لأنك لا تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها، فلا تفهم الحرارة إلا إذا اقترنت في ذهنك بالبرودة، فإذا انعدم هذا التقابل انعدمت كذلك الخصائص والصفات)، وما دام الأمر كذلك، فلا يعقل أن تكون المخلوقات جميعا على تناقض صفاتها مشتقة من أصل واحد ذي صفة معينة معروفة، إنما أصل الكون مادة لا شكل لها، ولا نهاية ولا حدود.
هكذا قال أنكسمندر ثاني فلاسفة المدرسة اليونية، والذي يقال عنه: إنه كان تلميذا لطاليس لأنه عاصره وعاش معه في ملطية، وكان واسع العلم بالجغرافيا والفلك، وربما كان أول فيلسوف يوناني كتب رسائل في الفلسفة، ولكنها فقدت، وقوله هذا الذي أشرنا إليه مردود عليه؛ لأنه لا يمكن كذلك أن تنشأ الأشياء كلها ولها هذه الصفات المختلفة من مادة لا شكل لها، وإلا فمن أين جاءت صفات الحديد والنحاس والخشب وما إلى ذلك وهي مختلفة كل الاختلاف مع أنها اشتقت جميعا من مادة واحدة لا تميزها صفات كما يقول؟
كذلك لم يستطيع أنكسمندر أن يوضح في جلاء كيف تكون العالم - أو العوالم المتعددة كما كان يعتقد - من تلك المادة التي يحدثنا عنها، وكل ما تظفر به منه شرح غامض لا تكاد تتبين منه صورة جلية، ولكنه قدم لنا رأيا في نشأة الحياة وتطورها فوق الأرض لعله قريب جدا مما وصل إليه العلم الحديث في أواخر القرن الماضي، فقد كان يرى أن الأرض كانت سائلا ثم أخذت تتجمد شيئا فشيئا، وفي خلال ذلك كانت تنصب فوق الأرض حرارة لافحة تبخر من سائلها بخارا يتصاعد ويكون طبقات الهواء، فهذه الحرارة عندما التقت ببرودة الأرض كونت الكائنات الحية، وقد كانت تلك الكائنات أول أمرها منحطة، ثم سارت في طريق التطور إلى درجات أعلى فأعلى بما فطر فيها من دافع غريزي يدفعها إلى الملاءمة بين أنفسها والبيئة الخارجية. إذن فقد كان الإنسان في أول مراحل حياته سمكة تعيش في الماء، فلما انحسر الماء بفعل التبخر اضطرت الأسماك المختلفة إلى الملاءمة بينها وبين البيئة، فانقبلت زعانفها على مر الزمان أعضاء صالحة للحركة على الأرض اليابسة، وهي ما ترى من أرجل وأيد، ولعلك مدرك في سهولة ما بين هذا الرأي ونظرية «دارون» من شبه. (3) أنكسمينس
Anaximenes
588ق.م-524ق.م (تقريبا)
إذا كان الماء الذي فرضه طاليس أصلا للكون لم يصادف من العقل اطمئنانا؛ لأنه ليس من الشمول بحيث يسع الكون بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر التي ليس لها شكل ولا حدود لم تسلم من النقد، فقد نهض أنكسمينس واختار مادة ثالثة فيها الشمول الذي ينقص الماء ، وفيها الصفات التي تعوز مادة أنكسمندر: ألا وهي الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ في نظره جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت، أليست الحياة في صميمها أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ إذن فهي الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون شيئا، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر، والهواء إذا أمعن في تخلخله انقلب نارا، فإذا ارتفعت كونت الشموس والأقمار، وإذا هو أمعن في التكاثف انقلب سحابا، ثم أنزل السحاب ماء، ثم تجمد الماء فإذا هو تربة وصخور، هذا وليست الأرض إلا قرصا مسطوحا يسبح في الهواء.
وقد يظن الباحث للوهلة الأولى أن أنكسمينس قد انحط بالفلسفة عن المستوى الذي كان قد بلغه أنكسمندر؛ ذلك لأنه عاد إلى موقف طاليس، بفرضه أن العنصر الأول الذي نشأ منه الكون كان مادة معينة محدودة، ولكن مهما قيل في هذا فلا شك في أن أنكسمينس قد تقدم بالفلسفة خطوة إلى الأمام بعد أنكسمندر؛ إذ كان هذا الأخير مهوشا غامضا حين أراد أن يبين كيف تخرج المادة التي لا شكل لها هذه الأشياء التي تراها، أما أنكسمينس فيعلل تنوع الأشياء بالتخلخل والتكاثف، ولو أنا أخذنا بنظرية هؤلاء الفلاسفة القدماء من أن أنواع المادة على تعددها واختلاف ألوانها إنما نشأت في الأصل من نوع واحد لاعترضتنا مشكلة عسيرة، هي هذا الاختلاف الذي نراه في صفات العناصر الموجودة بيننا، فمثلا لو كانت هذه الورقة مكونة حقيقة من هواء، فبم نعلل لونها وسائر صفاتها؟ إما أن تكون هذه الصفات موجودة في أول الأمر في المادة الأصلية أولا، فإن كانت موجودة فيها نتج أن المادة الأولى لم تكن مادة واحدة متجانسة كالهواء، ولا بد أنها كانت مزيجا من أنواع مختلفة من المادة، وإن كانت غير موجودة فيها فكيف نشأت للأشياء خواصها؟ كيف تخرج من الهواء تلك الصفات التي نراها في الأشياء مع أنها ليست فيه؟ لعل أيسر سبيل للتخلص من هذه المشكلة هي أن نبني الكيف على أساس الكم، فنعلل الأول بالثاني، بمعنى أن صفة الشيء نتيجة كمية المادة التي تشغل الحيز، وذلك ما قصد إليه أنكسمينس بالتخلخل والتكاثف.
الفصل الثاني
الفيثاغوريون
The Phthagoreans
فيثاغورس.
أطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى زعيمهم فيثاغورس
، وهو شخصية قوية رائعة تستوقف النظر بين صفحات التاريخ، ولكنها مبهمة غامضة، لا تكاد تستبين العين قسماتها في وضوح وجلاء، فكأنما هو عملاق يروح ويغدو وراء ستار، فلا يرى منه الرائي إلا ظلا هائلا يتردد في جيئة وذهاب، وإنما طمست معالمه لاختلاف الرواية في ترجمته اختلافا واسعا، ولما شاع عنه من الأساطير والقصص، فبين أيدينا تراجم ثلاث كتبت عنه بعد موته بمئات السنين، فانتحلت له من الأخبار والمعجزات ما شاء وهم كاتبيها، حتى أصبح فيثاغورس أقرب إلى أبطال الخيال منه إلى أشخاص التاريخ.
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف في ترجمة حياته، فقد استطاع المؤرخون أن يستخرجوا من أشتات الروايات طائفة من الحقائق الصحيحة: ولد فيثاغورس بين سنتي 580 و570ق.م في جزيرة «ساموس»
1
حيث درج في طفولته وشبابه، ثم هاجر منها إلى كروتونا
Crotona
في جنوبي إيطاليا، ويقال إنه عرج على مصر وبعض بلاد الشرق فطاف في أرجائها قبل أن يلقي عصا تسياره في كروتونا، ولم يكد يستقر فيها حتى أنشأ الجمعية الفيثاغورية، وظل على رأسها يقودها ويدبر أمرها بقية حياته، ولم تكن تلك الجمعية في أول أمرها مدرسة فلسفية، بل كانت جمعية تدعو إلى الإصلاح الديني ومكارم الأخلاق، وطهارة النفس من الرجس والدنس، وكان أعضاؤها يرتدون لباسا أبيض شعارا لهم، قد آثروا في عيشهم الخشونة والتقشف؛ لأن الجسم لم يكن في رأيهم إلا سجنا حبس فيه الروح، فينبغي أن نحطم من قيوده وأغلاله ما وسعنا التحطيم، ولا بد لنا أن نسلك بنفوسنا كل سبيل لتخليصها من سجنها على ألا يكون الانتحار سبيلا مشروعا؛ «لأن الإنسان ملك لله».
ولعل ما حدا بفيثاغورس إلى إنشاء هذه الجمعية رغبة قديمة كان يطمح إلى تحقيقها منذ شبابه؛ ذلك أن طاغية جبارا يدعى «بوليكراتس» كان يحكم ساموس وطن فيثاغورس، وكان يسوم أهله الذل والعذاب، فكان ذلك حافزا لفيثاغورس في مستهل حياته على التفكير في النظم الاجتماعية القائمة، ومن أي نواحيها أصيبت بالفساد، فلما اكتمل نضوجه العقلي، وكتبت له الزعامة الفكرية وهو في كروتونا أراد أن يكون جماعة مثالية، تحقق المثل الأعلى الذي ينشده، فوثق بين أعضائها برباط الإخاء، ودعاهم أن يسلكوا في الحياة صراطا مستقيما يلتزمونه مهما كلفهم ذلك من عناء.
ولم تكن هذه الجماعة سياسية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولكن سرعان ما اصطدمت شعائرهم ونظمهم بالسياسة؛ لأنهم أرادوا أن ينشروا مبادئهم ويفرضوا تعاليمهم على أهل «كروتونا»؛ فنتج عن ذلك اضطهاد الحكومة للفيثاغوريين، فأحرقت مكان اجتماعهم، وفرقت شملهم، وقتلت بعضهم وشردت آخرين، غير أن الجماعة استردت قوتها بعد، واستمرت في عملها، ولكن لم يسمع عنها شيء يستحق الذكر بعد القرن الخامس قبل الميلاد.
كانت الجمعية الفيثاغورية ذات نزعة صوفية غامضة، وهذا ما جعل الناس يحوكون حولها الأساطير، كما كانت لهم نزعة علمية وفنية تستحق التقدير، فرقوا الصناعات والفنون والرياضة البدنية، والموسيقى، والطب، والعلوم الرياضية، حتى رووا أن فيثاغورس ابتكر 47 نظرية من نظريات أوقليدس
Euclid ، وحتى يرى بعضهم أن الجزء الأول من كتاب أوقليدس من ابتكار فيثاغورس.
اتصلت تلك الطائفة الفيثاغورية بمذهب ينتمي إلى شاعر قديم يدعى أورفيوس
Orpheus ، قيل فيما روي عنه من الأساطير أنه استطاع أن يحرك الجماد بقوة أشعاره وسحر غنائه، فاستمدوا منه كثيرا من الموسيقى وأصولها، كما أخذوا عنه القول بتناسخ الأرواح من بدن إلى بدن، ومن إنسان إلى إنسان أو حيوان، ثم اقتفوا أثره في حياة الزهد والتقشف وضرورة تطهير النفس وخلاصها مما يدنسها من آثار الجسم، ولكن الفيثاغوريين سلكوا إلى طهار النفس سبيلا قد تبدو عجيبة أول أمرها، وقد يظهر عليها أنها لا يربطها بالغرض الذي يرمون إليه علاقة أو صلة، ولكنها في الواقع سبيل مؤدية إلى الغاية المقصودة، فقد رأوا أن تطهير النفس من أدران الجسد لا تكون إلا بالتفكير في الفلسفة والعلوم؛ لأنهما مظهران للنشاط العقلي والروحي ، كما أن تعشقهما يؤدي إلى إهمال الجسد ولذائذه ... ومن هنا أخذت تصطبغ تلك الجمعية الدينية الخلقية بالصبغة الفلسفية، واستحقوا من أجلها أن يكونوا فصولا في تاريخ الفلسفة، وينتجوا رأيا في مادة الكون، هو في الواقع استمرار لما سبقهم من الآراء، ولكنه مع ذلك خطوة خطتها الفلسفة إلى الأمام؛ إذ نلمح فيه انتقالا من المادية اليونية إلى محاولة التفكير المجرد الذي لا يقوم على الحس والمادة.
ويجب أن ننبه هنا إلى شيء هام، وهو أنا إذا قلنا الفلسفة الفيثاغورية فليس معنى ذلك أن كل ما فيها من آراء قال بها فيثاغورس نفسه، وإنما قالت بها جمعيته؛ إذ لم يتسن العلم بما كان من فيثاغورس نفسه وما كان من تلاميذه.
قال الفيثاغوريون: «إن سبيل معرفة الأشياء أوصافها.» ولكن أكثر الأوصاف ليست عامة في الأشياء، فهذه ورقة خضراء، ولكن ليس كل الورق أخضر، بل بعض الأشياء لا لون له، وهذا الشيء حلو، ولكن ليس كل شيء حلوا، وهكذا الشأن في المشمومات والمسموعات والمرئيات وغيرها، إنما هناك صفة واحدة عامة في كل شيء هو العدد، فكل شيء جسماني أو غير جسماني له صفة العدد، وبعبارة أخرى: «لا يمتاز شيء عن شيء إلا بالعدد، فالعدد هو جوهر الوجود وحقيقته.» هكذا ارتأى الفيثاغوريون، ولهم في ذلك منطق مستقيم إلى حد ما؛ لأنك إن أنعمت النظر في الأشياء جميعا وجدتها تتميز عن بعضها بصفات معينة: فللوردة مثلا خواص تعرف بها، وللنار خواص بعينها وهكذا قل في كل شيء، ولكن تلك الصفات أعراض قد تكون وقد لا تكون، أي إنك تستطيع أن تتخيل في غير عسير كونا يخلو من اللون والطعم والرائحة، ولكن ثمت حقيقة لا يمكن أن نتخيل الأشياء بدونها، وهي العدد، خذ مثلا عشر برتقالات، فلا يشق عليك أن تتصور لونها أحمر أو أخضر أو بلا لون، ولا يشق عليك أن تتصورها حلوة أو مرة أو ملحة أو بلا طعم، وإذن فهذه الصفات ليست جوهرا يدوم ما دامت البرتقالات، ولكنه يستحيل عليك أن تتصورها غير قابلة للعدد؛ وعلى ذلك تكون قابلية العدد صفة لازمة لا تزول إلا بزوال الأشياء نفسها.
فكر في كل شيء تر العدد له أساسا، فنسبة الأشياء بعضها إلى بعض عبارة عن عدد، فإن قلت إن هذه الشجرة أطول من تلك كان معنى ذلك أن الوحدات الطولية في الشجرة الأولى أكثر عددا من وحدات الشجرة الثانية، وهذا النظام الذي يشمل الكون هو في حقيقته عدد أيضا؛ لأنك حين تقول إن صفوف الجند مرتبة منظمة، فإنما تعني قولك إن الجنود على أبعاد متساوية، يفصل كل جندي عن الآخر عدد من الوحدات القياسية مساو للذي يليه وهكذا، ثم استمع إلى نغمات الموسيقى وفكر في أمرها تجدها عددا كذلك؛ لأنها ليست في الواقع إلا موجات صوتية واهتزازات وترية تقاس بوحدات معروفة في علم الصوت، ويقارن بعضها ببعض بعدد تلك الوحدات.
لم تتردد المدرسة الفيثاغورية بعد ذلك في اعتبار العدد أساسا للكون وأصلا لمادته، فكل ما تقع عليه عيناك مركب من أعداد، أي إن العدد هنا كالماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس، فهذه الأرض وذلك القمر والهواء والماء والقلم والمحبرة وما إليها مصنوعة من أعداد، ولعل ما دفع الفيثاغوريين إلى هذا الرأي العجيب خلطهم بين وحدة الحاسب ووحدة الهندسة واعتبارهما شيئا واحدا، فنحن اليوم نفرق بين الواحد الحسابي الذي هو وحدة العدد والنقطة التي هي وحدة الهندسة، فالمائة من الكتب مثلا مكونة من آحاد ولكل واحد منها وجود حقيقي، أما الخط المستقيم فمكون من نقط وليس للنقطة وجود حقيقي، بل هي مفروضة فقط، ولكن الفيثاغوريين ظنوا أولا أن الواحد والنقطة شيء واحد، ثم رتبوا على ذلك الظن كل هذه النتائج الغريبة،
2
فبناء على نظريتهم هذه يكون الخط المستقيم مكونا من نقط معلوم عددها (كما أن العدد مكون من آحاد معلوم عددها)، ولما كان السطح عبارة عن خطوط مستقيمة متجاورة، والحجم عبارة عن سطوح متلاصقة، إذن فكل كتلة مادية ذات حجم هي عبارة عن مجموعة من النقط يمكن حسابها، وبعبارة أخرى هي مجموعة من الآحاد، أي إنها مركبة من الأعداد.
وقد نقدهم الفلاسفة بعد نقدا شديدا أدى الفيثاغوريين إلى تعديل بعض آرائهم.
فالأعداد إذن عندهم مادة الكون مهما اختلفت أشياؤه وصوره، ولما كانت الأعداد كلها متفرعة عن الواحد لأنها مهما بلغت من الكثرة فهي واحد متكرر، كان الواحد أصل الوجود عنه نشأ وتكون.
ولكن الأعداد تنقسم إلى فردية وزوجية، وهذا علة انشطار الكون إلى محدود ولا محدود، فالفردي اللامحدود، والزوجي المحدود، ولكن كيف ارتبط الفردي باللامحدود والزوجي بالمحدود؟ محل نظر وغموض.
وقد وضعوا قائمة بعشر أضداد هي عماد الكون وهي: (1) الفردي والزوجي. (2) المحدود واللامحدود. (3) الواحد والكثير. (4) اليمين واليسار. (5) الذكر والأنثى. (6) المستقيم والمعوج. (7) السكون والحركة. (8) النور والظلمة. (9) الخير والشر. (10) المربع والمستطيل.
وقد غلوا في نظرياتهم العددية حتى خرجوا بها عن المعقول، وأبعدوا في الوهم والخيال، فيقولون - مثلا - 1 نقطة و2 خط و3 سطح و4 صلب جامد و5 صفات طبيعية و6 حياة ونشاط و7 عقل وصحة وحب وحكمة، وهذا لا يعقل إلا أن يكون رمزا، وقد اشتهروا بالرمز حتى في أقوالهم الحكمية.
3
ويقدسون عدد 10؛ لأنه مجموع الأرقام الأربعة الأولى: 1 + 2 + 3 + 4، ويحلفون به ويضعونه في صورة الهرم هكذا:
وهذا كما ترى: إغراق في الوهم.
ويطبقون المعنويات على نظريتهم في العدد، فيقولون مثلا: إن العدل هو رد المثل إلى مثله، فإذا أساء أحد إلى إنسان أنزل به مثل ما أساء، وشطحوا في ذلك فجعلوا العدالة عددا مربعا؛ لأنه حاصل ضرب عدد متساويين: واختاروا لذلك عدد أربعة؛ لأنه يساوي 2 × 2.
وهكذا ذهبت المدرسة الفيثاغورية إلى أن جوهر الكون أعداد رياضية تتركز كلها في الواحد، وأنت ترى من ذلك أنهم خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية (الفيزيقية) التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة - هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها - أعني التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها، ولئن كان مجهود المدرسة الفيثاغورية في ذلك الانتقال ضئيلا مملوءا بالأوهام فإن الفلسفة مدينة لهم بالمحاولة الأولى في ذلك على كل حال.
وللفيثاغوريين آراء فلكية قيمة ، منها: نقضهم للفكرة السائدة في ذلك الحين من أن الأرض مركز الكون؛ إذ قرروا أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول النار المركزية، وليست هذه النار المركزية هي الشمس؛ لأن الشمس نفسها تدور حولها، وقد كانوا بذلك أول من اتجه بالنظر الفلكي هذا الاتجاه الصحيح، الذي أدركه كوبرنيكس وسار به نحو الدقة العلمية شوطا بعيدا.
الفصل الثالث
الإيليون1
بدأت الفلسفة في يونيا - كما رأيت - طبيعية مادية، لا ترى إلا أجساما يطرأ عليها الكون والتحول والفناء، وتتعاورها الحركة والسكون، وانتقلت الفلسفة إلى جماعة الفيثاغوريين، فانتقلوا بها من تلك المرحلة المادية التي اعتمدت في الوصول إلى حقيقة الكون على الحواس وحدها وما تنقله إلى الذهن من صور، إلى مرحلة لا تقتصر على الحس والمادة، بل تعدوهما إلى الفكر المجرد، ولكن دفعة الفيثاغوريين لها في هذه السبيل كانت ضعيفة محدودة، إلى أن أتيحت لها هذه المدرسة الجديدة التي قامت في إيليا
Elea ، فدفعتها إلى الأمام دفعة قوية، وظفرت الفلسفة على أيديهم بقبس من الحقيقة المنشودة، «وهل الفلسفة منذ أول عهدها بالحياة حتى اليوم إلا مجهود واحد متصل الحلقات مرتبط المراحل، للكشف عن الحقيقة التي تتجرد من سترها شيئا فشيئا؟» ولن يزال الإنسان يواصل عناء البحث والتفكير، ولن تزال الحقيقة تبرز وتبدو وتزداد في الذهن جلاء ووضوحا. (1) إكزنوفنس
Xenophanes
سنة 570ق.م
ولد في كولوفون من أعمال يونيا، وقضى الشطر الأعظم من حياته ضاربا في مناكب الأرض، يطوف المدن وينشد فيها الشعر والغناء في المحافل والأعياد، ولم يزل يجول ويطوف وينشد ويغني حتى نيف على التسعين، ولا يقطع التاريخ إن كان ذهب إلى إيليا أو لا، ولكن أخذ عنه - من غير شك - رأس هذه المدرسة وهو «بارمنيدس» بعض آرائه، فمن أجل ذلك عد من المدرسة الإيلية.
أخذ إكزنوفنس ينتقل من بلد إلى بلد، يروي للناس قصائده الرائعة، في الرثاء تارة وفي الهجاء طورا، ولكنه بث في ثنايا أشعاره آراء في الدين والفلسفة، جاءت متناثرة كأنما هي عرض غير مقصود، وهو بالإصلاح الديني أشد صلة منه بالفلسفة، فقد هاجم اليونان في دينهم هجوما عنيفا زعزع العقائد وزلزل الآلهة التي اتخذها اليونان، والتي صوروها في الأساطير والأشعار القديمة في صورة البشر، فهي تمكر وتخدع وتسرق، وتغضب وترضى، وتبغض وتحب، فأخذ إكزنوفنس يسخر من هؤلاء الذين استباحت عقولهم أن تسيغ آلهة تولد وتموت وتضطرب مع البشر فيما يضطربون فيه، وينحو باللائمة المرة على «هومر» و«هزيود» اللذين ساقا في شعرهم تلك الصور الشائنة للآلهة،
2
كلا! إنما رب الكون إله واحد؛ لأن الكمال لا يتعدد، وهو لا يشبه البشر في الصورة أو في نوع التفكير، فهو «كله عين وكله أذن وكله عقل» وهو إذا فكر في الأشياء لا يلقى في التفكير مشقة ولا عناء؛ لأن التفكير يصدر منه كما يصدر الضوء عن الشمس، ولكنا إذا اتهمنا الإنسان بأنه يصور الله على صورته هو لا على حقيقته كما هي، فسنسائل أنفسنا: وكيف السبيل إلى معرفة الحقيقة المطلقة مجردة عن فكر الإنسان، وهنا يجيب إكزنوفنس نفسه فيقول: «لم تر الدنيا ولن ترى إلى الأبد رجلا يستطيع أن يعرف الإله معرفة صحيحة دقيقة ... وحتى لو شاءت المصادفة لإنسان أن يقول في الله الحق كاملا، فهو نفسه لن يعرف أنه يقول الحق.»
ولم يعتقد إكزنوفنس أن العالم شيء والله شيء آخر، يحكمه وهو منفصل عنه كما يحكم القائد جنوده، بل الله والعالم حقيقة واحدة، وإذن فقد كان مذهبه أقرب إلى الحلول.
من ذلك ترى أن إكزنوفنس كان متمما للفيثاغوريين، فلم يعد واحدهم الحسابي يقنعه ويرضيه، بل الواحد عنده هو الكون بأسره لا يعتريه تغير ولا تبدل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وقد جاء بعده «بارمنيدس» وبنى الفلسفة الإيلية على هذا الأساس، كما سترى بعد قليل.
وقد رأى «إكزنوفنس» في العالم رأيا نحب أن نوجزه قبل أن نطوي عنه الحديث، فقد صادفته في أنحاء الأرض التي جاس خلالها قواقع وأصداف وآثار لأسماك، فأيقن أن هذا اليابس قد خرج من البحر أولا وسيغوص في البحر مرة ثانية، وبذلك ينمحي البشر من الوجود، ولكن الأرض ستعود فترتفع مرة ثانية، وسيبدأ الإنسان سيرته الاولى، ثم تغوص الأرض وينمحي الإنسان، وهكذا دواليك، فأما الشمس والنجوم التي تراها سابحة في الفضاء فقطع من البخار المشتعل، ولا تدور الشمس حول الأرض، بل تمضي في خط مستقيم، حتى إذا داهمها الليل اختفت في الأفق البعيد إلى غير رجعة، ثم تولد في عالم الغيب شمس جديدة تشرق علينا في الصباح، وهكذا تطلع على الناس في كل يوم شمس تنشأ أثناء الليل من بخار الماء ... ومهما سخرنا اليوم من ذلك الرأي الساذج، فقد كان له أثر قوي في هدم عقائد اليونان الباطلة، وكان نقضها غرضا يملي على إكزنوفنس كل أفكاره، فقد أراد بهذا الرأي الذي قد نهزأ منه أن يقنع الناس أن هذه الشمس وما إليها مهما بلغت من القوة لا يجوز أن ينزلها الإنسان منزلة العبادة والتقديس؛ لأنها تزول وتفنى. (2) بارمنيدس
ولد في إيليا سنة 514ق.م، ولم يكد يبلغ حد النضوج حتى أجال النظر في جوانب الكون، يتفكر في خلق السماء والأرض وما بينهما، يلتمس لهذه الأشياء المتنافرة في ظاهرها علة جامعة، وأصلا شاملا، فرأى الأشياء قلبا حولا، لا يكاد شيء منها يستقر على حال لحظة واحدة، فهو في غد غيره اليوم، بل قد يكون ملء ناظريك الآن ويفنى غدا، فهذا الرجل الذي تراه أمامك ولا تشك في وجوده، سيزول وينمحي بعد حين، ويصبح كأن لم يكن، فأنت على حق إن قلت إنه موجود، وأنت على حق إن قلت إنه غير موجود؛ لأن الوجود وعدم الوجود يتعاورانه، فهو هذا وهو ذاك، وقل مثل ذلك في كل شيء. وقف بارمنيدس وسط هذا العباب الزاخر من الأشياء، ينشد الحقيقة الدائمة الثابتة الخالدة، التي لا ينتابها تغير ولا فناء. نظر إلى الأشياء فأدرك أنه إنما يحس منها صفاتها، وهذه الصفات متغيرة فانية، إلا شيئا واحدا ثابتا هو الوجود
Being ، فصفة الوجود هي جوهر الكون، هي أصل الكائنات جميعا، بل هي وحدها الحقيقة وكل ما عداها وهم خادع، وهو إذا ذكر الوجود فلا يدخل في حسابه الأشياء التي تقع تحت الحس؛ لأنها فانية، وإذن فهي لا تستقيم مع خلود الوجود، إنما يعني وجودا - أي كينونة - لا يتغير ولا يصير، ولا ينشأ ولا يفنى، وليس له ماض ولا حاضر ولا مستقبل، بل هو يمتد حتى يستوعب الأبد والأزل دون أن يعرف معنى الزمن - لأن الزمن تغير وتحول - والوجود وحدة لا تنقسم ولا تتجزأ، ولا تطرأ عليها الحركة والاضطراب - لأنهما صورة للتحول وليس التحول من صفاته - وليست للوجود صفات إلا صفة واحدة هي الوجود.
ذلك - من غير شك - تجريد في الفكر لم تعهده الفلسفة من قبل، فهو لم يلتمس علة الكون في ماء ولا هواء مما يرى بالعين ويحس باليد، ولم يلتمسه في العدد الذي يتصل بالأشياء المحسة صلة وثيقة، بل أنكر الأشياء جميعا واعتبرها في حكم العدم واعترف بحقيقة واحدة لم نصل إليها من طريق الحواس، بل بالعقل المجرد الخالص، أعني بها الكينونة - أي الوجود - ولكن الطفرة متعذرة مستحيلة، فلم يستطع بارمنيدس أن يثبت على تجريده الفكري إلى النهاية، بل انكفأ راجعا إلى المادة، يلتمس عندها القالب الذي يصب فيه فكرته، فحقيقة الكون وجود مطلق غير مقيد، ولكنه يشغل حيزا من مكان، وهو كري في شكله! والحيز والشكل من صفات المادة التي تلازمها وتميزها.
من أجل هذا اختلف المؤرخون في النظر إلى بارمنيدس، ففريق يضعه في طليعة القائلين بالمذهب العقلي
Idealism
لأنه أنكر الأشياء ولم يحسب لها حسابا باعتبارها صورا زائفة باطلة، توهمنا بها الحواس الخادعة، أي إنه لا يؤمن بالحواس، ويرفض ما تقدمه إليه من صور رفضا قاطعا، ولا يركن إلا للعقل وحده يستوحيه ويستهديه في سبيله إلى الحق الخالد، وفريق آخر يصر على حشره في زمرة الطائفة المادية الطبيعية الحسية، التي ترى من الكون مادة تدرك بالحس، ألم يصور لنفسه الكون كريا تحده الحدود ويشغل المكان؟ وهل يكون ذلك إلا مادة؟
وقد بقي هذان الشطران المتناقضان عند «بارمنيدس» دون أن يؤلف بينهما، بل دون أن يدرك تناقضا بينهما، فأما خلفاؤه - أمبذوقليس وديمقريطس - فقد تناولا الشطر المادي وأقاما على أساسه فلسفتيهما، فإن كان الوجود لا يطرأ عليه الكون والفساد، والوجود قوامه المادة في رأيهما، إذن فالمادة لا تستحدث ولا تفنى، وأما ما نرى من حدوث الأجسام وفنائها، فهو تجمع الذرات المادية أو تفرقها، أما جوهرها وحقيقتها فأزلي أبدي.
وبقي الشطر العقلي المجرد من فلسفة بارمنيدس لا تمتد إليه يد البحث حتى أدركه أفلاطون فهذبه وسما به إلى مستوى التجريد الخالص.
وأنت ترى من ذلك في وضوح أن بارمنيدس كان حلقة الاتصال بين مرحلة طبيعية حسية سبقته، ومرحلة عقلية ستجيء من بعده. (3) زينو
zeno
ولد في إيليا نحو سنة 489ق.م، انتهت به الدراسة والبحث إلى أن يذهب مع بارمنيدس فيما ذهب إليه، وأخذ يكتب فصولا لا يضيف فيها إلى الفلسفة جديدا، بل يؤدي بها رأي سالفه.
فهو يرى ما ارتآه بارمنيدس في نظرية «الوجود» وفي أن عالم الحس وهم باطل، يعتريه التغير والزوال، مع أن الحقيقة الخالدة لا تتغير ولا تزول، ولكن لم يرد أن يسوق الفكرة ليفرضها عليك فرضا، لا يستند إلى الحجة المقنعة والدليل المبين، بل يسلك بك طريقا مستقيمة، إلا تكن مؤدية إلى غاية من اليقين الثابت فهي تلقي في نفسك الحيرة، وتبعثك على التفكير.
انظر إلى العالم الحسي، أعني عالم الأشياء: الأرض والسماء وما يحويان من الجوامد والأحياء، تلاحظ فيه خاصتين واضحتين؛ فهو متغير متحول، وهو كثرة من الأفراد والأنواع والأجناس، ونحن إنما نزعم لك أن حقيقة الكون لا تعرف ذلك التغير والتحول ولا هذه الكثرة المتنافرة، فهي ثابتة على صورة واحدة، وهي شيء واحد لا كثرة فيه، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن جوهر الكون حقيقة لا تتحرك ولا تتعدد، فأما الحركة التي نراها تطرأ على الأشياء، وأما تعدد الكائنات، فكلاهما مستحيل لا يؤيده الدليل، وإذا ثبت ذلك لزم أن يكون مبعثهما - أي الأشياء نفسها - مستحيلا كذلك، وإنما هي ظلال تنخدع بها الحواس، لا تمت إلى الحقيقة نفسها بسبب، اللهم إلا إن كانت سترا تكمن الحقيقة وراءه، وهاك الدليل على بطلان الكثرة والحركة. (3-1) الدليل على بطلان الكثرة
إن كانت الكثرة حقيقة واقعة - ونعني بالكثرة أن الكون ليس شيئا واحدا بل وحدات كثيرة متراكمة - كان الكون لا متناهيا في الكبر، ولا متناهيا في الصغر في وقت واحد، فهو لا متناه في الصغر؛ لأنه مؤلف من وحدات كما فرضت أولا، ولا بد أن تبلغ تلك الوحدات من الصغر حد اللانهاية بحيث لا يكون لها حجم؛ لأنه إن كان للوحدة حجم سقطت عنها صفة الوحدة وأصبحت قابلة للانقسام إلى وحدات أصغر منها، فإذا سلمنا بأن كل وحدة على انفراد لا حجم لها لزم أن يكون الكون الذي يتكون منها لا حجم له كذلك؛ لأنه حاصل جمعها.
وكذلك يكون الكون لا متناهيا في الكبر؛ لأن له جرما لا شك فيه، وكل جرم قابل للانقسام إلى جزيئات لا نهاية لعددها، ومهما بلغت تلك الجزيئات من الصغر، فهي إذا ضربت في عدد لا نهائي، كان الناتج كونا عظيما يمتد إلى ما لا نهاية.
وإذن ففرض الكثرة يؤدي إلى نتيجتين متناقضتين لا يسلم بهما معا منطق سليم، فلم يعد أمامك سبيل إلا أن تنكر إنكارا باتا، وأن تسلم بأن الكون كله شيء واحد لا يقبل التجزئة، وأن هذه الأجزاء التي تراها متفرقة باطلة ليس لها وجود. (3-2) الدليل على بطلان الحركة (أ)
إذا أردت أن تقطع مسافة ما، فستقطع نصفها الأول ويبقى أمامك نصفها الثاني، ثم ستقطع نصف هذا النصف ويبقى نصفه الآخر، وهكذا ستظل تقطع نصفا ويبقى نصف إلى ما لا نهاية، وإذن فلن تصل إلى غايتك المقصودة إلى الأبد. (ب)
تسابق رجل وسلحفاة، فهب أن السلحفاة تقدمت عشرة أمتار قبل أن يبدأ الرجل: نظرا لبطء سيرها، وكانت سرعة الرجل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فلما بدأ الرجل وقطع عشرة الأمتار التي تفصله عن السلحفاة، وجد أنها قد تقدمت مترا (أي عشر المسافة التي قطعها هو) فلما قطع هذا المتر كانت السلحفاة قد تقدمت عشر المتر، فإذا قطع هذا العشر، تكون قد تقدمت جزءا من مائة من المتر ، وهكذا يظلان إلى ما لا نهاية، فلو ظل المتسابقان إلى آخر الدهر فلن يلحق الرجل السلحفاة. (ج)
إذا انطلق سهم في الهواء، فلا بد أن يكون في أية لحظة زمنية ثابتا في مكان معين؛ لأنه لا يجوز أن يكون في اللحظة الواحدة في مكانين مختلفين، ولكن إذا كان السهم في كل جزء زمني ساكنا في مكان بعينه، لزم أن يكون في مجموع الفترة الزمنية ساكنا كذلك؛ لأن استمرار السكون ينتج سكونا ولا يولد حركة.
من هذه الأمثلة الثلاثة، يتضح أن الحركة مستحيلة الحدوث وإن خيل إلينا أنها حقيقة واقعة؛ لأنك - كما ترى - إن فرضت حدوث الحركة، تورطت في سلسلة من المتناقضات، لا تستقيم مع العقل والمنطق.
وليست هذه الفروض التي يتقدم بها «زينو» صبيانية تافهة، كما يبدو للنظرة العجلى، بل قد آثار بها مشكلة لا تزال حتى اليوم مجال البحث والنظر، هي مشكلة الزمان والمكان: هل هما محدودان أم لا نهائيان؟ فمثلا مجرد القول أن ثم مكانا اعتراف ضمني بأنه محدود، ولكنا نعود فنقول من جهة أخرى ماذا عسى أن يكون خارج تلك الحدود غير مكان آخر وآخر إلى ما لا نهاية؟ وإذن فالمكان لا نهائي ولا تحده الحدود!
أثار زينو هذه المشكلة وهو في سبيل البرهنة على استحالة الكثرة والحركة، وقد خلص من ذلك إلى نتيجته التي كان يرمي إليها، وهي أنه ما دام في فرض الكثرة والحركة كل هذا التناقض فلا يمكن أن تكونا حقيقتين، ولا بد أن يكون في الوجود كائن واحد - كما قال بارمنيدس - هو الوجود نفسه، في وحدة لا تعرف التعدد، وفي سكون لا يعرف الحركة، وعلى أساس هذا التناقض نفسه، أنكر «كانت» فيما بعد حقيقة المكان والزمان وقرر أنهما باطلان وليس لهما وجود في الواقع الخارجي، بل هما من خلق أنفسنا، وحيلة اخترعتها عقولنا لتستعين بها على التعبير عن أفكارنا؛ إذ كنا لا نستطيع أن نفكر تفكيرا مطلقا بمعزل عنهما.
ولما كان مبعث هذا التناقض كله هو اختلاف في حقيقة الكون - هل هو واحد فقط ليس له مكان بحكم واحديته ولا زمان بحكم سكونه؟ أو هو كثير توجد وحداته في المكان وتتحرك في الزمان؟ - فقد تقدم هيجل
Hegel
في العصور الحديثة بحل يوفق بين الطرفين، فليس الكثير والواحد طرفين متناقضين فيما يرى، بل هما وجهان لحقيقة واحدة يلتقيان في نهاية الأمر لو أنك سموت بتفكيرك إلى مرتبة فوق المستوى الضيق المعهود، يقول «هيجل» إن الكمية في معناها الصحيح هي كثير في واحد، وواحد في كثير، ولا يمكن الفصل بين العنصرين؛ فكومة القمح وحدة ولكنها تتألف من أجزاء كثيرة، فهي واحد إن نظرت إليها من ناحية، وهي كثير إن نظرت إليها من ناحية أخرى، وقل مثل ذلك في كل شيء، هو واحد باعتبار جملته، وهو كثير باعتبار وحداته التي يتألف منها، ومن الخطأ أن تحاول التفريق بين هذين الوجهين، فلن تجد واحدا لا يتكون من وحدات كثيرة، ولن تجد وحدات لا تأتلف في واحد، ولو حاولت ذلك كنت كمن يريد أن يظفر بعصا لها طرف واحد.
وقد كان أرسطو يعد زينو مخترع الجدل، وليس يعنى أي جدل، إنما يعنى الجدل الفلسفي، وهو البحث على الحقيقة من طريق المناقشة والحوار وإظهار المتناقضات عن هذا النمط، وهو نوع مهر فيه أيضا «أفلاطون» و«كانت» و«هيجل». •••
وأيا ما كان فقد خطت الفلسفة الإيلية بالفكر الإنساني خطوة فسيحة نحو توحيد الحقيقة، والتوحيد - كما تعلم - هو الهدف الذي يسير العقل نحو الوصول إليه في كل ناحية من نواحيه: يقصد إليه في الدين فنراه يسير من تعدد الآلهة إلى توحيدها، ويقصد إليه في العلوم فنراه يجمع أشتات الحقائق تحت طائفة محصورة من القوانين، ويقصد إليه في الفلسفة فينشد جوهرا واحدا يطوي تحت لوائه كل ظواهر الكون، مهما اشتدت تباينا وتنافرا.
إلا أن توحيد الحقيقة عند الإيليين، لم يكن تاما كاملا، فلو أنعمنا النظر في فلسفتهم ألفينا فيها غموضا، فقد زعموا أن جوهر الكون وحقيقته هو الوجود نفسه، ثم جمدوا عند هذا الحد، ولم يبينوا كيف صدرت الأشياء من تلك الحقيقة الأولى ، بل عمدوا إلى إقامة الدليل على بطلانها، فهل يريد «زينو» أن ينكر العالم الحسي بتاتا؟ هل ينكر أنه كان يمشي في شوارع «إيليا »؟ وإذا مد يده فهل ينكر أنه مدها؟ وهل إذا خرج من بيته إلى مكان آخر ينكر أنه تحرك؟ الظاهر أنه لا يريد ذلك، وإلا كانت فلسفته مهزلة، وهب أنه يريد أن يقول إن هذا العالم الحسي وهم؛ فذلك لا يمنع من المطالبة بتعليل هذا الوهم نفسه: كيف نشأ، وما علاقته بالحقيقة الخالدة؟ ثم أليس الوهم في ذاته حقيقة كالحقيقي سواء بسواء، كلاهما موجود وكلاهما ينشد علته؟ سم هذا الكتاب الذي بيدك وهما، أو سمه حقيقة، فلا نحسب أن اختلاف الأسماء يزحزح الموقف قيد أنملة؛ وبناء على هذا تكون الفلسفة الإيلية قد خلفت وراءها عالمين يقفان جنبا إلى جنب، دون أن تؤلف بينهما في وحدة متناسقة: عالم الحقيقة أي الوجود، وعالم الوهم أي الأشياء.
ولعل الإيليين قد اضطروا إلى هذه التثنية اضطرارا، حين أعجزهم تعليل نشأة العالم الحسي من الحقيقة الخالدة، وقد كان ذلك العجز محتما لا مفر منه ما داموا قد فرضوا الحقيقة مجردة من الصفات والحركة، وإذن فيستحيل أن يخرج عالم مليء بالصفات والخصائص من أصل غير ذي صفة أو خاصة.
ألق بنظرك إلى الوراء، لترى معالم الطريق التي سلكتها الفلسفة من أول عهدها حتى تركها الإيليون، فقد استهلت المدرسة اليونية تفكيرها بإثارة هذا السؤال: ما هو الأصل الأول الذي تفرعت عنه الأشياء؟ وأجابت هي نفسها بأنه الهواء أو الماء أو ما إليهما، ثم أعقبتها المدرسة الثانية - أعني الفيثاغوريين - فانتهى بها التفكير إلى أنه الأعداد الرياضية، ثم تلتها المدرسة الثالثة - وهم الإيليون - فقررت أنه الوجود المطلق المجرد.
أمعن النظر إلى آراء هذه المدارس الثلاث، تجد أن الأولى قد أضافت إلى أصل الأشياء كما وكيفا؛ لأنها فرضت أنه مادة ذات حجم وصفات، أن الثانية قد أنكرت أحدهما وأبقت الآخر، أنكرت الكيف وأثبتت الكم، فأصل الكون أعداد رياضية لها كمية وليس لها صفات، وأن الثالثة قد جردته من الكم والكيف جميعا، فلا هو كمية مادية تقبل التجزئة، ولا هو تميزه صفات وخصائص وأشكال، بل هو فكرة مجردة من كل شيء، هو فكرة الوجود أي الكينونة لا أكثر ولا أقل.
وأنت ترى من ذلك أن انتقال الفلسفة من المدرسة اليونية الأولى إلى المدرسة الإيلية الثالثة، هو انتقال من المرحلة الحسية الساذجة إلى مرتبة الفكر المجرد، والفيثاغوريون هم حلقة الاتصال.
الفصل الرابع
هرقليطس
Heracleitus
ولد في أفسوس من أعمال آسيا الصغرى حوالي سنة 535ق.م، ومات سنة 475ق.م، بعد أن عمر نحو ستين عاما، كان معاصرا في بعضها لبارمنيدس، أي إنه ساير المدرسة الإيلية وهي في أعلى ذراها.
وكان هرقليطس سليل أسرة أرستقراطية نبيلة، لها المنزلة الأولى بين أهل المدينة، وقد شاء له الحظ أن يدرج صاعدا في وظائف أفسوس حتى حل أسمى مناصبها فكان حاكمها المسيطر، ولعل أبرز ما في خلقه شعوره بالعظمة والكبرياء، وقد بالغ في ذلك إلى حد الغلو والإسراف، كأنما هو من طينة غير طينة البشر! فلم تكن عامة الشعب خليقة عنده بنظرة عطف، ولا هي جديرة بأن ينزل إلى حضيضها من عليائه ليشاطرها أسباب العيش، وكيف ترجو منه أن يضطرب مع الناس في حياتهم وهم في رأيه قطعان من الغنم حقت عليهم الضعة والمهانة؟! بل جنح به الكبرياء إلى احتقار أعلام الفكر من أسلافه؛ فإكزنوفنس وفيثاغورس نكرتان جديرتان بالإهمال، و«هومر» فدم غبي يجب أن تلهب ظهره عذبات السياط، و«هزيود» لا يرتفع كثيرا عن غمار السوقة، فهو واحد منهم «لا يفرق بين الليل والنهار»! فإذا كان ينزل قادة الفكر تلك المنزلة، فأين يقع الشعب من نفسه؟ هم «أنعام تؤثر الكلأ على الذهب» وهم «كلاب تنبح كل من لا تعرفه»، وبدهي أن تلك النزعة الأرستقراطية لم تكن لتطمئن إلى الديمقراطية السائدة عندئذ في مدينة أفسوس، فهاجمها هجوما عنيفا، ولم يدع في جعبته سهما للنقد إلا طعنها به.
كتب هرقليطس رسالة نثرية ضمنها آراءه الفلسفية كانت معروفة في عهد سقراط، ولكن لم يبق لنا منها إلا أجزاء متناثرة بلغت من غموض الأسلوب وتعقيده حدا تكاد تستعصي معه على الأفهام، حتى أصبح هرقليطس يلقب بالغامض تارة وبالمظلم تارة أخرى، وقد قال «سقراط » إن ما فهمه من كلامه قيم عظيم، وما لم يفهمه يجب أن يقاس على ما فهم، ويميل بعض مؤرخي الفلسفة إلى القول بأنه إنما تعمد ذلك الغموض تعمدا لتنغلق فلسفته على عامة الناس الذين لم يقصد إليهم فيما كتب، إنما سطر ما سطر ليخاطب العقول المستنيرة الممتازة وحدها، وحتى هؤلاء لم يكن يعنيه في كثير أو قليل كيف تقع رسالته من أفهامهم، وما عليه ألا يفهموا، وهو من اتخذ لنفسه السماء موضعا؟ إنما الخير لهم إن ساغتها نفوسهم، والخسارة عليهم إن استعصى عليهم إدراكها، ولكنا نرجح أنه لم يتعمد ذلك الغموض ولم يقصد إليه، كما أنه في الوقت نفسه لم يعن بالتحليل والشرح، فصب أفكاره في صفحات قليلة يحتاج فهمها إلى صبر طويل، ومجهود شاق عنيف.
لقد عرف أن المدرسة الإيلية التي كنت تقوم حينئذ في جنوبي إيطاليا كانت تنادي بأن حقيقة الكون هي الوجود نفسه، فليست ظواهر الكون حقيقة في ذاتها، ولكن وجودها هو الحقيقة، أي إن جوهر الكون هو الكينونة الدائمة التي لا يجوز عليها أن تتحول إلى غير ما هي عليه، فهي شيء واحد مطلق لا تتعلق به الصفات، اللهم إلا واحدة: هي صفة الوجود وكفى، أما ما تدركه الحواس من جزئيات تتغير وتتحول وتنشأ وتفنى فوهم لا يمت إلى الحقيقة بسبب من الأسباب، تلك كانت فلسفة الإيليين، أو إن شئت تخصيصا فقل هو ما يظهر من فلسفة بارمنيدس، فعارضه هرقليطس ووقف من رأيه موقف النقيض، فليست الكينونة ثابتة ولا خالدة، وليس الكون دائما على صورة واحدة، فهو متغير متحول دائما، وهو صائر أبدا إلى غير ما هو عليه، فكل لحظة تباين اللحظة التي سبقتها كما تخالف التي تليها، وهذه الاستحالة أو الصيرورة من صورة إلى صورة هي حقيقة الكون، فلا تفتأ الأشياء تتقلب من حال إلى حال إلى آخر الأبد، دون أن تدوم أو تثبت على حال بعينها لحظة واحدة.
ولا يقف هرقليطس عند إنكار الدوام المطلق فحسب، بل إنه كذلك لينكر الدوام النسبي للأشياء، فقد يخيل إلينا أن لكل شيء أجلا محتوما، وأن آجال الأشياء تختلف طولا وقصرا فكلها تنشأ وتظل باقية بين الكائنات حينا من الدهر، ثم تزول وتفنى، فلا فرق بين هذه الحشرة وذلك الجبل من حيث البقاء، إلا أن تلك الحشرة لن تدوم أكثر من سويعات، وأن هذا الجبل سيخلد قرونا وقرونا، نقول قد يخيل إلينا أن للأشياء آمادا تظل فيها حافظة لصورة ثابتة لا تتغير، فنعتقد أن الحشرة ستدوم على حال بعينها بضع ساعات، وأن الجبل سيدوم على حال بعينها قرونا، ولكن هرقليطس يرفض حتى هذا البقاء المؤقت، وعنده أن لا شيء يدوم على حال معينة لحظتين متتابعتين، وأن هذا البقاء الذي ننسبه للأشياء مع اختلاف في الطول والقصر باختلاف الأشياء نفسها خداع من الحواس لا يتفق مع الواقع، كما يخيل إلينا، مثلا: إن الموجة تظل هي بعينها تحبو على سطح الماء حتى ترتطم على صخرة الشاطئ، مع أن الحقيقة المعروفة أن الموجة وإن احتفظت بصورتها الخارجية فإن ماءها الذي تتكون منه يتغير في كل لمحة زمنية، وهكذا الأمر في كل شيء، قد تدوم صورته الخارجية حينا من الزمن يطول أو يقصر، فينخدع الإنسان بهذا الثبات الصوري، ويظن أن التغير لا يطرأ على جوهره كذلك، والواقع أن مادته في تجدد وتغير لا ينقطعان، فهذا الطود الراسخ، وإن خيل إليك أنه ثابت على الزمان، إنما تتغير مادته في كل لحظة كما يتغير ماء الموجة، فتتدفق فيه مادة، وتخرج منه مادة، من دقيقة إلى دقيقة، وليس جبل اليوم هو جبل الأمس، ولن يكون جبل الغد، بل إن هرقليطس لا يقف عند هذا الحد من استمرار التغير، فهو لا يكفيه أن يطرأ التغير على الأشياء في فترات متعاقبة، كأن تقول مثلا: هذه الزهرة محتفظة بصورتها ومادتها الآن، وستتغير بعد لحظة، كلا بل يزعم أنه لا تمضي على الشيء لحظة زمنية واحدة مهما بلغت من القصر إلا ويطرأ عليه تغير ما، ومعنى ذلك أن الشيء المعين يكون موجودا ومتغيرا في نفس الوقت، وبعبارة أخرى يكون موجودا وغير موجود في آن واحد، فهو موجود بصورته غير أن مادته متغيرة أبدا لا تستقر على حال، وهذا الاتحاد الآني (الزمني) بين الوجود واللاوجود هو معنى الصيرورة التي يذهب هرقليطس إلى أنها جوهر الكون وحقيقته.
ولعلك تلاحظ اتساع مسافة الخلف بين وجهتي النظر عند هرقليطس من ناحية والمدرسة الإيلية من ناحية أخرى، فهذه كما علمت تقسم الكون إلى شطرين: أحدهما هو الحقيقة الخالدة، وثانيهما وهم باطل، أما الأول فهو مجرد الوجود، وأما الثاني فهو الأشياء التي ندركها بالحواس، ولما كانت هذه الأشياء باطلة فقد اعتبرتها المدرسة الإيلية غير موجودة أصلا، وإذن فكل ما ليس بوجود لا وجود له على الإطلاق، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن المدرسة الإيلية قد شطرت الكون إلى شقين: الوجود واللاوجود وأثبتت الأول واعترفت به، وأنكرت الثاني ورفضته، أما هرقليطس فيزعم أن كلا الشطرين الوجود واللاوجود حقيقة؛ لأن كل شيء موجود وغير موجود في آن واحد، فهذا الكتاب الذي بيدك موجود تلمسه وتراه إلا أن مادته متغيرة متبدلة بحيث لا يبقى الكتاب هو هو لحظة واحدة، ومعنى ذلك أن ليس له وجود ثابت، والتقاء هذين الوجهين يكونان الصيرورة التي هي أساس الكون.
وليس الوجود واللاوجود هما الضدين الوحيدين اللذين يلتقيان وينطبقان، بل إن في الكون لآلافا من النقائض المتطابقة المتناسقة، وإن شئت فقل ليس في الكون إلا أضداد ونقائض تنسجم في وحدة متناغمة لا نبو فيها ولا شذوذ، وحتى لو تنازعت النقائض، فليس تنازعها الظاهر في الحقيقة إلا أساس حياتها، وإن يوما ينمحي فيه ما بين الأشياء من نزاع واختلاف لهو اليوم الذي تنتهي فيه الحياة ويسود الموت؛ لهذا لم يوافق هرقليطس «هومر» في دعائه بأن تزول أسباب التخاصم بين الآلهة والبشر، ويقول إنه لو استجيب هذا الدعاء لانمحى الكون وآل إلى الفناء.
تلك آراء هرقليطس فيما وراء الطبيعة، وله مذهب في نشأة الطبيعة يجدر بنا أن نذكره في شيء من الإيجاز: فهو يزعم أن النار أصل الكون، وهذا الكون موجود منذ الأزل، لم يخلقه إله ولا بشر، إنما نشأ بذاته، فقد كان وهو لا يزال الآن ولن يزال إلى الأبد نارا حية خالدة، فكل شيء يخرج من النار وإلى النار يعود، فمهما تنوعت الكائنات فقد صدرت عن أصل واحد هو النار، ولها مرجع واحد هو النار، وإن شئت فقل إن النار الأبدية تستطيع أن تستبدل نفسها بأي شيء، كما يستطاع استبدال أي شيء بالنار، وكما يمكنك أن تحول الذهب إلى سلع، وأن ترد السلع إلى ذهب، فكذلك ما يقع تحت حسك من أشياء هو في الواقع صور مختلفة لمادة واحدة هي النار، ولعلك تلاحظ في غير عناء العلاقة القوية بين مذهبيه في الطبيعة وفيما وراء الطبيعة، فالأول وليد الثاني؛ لأن هرقليطس حين التمس مادة تلائم ما ارتآه في صيرورة الأشياء وتغيرها المستمر لم يجد عنصرا أكثر من النار حركة وسرعة تحول، فهي لا تثبت على حال واحدة لحظة واحدة، وهي تستطيع أن تبتلع الأشياء جميعا ثم تحولها إلى دخان متصاعد، وهو يزعم أن الكون قد نشأ في أول الأمر بأن تحولت النار الأولى إلى هواء، والهواء إلى ماء، والماء إلى يابس، وهذا ما يسميه بالطريق إلى أسفل، ويقابله الطريق إلى أعلى وهو تحول اليابس إلى ماء، والماء إلى هواء، والهواء إلى نار مرة ثانية.
وليست هذه الحياة التي تدب في الأحياء، وهذا النشاط العقلي الذي يميز الإنسان إلا قبسا من تلك النار، فكلما كثرت النار في جسم ازدادت حيويته واشتد نشاطه، وكلما أظلم الشيء - أي قل ما فيه من نار - كان أقرب إلى الموت وأدخل في عالم اللاوجود، وإذا كانت هذه النفس الإنسانية التي تحملها بين جنبيك شعلة من تلك النار الأبدية فهي بحاجة إلى وقود يغذيها، وهي تحصل على غذائها هذا من طريقين: الحواس والتنفس، فهما ينقلان إليها من الحياة الخارجية صورا من ناحية وهواء - أي نارا - من ناحية أخرى، يعوضانها ما عساها أن تفقده، فليست النفس الإنسانية منفصلة مستقلة عن الحياة العامة الكونية التي تغمر الوجود وتتغلغل في أجزائه وأنحائه، بل هي جزء منها مرتبط بها، وإذا ما انقطعت بينهما أسباب الاتصال فقدت النفس حيويتها وأدركها الموت.
وبين الحياة والموت مرحلة متوسطة: هي النوم، حيث تعطل الحواس، وهي أحد الطريقين اللذين يصلان النفس بالحياة الخارجية، ويبقى طريق واحد هو التنفس، وهو يفرق كالمدرسة الإيلية بين الحواس والعقل، وينكر أن تكون الحواس سبيلا إلى المعرفة الحقة، إنما هي أداة يستعين بها العقل على التماس الحقيقة الخالدة، وهذه الحقيقة لن تكون يوما فيما تنقله الحواس من صور، بل يدركها العقل وحده، وعنده أن الحواس الخادعة مسئولة عما ألقي في روع الإنسان من خدعة الدوام الذي ينسبه للأشياء، أما الصيرورة - أي التغير الدائم - فحقيقة لا يقوى على إدراكها إلا العقل المجرد، وإدراك الصيرورة وقانونها هو رسالة الإنسان في الحياة، وهو السبيل إلى السعادة؛ لأن في تفهم قانونها شعورا بالاطمئنان والرضى، وما دمت تعلم أن قوامها الجمع بين الأضداد فلا ينسجم الكون ويتناغم إلا إذا التقى الخير والشر، ولا يستقيم إلا مع السرور والألم والبقاء والفناء، وحسبك أن تعلم هذا لتنعم بالسعادة التي تريد.
الفصل الخامس
إمبذقليس
Empedocles
ولد في صقلية حوالي سنة 495ق.م، وتوفي حوالي سنة 435ق.م، ولا نكاد نذكره حتى نذكر معه فيثاغورس لشدة ما بينهما من شبه، من حيث الشخصية القوية الساحرة التي ملكت على الخلف ألبابهم، فأوحت إليهم طائفة من الأساطير والقصص، انتحلوها انتحالا، وأضافوها إليه حتى تراكمت حوله، فغاص الرجل تحت أكداس من نسج الخيال، كادت تنمحي في غمارها معالم حياته الحقيقية التي يعنى بها التاريخ، ومهما يكن من أمره فقد كان خطيبا مصقعا، طلق اللسان، ساحر البيان، يرسل القول فينفذ إلى قلوب السامعين ويملك منها الزمام، وسرعان ما تولى زعامة الشعب في بلدته بصقلية يناضل عن حقه وحريته، ويذود عن ديمقراطيته عدوان الخصوم من دعاة الأرستقراطية حتى انتهى به الأمر إلى النفي والتشريد.
لم يكن إمبذقليس في فلسفته مبدعا منشئا، ولكنه استعرض مجموعة الآراء المتباينة التي قدمها أسلافه، فكانت رسالته أن يوفق بينها ويدني أطرافها المتناقضة في نظام واحد مستقيم، دون أن يضيف إليها فكرا جديدا.
فلذلك «بارمنيدس» قد خلف وراءه فلسفه محورها أن أساس الكون وجود مطلق مجرد عن الأجسام يدركه العقل، وتضيف إليه الحواس عالم الأشياء الذي هو في حكم العدم لأنه وهم خادع.
وذلك هرقليطس من ناحية أخرى، ينقض رأي بارمنيدس، ويثبت أن التحول والتغير حقيقتان لا تنكران، وأنهما جوهر الكون وأساسه، فليس الكون في رأيه كينونة دائمة على صورة واحدة لا تتغير ولا تتحول، إنما هو قلب حول، لا يستقر على حال واحدة لحظة واحدة.
هذان رأيان متناقضان تعاقبا في تاريخ الفلسفة، ينقض الثاني ما أثبت الأول، فجاء إمبذقليس وحاول أن يؤلف منهما حقيقة واحدة، فوفق فيما أراد إلى حد كبير، فأما استحالة الخلق والفناء والتغير والتحول الذي ذهب إليها بارمنيدس، فتنصب على الذرات المادية التي يتكون منها الوجود، فهي كم محدود لا يزيد ولا ينقص وبذلك يتحقق شرط الدوام والثبوت، وأما ظاهرة التغير والحدوث فتطرأ على الأجسام من حيث الصورة، فهذه المائدة التي أمامك قد تتلاشى وتتحول إلى صور أخرى من المادة، ولكن ذراتها التي تتكون منها ستبقى هي هي خالدة ثابتة، ولن تفنى منها ذرة واحدة، وبهذا نكون قد وفقنا بين الصيرورة من ناحية والدوام من ناحية أخرى، وهكذا جمع إمبذقليس بين طرفي النقيض، فمهد الطريق أمام خلفه أناكسجوراس وجماعة الذريين كما سترى فيما بعد.
ولم يقتصر إمبذقليس على التوفيق بين هذين النقيضين، بل تناول طرفين آخرين، وقرب ما بينهما من شقة الخلاف، ففلاسفة المدرسة اليونية من ناحية يقررون أن الأشياء جميعا تتألف من مادة بعينها، وإن اختلفت صورها وتباينت أشكالها، فهي الماء عند طاليس، وهي الهواء عند أنكسمينس، وفي ذلك اعتراف صريح بإمكان تحول هذه المادة إلى ألوان شتى، ما دام هذا الخشب وذاك الحديد وما إليهما من ضروب المادة التي لا تكاد تقع تحت الحصر هي في أصلها ماء أو هواء، ومعنى ذلك اعتراف صريح بإمكان تحول هذه المادة إلى ألوان شتى، ما دام هذا الخشب وذاك الحديد وما إليهما من ضروب المادة التي لا تكاد تقع تحت الحصر هي في أصلها ماء أو هواء، ومعنى ذلك أن الماء أو الهواء يجوز عليه أن يكون نحاسا أو خشبا أو حديدا أو ما شئت من ألوان المادة المتباينة، أي يجوز عليه التغير، ولكن بارمنيدس من ناحية أخرى يصر على أن مادة الوجود تظل كما هي على صورتها، ويستحيل عليها التغير والتحول، وليس هذا الخلاف الذي تراه بين الأشياء إلا ضربا من ضروب الخداع.
تناول إمبذقليس أطراف النقيضين مرة ثانية ليوفق بينهما، فإن كانت المادة الموجودة لا يجوز لها أن تنقلب مادة أخرى تباينها فذلك صحيح مسلم به، على أن يتناول هذا الحكم العناصر الأولى وحدها، فلن تكون النار ماء، ولن يصير التراب هواء، أعني أن إمبذقليس عدل قليلا في مبدأ بارمنيدس، فليس الوجود عنصرا واحدا متجانسا يظل كما هو لا يتغير، إنما هو مجموعة من العناصر، أو إن شئت تحديدا لرأيه فقل إنه أربعة عناصر: التراب والهواء والنار والماء، ويستحيل على واحد من تلك العناصر أن ينقلب إلى صورة أخيه، وإذا كنا نرى ملايين وملايين من ألوان المادة، فهي مزيج من تلك العناصر الأربعة الأولى، وتختلف الأشياء باختلاف نسبة المزج بين تلك الأصول الأربعة، وهكذا استطاع إمبذقليس أن يؤيد بارمنيدس فيما ذهب إليه من دوام العناصر الأولى واستحالة تغيرها، وأن يؤيد في الوقت نفسه المدرسة اليونية فيما ذهب إليه من تغير العنصر الأول وتحوله وصيرورته إلى ضروب شتى من ألوان المادة.
ولكن ائتلاف العناصر الأولى وانحلالها يتضمن اعترافا بوجود الحركة بين أجزائها؛ إذ لا يمكن أن تكون تلك العناصر ساكنة، ثم يسعى بعضها إلى بعض حينا، ويدبر بعضها عن بعض حينا آخر، فكيف نعلل هذه الحركة، ومن ذا أنشأها وأوجدها بادئ ذي بدء؟ أما المدرسة اليونية فلا تتردد في أن تعترف بأن المادة فيها القوة الدافعة التي تولد الحركة بنفسها إذا دعتها الحال إلى الدفع والحركة، فهواء أنكسمينس مثلا يحمل في صلبه قوة كامنة تدفع به إلى هنا وهناك، كما تشكله في هذا الشيء أو ذاك، أما إمبذقليس فيرفض ذلك رفضا باتا وينكره إنكارا قاطعا، فالمادة موات مطلق لا حياة فيها، ولا يمكن أن تكمن ذرة واحدة من القوة بين ثناياها، وإذن فلم يبق إلا أن نسلم بأن القوة التي تحرك المادة هي قوة خارجة عنها، ولما كانت حركة المادة هي إما في اتصال العناصر أو في انفصالها، ولما كان الاتصال والانفصال ضدين مختلفين، فلا يمكن أن ينشآ عن قوة واحدة، فلا بد إذن أن يكون ثمت قوتان متضادتان كذلك، هما عند إمبذقليس قوتا الحب والبغض، الحب الذي يؤدي إلى التناغم والتناسق والاتحاد بين العناصر، والبغض الذي يؤدي إلى التنافر والتفكك والانحلال بينها، وليس ذلك شططا في القول، فالحب والكراهية اللذان هما من أخلاق الإنسان إن هما إلا صورة منعكسة من تينك القوتين المتضادتين اللتين تسيطران على الكون جميعا.
والعالم عند إمبذقليس سائر في حلقة متصلة، يبدأ من حيث ينتهي، وينتهي من حيث يبدأ، فقد بدأ الكون كتلة كرية كانت العناصر الأربعة فيها مؤتلفة، متدخلا بعضها في بعض، مندمجة في وحدة متماسكة، فلم يكن الماء منفصلا عن الهواء، ولا الهواء منفصلا عن التراب، بل كانت كلها مزيجا انمحت فيه شخصياتها، ولو انتزعت منه قبضة وحللت إلى عناصرها لوجد أنها تتألف من كميات متساوية من تلك العناصر، وقد كانت القوة المسيطرة على الكون إذ ذاك هي الحب الذي ألف هذه الأشتات فكانت خلقا واحدا، ولكن قوة أخرى أعني قوة البغض التي تنحو بالكون نحو التفكك كانت تختبئ خارج حدود الكون، تتحفز للسعي والعمل، فأخذت تتسلل شيئا فشيئا من محيط الكون الخارجي حتى نفذت آخر الأمر إلى قلبه ومركزه، وعندئذ أخذت تدب بين العناصر حركة التنافر والانفصال، بعد أن كانت وحدة متآخية متعانقة، ولبثت تلك القوة الهدامة تعمل بين عناصر الكون، فاعتصم الشبيه بشبيهه، وأخذت كل ذرة تسعى إلى عنصرها وقبيلها، إلى أن تم الانفصال، واستقل الماء كله في وحدة، واجتمعت النار كلها في وحدة ثانية، والتقى الهواء كله في وحدة ثالثة، وكون التراب مجموعة رابعة، وبذلك تم الأمر وانعقد لواء النصر للبغض والتنافر، واندحر الحب وانكمش، ولكنه عاد فتغلغل في الكون ليعيد لنفسه النفوذ والسلطان، وحاول أن يؤلف تلك العناصر المتنافرة وحدة متناسقة كما كانت أول أمرها، ولم يزل في سعيه لا يثنيه يأس ولا قنوط حتى تم له ما أراد، وهزم أمامه البغض هزيمة منكرة، وعاد الكون سيرته الأولى مزيجا متحدا، ولكنه لم يلبث أن عاد فبدأ الرحلة من جديد، وتسلل البغض إلى عناصر الكون حتى فصل بينها بعض الشيء، وها هو ذا الكون يسير في نفس الطريق، طريق التنافر والانحلال، وهو اليوم كما نرى في مرحلة متوسطة بين الاتصال التام والانفصال التام، وسط بين التآلف الكامل والتنافر الكامل، إلا أن منطق السير قد قضى بأن ترجح كفة الكراهية، حتى لنرى الكون أقرب إلى التفكك منه إلى الوحدة، وهو لا بد سائر في الطريق إلى غايتها حتى تستقل العناصر بعضها عن بعض، على ألا يقف الكون عند هذه الخاتمة ويجمد، بل سيبدأ الشوط من جديد وهلم جرا.
الفصل السادس
المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد
Atomism
أقام هذا المذهب رجلان، أما أحدهما «ليوسبس»
Leucippus ، فلا يعي التاريخ شيئا من حياته، فلا يذكر متى ولد وأين أقام، ولا متى أدركه الموت، إلا أنه يرجح أن يكون قد عاصر إمبذقليس وأناكسجوراس، وأما الآخر «ديمقريطس»
Democritus
فقد ولد في بلد من أعمال «تراقيا» يدعى «أبدرا»
Abdera ، وكان واسع العلم راغبا في تحصيله رغبة حارة، وقد وهبه الله بصيرة نافذة وفكرا ثاقبا، بحيث لا تكاد أنواع المعرفة تقع أمامه حتى يلتهمها التهاما فإذا هي جزء منه، وقد حفزته تلك الرغبة الملحة في التحصيل إلى الرحلة في أقطار الأرض، فزار مصر وجاس خلالها، وعرج على بابل وطوف في أنحائها، وقد قيض له أن يعمر طويلا، فلم يمت حتى نيف على التسعين.
كان المذهب الذري أو مذهب «الجوهر الفرد» ثمرة هاتين القريحتين، ومن العسير بل من المستحيل أن نرد لكل منهما حقه فيه، فليس لدينا من وسائل الإثبات ما نستطيع به أن نرجع كل فكرة إلى صاحبها، ولكننا لا نخطئ إن قلنا إن ليوسبس هو واضع الأساس، وأن ديمقريطس هو الذي أقام البناء وخرج منه الفصول والفروع، كما أن له الفضل الأوفر في إذاعة المذهب، حتى كان له من الشيوع عندئذ ما جعله خليقا بالذكر والتسجيل.
أما هذا المذهب في حقيقته فيكمل النقص في فلسفة إمبذقليس، أو إن شئت فقل يصحح أخطاءه ويقوم ما اعوج من منطقه، فلعلك تذكر أن فلسفة إمبذقليس لم تضف فكرا جديدا، بل اقتصرت على التوفيق بين فلسفتي بارمنيدس وهرقليطس، فاعترفت مع الأول بدوام الوجود وثبوته، واعترفت مع الثاني بتحوله وصيرورته، ولكنها خصت بالدوام مادة الوجود التي ذهبت إلى أنها تتألف من أجزاء، أي ذرات، لم ينقص عددها ولن ينقص، ولم تزد ولن تزيد من الأزل إلى الأبد، فهي من هذه الناحية باقية خالدة، أما التغير والتحول ففي انضمام الأجزاء إلى بعضها وانفصالها.
هذا وقد رد إمبذقليس الكون إلى عناصر أربعة: التراب والماء والهواء والنار، لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببا في نشأة الأشياء واختلاف صفاتها تبعا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر، وقد زعم أن ما يدفع المادة إلى الالتئام حينا والانحلال حينا آخرهما قوتان متضادتان متنازعتان، أعني الحب والنفور.
ولو أنعمت النظر قليلا فيما ذهب إليه إمبذقليس لأحصيت عليه مآخذ ثلاثة؛ فهو أولا: قد فرض أن مادة الكون مؤلفة من ذرات لا ينقص عددها ولا يزيد، ووقف عند هذا الحد من القول، وكان خليقا به أن يتناول تلك الذرات - وهي قطب الرحى من مذهبه - بالتعريف والشرح حتى يقدم لنا عنها صورة صحيحة.
وثانيا: فرض أن تلك العناصر الأربعة التي يتركب منها الكون، والتي تختلف في خصائصها وصفاتها، يمتزج بعضها ببعض في نسب مختلفة، فتنشأ من المزيج صفات الأشياء المتباينة، فالفرق بين صفات النحاس وصفات الخشب ناشئ من نسب العناصر التي يتركب منها الخشب والنحاس، ومعنى هذا أن خصائص العناصر الأولى أزلية أصلية لم تتفرع عن شيء آخر، وأما خصائص الأشياء فمشتقة من كيفية تركيبها، وفي هذا التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركبت منها تناقض ظاهر.
والغميزة الثالثة: هي ذلك الرأي الشعري الذي ارتآه في الحركة من أنها تنازع بين الحب والبغض، فهذا رأي جدير أن يكون من أساطير الأولين أو من خيال الشعراء، وليس خليقا بالفلسفة التي تقوم على المنطق الصارم.
وكان طبيعيا بحكم تطور الفكر أن يجيء بعد إمبذقليس من يصهر هذه الفلسفة ويزيل من جوهرها هذا التناقض وتلك المغامز لتستقيم مع سلامة المنطق، وقد أدى تلك الرسالة ليوسبس وديمقريطيس مؤسسا المذهب الذري، فقد بدآ بالذرات يعللانها ويصورانها، فزعما أننا لو حللنا المادة إلى جزيئاتها لانتهينا إلى وحدات لا تقبل التقسيم، هي ما أطلقا عليها اسم الذرات، أو الجواهر الفردة، وهي التي تتكون من مجموعها مادة الكون، وهي لا نهائية العدد، وتبلغ من الدقة حدا يتعذر معه إدراكها بالحواس، وليست عناصر الكون أربعة كما ذهب إمبذقليس، إنما هي عنصر واحد متجانس؛ لأن الذرات الأولى متشابهة متجانسة تتساوى جميعا في انعدام الصفات والخصائص، إلا أنها تختلف حجما كما تتباين شكلا وقالبا، ولما كانت الذرات خلوا من الصفات لزم أن تكون هذه الصفات التي ندركها في الأشياء ناشئة عن كيفية ائتلاف الذرات في تكوينها للأجسام.
ولكنا مهما جردنا تلك الذرات من الصفات فلا مناص من أن نضيف إليها واحدة أو اثنتين، فهي صلبة ما دامت قد بلغت حدا لا تقبل معه التجزئة، وهي كذلك ذات ثقل ووزن، وإن كنا لا نستطيع أن نقول في يقين هل أضاف الذريون هذه الصفة الأخيرة إلى الذرات نفسها أم اعتبروها كسائر الصفات التي تنشأ من تحرك الذرات وتجمعها، ومن الأدلة التي تساق في هذا المقام لترجيح الحكم بأنهم أضافوا إلى الذرات نفسها صفة الوزن أن الأبيقوريين فيما بعد - وقد أخذوا عن الذريين مذهبهم في الذرات واتخذوه أساسا لفلسفتهم - كانوا يرون أن للذرات وزنا وثقلا ، وقد تكون هذه إضافة من عندهم، ولكنا نرجح أن تكون منقولة مع أصلها عن ليوسبس وديمقريطس.
وإذا كانت تلك الذرات أجراما ضئيلة دقيقة لها سطوح خارجية محيطة بها، فهي إذن منفصل بعضها عن بعض، ولا بد أن يكون - إذن - ثمت شيء بينها، وأن يكون ذلك الشيء هو الفراغ المطلق أو كما يسميه بعضهم الخلاء، أليست الذرات يسعى بعضها إلى بعض فتأتلف أو تتنافر فينضم بعض إلى بعض ويدبر بعض عن بعض وهكذا، فكيف تتم هذه الحركة التي لا تنقطع بين الذرات إذا لم يكن هناك فراغ تنتقل فيه؟ أعني أنه لو كان الكون غاصا بالمادة المتصلة المتلاصقة لتعذرت الحركة تعذرا تاما، ما دامت كل ذرة مضغوطة من كل جانب وليس لديها مجال تتحرك فيه؛ وبناء على ذلك يكون في الكون حقيقتان أوليتان: الذرات والفراغ، أي المادة والعدم، وهما يقابلان ما يسمى عند المدرسة الإيلية الوجود واللاوجود، غير أن المدرسة الإيلية كما علمت قد أنكرت اللاوجود إنكارا تاما، وقالت إن الوجود وحده هو الموجود، أما جماعة الذريين فقد أثبتوا الحقيقتين جنبا إلى جنب، فالفراغ المطلق حقيقة واقعة كالمادة سواء بسواء، والفرق بينهما هو الفرق بين الوعاء الفارغ والوعاء المليء.
ولكن إذا سلمنا بما يقول الذريون من وجود الفراغ إلى جانب المادة ليتيسر لها الحركة، فمن ذا الذي دفع الذرات إلى الحركة أولا؟ من أين هذه القوة الدافعة التي بعثت المادة على الحركة بعد السكون؟ نحن لا نملك اليوم ما نعتمد عليه في الحكم برأي الذريين في ذلك، ولكنا لو فرضنا أنهم كانوا كالأبيقوريين فيما بعد، وكانوا قد أضافوا إلى الذرات صفة الثقل - كما أسلفنا - يصبح تعليل الحركة عندهم هينا ميسورا، فثقل الذرات يدفعها إلى السقوط المستمر في الفضاء اللانهائي، وبدهي أنه كلما كبرت الذرة ازدادت ثقلا ما دامت الذرات جميعا متجانسة في مادتها، فإن كانت هذه الذرة ضعف زميلتها حجما، وجب أن تكون ضعفها وزنا كذلك، ولا بد أن يكون الذريون قد توهموا مخطئين أنه كلما ازداد الجسم ثقلا اشتدت سرعة سقوطه، وبناء على هذه الخطوات الثلاث: اختلاف الذرات في الحجم، فاختلافها في الثقل، فاختلافها في السرعة، يحدث أن الذرات الكبيرة السريعة تصدم الصغيرة وتزيحها يمنة ويسرة لكي تشق لنفسها طريق الهبوط، وأما تلك الذرات المزاحة ذات اليمين وذات اليسار فسرعان ما يلتصق بعضها ببعض فتكون نواة تظل تتجمع حولها الذرات حتى تكون في النهاية عالما عظيما، وما أكثر العوالم التي تكونت، وليس عالمنا هذا إلا واحدا منها، وقد تعود ذرات العالم المتكون إلى التفرق ثانية، فينحل وتدركه الخاتمة.
إذن فالمادة متحركة أبدا ولا يطرأ عليها السكون، ولكن هل تسير في حركتها وفقا لخطة مقدورة مرسومة، أو أنها تخبط في ذلك خبط عشواء؟ هنا لا يتردد ديمقريطس في القول بأنها الضرورة الآلية العمياء وحدها هي التي تدفع الذرات هبوطا إلى أسفل، أو دفعا ذات اليمين وذات اليسار، دون أن يكون لها قدر معلوم ولا سبب مرسوم، ولكن أناكسجوراس الذي كان يعاصره، والذي سنتحدث إليك عنه في الفصل الآتي، كان يعتقد أن ثمت قوة عاقلة رشيدة تدبر تلك الحركة وتملك زمامها، فتسير بها في سواء السبيل.
ولم يكن رأي ديمقريطس في آلية الحركة وفوضاها ليمضي دون أن يترك أثره العميق في زعزعة دين اليونان وهدم آلهتهم؛ لأنه إن كانت العوالم تسير من تلقاء نفسها لم يعد للإنسان في آلهته أمل يرجوه، بل ذهب ديمقريطس في الكفر إلى حد بعيد، فزعم أن فكرة الآلهة قد نشأت من الخوف من الظواهر التي تحدث في الأرض حينا، وفي السماء حينا، فتنخلع لها قلوب البشر، كالزلازل والبراكين والمذنبات والشهب وما إليها.
ولما كان كل شيء في الكون مؤلفا من ذرات تختلف شكلا وحجما، كانت النار كأي شيء آخر مركبة من ذرات، إلا أنها ناعمة مستديرة، والنفس الإنسانية ليست إلا قبسا ناريا يتكون كذلك من ذرات ناعمة مستديرة، إلا أنها أنقى من النار المعروفة ماء وأشد صفاء، فإذا أدركها الموت تفرقت ذراتها.
وقد أدلى ديمقريطس برأي في إدراك الحواس للأشياء، خلاصته أن المرئيات الخارجية تنبعث عنها صور تقع على الحواس فتؤثر فيها، فتعكس صورها على صفحة الذهن، أما صفات الأشياء كاللون والطعم والرائحة فلا تقوم بالأشياء نفسها، ولكن تنفعل لها حواسنا؛ ولذلك نختلف في مقدار التأثر بها.
ويجمل بنا أن نختم القول عن المذهب الذري برأي ديمقريطس في السعادة، وإن لم يكن قائما على نظرية الذرات، فهو ينصح للإنسان أن يمتع نفسه ما وسعته المتعة، وألا يسيء إليها أو يكدر صفوها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليست السعادة مرهونة بالقصور المشيدة والضياع الفسيحة، إنما هي متوقفة على الحالة النفسية وحدها، فكلما ازدادت هدوءا وصفاء ازداد المرء سعادة ونعيما، والسبيل المؤدية إلى ذلك هي اعتدال الحاجات وبساطة العيش.
الفصل السابع
أناكسجوراس
Anaxagoras
ولد في كلازوميني
Clazomenea ، بلد من بلاد آسيا الصغرى نحو سنة 500ق.م، من أسرة نبيلة، وقد بسط الله له في الرزق فكان غنيا واسع الثراء، ولكن التكاثر لم يلهه عن طلب العلم، فلم يلبث أن خلف وراءه أرض الوطن ينشد الحكمة، ثم قصد إلى أثينا، ولم تكن بعد قد فتحت أبوابها لتستقبل الفلسفة، فكان أناكسجوراس أول من غرس بذورها في أرضها، ومنذ ذلك الحين أصبحت أثينا مركزا للفكر عند اليونان، ولم يمكث أناكسجوراس في هذا البلد طويلا حتى توثقت أواصر الصلة بينه وبين أعلام الرجال في ذلك الوقت، فكان صديقا حميما لبركليس
، ذلك السياسي العظيم، ويوريبيدس
Euripides
الشاعر المعروف، وقد كلفته صداقة بركليس ثمنا غاليا: ذلك أن حزبا سياسيا قويا كان يعارض بركليس ويكيد له ولأصحابه، فمكر - فيمن مكر بهم - بهذا الصديق أناكسجوراس الذي لم تعنه السياسة في كثير ولا قليل، ولكن حسبه جريمة أن يتصل الود بينه وبين بركليس، فرماه رجل ذلك الحزب بالإلحاد، لتحق عليه لعنة الله والناس، ألم يقل أناكسجوراس إن الشمس صخرة ملتهبة، وإن جرم القمر من تربة؟ فيا لها زراية بالشمس والقمر، وهما عند اليونان إلهان ينزلان من قلوبهم أسمى منازل التقديس، حتى أفلاطون وأرسطو كانا يريان أن النجوم كائنات إلهية، وما أسرع ما سيق أناكسجوراس إلى هيئة القضاء لترى رأيها فيه، ولكنه فر من المدينة هاربا بعون صديقه بركليس، وأخذ سمته نحو وطنه في آسيا الصغرى، حيث استقر في مدينة لامبساكوس
Lampsacus ، وظل بها حتى فاض روحه بعد أن بلغ من العمر اثنين وسبعين سنة، وقد دون فلسفته في رسالة كانت شائعة متداولة في عهد سقراط، ولم يبق لنا منها اليوم إلا أجزاء منثورة.
أقام أناكسجوراس فلسفته على نفس الأساس الذي اتخذه من قبله إمبذقليس وطائفة الذريين، فأنكر الصيرورة المطلقة التي تذهب إلى تحول الكون تحولا مستمرا من حالة الوجود إلى حالة اللاوجود، ومن حالة اللاوجود إلى حالة الوجود؛ لأنه يعتقد أن المادة لا تنشأ ولا تفنى، فينبغي أن نلتمس علة التحول الذي يطرأ على الأشياء في اتصال أجزاء تلك المادة وانفصالها، يقول أناكسجوراس: «لقد أخطأ اليونان في زعمهم أن الأشياء تحدث وتزول، وليس في حقيقة الأمر نشأة وزوال، إنما هو اتصال وانفصال يطرآن على مادة موجودة فعلا، وكان أقرب إلى الصواب أن تسمى هاتان تكونا وانحلالا.»
استعرض أناكسجوراس آراء السابقين، فرأى الذريين يزعمون أن عنصر الكون ذرات متجانسة الجوهر مختلفة الصورة، ورأى إمبذوقليس من قبلهم يذهب إلى أن أصل العالم عناصر أربعة، فرفض المذهبين جميعا؛ فليس مصدر الأشياء عنصرا واحدا هو الذرات، ولا عناصر أربعة، بل إن أنواع المادة على اختلافها سواء في الأصالة والأولية، فليس ما يبرر أن نلتمس أصل الذهب في التراب أو النار، والخشب في الهواء أو الماء، ولم لا يكون الذهب والتراب والخشب والحديد والنحاس والعظم والشعر والماء إلى آخر هذه المواد التي تصادفنا في الكون أنواعا أولية وعناصر أساسية لم ينشأ أحدهما من الآخر؟ وإذن ففي الكون من الأصول والعناصر بمقدار ما فيها من مواد، هذا وقد أنكر أناكسجوراس على طائفة الذريين ما زعموه من إمكان تقسيم المادة إلى ذرات لا تقبل التقسيم، وأكد أن المادة تتجرأ إلى ما لا نهاية.
وقصة الكون هي أن تلك الملايين من العناصر المادية كانت في الأزل خليطا متماسكا في كتلة تمتد في المكان إلى ما لا نهاية، ثم بدأت المواد سيرها بأن أخذت تنحل وينفصل بعضها عن بعض، ليسعى كل شبيه إلى شبيهه، فذرات الذهب إلى ذرات الذهب، وأجزاء النحاس إلى أجزاء النحاس، والكمال الذي تنشده هو استقلال كل من تلك العناصر استقلالا لا يشوبه ذرة واحدة من عنصر آخر، ولكن هذه الغاية التي تقصد إليها المادة لا تدرك في أعوام ولا دهور، كلا بل هي ضرب من المستحيل الذي لن يدرك إلى أبد الآباد؛ ذلك لأن المادة كما سبق لنا القول ممكنة التقسيم إلى ما لا نهاية له من الذرات، وهذه الذرات اللانهائية لكل عنصر من عناصر المادة منبثة في العناصر الأخرى بحيث يستحيل أن تتجمع كلها في كتلة واحدة، فليس إلى حصر الأجزاء اللانهائية من سبيل؛ وعلى ذلك فلن تخلص مادة من شوائب المواد الأخرى، ولو التمست قطعة من مادة خالصة لا تعلق بها ذرات غريبة عنها فلن تظفر بما تريد، وكل ما عساك أن تصادفه شيء يقرب مما تبغي، فهذا الذي اصطلحنا على تسميته ذهبا ليس في حقيقة الأمر ذهبا خالصا، إنما هو أقرب المواد إلى الذهب؛ لأن أجزاء الذهب فيه كثرة غالبة، تخالطها قلة من أجزاء المواد الأخرى، وقل مثل ذلك في سائر العناصر.
يتضح من ذلك أن المادة قد دبت فيها الحركة لكي يسعى الشبيه منها إلى شبيهه، ولما كانت هذه الغاية مستحيلة الحصول فستظل الحركة دائبة إلى الأبد، وهنا نقف مع أناكسجوراس كما وقفنا مع إمبذقليس وجماعة الذريين، نسائله عن تلك القوة التي دفعت المادة إلى الحركة بادئ الأمر، فمن ذا الذي بعث في المادة الميتة السعي والحركة؟ والواقع أن نبوغ أناكسجوراس وعبقريته منحصران في الإجابة عن هذا السؤال، ولولا رأيه في الحركة والقوة الدافعة لما كانت له فلسفة تستحق النظر، فأنت تذكر أن إمبذقليس قد ذهب إلى أن الحب والنفور هما القوتان الدافعتان اللتان تفسران المادة على الاتصال دهرا والانفصال دهرا، ثم تبعه الذريون فذهبوا إلى أن مبعث الحركة هو سقوط الذرات المادية سقوطا آليا في الفضاء، فلا تسير على هدى، ولا تقصد إلى غاية كما يقول ديمقريطس، وكلا المذهبين - كما ترى - يتعلق بالمادة ولا يعدو نطاقها، فأجزاء المادة تتدافع أو تتجاذب من تلقاء نفسها دون أن يشرف على سيرها سلطان بصير، أما أناكسجوراس فقد خطا بالفلسفة خطوة جديدة، سمت بها عن مستوى المادة، فذهب إلى أن القوة التي تدفع المادة وتسيرها على عقل حكيم رشيد، ذكي بصير،
1
يولد الحركة في المادة إقبالا وإدبارا حتى تتكون منها العوالم. لقد بهر أناكسجوراس ما يشمل الكون من نظام وجمال وتناسق، فأدرك على الفور أنه يستحيل على قوة عمياء أن تخرج هذا العالم الدقيق الجميل المتناغم، فهو - كما يظهر - لا يخبط في سيره خبط عشواء، بل يقصد إلى غرض محدود، وأن الطبيعة لتضرب الأمثال كل يوم على أن لها فكرة تسعى إلى تحقيقها، وكيف يسيغ العقل أن يكون تناسق الكون وجماله ونظامه من فعل قوة آلية لا تعرف التناسق والنظام؟ وهل تنتج هذه - إذا أطلق لها الأمر - إلا عماء وفوضى؟ فلا يجد أناكسجوراس سبيلا إلى الشك في أن عقلا ذكيا يدبر المادة ويحكمها، وهو الذي رسم لها خطة السير، ونسق بين أجزائها، وخلع عليها هذا الجمال الفاتن الخلاب.
هذا الإدراك للقوة العاقلة هو انتقال بالفلسفة من طور إلى طور، إذا جرينا مع القائلين بأن أناكسجوراس قد اعتبر ذلك العقل روحا خالصا مجردا ولم يلبسه لباسا من المادة، وقد حكى عنه هذا القول أرسطو وهو قريب العهد بأناكسجوراس، ويمكن أن يتخذ حجة يعتمد عليها، فهو يشير إشارة واضحة إلى أن أناكسجوراس قد تخلص من المادة حين فكر في ذلك العقل، فجرده عن الأجسام تجريدا مطلقا، وقد تبع أرسطو في ذلك طائفة من أبرع كتاب الفلسفة في العصر الحديث، أمثال «زلر
Zeller » و«أردمان
Erdmann »، إلا أن فريقا آخر من مؤرخي الفلسفة، أشهرهم الأستاذ «بيرنت
Burnet »، يعتقد أن أناكسجوراس كان كسابقيه عاجزا عن التفكير المجرد الصحيح، فألبس العقل الذي ذهب إلى وجوده صورة مادية، وحجتهم في ذلك أنه أضاف إليه صفات توصف بها المادة وحدها، فقال عنه: «إنه أكثر الأشياء دقة ونقاء»، وإنه «صاف لا تشوبه شائبة من العناصر الأخرى.» والدقة والنقاء والصفاء وما إليها هي صور للأجسام المادية، والفكرة المجردة المطلقة لا تعرف شيئا منها، كذلك يحتج هذا الفريق من الكتاب بأن أناكسجوراس كثيرا ما تحدث عن العقل بالكبر، وهذا كم لا ينصب إلا على المادة المحسة وحدها، وخلاصة القول أن هذه الطائفة من المؤرخين لا تميل إلى الأخذ بالرأي القائل بأن أناكسجوراس استطاع أن يدرك عقلا مجردا عن الجسم، والأرجح أن أناكسجوراس أدرك القوة العاقلة المجردة، وأن رأي أرسطو فيه أقرب إلى الصحة، وأن الأدلة التي احتج بها بيرنت وأمثاله مردودة، فالصفات المادية ليست قاصرة على المادة وحدها، وكثيرا ما نطلقها على القوى المجردة، فإذا قلنا إن أرسطو رجل ذو فكر ثاقب وإن أفلاطون ذو بصيرة نافذة، أيكون معنى ذلك أننا نريد حقا أن فكر أرسطو يثقب الأجسام كما تثقبها الإبرة؟ وأن بصيرة أفلاطون تنفذ كما ينفذ المسمار؟ لا، بل هي مجازات لغوية كثرت في اللغات كثرة عظيمة بسبب أن اللغة تنشأ في أول عهدها وتدرج بين المحسات، فتكون ألفاظها متعلقة بالأشياء المادية التي تقع تحت الحس، فلما تطور الفكر البشري ووصل إلى مرتبة التجريد، أي التفكير فيما ليس له صور مادية، اضطر اضطرارا أن يستعير هذه اللغة التي خلقت في أولها لما يقع تحت الحواس، ليعبر بها عن معقولاته المجردة، وإذن فمن الغبن أن نستند على الصفات المادية التي أطلقها أناكسجوراس على العقل ونحكم بأنه تصور العقل في صورة مادية.
وأما وصفه العقل بالكبر، وأن يظن لذلك أنه قد تصور العقل مادة تشغل حيزا، فذلك اعتساف في الحكم؛ لأننا إذا قلنا إن عقل أفلاطون أكبر من عقل فلان، فلا يكون معنى ذلك أن تفكير أفلاطون يشغل حيزا من المكان أكبر مما يشغله تفكير فلان، إنما هي مقارنة نسبية أجريناها لندرك قوة هذا منسوبة إلى ذاك، ولسنا نشك في أن ذلك ما قصد إليه أناكسجوراس حين قال: إن العقل الذي يحكم الكون متجانس في جوهره، ولكنه يختلف صغرا وكبرا باختلاف الأجسام التي يحل فيها، فالعقل الأكبر يدبر العالم بأسره، وهو لا يختلف في طبيعته عن العقل الأصغر الذي يسير الإنسان فالحيوان فالنبات.
والخلاصة أن أناكسجوراس لم يصور لنفسه العقل الذي فرض وجوده في صورة مادية، بل كان أول من ميز تمييزا واضحا بين عنصري العقل والمادة، بعد أن كانت الفلسفة لا تعترف إلا بالمادة وحدها، وقد بعثه على الاعتقاد بوجود العقل عاملان؛ الأول: ما قدمنا من أنه رأى ما في الكون من نظام وتناسق وجمال مما يستلزم قوة مدبرة عاقلة، والثاني: هذه الحركة التي تدب في الأشياء، والتي تسلك في سيرها سبيلا مستقيمة مؤدية إلى غرض مقصود، فذلك العقل هو الذي دفع المادة الأولى التي كانت مزيجا من أخلاط العناصر المختلفة إلى انحلال التدريجي، وإلى التئام العناصر المتشابهة منها، ولما كان العقل سببا للحركة، فبدهي أن يكون هو نفسه لا حركة فيه؛ لأنه لو لم يكن كذلك لاستلزم بدوره محركا وهلم جرا.
تناسق المادة من ناحية وحركتها من ناحية أخرى كانا إذن مقدمتين خلص منهما أناكسجوراس إلى نتيجة منطقية، هي وجود العقل المدبر الرشيد الذي يعمل على التناسق والجمال بين أجزاء المادة، والذي يبعث المادة على الحركة الدائبة، ومعنى ذلك بعبارة واضحة أن أناكسجوراس لم يستنتج من دقة النظام في الكون وجود القوة الخالقة، بل القوة المنظمة، والفرق واضح بين القولين، فأنت إذا صادفت آثارا لمدينة قديمة في عرض الصحراء، شيدت دورها ونسقت طرقاتها، سار بك المنطق إلى نتيجة محتومة هي أن عقلا مدبرا أشرف على إقامة تلك الدور وتنظيمها، ولكنك تخطئ خطأ واضحا لو زعمت أن نظام التشييد وجمال تنسيقه دليلان على أن عقلا خلق المادة التي أقيمت بها الدور.
إذن فالعقل عند أناكسجوراس لم يخلق المادة من عدم، بل العنصران قديمان أزليان نشأ كل منهما بذاته، ثم طرأ العقل على المادة فبعث فيها الحركة والنظام بأن اندس في مركز تلك الكتلة المادية الأولى، التي تمتد إلى اللانهاية، والتي امتزجت فيها ألوان المادة امتزاجا بلغ حد الاندماج، ولما استقر العقل في قلب المادة اضطرب بالحركة، فاهتزت النواة المركزية من المادة، ثم أخذ نطاق الحركة يتسع من تلقاء نفسه، كما تلقي بالحجر في الماء فتحدث موجة دائرية تأخذ في الاتساع تدريجا حتى تشمل المحيط بأسره، وكانت الحركة كلما انبسط نطاقها تناولت مادة جديدة فدفعت بها إلى الحركة وهلم جرا، وسيظل تيار الحركة إلى الأبد يوسع من نطاقه ويتناول جديدا من المادة، يسعى بدوره إلى التماس أشباهه من المادة ليندمج فيها، فالذهب يعتصم بالذهب، والخشب يلتئم بالخشب، والماء يلتقي بالماء ... وأول ما انفصل من الذرات ما توافر فيها الحرارة والجفاف والخفة، فاجتمعت وكونت الأثير أو الهواء العالي، ثم جاء بعد الأجزاء الباردة الرطبة المظلمة فكونت الهواء السافل، ثم دار الهواء السافل حول المركز فنشأت الأرض وانداحت قرصا مسطوحا يسبح فوق الهواء، وكل أجرام السماء قطع صخرية انتثرت من الأرض نتيجة لدورانها، فالقمر جزء من الأرض يعكس أشعة الشمس فيبدو لسكان الأرض مضيئا، وقد كان أناكسجوراس بهذا الرأي أول من علل ضوء القمر على الوجه الصحيح، كما أنه أول من فسر الكسوف والخسوف تفسيرا يتفق مع الرأي الحديث، ولقد كان يعتقد أن هناك كثيرا من العوالم الأخرى غير عالمنا هذا بشموسها وأقمارها، وأنها جميعا مأهولة بالسكان، ويذهب إلى أن أصل الحياة جراثيم كانت تسبح في الجو، فساقتها مياه الأمطار إلى الأرض حيث تكاثرت وتنوعت على الوجه الذي نرى.
وصفوة القول: أن لفلسفة أناكسجوراس طابعين مميزين: فهو أول من فصل العقل عن المادة، فاتجهت أنظار الفلاسفة من بعده إلى هذه الناحية الجديدة - العقل - يتخذونها دون ظواهر الطبيعة موضوعا لدرسهم، وثانيا: قد حطم النزعة الآلية التي سارت قبل عهده؛ إذ كانت تفسر الأحداث بعللها، أما هو فقد اتجه بتفسير الظواهر إلى أغراضها وغاياتها.
غير أنه بالغ في هذين الاتجاهين حتى كانا موضع خطئه كما أنهما موضوع شهرته، فقد أسرف في فصل المادة عن العقل وجعلهما أزليين أبديين، فكان اثنينيا بالغا، فلا هو فرض المادة أصلا للكون وفرع عنها العقل فيكون واحديا في ماديته ، ولا هو اكتفى بأن يكون العقل جوهرا للكون، وأن تكون المادة من خلقه وإنشائه فيكون واحديا في عقليته، ولكنه أثبت كلا العنصري وسلم بهما معا، هذا وقد أراد أن يجعل العقل أساسا للحركة حتى تكون الحركة مبصرة في سيرها، ولكن لم يسعفه التطبيق الصحيح، فزعم أن العقل حرك النواة المركزية في المادة، ثم ترك الحركة توسع من دائرتها بطريقة آلية شيئا فشيئا، فكأنما انقلب العقل قوة آلية، وكأنه انكفأ بذلك راجعا إلى حيث كان أسلافه من قبل.
الفصل الثامن
السوفسطائيون
The Sophists
كان أناكسجوراس خاتمة تلك المرحلة الأولى من مراحل الفلسفة اليونانية، وقد خطا بالفلسفة خطوة جريئة فأخرجها من الطبيعة المادية، ونحا بها نحوا جديدا في البحث؛ إذ أيقن أن المادة وحدها لا يمكن أن تنتهي إلى هذا التناسق والتناغم والجمال، بل لا بد أن عقلا حكيما مدبرا يسلك بالمادة سبيلا سويا في هدى وبصيرة، إلى غاية معلومة مقصودة، وبهذا فرق أناكسجوراس للمرة الأولى في تاريخ الفلسفة بين المادة المجسدة، وبين القوة العقلية المجردة، التي تتحكم في تلك المادة، بين الجسم والعقل، بين الطبيعة والإنسان، فانصرفت الفلسفة منذ ذلك الحين إلى هذا الإنسان وخصته بالبحث والدرس، وكان أول من شق هذه الطريق هم جماعة السوفسطائيين.
ويجمل بنا قبل أن نتناول بالشرح آراءهم، أن نلقي نظرة عجلى على بلاد اليونان في عصرهم حتى نلم إلمامة سريعة بحالتها الدينية والسياسية والاجتماعية، وسنرى في وضوح وجلاء أن السوفسطائيين لم يخلقوا فلسفتهم من عدم بل انتزعوها من بيئتهم؛ فجاءوا صورة دقيقة لعصرهم، ولسانا ناطقا يعبر عما كان يخالج النفوس في ذلك الحين.
أرض اليونان وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزن الجبال، تنحصر بينها طائفة من الأودية، نشأت في أكنافها مدن متفرقة لا يتصل بعضها ببعض في سهولة ويسر، فلم تكن اليونان أمة واحدة تشرف عليها حكومة واحدة، بل كانت كل مدينة من تلك المدن مستقلة تحكم نفسها بنفسها، وتضع ما يطيب لها من قوانين، وكان معظم تلك المدائن بالغا من الصغر حدا بعيدا، حتى لم يتجاوز عدد سكان بعضها عددا ضئيلا من الناس، يستطيع أفرادها أن يلتقوا جميعا في مكان بعينه، يناقشون في أمور الدولة ويتناولون قوانينها ونظمها بالتعديل والتهذيب، وإذن فلم تكن المجالس النيابية كما نعرفها اليوم معروفة لديهم؛ لأن الحاجة لم تضطرهم إلى طريقة الانتخاب، فكان كل يوناني يمثل نفسه ويساهم في السياسة والتشريع، وقد أدى تفرق القوم في مدائن مستقلة إلى تنافرهم وتناكرهم، فتولد بينهم شعور المنافسة، وتمكنت من نفوسهم العصبية للبلد، بحيث كانت مصلحة المدينة فوق مصلحة الدولة، وأخذت نزعة الأنانية تتسع من عصبية للمدينة إلى عصبية الفرد لشخصه، فأصبح صالح الفرد فوق صالح مدينته، وهكذا استولى على الناس حب النفس واعتد كل فرد بذاته، يود لو يرتفع على حساب مواطنيه، ولعل هذا التطرف في تقدير الشخص لنفسه نتيجة طبيعية لما أصاب الفرد من إهمال وإذلال أيام كان زمام الأمر في أيدي النبلاء.
وقد ساير الديمقراطية في تطورها انحلال في العقيدة الدينية، فلم يلبث الناس أن نبذوا آلهتهم القديمة وراء ظهورهم؛ لأنهم شعروا بعد أن استنارت عقولهم أن تلك الآلهة لم تكن جديرة بالعبادة والتقديس، وما ظنك بآلهة نسبت إليها كل صنوف النقص والفجور، كما صورهم شعراء اليونان فيما رووا من شعر وأساطير؟ هذا إلى تقدم العلم والفلسفة من ناحية أخرى، فاكتسحت العقائد العتيقة البالية من الصدور، وأصبح الناس يعللون ظواهر الكون تعليلا طبيعيا دون أن يردوها إلى قوى الآلهة، ولقد مر بنا في الفصول السابقة أن بعض الفلاسفة كانوا يناصبون الدين العداء، في غير تكتم ولا خفاء، فنقد إكزنوفنس آلهة الشعب، وحاول ديمقريطس أن يفسر تقديس الآلهة بالخوف من ظواهر الكون.
طغت على اليونان موجة من الشك، وعمد الناس إلى القديم يهدمونه بكل ما وسعهم من معاول، فاندكت الأرستقراطية دكا وقام على أنقاضها بناء الديمقراطية، ومحا العلم والفلسفة عقائد الدين الجامدة، ولم تكد تهوى هاتان الدعامتان حتى انهار في أثرهما كل شيء، فانحلت الأخلاق والعادات، وذهبت هيبة السلطان واحترام التقاليد، واتخذ الجيل الناشئ من عقائد أسلافه موضوعا للسخرية والفكاهة ، وحطم القوانين والأخلاق باعتبارها أغلالا تلجم الإنسان وتعوق غرائزه الطبيعية، ولم يكن السوفسطائيون إلا مرآة مجلوة انعكست على صفحتها صورة هذا التيار الجارف، فمثلوا بفلسفتهم وتعاليمهم ما بدا من القوم في حياتهم العملية من ميول ونزعات.
لم يكن السوفسطائيون مدرسة فلسفية كالفيثاغوريين أو الإيليين، لها آراء خاصة تربطها عقيدة فلسفية، إنما كانوا طائفة من المعلمين متفرقين في بلاد اليونان اتخذوا التدريس حرفة، فكانوا يرحلون من بلد إلى بلد يلقون المحاضرات ويتخذون لهم طلبة ويتقاضون على تعليمهم أجرا، وكان هذا من أسباب كرههم؛ لأن ذلك لم يكن عادة الشعب اليوناني من قبلهم.
وكانوا يعلمون موضوعات مختلفة يتطلبها الشعب إذ ذاك، فبروتاجوراس
- مثلا - كان يعلم قواعد النجاح في السياسة، وجورجياس
Gorgias
كان يعلم البلاغة وعلم السياسة، وبروديكوس
قواعد النحو والصرف، وهبياس
Hippias
التاريخ والطبيعة والرياضة، وعلى العموم كان غرضهم تعليم اليونان ليكونوا وطنيين صالحين للحياة، وكانت السياسة والاشتغال بها أكبر شاغل لعقل اليونان إذ ذاك، وكان الطموح لشغل منصب سياسي كبير مستوليا على أذهان كثيرين، وقد ساعد على ذلك سيادة الديمقراطية يومئذ، فكان أهم ما يحتاج إليه الطالب البلاغة والإلقاء والقدرة على الجدال حتى يستطيع أن يواجه كل مسألة تعرض، إما بفكرة صحيحة أو بلعب بألفاظ لإفحام السائل؛ لذلك كان من أهم تعاليمهم علم البلاغة، وهم يعدون بحق مؤسسي هذا العلم، وكان ذلك يكون محمودا لو أنهم وقفوا موقفا صحيحا في تعليم البلاغة، وخدموا بها الحقيقة حيث كانت، ولكنهم قصدوا إلى تعليم الشباب كيف يخدمون الفكرة كائنة ما كانت، وعلى أي وجه كان، بالحق أو بالباطل، فكان شأنهم شأن محام يخدم قضيته من أي سبيل، حتى روى عن أحدهم «جورجياس» أنه قال: ليس من الضروري أن تعلم شيئا عن الموضوع لتجيب، وقال إن في استطاعته أن يجيب كل سائل عن كل ما يسأل؛ لذلك كانوا يعلمون كيف يكسبون خصومهم بكل الوسائل، باللعب بالألفاظ، بالاستعارات والكنايات الجذابة، بخداع المنطق وتمويه الحقيقة، ومن أجل ذلك سمي اللعب بالألفاظ والتهريج في الحجج «سفسطة» اشتقاقا من السوفسطائيين.
1
ترى من ذلك أن السوفسطائيين قد اتجهوا بعنايتهم إلى الحياة العملية دون الفلسفة النظرية التي تبحث عن الحقيقة الخالدة، وانصرفوا إلى تدريب الشبان لنيل مجد الحياة السياسية من أقصر الطرق، وقد وصف السوفسطائيون بأنهم كانوا يعلمون الفضيلة، ولكن يجب أن نشير إلى أن كلمة الفضيلة في ذلك الحين لم يقصد بها المعنى الأخلاقي الذي تدل عليه الآن، بل عبر بها اليونان عن مقدرة الشخص على أداء وظيفته في الدولة بكفاية ونجاح، ففضيلة الطبيب معالجة المرضى، وفضيلة الرائض تدريب الخيول، ولما كان السوفسطائيون يدربون الشباب ليجعلوا منهم مواطنين صالحين للظروف السياسية التي تحيط بهم، فهم معلمو فضيلة بهذا المعنى.
وأقدم السوفسطائيين عهدا هو بروتاجوراس الذي ولد في أبديرا حوالي سنة 480ق.م، وأخذ يتجول في أنحاء اليونان حتى استقر في أثينا ولبث بها شطرا من حياته غير قصير، وأخرج كتابا في الآلهة استهله بهذه العبارة: «أما الآلهة فلا أستطيع أن أجزم بوجودهم أو عدم وجودهم، ولا أن أتصور أشكالهم، وهناك من العوائق الكثيرة ما يحول دون الوصول إلى المعرفة الصحيحة، منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.» ولكن لم يظهر الكتاب في الناس حتى رمي بالإلحاد، وأحرق الكتاب علنا، وفر بروتاجوارس هاربا من أثينا وقصد إلى صقلية، ولكن السفينة ارتطمت به في الطريق فغرق حوالي سنة 410ق.م.
أما المحور الذي دارت حوله فلسفة بروتاجوراس بل فلسفة السوفسطائيين جميعا، فهو عبارته المشهورة: «الإنسان مقياس كل شيء.» وكانت هذه الجملة تمثل ميول الناس في ذلك العصر وهي أساس تعاليمهم كلها، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتعليق:
كان الفلاسفة قبل السوفسطائيين يفرقون بين الحس والعقل، ويفرقون بين ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل، ويرون أن الحقيقة تدرك بالعقل لا بالحس، وممن ذهب إلى هذا الفلاسفة الإيليون، فقالوا: إن الحق يدرك بالعقل، أما الحواس فغاشة خداعة، وكان هؤلاء الذين يرون التفريق بين الحس والعقل يقولون إن حس كل إنسان خاص به، أما العقل فقدر مشترك عام، ومن أجل هذا لا يستطيع الإنسان أن ينقل إحساسه إلى إحساس غيره، فأعمى اللون الذي لا يدرك اللون الأحمر مثلا لا يمكنك أن تنقل إحساسك باللون الأحمر إليه، ولكن يمكن أن تنقل فهمك لشيء إلى شخص آخر، كذلك إذا عرض مثلثان على جماعة من الناس فقد يراهما شخص متساويين، وقد يراهما الآخر مختلفين، ولا سبيل من طريق الحس لتفاهمهما، ولكن يمكن أن يقام البرهان العقلي على تساويهما، فإحساسي خاص بي لا يشاركني فيه غيري، أما عقلي فعام، أعني أن فيه قدرا مشتركا بيني وبين الكائنات العاقلة.
جاء السوفسطائيون فأنكروا هذا، كان الاعتقاد من قبلهم أن هناك فرقا بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وبعبارة أخرى أن هناك فرقا بين ما أدركه أنا من الشيء وبين الشيء في الخارج، فقد أنظر إلى الأرض فأراها مسطحة وهي في الخارج وفي حقيقة الأمر مكورة، وقد أرى السراب ماء وفي الخارج لا ماء، فالشيء في الخارج موجود استقلالا عن ذهني وحواسي، ولكن هؤلاء السوفسطائيين أتوا ينكرون هذا أيضا، فبروتاجوراس كان يعلم أن ليس هناك وجود خارجي مستقل عما في أذهاننا، فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة له، فإذا اختلفنا في رؤية شيء، فما أراه أنا حق بالنسبة لي وما تراه أنت حق بالنسبة لك، واستمر بروتاجوراس في نظريته فقال: ليس هناك خطأ، بل مستحيل وجود الخطأ، فكل ما تراه صواب لك، بل لفظتا الخطأ والصواب لا معنى لهما، فليس هناك شيء يسمى حقا في ذاته أو في الواقع أو نحو ذلك، ويظهر أن الذي دعا بروتاجوراس إلى هذا أنه رأى أن المعلومات التي تصل إلينا إنما تصل من طريق الحواس، وإدراك الحواس مختلف عند الناس، فلا يمكن الاعتماد عليها لإدراك أن هناك شيئا حقا خارجيا في الواقع.
وتابعه على ذلك جورجياس السوفسطائي، فقد وضع كتابا عنوانه «الطبيعة أو اللاوجود» حاول فيه أن يقيم الدليل على هذه القضايا الثلاث «لا شيء موجود»، «إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرف»، «وإذا أمكن أن يعرف فلا يمكن إيصاله إلى الغير».
أما القضية الأولى التي تقرر أن لا شيء موجود، فقد تابع فيها الفلاسفة الإيليين الذين أنكروا وجود الأشياء التي تقع تحت الحواس، والذين أثبتوا أن صفة الوجود وحدها هي الموجودة، أما كل هذه الأشياء التي تملأ جوانب الكون والتي تطرأ عليها الحركة والتغير فباطلة خدعتنا بها الحواس، وكان جورجياس يستعير منهج زينو من قبله في الجدل، ويعتمد على بارمنيدس في آرائه في أصل الكون ليثبت بذلك بطلان المحسات، فكان مثلا يقول: إذا كان ثمت في الوجود شيء فلا بد أن تكون له بداية، وهو إما أن يكون قد نشأ من العدم، أو من وجود سابق له، فأما النشأة من العدم فمستحيلة؛ لأن شيئا لا يخرج من لا شيء، وأما تسلسله من وجود قبله، فهذا ينفي أن تكون له بداية، وإذن فلا شيء موجود.
وأما القضية الثانية التي تقرر أنه حتى لو فرضنا وجود شيء فلا تمكن معرفته، فهي نتيجة لازمة لعقيدة السوفسطائيين في اعتماد تحصيل المعرفة على الحواس وحدها دون العقل، وما دامت إدراكات الحواس تختلف عند الأشخاص، بل تختلف عند الشخص الواحد في الظروف المختلفة، فلا يمكن الجزم بحقيقة الشيء كما هو، وترتيب المعرفة على الحواس يؤيد أيضا قضية جورجياس الثالثة؛ لأن ما يصل عن طريق الحس لا يمكن نقله إلى شخص آخر.
وقد تابع من أتى بعد من السوفسطائيين هذه التعاليم وطبقوها على السياسة والأخلاق، فقالوا إذا لم يكن هناك حق في الخارج، وكان ما يظهر للشخص أنه حق، فحق بالنسبة إليه وحده، فلا يمكن أن يكون هناك قانون خارجي أخلاقي عام يخضع له الناس جميعا، وإنما المسألة ترجع إلى إحساس الشخص نفسه، فما تراه حقا فحق لك، وما رأيت عمله فاعمله ويكون عمله مشروعا.
ويتبع هذا رأيهم في القانون، فليس هناك قانون عام مؤسس على العدالة أو نحو ذلك؛ لأنه ليس هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، وليس هناك قانون عادل في نفسه، وإنما قوانين الدولة كما قال بولس
وثراسيماكوس
Thrasymachus
اختراع الضعفاء ليخضعوا بها الأقوياء، وليختلسوا منهم ثمار قوتهم، وإذا بلغ إنسان من القوة مبلغا يستطيع معه الخروج على القانون من غير أن يعاقب، فله الحق في الخروج؛ لذلك يعدون أول من رأى أن القوة هي الحق.
وهذه التعاليم كما ترى تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي، للدين، للأخلاق، لكل نظم الدولة، ومن ثم كانوا مثارا لسخط من أتى بعدهم من الفلاسفة، وموضعا لانتقادهم وهدم تعاليمهم، ولكنهم من غير شك نشروا التعليم في بلاد اليونان، وهيجوا الأفكار للبحث والمناقشة في أساس الأخلاق، فمهدوا الطريق لتعاليم سقراط وأفلاطون، وأسسوا علم البلاغة، ووجهوا اهتمام الناس إليه، وكان لتعاليم السوفسطائيين أثر مختلف في عقول الباحثين في العصور المختلفة.
وتعاليمهم هذه هي السبب في أن ليس لهم تعاليم فلسفية إيجابية، فقد قنعوا بأن ليس هناك حقيقة، وإن وجدت فليس من سبيل إلى اكتشافها؛ ولهذا خصصوا أنفسهم للبلاغة وللسياسة، وقالوا إن لم تكن هناك حقيقة تعرف وتعلم، فأمامنا باب الاستمالة والتأثير في الناس، وإن لم يكن حق وباطل في ذاتهما، فهناك طرق للإقناع، وهذا هو الطريق الذي سلكوه، طريق البلاغة.
ومهما قال الناقدون في فلسفة السوفسطائيين، فلا سبيل إلى إنكار هذه الحقيقة، وهي أن عصرهم كان عصر نهضة فكرية كهذه النهضات التي تجيء في التاريخ على فترات متباعدة، والتي يظهر أنها تتبع عهودا تنشط فيها الفلسفة والعلوم، فقد جاء السوفسطائيون بعد تلك الفترة التي امتدت من طاليس إلى أنكسمندر، والتي امتلأت بأعلام الرجال الذين أنتجوا في الفلسفة والعلم إنتاجا خصبا غزيرا، فأخذت هذه الأكداس من المعرفة تتقطر على طول الزمن إلى الدهماء قطرة قطرة، إذ لا سبيل إلى علم الدهماء لها في حينها ومتابعتها خطوة خطوة، فاستنار الشعب واتسع أفقه العقلي بعض الشيء، وبدأ ينظر إلى آرائه القديمة، وعقائده البالية نظرة الناقد الساخط، ولم يتردد في هجرها ونبذها في ضوء فكره الجديد، هكذا تتابع حلقات الفكر في التاريخ فيكون بناء في أوله وهداما في آخره، يكون أفكارا إيجابية عند صدوره من أصحابه، فإذا وجد سبيله إلى أذهان العامة كان قوة سلبية تظهر في صورة الشك والنقد والتحطيم، وهذا علة ما تنطبع به النهضات الفكرية في العصور من طوابع الشك والإنكار التي تتناول بمعاولها الحكومة والتقاليد والعادات، وإذا ما انقضت هذه العمد الثلاثة فقد تقوض المجتمع من أساسه، وانمحت روح الجماعة وظهرت روح الفرد بكل ما تجره الأنانية وراءها من ذيول.
ولقد شهدت إنجلترا وفرنسا في أوائل القرن الثامن عشر نهضة فكرية كالتي بينا، فساد الشك وحاول الفكر أن يهدم كل قديم، لا ينجو منه نظام من النظم، فتناول الأسرة والدولة والقوانين، وقد جاءت تلك النهضة أيضا عقب عصر إيجابي بنائي، وها نحن أولاء اليوم نشاهد عهدا جديدا للشك، بعد أن سبقه القرن التاسع عشر بطائفة كبيرة من الإنتاج العلمي، تسللت إلى العقول تدريجا، فاتسع النطاق العقلي، ولم يعد يرضي الناس ثوب الفكر القديم، وهم يحاولون اليوم أن يخلعوه ليستبدلوا به جديدا، ومما هو جدير بالذكر أن الفلسفة السائدة اليوم - وهي الفلسفة العملية - البراجماتزم
،
2
التي لا تريد أن تعترف بحقيقة في ذاتها مستقلة عن الإنسان، بل الحقيقة عندها هي ما يكون نافعا في الحياة العملية، قريبة الشبه جدا بتعاليم السوفسطائيين، ولسنا نخطئ إذا قلنا إنها سوفسطائية العصر الحديث، تحاول أن تتخذ من الإنسان مقياسا لكل شيء، وكل الفرق بينها وبين سوفسطائية بروتاجوراس هو فرق في معنى «الإنسان» فكان بروتاجوراس يعني به الفرد، ومذهب البراجماتزم اليوم يريد به الإنسانية كلها، ولما كان ما ينفع الإنسان اليوم قد يضره غدا، وما ينفع هذه الأمة قد يضر أمة اخرى، إذن فليس ثمت حقيقة ثابتة خالدة.
ولا ريب في أن موضع الخطأ عند بروتاجوراس قديما، وفي مذهب البراجماتزم حديثا، هو الاعتماد على حواس الإنسان (مع أن حواس الشخص خاصة به)، وتجاهل الجانب العقلي منه، (مع أنه العنصر الذي يشترك فيه أفراد البشر جميعا).
فلئن كنا ندين للسوفسطائيين حقا بالإكبار من شخصية الفرد، والمطالبة ألا تفرض عليه الآراء والعقائد فرضا، بل يقنع بها إقناعا، فلا نذهب معهم إلى حد إهمال الحقيقة الخارجية مستقلة عن الإنسان، ولئن كنا نذهب معهم فيما ذهبوا إليه من أن لكل إنسان الحرية في الرأي واعتقاد ما يرى، فنحن نضيف إلى ذلك شرطا وهو: أنه لا يجوز لفرد أن يرى رأيا إلا إذا قام عليه الدليل العقلي دون إحساسه وشعوره ، وإن كنا نوافقهم في أن الأخلاق تختلف باختلاف الشعوب، إلا أننا لا نخلص من هذه المقدمة إلى النتيجة التي خلصوا إليها من أنه ليس هناك معيار خلقي حق في ذاته؛ لأن اختلاف الرأي في الأخلاق كاختلاف الرأي في أي ظاهرة أخرى لا ينهض دليلا على انعدام الحقيقة في ذاتها، فإذا اختلفت الأقوال في شكل الأرض، هل هي مسطحة أم كرية، فليس معنى ذلك أن ليس للأرض شكل ما، وهكذا الشأن في الأخلاق، فإن أجازت أمة البغاء وحرمته أخرى، وإن أجاز المصريون القدماء زواج الأخت وحرمه غيرهم، فليس ذلك دليلا على أن الإنسان مقياس الأخلاق، وأن ليس هناك حقيقة خلقية ثابتة في ذاتها.
الفصل التاسع
سقراط
Socrates
سقراط.
كان من آثار السوفسطائيين أن تعرض كل نظام للسقوط، وانهدم ما كان للناس من مثل يطمحون إليها، سواء في ذلك الأخلاق والدين والحقيقة والقانون، فقد ذهب كل فرد في إدراك الفضيلة والرذيلة وتفسير الخير والشر مذهبا يناسب هواه ويتفق ومآربه، وأخضعوا الدين للنقد والشك حتى كادت العقائد في الآلهة تندك من أساسها، وأنكروا الحقائق الخارجية إنكارا، فالإنسان هو مقياس كل شيء، ولم يعتقدوا أن ثمت حقيقة في الواقع الخارجي مستقلة عن الإنسان، وعبثوا بالعادات الموروثة والقوانين، فجاء سقراط وألفى هذه الأنقاض المنهدمة يعوزها البناء، فأقامها وأعاد لها النظام الذي أتلفه السوفسطائيون.
ولد سقراط في أثينا حول سنة 470ق.م من أب يحترف صناعة التماثيل وأم قابلة، ولو أن التاريخ لا يعي عن طفولته ونشأته إلا قليلا لا يغني في تصويره تصويرا دقيقا، إلا أن له خاصة عجيبة تحببه إلى النفوس وتجذبه نحو القلوب، فلا يكاد القارئ يتلو من تاريخه ذلك القليل المذكور حتى تسرع الصورة إلى صفحة الذهن تامة واضحة، هي بلا شك أشد وضوحا من صورة أفلاطون الأرستقراطي، وأنصع جلاء من صورة أرسطو العالم، على كثرة ما أفاض التاريخ في حياتهما، احترف حرفة أبيه ولبث يزاولها حينا قصيرا، قيل إنه صنع خلاله مجموعة ضئيلة من التماثيل عرضت فيما بعد في الأكروبوليس بأثينا، ثم ترك هذه المهنة، وتخصص للفلسفة التي اعتبرها رسالته في الحياة، وكان يعيش في أثينا، ولبث فيها لم يغادرها قط إلا حين اضطرته ظروف الحرب أن ينخرط في سلك الجيش، وظل مشتغلا بالفلسفة حتى اتهم في نحو سن السبعين بإنكار آلهة اليونان والدعوة إلى آلهة جديدة، وأنه يفسد عقول الشبان، فحكم عليه بالإعدام وأعدم.
كان سقراط قبيح المنظر، فهو قصير بدين دميم، بارز العين، كبير الأنف في قبح، واسع الفم، بالي الثياب، وأراد الله أن يكون هذا الشكل الممقوت مستقرا لنفس قوية جميلة ذكية، فقد كان عادلا حتى لا يؤثر عنه أنه ظلم أحدا، حكيما حتى قل أن يخطئ في حكمه على شيء بأنه حق أو باطل، وكان ضابطا لنفسه إلى حد يستدعي الإعجاب، راضها حتى أصبحت طوع إرادته، وحتى كان دخله القليل يكفي كل حاجاته، وكانت مواهبه العقلية لا تقل عن مواهبه الأخلاقية، فهو مفكر دقيق الملاحظة يستغل مواهبه وينظم استعمالها، وعلى كثرة ما حباه الله من مواهب العقل كان يعلن أنه لا يعرف شيئا، وليس حكيما ولكنه فيلسوف «محب للحكمة» فكثيرا ما قال: «أنا أعرف شيئا واحدا وهو أني لا أعرف شيئا.»
سقراط في حلقة الدرس.
ولما كان سقراط يحب الحكمة وينشدها، فقد كان يتلمسها في كل من يصادفه، واعتاد أن ينزل إلى سوق أثينا أو المجتمعات العامة، ثم يتحدث مع كل من أنس منه ميلا إلى الكلام في مسائل الحياة والموت وما يتعلق بهما، لا يعبأ بحالة من يحادثه، غني أم فقير، شاب أم شيخ، صديق أم غير صديق، وحديثه مباح لكل من يريد، لا يأخذ عليه أجرا كما كان يفعل السوفسطائيون، ولم يكن يحتكر الكلام، بل يتبادل الحديث، ويوجه المناقشة إلى الجهة المنتجة، وهذه الطريقة التي مهر فيها سقراط هي طريقة الحوار، فكان يلقي على سامعه سؤالا ثم يناقش جوابه ويصححه أو يتممه، ثم يتعرض للسؤال ويجيب، وكثيرا ما تعمد أن يورط محاوره في الخطأ أو يتورط هو في الخطأ لينكشف جهل محدثه، أو ليستخلص منه النتيجة كأنها قضية صحيحة معروفة من قبل.
ولم يكن سقراط يرى أنه مخير فيما يفعل، بل كان يعتقد أنه مسير بوحي يملي عليه ما يقول، ويرسم له طريق المسير، ويطلعه على نتائج الأعمال قبل حدوثها، وهو إنما يؤدي رسالة فرضتها عليه الآلهة، ليس له على أدائها محيص، وقد روى أفلاطون في أحد فصوله حديثا عما حدث لسقراط من وحي، هذا نصه: «ذهب شريفون
Chairephon
حاجا إلى معبد دلفي
Delphy
فسأل الكاهنة: هل بين الرجال من هو أكثر حكمة من سقراط؟ فأجابت: لا ... قال سقراط: فلما نمى إلي الحديث سألت نفسي: ماذا يعني الإله بهذا الجواب؟ وإلى أي شيء يقصد؟ ولم يدر بخاطري قط أنني بلغت من الحكمة شيئا، فماذا عساه يعني حين أجاب بأنني أوسع الناس حكمة؟ إنه لا يجوز عليه الكذب، فالكذب مستحيل على الله، ولقد لبثت في هذه الحيرة طويلا أسائل نفسي عن معنى ما نطق به الإله، وأخيرا وبعد تفكير طويل قمت بالتجربة الآتية: التمست رجلا ممن يتظاهرون بالحكمة، وظننت أني سأستطيع أن أفند قول الآلهة وأبلغها: «إن هذا الرجل قد بلغ من الحكمة ما لم أبلغ رغم قولك إنني أحكم الناس.» فما كدت أختبر الرجل - ولن أذكر هنا اسمه - وكان من أعلام أثينا، ولم يكد الحديث يدور بيننا حتى قلت في نفسي: «إن هذا الرجل وإن تظاهر بالحكمة أمام الناس وأمام نفسه، لا يتصل بالحكمة في قليل ولا كثير.» وحاولت بعدئذ أن أدله على أنه ليس حكيما وإن توهم في نفسه الحكمة، فغضب مني كما غضب كثير ممن كانوا على مقربة منا، فانصرفت وقلت: «حسنا، إنني أحكم من هذا الرجل على كل حال، فقد لا يعرف أحدنا شيئا عن الجمال أو الخير، ولكنه يظن أنه يعرف شيئا وهو لا يعرف، أما أنا فإن كنت لا أدري فلست أفرض على الأقل أنني أدري، وإذن فأنا أحكم منه قليلا.» وقصدت بعدئذ رجلا آخر كان المعروف أنه أحكم من سابقه، وأجريت التجربة نفسها، فغضب مني وغضب معه كثيرون، وهكذا التمست مدعي الحكمة واحدا فواحدا حتى أكملتهم جميعا، وعلمت الحقيقة آسفا.»
أيقن إذن سقراط أنه أحكم أهل زمانه حقا بهذا التفسير، وكان يعلن كلما بدأ حوارا أنه يجهل الموضوع جهلا تاما، وأنه راغب شديد الرغبة في معرفة ما قد يعلمه محاوره، ولم يكن في هذا الظهور بالجهل متكلفا ولا متصنعا، بل كان يعتقد اعتقادا جازما بأنه وبأن الناس جميعا لا يعرفون شيئا عما يتشدقون به من ألفاظ، ومن في أثينا كان يستطيع أن يقول شيئا عن حقيقة الخير والحق والجمال؟ لا شك أنهم عاجزون عن تحديد معانيها، وكل ما يتظاهرون به من حكمة وعلم إن هو إلا إغراق في الجهل والحمق والغرور، وكان سقراط يثق بجهل مناقشيه، ولكنه اعتاد أن يسخر ويتهكم منهم، فيقول لمحدثه: إني على يقين أنك تعلم عن الموضوع المبسوط شيئا، ثم يرجو ويلح في الرجاء أن يفيض مناقشه عليه من علمه وحكمته، فإذا ما جازت الحيلة على المحدث المسكين، وهم بالحديث واندفع في سوق الحقائق اندفاعا، أبدى سقراط إعجابه به لولا أن نقطة غامضة اندست في ثنايا الحديث، وهو يرجو لها شرحا وإيضاحا، ثم يأخذ في إلقاء الأسئلة المحرجة في مهارة ولباقة، وإذا بالمحدث متورط في جهله، معترف به.
معبد دلفي، حيث سأل سقراط الكاهنة فأجابته بأنه سيكون أحكم الآثنيين.
لبث سقراط يزاول في كل يوم حواره الفلسفي، لا يلتزم له مكانا معينا، فهو يحاور في السوق، وفي حوانيت الصناع، وفي أروقة الحمام، وفي الملاعب الرياضية، ولا يلتزم لحواره موضوعا معينا، فهو يناقش في كل ما يعرض من مسائل، حتى بلغ من عمره عامه السبعين، وكان قد ألب على نفسه طبقات الشعب؛ لأنه كره نظام الديمقراطية في الحكم، ولم يسغ أن ينتخب لمناصب الدولة جماعة الزراع والصناع، كما أغضب الطبقة العالية؛ لأنه كان يمقت الأرستقراطية وما تجر وراءها من الاستبداد والظلم، فوجهت إليه تهم ثلاث: الأولى إنكاره آلهة اليونان، والثانية دعوته إلى آلهة جديدة، والثالثة إفساد الشباب الذي فتن به والتف حوله التفافا شديدا مأخوذا بسحر حواره.
ولم تكن تلك التهم قائمة على أساس صحيح، فقد انتحلت انتحالا للنيل منه، انتحلها جماعة من أعدائه مثل أنيتس
Anytus
الذي كان زعيما من زعماء الديمقراطية فغاظه أن يكيد سقراط لها، والذي كان ابنه واحدا من تلاميذ سقراط فرآه يسخر مرة على مسمع منه بالآلهة التي يعبدها، أما الجريمة الأولى وهي إنكار الآلهة فهي إن جاز أن توجه إلى كل من سبق سقراط من فلاسفة، فلا يجوز بحال من الأحوال أن يتهم بها سقراط الذي كان عف اللسان نحو الآلهة، بل كثيرا ما ساهم في تقديسهم، وأما الجريمة الثانية وهي الدعوة لآلهة جديدة، فهي قائمة على ما ادعاه سقراط من أنه مسير بصوت باطني يوحي إليه بما يقول وما يفعل، وبديهي أن ذلك لا يكفي لترجيع الاتهام، وأما إفساد للشباب فقول باطل مردود، ولو كان لسقراط في نفوس الشباب من أثر فهو التهذيب والإصلاح.
ولكن سقراط كان قد أثار عليه النفوس، فهاجم الديمقراطية هجوما عنيفا، فنقم عليه أنصارها، ولم تكد تنتصر فيما نشب بينها وبين الأرستقراطية من تنازع حتى بادرت بالانتقام من سقراط، ونقد الأرستقراطية فحنق عليه رجالها، كذلك أثار الحقد في نفوس الحكماء والعلماء، أو من كانوا يدعون الحكمة والعلم؛ لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه سخر من علمهم وحكمتهم من جهة أخرى، وفوق هذا كله فقد اختلط الأمر على الرأي العام، وحسب سقراط واحدا من السوفسطائيين؛ ولذا حقت عليه الكراهية ووجب له العقاب، لأن الشعب كان قد سئم تلك الطائفة وكره كل من ينتسب إليها، ولسنا بحاجة إلى القول بأن البون شاسع بين سقراط والسوفسطائيين من حيث الأسلوب ومادة الفكر والغرض، ولكن الشعب لم يفرق بين النقيضين، كما يتضح من قصة السحاب التي ألفها أرستوفان
Aristophanes ، وكان رجعيا يمقت الحرية في الفكر، وينفر من كل تجديد، فكان يبغض السوفسطائيين أشد البغض باعتبارهم دعاة للتجديد، فهزأ بهم وسخر من تعاليمهم واتخذ فيها سقراط بطلا لها، واعتبره فيها زعيما لطائفة السوفسطائيين، وفي هذا دليل قاطع على أن الرأي العام قد خلط بين سقراط وبينهم ، ولو لم يكن الشعب قد اتجه هذا الاتجاه لما استطاع أرستوفان أن يمثل قصته على مشهد منه، وإذن فقد ذهب سقراط ضحية الخطأ في عدم التمييز بينه وبين تلك الجماعة التي جاء ليصلح ما أفسدته، فويل لمن يسبق عصره فكره، وويل لمن يقدم للناس طعاما لا تقوى على هضمه معداتهم.
تقدم بالتهمة ضد سقراط ثلاثة من أعدائه هم: مليتس
Melitus ، وليكون
Lycon
وأنيتس
Anytus ، وكان المألوف إذ ذاك أن يقف المتهم أمام القضاة باكيا مستعطفا مسترحما، وأن يقدم زوجه وأبناءه لعلهم يثيرون في نفوس القضاة العطف والرحمة، ولكن سقراط أبى ذلك على رجولته، وكم دهش القضاة وكم ثارت ثائرتهم حين وقف سقراط يدافع عن نفسه، فلم يكن قوله منصرفا إلى رد الاتهام وإلى تبرئة نفسه مما نسب إليها، ولكنه أخذ يشفق على قضاته في موقفهم المخزي، ويتوجع لما يصيب النفوس من فساد، ويود لو استطاع أن يتمم المهمة التي بدأها وهي تطهير الشباب من مثل هذا الشر والفساد، ولو استرحم سقراط لظفر بالبراءة ولكنه لم يفعل، فأصدر القضاة حكمهم بأغلبية ضئيلة جدا بثبوت التهمة عليه، تمهيدا لحكم يليه يحدد فيه الجزاء، وكان القانون ينص على أنه إذا ثبتت تهمة على متهم، وجب أن يقترح المدعي عقوبة كما يقترح المتهم عقوبة أخرى، ثم يترك للقضاء اختيار ما يراه من العقوبتين، فاقترح المتهمون الثلاثة عقوبة الإعدام، وطلب إلى سقراط أن يعلن اقتراحه، فأجاب في تهكم لاذع إنه لم يرتكب جرما ولكنه عني بالإصلاح، وإذا كان لا بد من إبداء رأيه فيما يستحق من الجزاء فهو أن يتربع منصبا في مجلس القضاء جزاء وفاقا لما قدم للشعب من خير، هنا ثارت ثائرة الغضب من القضاة ولم يترددوا في أن يقرروا عقوبة الإعدام على سقراط بأغلبية كبيرة.
أرستوفان.
قضى سقراط في سجنه ثلاثين يوما ينتظر تنفيذ الموت، وكان أصدقاؤه يغرونه خلالها بالفرار، ولم يكن الفرار من السجن شاقا ولا عسيرا، فقديما فر فيلسوف آخر من سجنه هو أناكسجوراس الذي أعانه على الفرار بركليس، وقليل من الدنانير كانت تكفي لرشوة الحارس وتمهيد الهروب.
سجن سقراط، وفيه اجتمع تلاميذ سقراط حول أستاذهم يحاورونه في مسائل الحياة والموت والخلود.
ولكن سقراط لم يستمع إلى إغراء أصدقائه، ورفض رفضا حاسما أن يفر من وجه الموت، فذلك خور وجبن، وواجب على الفرد أن يطيع القانون، فإذا ما قضى بالموت وجب أن تقدم النفس طائعة، ولعل في هذا أسطع دليل على أن سقراط لم يكن ثائرا في وجه القانون والعادات والتقاليد الموروثة كما اتهمه بذلك أعداؤه، فلما جاء الأجل المحتوم وقدم لسقراط قدح السم تجرعه في إقدام، ونحب أن نسوق في هذا المكان فصلا كتبه أفلاطون عن موت سقراط، وأجراه على لسان صديق من أصدقائه الذين شهدوه ساعة الموت: «... نهض سقراط ودخل غرفة الحمام ليغتسل، وتبعه كريتو
Crito ، وأشار إلينا بأن ننتظره حتى يعود، فأخذ الحديث يدور بيننا حول النكبة التي حلت بنا، وذكرنا أننا سنقضي بقية الحياة أيتاما، فأخذنا الجزع من هول المصاب، ولما فرغ من اغتساله وجاء إليه أبناؤه الثلاثة وكانوا صبيا وطفلين، كما قدمت سيدات أسرته، حدثهم قليلا في حضرة كريتو، ثم أمرهم بالانصراف، وعاد إلينا وكانت الشمس قد أوشكت على الغروب؛ لأنه قضى في الحمام فترة طويلة، فلما أخذ مجلسه بيننا لم يكثر من حديثه، ثم دخل ضابط واقترب منه وقال: «يا سقراط، أود ألا تخطئ كما يخطئ غيرك، فإنهم يسخطون ويلعنون حينما أتقدم إليهم بجرعة السم، ولست في ذلك إلا صادعا بما أمرت به، ولكني وجدت فيك أثناء إقامتك في السجن رجلا نبيلا وديعا جليلا، لا تقاس بمن شهد هذا المكان من قبل، ولست أشك في أنك لن تنقم أو تثور، والآن - وأنت عالم بما جئت أعلنه إليك - وداعا، وحاول ما استطعت أن تحتمل ما ليس من احتماله بد.» وانفجر الرجل باكيا وانصرف، فنظر إليه سقراط وقال: «وداعا ، وسأفعل ما تريد.» ثم التفت إلينا وقال: «ما أرحم هذا الرجل، إنه لم ينقطع عن زيارتي طول إقامتي، وكثيرا ما كنت أناقشه، فأرى فيه رجلا من أقوم الرجال، وهو يبكي من أجلي بكاء صادرا عن عطف كريم، تعال إلي يا كريتو، دعنا ننفذ الأمر، ومر أحدا بإحضار السم إذا كان قد تم إعداده وإلا فقل لهم يعدوه.» فأجاب كريتو: «إن أشعة الشمس يا سقراط لا تزال تسطع فوق الجبال ولم تغب بعد، وأنا أعلم أن من قبلك كانوا لا يشربون السم إلا في ساعة متأخرة بعد إعلانهم، وبعد أن يأكلوا طعام العشاء، ويحتسوا الخمر كما يشاءون، بل إن منهم من زاول شئون الحب مع من يحب، فلا تتعجلهم، ولا يزال في الوقت متسع.» قال سقراط: «إن هؤلاء الذين ذكرتهم يا كريتو كانوا على حق فيما فعلوا ما داموا قد توهموا أنهم يكسبون من وراء ذلك شيئا، وأنا كذلك على حق فيما أفعل ما دمت أحسب أنني لن أجني من التسويف شيئا، إلا أن أضع نفسي من نفسي موضع السخرية حينما أتعلق بأسباب الحياة، وأحاول أن أبقي منها حشاشة ذاهبة ولا ريب، اذهب وافعل ما آمرك به ولا تعارض.» فلما سمع ذلك كريتو أشار برأسه إلى غلام على مقربة منه فخرج ولم يلبث أن عاد وفي صحبته رجل يحمل في يده كأسا، ولم يكد يراها سقراط حتى قال: «حسنا يا صديقي العزيز، أرجو أن تشير إلي بما أفعل؛ لأنك قد مرنت على مثل هذا الأمر.» فأجاب الرجل: «لا شيء أكثر من أن تجرع السم، ثم تمشي قليلا فإذا ما شعرت بثقل في ساقيك فنم، وسيكون للسم أثره المطلوب.» ثم قدم القدح إلى سقراط، فتناوله باسما لم يضطرب ولم يمتقع لونه ونظر إلى الرجل قائلا: «لا أظن القانون يحول بيني وبين الآلهة الآن، فلأصل لهم ولأضرع إليهم أن أوفق إلى رحلة سعيدة.» قال هذا وشرب القدح في رزانة وهدوء، وكنا نحن في بكاء لا ينقطع ثم حبسنا الدمع لما رأيناه يرفع إلى فمه الكأس، ولكني لم ألبث طويلا حتى انفجرت بالبكاء مرة ثانية وابتل وجهي بالدموع، ولم أكن في ذلك أبكي سقراط، إنما أندب حظي العاثر إذ فقدت هذا الصديق الوفي، ونهض كريتو إذ عجز هو كذلك عن حبس البكاء، وكان لنحيبه صوت يبعث الأسى، فنفذ إلى قلوب الحاضرين جميعا ما عدا سقراط، فقد قال لنا: «ماذا تفعلون يا صفوة الأصدقاء؟ لقد صرفت النسوة من أجل هذا، وخشيت أن يكون منهن مثل هذا العبث، فقد سمعت أن من الخير للرجل أن يسلم النفس في هدوء، فصمتا واحتمالا.» فاعترانا الخجل إذ سمعنا منه الحديث، وكففنا الدمع المنهمر، أما هو فقد أخذ يجول حتى شعر بساقيه يثقلان، فرقد وظهره للأرض كما أوصاه الرجل الذي أمسكه، واختبر ساقيه وقدميه، وضغط على قدمه ضغطة قوية، وسأله هل شعر بها؟ فأجاب أن لا، وضغط على فخذيه، ثم أخذ يسير نحو رأسه قليلا قليلا، قائلا إن جسده آخذ في التصلب والبرودة، وهنا مسح سقراط بيده على صدره وقال: عندما يصل السم إلى قلبه ستكون نهايته. ولما برد أسفل البطن كشف عن نفسه ما أسدل فوقه من غطاء وقال: وهي آخر ما لفظت شفتاه من حديث: «أنا مدين بدين إلى إسيكيو لابيوس يا كريتو، فرده إليه ولا تهمل.» فأجاب كريتو: «سأفعل ذلك، أليس لديك ما توصي به غير هذا؟» فلم يجب سقراط، وبعد قليل اهتز هزة عنيفة، فنشر الرجل فوق وجهه الغطاء، ولاحظ كريتو أن عينيه مفتوحتان فأطبق عليهما الجفنين، وأقفل فمه المفتوح.»
موت سقراط. •••
بدأت الفلسفة منذ السوفسطائيين تتجه ببحثها نحو الإنسان، وانصرف سقراط يحاول معرفة حقيقته، وكان مكتوبا على معبد «دلفي» هذه الحكمة القديمة: «اعرف نفسك بنفسك.» فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارا له وقاعدة لفلسفته، فليس سوى النفس الإنسانية جديرا بالبحث، ولا خير في معرفة تهمل الإنسان لتعنى بالطبيعة تلتمس أصلها وعلة ظواهرها، ولا قيمة لعلوم الرياضة والطبيعيات والفلك إذا قيست بمعرفة الإنسان، أو بعبارة أخرى بمعرفة الأخلاق؛ ولذلك تراه يقول عن نفسه إنه لم يغادر المدينة إلى الحقول والأشجار؛ لأن هذه لا تعلمه شيئا، وأسمى ما يريد أن يظفر به هو معرفة الأخلاق وحدها، ولما كانت الأخلاق لا تكون جديرة بهذا إلا إن كان لها مقياس ثابت لا يتبدل تبعا لأهواء الأشخاص حاول سقراط أن يقيم الدليل على بطلان ما ذهب إليه السوفسطائيون من أن الأخلاق اعتبارات شخصية، ولكن كان السوفسطائيون وضعوا مبدأ شاملا دعوا إليه، وهو أن الإنسان مقياس لكل شيء، فليس هو مقياسا للأخلاق وحدها بل لكل الحقائق؛ ولذا كان لزاما على سقراط أن يهدم هذا الرأي ليثبت الحقائق التي أنكر وجودها السوفسطائيون، ثم يفرع عن هذا ما كان يقصد إليه، وهو أن للأخلاق حقائق ثابتة تقاس بها أعمال الإنسان، فلنتناول بالشرح ما ارتآه سقراط في هذا الموضوع:
ذهب السوفسطائيون إلى أن الحواس هي وحدها السبيل إلى وصول المعلومات إلى الذهن، فالإدراك الحسي هو أساس المعلومات جميعا، ولما كان هذا الإدراك يختلف باختلاف الأشخاص، كانت المعلومات التي تجيء عن طريقه مختلفة كذلك، وإذن فلسنا نعرف من الحقيقة إلا هذه الصور المختلفة التي تقدمها إلينا الحواس، ولا يمكن التسليم بأن ثمت في الخارج حقائق للأشياء ثابتة مع تباين الأشخاص في إدراكها؛ لأنه حتى لو كان في الخارج تلك الحقائق الثابتة فلا سبيل إلى معرفتها ما دمنا نعتمد على الحواس وحدها، فكانت رسالة سقراط أن يبني تحصيل المعرفة على العقل لا على الحواس، وبذلك يثبت ما أنكره السوفسطائيون من وجود الحقائق الثابتة في الواقع الخارجي، ولشرح ذلك نقول:
إذا رأيت رجلا أو شجرة أو قلما، فإحساسك بهذا الشيء الذي تراه إدراك لجزئي واحد من الجزئيات، ولكن لديك إلى جانب هذه الأشياء الجزئية التي تحصلها حواسك مما تصادفه في العالم الخارجي مجموعة من الأفكار العامة تتعلق بالأنواع لا بالأشياء الجزئية ذاتها، وهذه الأفكار العامة لم تصل إليك من طريق الحواس، وإنما نبعت من عقلك ذاته، فأسماء الأنواع كالإنسان والشجرة والمنزل والحيوان لا نطلقها على جزئي واحد، بل على النوع كله، ونعني بها الصفات التي يشترك فيها كل أفراد النوع، ولا ندخل في حسابنا تلك الصفات التي تظهر في بعضها دون بعض، فالفكرة العامة عن الحصان ليس فيها صفة البياض؛ لأنه إن اتصف بعض الجياد بهذا اللون فبعضها الآخر ليس كذلك، ولكنها تتضمن مثلا صفة الصهيل؛ لأنها جميعا تشترك فيها، فهذا الجمع بين الصفات المشتركة في أفراد النوع وأبعاد الصفات العارضة، هو من عمل العقل لا الحواس، وهو ما نسميه إدراكا عقليا أو كليا، وهذه الإدراكات العقلية أو الكلية عند سقراط هي المعرفة؛ ولذلك لم يتردد في اعتبار العقل أداة تحصيل المعرفة دون الحواس، على خلاف ما رأى السوفسطائيون من أن المعرفة كلها لا تعدو الإدراكات الجزئية التي تصل إلى الذهن عن طريق الحواس.
وإذا كانت الحواس ومدركاتها تختلف باختلاف الأشخاص فليس العقل كذلك، إنما هو عام مشترك عند جميع الناس، وما دمنا قد سلمنا بأنه أداة المعرفة، فقد وصلنا إلى نتيجة خطيرة جدا تهدم تعاليم السوفسطائيين من أساسها، وهي أن الحقائق الخارجية ثابتة؛ لأن الناس جميعا يرونها بمنظار واحد، هو العقل، الذي لا يختلف إدراكه في شخص عن شخص آخر.
هذا الإدراك العقلي للأنواع هو في الواقع تعريفها، فإذا أردنا أن نعرف كلمة إنسان أدخلنا في التعريف الصفات التي يشترك فيها كل أفراد الإنسان دون الصفات العارضة الخاصة ببعض الأفراد، فلا يجوز مثلا أن نعرف الإنسان بأنه حيوان أبيض؛ لأن هذا اللون لا يشترك فيه الأفراد جميعا، ولا أن نقول هو حيوان متكلم بالعربية، لأن هذه اللغة خاصة بطائفة معينة، ولكنا لا نخطئ حين ندخل في التعريف صفة التفكير؛ لأنها عامة شاملة لجميع الأفراد، وليس للشواذ حساب في تكوين القاعدة، وإذا كانت طريقة تكوين التعريف هي نفس الطريقة التي تتبع في تكوين المدركات العقلية، أي جمع الصفات المشتركة وإسقاط الصفات الخاصة، فلا شك في أن التعاريف هي التعبير عن مدركاتنا العقلية، وما دام في مقدورنا أن نصوغ لكل نوع تعريفا جامعا لصفاته الجوهرية، أمكننا بذلك أن نحصل على مقاييس للحقائق الخارجية؛ لأننا لو عرفنا المثلث مثلا استطعنا أن نقارن كل شكل هندسي في الخارج بهذا التعريف لنحكم في يقين هل هو مثلث أم شكل آخر، وليس من حق الأشخاص أن يختلفوا في حقيقته، فيصر أحد على أنه مثلث بينما يؤكد الآخر أنه مربع، ما دام لديهم مقياس يرجعون إليه عند الخلاف، وإذن فنحن نستطيع أن نصوغ للفضيلة تعريفا يقوم على أساس إدراكنا العقلي لصفاتها المشتركة في كل الأعمال الفاضلة، وبذلك يكون لدينا معيار نقيس به أفعال الناس فنميز بين خيرها وشرها، ولا يجوز للسوفسطائيين بعدئذ أن يجاهروا برأيهم بأن ما أراه حقا هو حق لي، وما يطيب لي عمله فضيلة بالنسبة لي؛ لأننا ظفرنا بمقياس يقره العقل، وهو عنصر مشترك عند كل الأشخاص، يمكننا أن نرجع إليه فنحكم على العمل مستقلا عن نزوات الشخص وميوله.
تلك هي نظرية المعرفة التي أعلنها سقراط، والتي تقوم على أساس الإدراكات العقلية الحسية، فتوصلنا إلى حقائق الأشياء كما هي في الخارج مستقلة عن الإنسان، وأخذ سقراط يسأل بعد هذا: ما الفضيلة؟ ما الحكمة؟ ويحاول أن يصل إلى تعريف يعبر عن إدراك العقل لها، ليضع أساسا للأخلاق تنطبق عليه مدلولاتها الخارجية، سواء صادفت هوى من الشخص أم لم تصادف، وكان يلجأ في ذلك إلى طريقة «الاستقراء»، فيسوق أمثلة كثيرة للشيء الذي يريد أن يضع تعريفا له، ويستخلص الصفات المشتركة من تلك الأمثلة الجزئية، ثم يصوغها في تعريف، فإذا تم له ذلك أخذ يطبق تلك القاعدة الكلية على جزئيات جديدة ليرى مقدار انطباقها على القاعدة التي وصل إليها، فإن لم يجدها مطابقة لها تماما عاد إلى قاعدته يعدل فيها ويصحح حتى يكون التعريف جامعا مانعا.
ولم يقصد سقراط أن تكون نظرية المعرفة التي تقدم شرحها غرضا في ذاتها مقصودة لنفسها، إنما اتخذها وسيلة يستغلها في تطبيقها على الحياة العملية، وهذا شأن سقراط، لا يعنى بالنظريات إلا إن كانت تعينه على أغراض الحياة العملية، فلم يرد بمعرفة الإدراك العقلي للفضيلة - أعني تعريفها - إلا أن يتمكن من السلوك سلوكا فاضلا ينطبق على الفضيلة حسب ما أدركها العقل من صفاتها.
وهنا نصل إلى أساس النظرية الأخلاقية عند سقراط، وهي توحيد الفضيلة والمعرفة، فقد كان يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير إلا إذا عرف ما هو الخير، وبعبارة أخرى إلا إذا عرف الإدراك العقلي للخير، فالعمل الأخلاقي مؤسس على المعرفة ويجب أن يصدر عنها، بل إن الفضيلة والعلم شيء واحد، فيستحيل أن تعرف الخير معرفة صحيحة ولا تعمله، كما يستحيل أن تعمل الخير ولا تعرفه، فيكفي في نظر سقراط أن يعلم الإنسان ما هي الفضيلة حتى يكون بمنجاة من فعل الرذيلة، وكل عمل شر إنما يصدر عن الجهل بالفضيلة؛ لأن الإنسان لا يسعه إذا عرف الخير أن يفعل شرا، وكل الناس ينشدون الفضيلة ولو أنهم يختلفون في معناها، يقول سقراط: «لا يمكن أن يتعمد إنسان الوقوع في الشر، وإذا ارتكبه فلأنه لا يعرف الإدراك العقلي للخير، ولما كان يجهل حقيقة الخير تراه يفعل الشر وهو يظن أنه العمل الصحيح.» وقال سقراط أيضا: «إذا تعمد الإنسان فعل الشر فهو خير من يفعله غير عامد.» لأن الأول فيه الشرط الأساسي لعمل الخير، وهو معرفة ما هو الخير، أما الثاني فلا خير فيه ما دامت تعوزه المعرفة نفسها.
والخلاصة أن سقراط قد ذهب إلى أنه «لا فضيلة إلا المعرفة (العلم)» واستنتج من هذه النظرية نتيجتين: (1)
أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير ما لم يعلم الخير، وكل عمل صدر لا عن علم بالخير فليس خيرا ولا فضيلة، فالعمل الخير لا بد أن يكون مؤسسا على العلم ومنه ينبع. (2)
أن علم الإنسان بأن الشيء خير علما تاما يحمله حتما على عمله، ومعرفته بضرر شيء تحمله حتما على تركه، وليس إنسان يعمل الشر وهو عالم بنتائجه، فكل الشرور ناشئة عن الجهل، ولو علم المرء أين الخير لعمله حتما؛ وعلل ذلك بأن كل إنسان بطبيعته يقصد الخير لنفسه ويكره لها الشر، فمحال أن يفعل ما يضرها وهو عالم بضرره، فما يصدر عن إنسان من الخطأ إنما منشؤه الجهل بالعمل، وعلاج الشرير أن يعلم نتائج الأعمال السيئة التي تصدر عنه، ولتعويد إنسان الخير وجعله مصدرا للفضيلة يعلم نتائج الأعمال الحسنة، وتوسع في تطبيق نظريته، فعنده الإنسان الخير هو الذي يعلم ما يجب عليه، والملك الصالح هو الذي يعرف كيف يحكم الناس حكما عادلا وهكذا.
وهو محق في الاستنتاج الأول من أن أساس الفضيلة المعرفة فلا يكون الإنسان فاضلا حتى يعرف الخير ويقصد إلى عمله، أما الذي يعمل العمل لا عن علم بخيريته فليس «فاضلا» ولو كانت نتائج عمله حسنة، ومخطئ في النتيجة الثانية من أن المعرفة هي كل شيء، وأنها تستلزم العمل على وفقها لا محالة، فكثيرا ما نعلم الخير ونتجنبه ونعلم الشر ونأتيه، فمعرفة الخير ليست كافية في الحمل على فعله بل لا بد أن ينضم إليها إرادة قوية حتى يعمل على وفق ما علم، وقد قال الأستاذ «سانتهلير» ردا على هذه النظرية: «ليس ما يقع الإنسان فيه من الإثم ناشئا عن خطأ في الموازنة بين اللذة الحاضرة والآلام المستقبلة التي هي أكبر منها كما يعتقد سقراط، ولا ناشئا عن جهل بطبائع الأشياء، إنما منشؤه فساد في الخلق يحمل الإنسان على تفضيل الشر على الخير وهو عالم بهما وبقيمة كليهما جميعا، فإن الشرير لا يجهل البتة ما يفعل من سوء ... إنه يشعر تماما بخسرانه، ولكنه يسعى إلى هذا الخسران وهو آسف، إنما هزيمة عقله نفسها هي الفاعلة للخطيئة؛ لأنه إذا كان يجهل ما يفعل فليس بمجرم ولا بمسئول أمام الناس ولا أمام الله، وحينئذ بهذه المثابة لا تكون الفضيلة والعلم متماثلين، فقد يعلم الإنسان ولا يعمل، وقد يعمل ضد ما يعلم ... إذا كانت الفضيلة في الواقع هي العلم وجب على الإنسان أن يقتصر على أن يعلم ليكون فاضلا، وبذلك تتضاءل الحياة الأخلاقية إلى مجرد النظر والتأمل.»
1
ورد أرسطو على نظرية سقراط ردا مقنعا فقال: إن سقراط جهل أو تناسى أن نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده، وتخيل أن كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل، ومن ثم إذا علم العقل فضل العمل، ولكنه نسي أن أكثر أعماله محكومة بالعواطف والشهوات، وإذ ذاك قد يقع في الخطأ مهما علم العقل.
ولعل خطأ سقراط في الرأي راجع إلى أنه نظر إلى الموضوع من وجهته هو، وقاس الناس على مقياسه، فقد كان سليما مما يتصف به عامة الناس من ضعف، ولم يكن لمشاعره على نفسه سلطان، ولكن عقله وحده هو الذي ملك قياده، فكان عمل الخير يعقب معرفته مباشرة كما يعقب الليل النهار؛ ولذا لم يفهم أن يكون بين الناس من يرتكب الإثم وهو يعرف الخير.
ومهما يكن من أمر هذا الخطأ في رأي سقراط، فهو لا يخلو من حق كثير، فكثير من الناس في كثير من أوقاتهم يصدر عنهم الشر؛ لأنهم لا يعتقدون اعتقادا جازما بالخير، وهم يتشدقون بأقوال لا تعدو ألسنتهم، ولا تنبعث عن قلوبهم، فنرى كثيرين يحقرون شأن الدنيا، ويقولون إن غنى النفس خير من غنى المال، فإذا ما اضطربوا في حياتهم العملية انطلقوا يلتمسون المال من مآتيه كلها، فهل من الحق أن نقول إنهم يعلمون الخير ولا يعملون به؟ أم أقرب إلى الصواب أن نقول إنهم لم يعتقدوا اعتقادا جازما ما كانوا يلوكونه من أقوال، وإن عقيدتهم في الواقع هي هذه التي تظهر في أعمالهم؟ نحسب أن هذا الوضع الثاني أدنى إلى الصواب وهو ما ظنه سقراط.
وقد نشأ عن نظرية سقراط في الأخلاق نتيجتان؛ الأولى: أن الفضيلة يمكن أن تعلم وإن كانت ليست يسيرة في تعلمها كما هو الحال في الحساب مثلا؛ لأنها تعتمد على عدة عوامل أخرى كالوراثة، وأثر البيئة، والتربية، والتجربة وغيرها.
ولكن إذا كانت المعرفة ممكنة التعلم وجب أن تكون الفضيلة كذلك، وأهم عقبة تحول دون معرفة الفضيلة هي صعوبة أن تجد معلما يعرف معناها، والنتيجة الثانية: هي أن الفضيلة واحدة وهي المعرفة، وإن شئت فسمها الحكمة، وليس غيرها من الفضائل كالشجاعة والعفة والعدل إلا مظهرا من مظاهرها وصادرة عنها.
يتضح مما سبق أن فلسفة سقراط تدور حول مركزين: نظرية المعرفة التي تحصر العلم في الإدراكات العقلية والمعاني الجزئية، ونظرية الأخلاق التي توحد بين الفضيلة والعلم، والأولى أبعد خطرا، وأعمق أثرا في مجرى تاريخ الفلسفة، فقد أحدثت انقلابا في الفلسفة أقرب إلى الثورة منه إلى التطور البطيء، فهي المعين الذي استقى منه فيما بعد أفلاطون فأرسطو، وهي الأساس الذي نشأت عليه كل المذاهب العقلية المثالية
Idealism .
وعلى الرغم من أن سقراط قد أصلح بنظرية المعرفة كل ما أفسده السوفسطائيون فرد إلى الناس إيمانا بالحقائق الخارجية بعد ما اعتراهم الشك فيها، فلم يعد بالفكر إلى حالته قبل السوفسطائيين بل سار به خطوة واسعة إلى الأمام، فالفكر يجتاز في سيره - عادة - مراحل ثلاثا؛ الأولى: مرحلة العقيدة التي لا تقوم على أساس من العقل، والثانية: مرحلة يكون الفكر فيها شاكا هادما ينكر ما بنته العقيدة في المرحلة الأولى، وفي الثالثة: تعود العقيدة بعد الشك مرة ثانية، ولكنها تقوم هذه المرة على أساس الإدراك العقلي لا على التصديق الساذج، فقد كان الناس قبل عهد السوفسطائيين يسلمون بصحة الحقائق والأخلاق وثبوتها مستقلة عن الإنسان، ولكن أحدا لم يعن بإقامة الدليل عليها؛ لأن أحدا لم يشك في صحتها، فجاء السوفسطائيون وأخضعوا العقائد القديمة إلى نقد العقل، فانهار البناء جملة واحدة، ثم تبعهم سقراط وأعاد الأمر إلى نصابه ولكن على أساس جديد، فقد استبدل بالتصديق الساذج العلم والمعرفة.
وقد ظهر في أثينا رجل آخر يريد إصلاح ما أفسده السوفسطائيون كما فعل سقراط، ولكنه التمس طريقا أخرى تناقض السبيل التي سلكها سقراط، وذلك هو «أرستوفان» الذي كان محافظا شديد المحافظة والجمود، يتحسر على الماضي الجميل، ويود لو عادت الحياة سيرتها الأولى كما كانت قبل السوفسطائيين، وما دامت هذه السيئات كلها من أثر الفكر فليتوقف الفكر عند حده لا يسمح له بالتقدم، ليعود الناس إلى الإيمان الساذج البسيط، غير عالم أن الحياة لا تعود إلى الوراء كما يستحيل أن يسترد الرجل طفولته، فتلك نكسة لا يعرفها منطق السير والتطور، وليس علاج المرض كما اقترح أرستوفان في صد تيار الفكر، بل هو في الزيادة فيه ما دام الفكر المبتور الناقص ضارا لا ينفع، وتلك كانت سبيل سقراط إلى الإصلاح المنشود. (1) أتباع سقراط
قامت فلسفة سقراط على دعامتين كما أسلفنا؛ الأولى: نظرية المعرفة التي أنكرت أن تكون الإدراكات الحسية أساسا للعلم، وقالت إن الإدراكات العقلية - أي الأحكام الكلية - هي وحدها المعرفة، وهي ليست من عمل الحواس ولكنها من صنع العقل، ولما كان العقل عنصرا مشتركا عند الأشخاص أمكن أن يكون مقياسا لا تختلف نتائجه باختلاف الظروف، ومعنى ذلك أن الحقائق في العالم الخارجي ثابتة يدركها العقل دائما على صورة واحدة، والثانية: هي النظرية الأخلاقية التي توحد بين العلم والفضيلة.
إقليدس الميغاري، أحد تلاميذ سقراط، وهو يخاطب تلاميذه.
وعلى الرغم من أن نظرية المعرفة كانت أبقى وأعمق أثرا في مجرى تاريخ الفلسفة من نظرية الأخلاق، إلا أن الوضع قد انعكس في أعين تلاميذ سقراط؛ لأنهم - وقد خالطوا أستاذهم - بهرتهم حياته الأخلاقية، واستولت على إعجابهم حتى أنستهم جوانب فلسفته الأخرى، فتأثروا خطاه بعد مماته، وحاولوا جهدهم أن ينسجوا حياتهم الأخلاقية على منوال حياته، فاتخذوا مثله الأعلى شعارا لهم، وهو أن الفضيلة غاية الحياة.
أجمع أتباع سقراط على هذا المبدأ، واتفقوا جميعا على أن تكون الفضيلة غرضا لحياتهم كما كانت غرضا لحياة أستاذهم، ولكنهم التمسوا إلى تلك الغاية وسائل شتى؛ ذلك لأنهم اختلفوا في تفسير الفضيلة، فلم يترك لهم سقراط تعريفا واضحا لها، يرجعون إليه ليطبعوا سلوكهم بطابعه، وكل ما قاله في هذا الصدد أن الفضيلة يجب أن تنبع من العلم وأن تقوم على أساسه، فيشترط لكي تكون فاضلا أن تكون عالما بتعريفها، أما ما هذا التعريف فذلك ما لم يتعرض له سقراط، قد يقال إنه عرفها بأنها العلم، وهذا صحيح، ولكن أي علم قصد إليه سقراط؟ أهو علم الفلك أو علوم الطبيعة والرياضة؟ كلا، إنما هو علم الأخلاق، أو بعبارة أخرى علم الفضيلة، فكأنما هو يدور في حلقة مفرغة تبدأ من حيث تنتهي؛ لأنك إذا قلت إن الفضيلة هي علم الفضيلة لم توضح منها شيئا.
إذن لم يترك سقراط تعريفا للفضيلة، فكان تعريفها موضع الخلاف بين أتباعه، وانقسموا في تفسيرها شيعا ثلاثا، كل منها تذهب مذهبا يلائم وجهة نظرها، وكل منها تجد من سلوك سقراط مبررا لسلوكها، وهذه المدارس الثلاث هي: الكلبيون، والقورينائيون، والميغاريون. (1-1) الكلبيون
Cynics
كان زعيم تلك الطائفة أنتسثنيس
Antisthenes
الذي فتنته من أستاذه تلك الشخصية القوية التي آثرت الحق على كل شيء، والتي ازدرت الحياة المادية فنبذتها نبذ النواة، ولم يزغ بصرها ما تبديه من زينة خلابة وزخرف كاذب، فتن أنتسثنيس بهذا الجانب من سقراط، فلم يتردد في اعتبار الزهد معنى الفضيلة وسبيل الحياة الفاضلة وغايتها، وعلى هذا النظر إلى الفضيلة عاش الكلبيون عيشة خشنة، لا تغريهم مغريات الحياة، ولا تميل نفوسهم إلى ثروة أو سلطان، واقتصرت حاجاتهم على الحد الأدنى، فلا يلبسون ناعم الثياب حين تكفي الأسمال، ولا يسكنون الدور ما دامت أرض الله الفضاء تكفيهم وطاء، والسماء تغنيهم غطاء، وقد اتخذ أحدهم - ديوجنيس
Diogenes - لسكنه دنا يأوى إليه، وهو الذي أثر عنه أنه كان يحمل مصباحا يفتش به في وضح النهار عن الإنسان الكامل فلا يجده، وأن الإسكندر الأكبر قد سأله عما يريد فأجاب: أريد ألا تحجب عني ضوء الشمس، تلك هي الحياة الفاضلة التي تؤدي بالإنسان إلى الغاية المنشودة. ولما كان العلم عند سقراط هو معرفة الفضيلة فقد رغب الكلبيون عن العلوم والفنون، وبالغوا في ذلك إلى حد عجيب، حدا بهم إلى أن يتخذوا الجهل مثلا أعلى، وماذا يجدي العلم، والفضيلة وحدها كافية لتحصيل السعادة وهي رهينة العمل، ولا تحتاج إلى القول الكثير والعلم الغزير، كما كان يقول زعيمهم أنتسثنيس.
انتشر تلاميذ هذه المدرسة في الأرض لا يبتغون من الناس شيئا ولكن ليحملوهم على الزهد والقناعة، وليعلموهم أن لا خير إلا في الفضيلة، وأن لا شر إلا في الرذيلة، فلا الضياع والمتاع ولا الملكية ولا التمتع بالحرية، بل ولا الحياة نفسها من وسائل الخير، بل الخير هو الفضيلة وحدها، كلا ولا الفقر والشقاء والمرض والرق، ولا الموت نفسه من وسائل الشر بل الشر هو الرذيلة وحدها، فليست العبودية بأسوأ من الحرية إذا كان العبد الرقيق يعيش عيشة الفضيلة؛ لأنه عندئذ يكون حرا في نفسه ولو كان مملوكا في ظاهره، وقد أجاز الكلبيون الانتحار على شرط ألا يكون فرارا مما في الحياة من ألم وبؤس، بل لكي يقيم به المنتحر دليلا على أن الحياة ليست شيئا يدعو إلى التشبث بها.
والفضيلة عند الكلبيين واحدة كما قال سقراط، وفسروا ذلك بأنها لا تتجزأ، فإما أن يكون الشخص فاضلا إلى النهاية أو لا يكون، كالخط إما أن يكون مستقيما أو ليس مستقيما، ولا وسط بين الطرفين، فإن كان ذا فضيلة كان عالما كل العلم، حكيما كل الحكمة، سعيدا كل السعادة، كاملا أتم الكمال؛ لأن الفضيلة هي كل شيء، وإن لم يكن كان غبيا شقيا جاهلا. (1-2) القورينائيون
Cyrenaics
أما مؤسس هذه المدرسة فهو أرسطبس
Aristippus ، فيلسوف ولد في قورينا، مدينة في شمالي أفريقيا، رحل إلى أثينا وتتلمذ لسقراط، وخلاصة مذهبه: أن تحصيل اللذة والخلو من الألم هما الغاية الوحيدة في الحياة.
أليست الفضيلة عند سقراط هي الغرض الأسمى؟ أوليست السعادة عنده وسيلة من وسائل الفضيلة وحافزا قويا لها؟ إذن فلنحقق لأنفسنا هذه السعادة ما استطعنا إليها سبيلا، ولا يكون ذلك بأن نزدري الحياة ازدراء، ونعيش عيشة زهد وحرمان، ولكن عيشة استمتاع ولذة، فالخير فيما يلذ ويسر، والشر فيما يؤلم ويؤذي، فاعمل كل ما تشتهي واستمتع بالحياة ما ساعفتك، وابتعد عما يؤذيك ويؤلمك، واتخذ في كل ذلك نفسك مقياسا، فلا يجوز أن تهبط قوانين الأخلاق على الفرد من الخارج، ولا أن تفرض عليه من الجماعة فرضا ليس له مسوغ، ولكل إنسان أن يرسم لنفسه طريق السعادة فهو بنفسه بصير، (وهم في هذا النظر الأخير قد تأثروا بالسوفسطائيين).
واللذة عند القورينائيين قد تتحقق في التفكير، ولكنها أقوى وأعظم إذا كانت حسية ينعم بها الجسم، وهم مع هذا قد وضعوا حدا خفف من حدة هذه النزعة الحسية، فنصحوا أن تكون حكيما حينما تنشد لذتك، فلا تجعل نفسك عبدا للذة، بل لتكن اللذة أداة طيعة للاستمتاع، إذا ظفرت بها فاغتنمها، ولا تأسف عليها إذا أفلتت من يديك، كما نصحوا أن تكون اللذة مأمونة العواقب، وألا تكون سببا في آلام أكبر منها.
فالحكيم هو من ضبط نفسه وأمسك بزمامها، فلا يميل مع شهوته حيث تميل بل يوازن في كل عمل بين لذته العاجلة وألمه الآجل، ولم تكن تعاليم القورينائيين واحدة في اللذة وتقديرها والاستمتاع بها، بل اختلفت أقوالهم في شرح ذلك تبعا لاختلاف رؤسائهم. (1-3) الميغاريون
Megarics
أسس هذه المدرسة إقليدس الميغاري، وقد جمع في فلسفته بين التعاليم السقراطية ومذهب المدرسة الإيلية، فالفضيلة هي المعرفة كما قال سقراط، ولكن أي علم؟ هنا يتأثر الميغاريون برأي بارمنيدس في الوجود المطلق، وفي إنكار الأشياء التي تقع تحت الحس، وفي بطلان الحركة التي نتوهمها في الخارج، فليس ثمت إلا حقيقة واحدة لا تعرف الكثرة ولا الحركة، تلك هي الوجود نفسه، فإن كان سقراط يرى أن معرفة الفضيلة هي كل شيء، وبارمنيدس يرى أن معرفة الوجود هي كل شيء، إذن العلم بحقيقة الوجود والفضيلة شيء واحد عند الميغاريين، والوجود والواحد الذي لا يتعدد والله والفضيلة والخير كلها أسماء مختلفة لمسمى واحد، كما أن التغير والتعدد والكثرة والشر أسماء لمدلول واحد هو نقيض المدلول السابق، الأولى أسماء تطلق على الوجود، والثانية أسماء تطلق على العدم، فالكثرة والشر شيء واحد، وكلاهما وهم ننخدع به وليس له وجود في الواقع، ليس للشر وجود حقيقي، وثمت حقيقة واحدة في العالم الخارجي هي الخير، والفضائل المتنوعة كالإحسان والحكمة والعفة إنما هي أسماء مختلفة لفضيلة واحدة، أعني بها معرفة الوجود.
فإن كان الكلبيون قد التمسوا الفضيلة في الزهد والاستغناء، والقورينائيون في اللذة والاستمتاع، فقد التمسها الميغاريون في حياة التأمل الفلسفي، أي في معرفة حقيقة الوجود.
الفصل العاشر
أفلاطون
أفلاطون.
لم يشهد التاريخ فيلسوفا قبل أفلاطون أنشأ فلسفة جامعة ونظاما شاملا لنواحي الفكر وجوانب الحقيقة؛ إذ كان كل من سبقه ضيق الأفق محدود النظر، إذا تناول بالبحث جانبا فاتته الجوانب الأخرى؛ ولذا لم تعد الفلسفة قبل أفلاطون أن تكون مجموعة من آراء متناثرة ونظريات وملاحظات، لم تتسع بحيث تشمل الكون بأسره، ثم أتى أفلاطون فأجال البصر فيما أنتج الفكر من قبله، وأخذ خير ما عند الفيثاغوريين والإيليين، وأحسن ما أنتجه هرقليطس وسقراط، وهكذا قطف أجمل أزهارهم، ثم نسقها جميعا في طاقة جميلة منسجمة، قدمها للعالم فلسفة جديدة من خلقه وإنشائه، فلم يكن حاصدا لإنتاج غيره وكفى، بل جمع شتى العناصر، وسلط عليها أشعة من ذهنه الجبار فانصهرت كلها في مبدأ جديد أنشأه إنشاء وابتكره ابتكارا، ثم اتخذه نواة يبدأ منها السير وأساسا يقيم عليه البناء.
لا يعرف التاريخ على وجه الدقة متى ولد أفلاطون، ويرجح أن يكون ذلك بين سنتي 429-427ق.م، وهو سليل أسرة أرستقراطية في أثينا قد تحدرت إليه منهم ثروة عريضة أفسحت له من الفراغ ما يتطلبه الاشتغال بالفلسفة.
ولسنا نعلم من أحداث طفولته إلا قليلا، أما شبابه فقد شهد انقلابا خطيرا في أثينا كان له في أفلاطون أثر عميق، فقد نشبت حرب «بيلوبونيسا» بين أثينا وأسبرطة في نحو العصر الذي ولد فيه أفلاطون، ودارت رحاها في أرجاء اليونان جميعا، بل قد جاوزت حدود اليونان حتى شملت الفرس، ولبثت مضطرمة أكثر من ربع قرن، وانتهت بعد أن زعزعت دعائم القوة السياسية في أثينا، ولم يعد يحسب لها حساب أو يخشى لها بأس، واضطربت خلال أعوام الحرب أمورها الداخلية والخارجية، واختل فيها كل شيء، وزاد الطين بلة أن خطت فيها الديمقراطية إلى أبعد حدود التطرف، فأمسك الدهماء بزمام الأمر، ولما أن فسدت أثينا وتضعضت قواها في الحرب القائمة ساء الظن بنظام الحكم الديمقراطي، ولم تكد تضع الحرب أوزارها حتى وثبت الطبقة الأرستقراطية إلى مناصب الحكم، وأصبح الأمر في يد ثلاثين من الجبابرة الطغاة، وبينهم كثير من أقرباء أفلاطون، فأرادوا أن يطهروا البلاد من فوضى الديمقراطية وعبثها، ولكنهم لم يفلحوا فيما قصدوا إليه من إصلاح، فدعاهم الفشل إلى الإمعان في الظلم والقسوة، وضربوا بأيد حديدية على رءوس الشعب، حتى خيم على البلد عهد إرهاب مخيف سادت فيه إراقة الدماء بغير حساب ... عهدان من الفوضى متلاحقان، فلا الديمقراطية استطاعت أن تسلك بالدولة سبيلا سويا، ولا الأرستقراطية أمكنها أن تعيد للبلاد نظامها المفقود، وشهد أفلاطون في أعوام شبابه ذينك العهدين، فنقم على الديمقراطية لفشلها من جهة، ولأرستقراطيته من جهة أخرى، ونفر من الأرستقراطية لهذا الرعب الذي ألقته في النفوس، ولعجزها عن أداء ما أخذت نفسها به، فطرح السياسة جانبا لا يضرب فيها بسهم، واعتزل ينظم الشعر، فأنشأ منه كثيرا من القصائد والقصص، ثم أحرقها كلها حين اتصل بأستاذه سقراط في سن العشرين، وكان يقوم بأمر تربيته معلم أثيني يدعى كرتيلوس
Cratylus
كان يشايع هرقليطس في فلسفته، فلقنها تلميذه من غير شك، ولبث مع معلمه هذا حتى اتصل بسقراط، فأصبح صديقا له وتلميذا مخلصا أمينا، لازمه في الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته، فكانت لتعاليمه وأسلوبه في الحياة أكبر الأثر في أفلاطون، وصار معينه الذي يستقي منه التفكير، ولم يزل أفلاطون معجبا بأستاذه أشد إعجاب، حتى إنه في أخريات أيامه كتب عن سقراط في حواره، فقدم عنه للعالم صورا قوية خالدة.
مات سقراط فطوى أفلاطون المرحلة الأولى من مراحل حياته، وهي التي قضاها في أثينا تلميذا، وبدأ مرحلة ثانية ملأها بالرحلة والسفر، فرحل إلى ميغارا حيث التقى بصديقه وزميله إقليدس الميغاري، وهو يؤسس مدرسته التي قامت على أساس يجمع بين الفلسفة السقراطية وفلسفة المدرسة الإيلية، ولا بد أن يكون أفلاطون قد درس عن صديقه فلسفة بارمنيدس دراسة دقيقة، ثم ترك ميغارا وقصد إلى قورينا فمصر فإيطاليا وصقلية حيث اتصل في إيطاليا بالفيثاغوريين وأخذ عنهم ما كانوا يذيعون من تعاليم، أما في صقلية فقد التحق ببلاط الملك ديونيسيوس
Dionysius
الكبير ملك سرقوسا، وكان طاغية يحكم بلده حكم ظلم وإرهاب، فلم يكد يقف على تعاليم أفلاطون الأخلاقية، ومناقشاته الفلسفية التي كان يذيعها في صحبه حتى ثارت منه ثائرة الغضب، ومثل به أشنع تمثيل، فعرضه في سوق الرقيق لكي يباع علنا بطريقة المزاد، وأوشك أفلاطون أن يقع في الرق لولا أن افتداه رجل من رجال المدرسة القورينائية يدعى أنيسريس
Anniceris ، وعاد إلى أثينا بعد سنوات عشر أنفقها في الأسفار.
وقد بدأ بهذه العودة إلى أثينا المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته، لزم فيها أثينا لم يغادرها قط، اللهم إلا رحلتين قصيرتين اضطر إليهما اضطرارا سنحدثك عنهما بعد حين، وفي هذه المرحلة الثالثة كان أفلاطون معلما وفيلسوفا، خصص نفسه للتفكير والتعليم، وانتحى مكانا هادئا بعيدا عن جلبة المدينة وضجيجها، هو أحد الملاعب الأثينية، يقع قريبا من المدينة في شمالها الغربي، وكان يسمى باسم أحد الأبطال القدماء هو أكاديمس، فأطلق على الملعب اسم أكاديمي أو أكاديمية،
1
وهنا ألقى الفيلسوف عصاه، والتف حوله طائفة من التلاميذ أخذ يعلمهم الحكمة، وظل بقية حياته - وهو ما يقرب من أربعين عاما - يشتغل بالفلسفة والتعليم، وكتابة آياته الفنية الرائعة، وقد سلك في حياته أسلوبا يناقض طريقة أستاذه سقراط، فهما يتفقان في نقطة واحدة هي التعليم بالمجان، ثم يفترقان بعد ذلك في كل طرائق العيش، فبينما كان سقراط يجول في الطرقات والأزقة يلتمس فيها الحكمة، ويناقش في ساحة السوق وأمام الحوانيت كل من أراد مناقشته، كائنا من كان، كان أفلاطون يلتزم مكانا معينا منعزلا هادئا، لا يحاور إلا من جاء يسعى إليه من تلاميذه المخلصين، ولعل ذلك كان خيرا لتقدم الفلسفة تقدما فسيحا، وهل تظن أن فلسفة عميقة شاملة منظمة كانت تستطيع بذورها أن تنبت في مثل هذه الحياة التي اتبعها سقراط، لا يدور فيها الحوار حول فكرة معينة، بل تتشعب أطرافه، وتبعثر وحدته الأسئلة العرضية؟ كلا بل لا بد للفلسفة إذا أرادت أن تنشئ نظاما تشتمل دائرته على أطراف العالم، من دراسة عميقة متصلة تجري في هدوء ساكن منعزل كالتي ظفر بها أفلاطون بين جدران مدرسته، والتي خلد إليها أربعين عاما كاملة، تخللتها رحلتان قصيرتان إلى صقلية، حين أرسل في دعوته ديونيسيوس الصغير، الذي تقلد منصب الحكم في سرقوسا بعد موت أبيه، دعاه لكي يطبق على دولته ما كان يحلم به من نظام الدولة المثلى، وأول شرط لتلك الدولة هو أن توضع مقاليد الحكم في أيدي الفلاسفة، فهم وحدهم قادرون بحكمتهم أن يسيروا بالدولة في صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، ولا خير في دولة لا يكون حاكمها فيلسوفا، فأراد هذا الملك الناشئ أن يحقق لأفلاطون هذا الشرط فيأخذ عنه الفلسفة، ليضيف إلى شخصيته الحاكمة شخصية الفيلسوف، فقبل أفلاطون تلك الدعوة مغتبطا بما أتيح له من فرصة نادرة، يستطيع فيها أن يطبق نظريته تطبيقا عمليا، وهو ما لم يكن يستطيعه في بلاد اليونان نفسها، ولكن ذلك الملك الشاب لم يلبث أن ضاق ذرعا بالفيلسوف وتعاليمه، وكاد يبطش به لولا أنه أسرع بالعودة إلى أثينا، ولم يمض على ذلك أعوام قلائل حتى عاد فدعاه مرة ثانية، وقبل أفلاطون الدعوة كذلك؛ لأنه راغب أشد الرغبة في تحقيق رأيه في الدولة، ولكن هذه الرحلة لم تكن بأحسن حالا من سابقتها، فقد سئم ديونيسيوس الصغير دراسة الفلسفة، وفسد ما بينه وبين أفلاطون، وهم بأن يناله بالتعذيب، لولا أن جماعة ممن ينتسبون إلى المدرسة الفيثاغورية مهدوا له سبيل الفرار فعاد إلى أثينا، وكان قد بلغ عامه السبعين، ولبث في أثينا يدبر شئون الأكاديمية، ولا يحاول أن يتصل بالسياسة العملية مطلقا حتى وافاه الموت وعمره قد نيف بسنتين على الثمانين.
أما كتب أفلاطون فقد صاغها في أسلوب الحوار، واتخذ من سقراط بطلا للكثير الغالب من تلك المناقشات المكتوبة، فيجري على لسانه ما يريد أن يقوله هو من فلسفة مضافة إلى فلسفة سقراط نفسه، وبذلك امتزجت آراء سقراط بآراء أفلاطون؛ حتى لا تستطيع أن تميز بينهما في كثير من المواضع، ولم يكن أفلاطون في كتابته فيلسوفا فقط بل كان كذلك أديبا فنانا، فحواره مملوء حياة بما أودع من خيال حسن وفكاهة لطيفة، وقص حوادث وإدخال أشخاص ذوي شخصيات مختلفة يمثلون أدوارهم تمثيلا دقيقا.
وأظهر شيء في أسلوب أفلاطون أنه أسلوب خيالي، فهو لا يشرح فكره بوضوح وبطريقة علمية مباشرة، ولكن يشرحه من طريق الاستعارات والأساطير والقصص، وهي طريقة جميلة في كثير من الأحيان ولكنها مربكة، فكثيرا ما يتردد الباحث هل هو يريد المعنى الحقيقي لكلامه، أو هو قد أتى به على طريق الاستعارة، وأنه يرمي إلى معنى آخر، وقد جاء هذا من قبل أنه فيلسوف شاعر، أو فيلسوف وأديب معا، واجتماع الفلسفة والشاعرية خطر؛ لأن غرض الفلسفة فهم الحقيقة وشرحها من الطريق العلمي، وغرض الشاعرية مجرد شعورك بالحقيقة ووصف إحساسك بها بعرض صور واستعارات ومجازات وما إليها، فإذا كان الإنسان فيلسوفا شاعرا فهناك الخوف من أنه لا يعمد إلى الحقيقة الخارجية فيشرحها بل يعمد إلى شعوره بها فيشرحه على الطريقة الشعرية، فكان أفلاطون بديعا في مزج الشعر بالفلسفة فخرج قوله حكيما جميلا، ولكنك لا تدري في كثير من الأحيان أين هو حكيم وأين هو جميل؟ ثم لا تعرف أحكمة هو فتركن إلى ظاهر لفظه، أو خيال وشعر فتحاول أن تتبين ما يرمي إليه.
أفلاطون مع تلاميذه (وهو أولهم من الشمال).
وتستطيع أن تقسم كتبه إلى مجموعات ثلاث، تطابق على وجه التقريب ثلاث المراحل التي انقسمت إليها حياته: أما الأولى فقد كتبها في نحو العهد الذي مات فيهس سقراط وقبل موته بقليل، أي قبل أن يغادر أثينا في رحلاته إلى ميغارا
2
وغيرها، وأوضح خاصة لما كتب في تلك المرحلة الأولى: البساطة والقصر، وهي في مجموعها صدى لفلسفة سقراط؛ إذ لم يكن أفلاطون قد أنشأ بعد لنفسه فلسفة مستقلة، فجاءت مادة الحوار ممثلة لآراء سقراط، وكل فضله ذلك الأسلوب الأدبي الجميل الذي عبر به عن تلك الآراء.
أما المجموعة الثانية من كتب أفلاطون، والتي تقع في المرحلة الوسطى من مراحل حياته، أعني في تلك الفترة التي أنفقها في الانتقال من بلد إلى بلد، فترى فيها إلى جانب آراء سقراط طائفة من آراء المدرسة الإيلية التي أخذها وهو في ميغارا عن صديقه إقليدس الميغاري، وفي هذه المجموعة الثانية كذلك ترى فلسفته الخاصة قد أخذت في التكون، وترى فكرته الأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفلسفي - وأعني بها نظرية المثل - قد بدأت في الظهور، ولكنه ظهور غامض يكتنفه بعض التهويش والاضطراب، كأنها لم تكن قد اتضحت بعد في ذهنه وضوحا تاما؛ ولذا تراه في محاوراته فيها يتعثر في التعبير ويغمض في الشرح، لا ينطلق لسانه في سهولة ويسر؛ لأن الأفكار في ذهنه كانت نيئة لم تنضج بعد فلم يقو على تذليلها، بحيث تجري مع قلمه طيعة، وإذن فلن تجد في هذه المجموعة الثانية جمالا في الأسلوب ولا ألوانا من الفن كالفكاهة اللطيفة التي عهدناها في المجموعة الأولى، وكل ما يصادفك هنا مادة متصلة في الحوار كلها أدلة عقلية، وحجج منطقية.
أما المجموعة الثالثة التي أثمرتها مرحلته الثالثة من مراحل حياته التي قضاها في الأكاديمية في أثينا، فهي ناضجة أتم النضوج وفيها ترى أفلاطون قد اكتمل نموه، وسيطر على أفكاره وآرائه فاستطاع أن يجريها في عبارات فنية رائعة سلسة صافية، فعاد الأسلوب في هذه المرحلة إلى صفائه ونقائه الذي لازمه في المرحلة الأولى، فإن كانت المجموعة الأولى تتميز بطابع الجمال الذي في الأسلوب، والثانية بالعمق في التفكير، فقد جمعت الثالثة بين هذين الطابعين، وجاءت فكرا ناضجا في أسلوب جميل.
وقبل أن نبدأ في بسط الفلسفة التي جاءت في تلك المجموعات الثلاث التي ملأها أفلاطون بالحوار، يجمل بنا أن نسارع إلى ذكر أقسامها ليسهل تتبعها على القارئ، فهي تنقسم إلى أربعة أقسام: (1)
نظرية المعرفة التي يكمل بها ما أبداه سقراط من تفنيد مذهب السوفسطائيين. (2)
نظرية المثل التي تبحث في الحقيقة المطلقة. (3)
والطبيعة (الفيزيقا) وهي تبحث في ظاهر الوجود من حيث هو مادة تملأ المكان والزمان. (4)
والأخلاق وتشمل المبادئ السياسية، وواجبات الإنسان من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في مجتمع. (1) نظرية المعرفة
كان السوفسطائيون يقولون إن المعرفة كلها مترتبة على الإدراكات الحسية، وهي لذلك مختلفة عند الأشخاص؛ لأن هذه الحواس وهي مبعث الإدراكات لا تتفق عند الناس جميعا، فلما أتى في أثرهم سقراط، وأراد أن يثبت أن العلم ثابت الحقائق، وجه إلى السوفسطائيين نقدا هدم قولهم من أساسه، وأقام الدليل على أن المعرفة عبارة عن مدركات عقلية؛ لأنها تتكون في مجموعها من حقائق كلية استخلصها العقل لا الحواس من الجزئيات، ولما كان العقل عنصرا مشتركا لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر.
وها هو ذا أفلاطون ينهض بعد أستاذه فيواصل بعده الطريق حتى ينتهي إلى نظريته الهامة - أعني نظرية المثل - وهي قطب الرحى من فلسفته، وأساسها التي تقوم عليه وأصلها التي تتفرع منه.
ولما كانت نظرية المثل تعتمد كل الاعتماد على نظرية المعرفة، أراد أفلاطون أن يبدأ البناء بوضع الأساس، فلا يخطو في نظرية المثل خطوة واحدة قبل أن يأتي بمعوله على كل أثر لنظرية السوفسطائيين في المعرفة، وإذا ما فرغ من ذلك كان طريق السير معبدا ممهدا، ونستطيع أن نلخص النقد الذي وجهه أفلاطون إلى النظرية السوفسطائية في النقط الآتية، وقد ذكر ذلك أفلاطون في كتاب له اسمه ثياتيتوس
Theaetetus : (1)
يقول بروتاجوراس: إن ما يبدو حقا لشخص ما فهو حق بالنسبة إليه، فماذا يقول فيما يبدو للناس أنه الحق عن حوادث المستقبل، فقد يؤكد شخص أنه سيكون وزيرا في العام المقبل، وإذا به يستقبل عامه في غيابة السجن، وإذا فما ظنه حقا لا يأتيه الشك تبين أنه وهم باطل أثبتت خطأه الأيام. (2)
كيف نتخذ الحواس سبيلا إلى العلم، وهي تحمل إلينا إدراكات متناقضة، فهذه الشجرة كبيرة إذا دنوت منها، صغيرة إذا بعدت عنها، وهذا الكتاب خفيف إذا قارنته بوزن المائدة، وهو ثقيل إذا قارنته بالقلم، وهو أبيض اللون في ضوء الشمس، أخضره في ضوء آخر، ولا لون له في الظلام، وهذه الورقة مربعة إذا نظرت إليها من أعلى، وهي ليست كذلك إذا تغير موضع نظرك إليها، فأي هذه الآثار حق وأيها باطل؟ إن الحواس تحمل إلى أذهاننا آثارا مختلفة عن الشيء الواحد، فيأخذ العقل في الاختيار والتفضيل، ويقبل هذا ويرفض ذاك حتى يكون لنفسه حقيقة الشيء المحس، فإن نقلت إلي شكلا بيضيا لهذا القرص أدرك عقلي صورته الحقيقية وهي أنه مستدير، أما إذا كانت المعرفة سلسلة من الإدراكات الحسية فليس لنا الحق في تفضيل إدراك على إدراك آخر؛ لأنها جميعا معرفة ، فهي جميعا حق. (3)
تؤدي نظرية السوفسطائيين إلى نتيجة محتمة وهي استحالة التعليم والحوار وبطلان الأدلة والبراهين؛ لأنه إن كان كل إدراك يأتي به الحس حقا، ولا تقل قوة حقيقته عن أي إدراك آخر، لزم أن يكون إدراك الطفل في مستوى واحد مع إدراك معلميه من حيث أن كليهما يحس الحقيقة، وإذا فيستحيل على معلم أن يعلم شيئا، أما الأدلة والبراهين والحوار فلا يكون فيها غناء؛ لأن مجرد القول بأن شخصين يتنازعان على حقيقة شيء ما يتضمن أنهما يعتقدان في أن لذلك الشيء حقيقة خارجية يختلفان عليها، فإذا تناقض إدراكهما له وجب أن يكون أحدهما على الأكثر هو وحده المصيب، أما أن نسلم بأن كليهما على حق فيما يقول فتسليم بأن كل حوار أو تدليل لغط لا ينتهي إلى شيء. (4)
لو كانت الحواس هي مقياس الحقائق لاشترك الحيوان مع الإنسان في إدراك الحقيقة؛ لأنه يشترك معه في الجانب الحسي منه، وإذن لوجب أن يكون الحيوان مقياسا لكل شيء، كالإنسان سواء بسواء. (5)
تناقض هذه النظرية نفسها بنفسها، وحين يقول بروتاجوراس «إن ما يبدو لأي شخص أنه الحق فهو حق بالنسبة له» يثبت بهذا القول نفسه فساد رأيه؛ لأنني إذا قلت إن نظرية بروتاجوراس تبدو لي أنها باطلة وجب أن يعترف معي بروتاجوراس نفسه أنها كذلك، وإذن فلا نظرية هناك يعترف بصحتها جميع الناس. (6)
القول بهذه النظرية لا يجعل فاصلا بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد، وإذن فاللفظتان تعنيان معنى واحدا، أو لا تعنيان شيئا؛ وعلى ذلك فيكفي أن تقول إنني أدرك كذا أو كذا دون أن تضيف إليه صفة الحق؛ لأنها كلمة فارغة لا يقصد بها معنى. (7)
لا يخلو إدراك كائنا ما كان من عنصر خارج عن عمل الحواس، فإذا قلت مثلا «هذه الورقة بيضاء» فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها، والواقع أن فيه جانبا كبيرا من عمل العقل، إن حاسة الإبصار قد نقلت إليك صورة معينة، فمن أدراك أنها ورقة وليست قطعة من الخشب أو النحاس؟ أليس هذا الحكم بأنها ورقة نتيجة لعملية عقلية سريعة قارنت بها هذا الجسم الذي تراه بمجموعات الأنواع التي في ذهنك، فلما رأيت فيه صفات الورق حكمت بأنها ورقة، ثم أجريت مقارنة أخرى من حيث اللون، فقست هذا اللون المعين الذي ينقله إليك البصر بمعلوماتك السابقة عن الألوان، وحكمت آخر الأمر أنها بيضاء، وإذن فيستحيل أن تحكم على الشيء المحس بنوعه إلا إذا كنت عالما بمواضع الشبه بينه وبين أفراد نوعه، وبمواضع الخلاف التي تميزه من أفراد الأنواع الأخرى التي حصلتها تجاربك الماضية، وهذه المقارنة السريعة التي لا بد منها قبل الحكم بأن ما ترى قطعة من الورق هي في الواقع عملية عقلية محضة، يستحيل أداؤها على الحواس؛ لأن أعضاء الحس تنقل الصورة الخارجية، كل عضو في دائرته المعينة، دون أن تشترك جميعا في بناء الصورة، فالعين تحمل الشكل، والأصابع تحمل الملمس، والأنف ينقل الرائحة وهكذا، فإذا وصلت هذه الجزئيات إلى الذهن تظل هكذا مفككة لا يتصل بعضها ببعض إلا إذا أدركها العقل فكون منها صورة تطابق صورة الشيء الخارجي.
وخلاصة القول: أن العلم لا يمكن أن تأتي به الحواس وحدها، وأن العقل هو الأداة التي نستعين بها في الوصول إلى المعرفة مهما كان نوعها، ولا بد من التفريق بين العلم الصحيح والرأي الشخصي.
وإلى هنا سار أفلاطون في نفس الطريق التي سلكها أستاذه سقراط، حيث انتهى إلى أن المدركات العقلية وحدها التي يعبر عنها بالتعاريف هي العلم، ولكنه لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عنده سقراط، بل تابع السير حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة بنظرية المثل التي ننتقل الآن إلى شرحها. (2) نظرية المثل
انتهى سقراط إلى أن العلم الصحيح هو الإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل بعد استعراض الجزئيات وجمع الصفات الجوهرية المشتركة بينها، واستبعاد الصفات العرضية التي يتصف بها بعض الجزئيات دون بعض، وأضاف إلى ذلك أن التعريف هو في الواقع تعبير عن تلك الإدراكات الكلية، وهذه التعاريف هداية للإنسان في تفكيره وفي سلوكه، ترسم له الطريق واضحة مستقيمة، فتعريف الفضيلة - مثلا - لا يدع أمامنا مجالا للشك في قيم الأعمال؛ لأنه سيكون لنا بمثابة مقياس نقيس به العمل، لنرى هل فيه ماهية الفضيلة كما نفهم من تعريفها ، فيكون العمل خيرا، أو ليست فيه فيكون شرا، ولكن سقراط حين قرر أن هذه الإدراكات الكلية التي يصل إليها الإنسان بعقله هي المعرفة وقف عند هذا الحد، ولم يعتبر أن لها وجودا معينا في الخارج، فأتى أفلاطون وخطا بعد أستاذه خطوة انتهت به إلى هذه النظرية التي هي من فلسفته كالأساس من البناء، فقد سلم مع سقراط بصحة ما وصل إليه من أن العلم لا يقوم على المدركات الحسية التي توصلها الحواس إلى الذهن، بل هو عبارة عن المدركات العقلية التي يستخلصها العقل مما يصادف في الحياة من جزئيات، ولكنه لم يوافق سقراط على أن هذه الصور الذهنية ليس لها وجود يطابقها في العالم الخارجي، بل إن لها حقيقة خارجية مستقلة عن الإنسان، فالإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل هي أسماء لها مسميات في الواقع، وإلا لكانت وهما باطلا من خلق الخيال، أليست الفكرة الحقيقية هي ما كانت منطبقة على الواقع؟ فإن رأيت الشمس طالعة وكانت طالعة حقا كانت فكرتي صحيحة، وإلا فهي فكرة باطلة، وبناء على هذا تكون الحقيقة عبارة عن مطابقة الفكرة الذهنية للشيء الخارجي، والفكرة الباطلة هي التي لا تطابق شيئا موجودا بالفعل، ولما كان العلم هو ما تعلق بالحقيقة وحدها لزم أن يكون لكل ما أعلمه صور فعلية في الخارج، ولكن العلم كما رأينا عند سقراط ووافقه أفلاطون هو الإدراكات الكلية العقلية التي تنصب على الأنواع، وليس الإدراكات الحسية الجزئية التي تقع على الأفراد، وإذن يتحتم أن تكون لتلك الإدراكات الكلية مسميات حقيقية واقعية خارجية تطابقها تمام المطابقة، وإنه لتناقض أن تذهب إلى أن الإدراك العقلي هو وحده العلم الصحيح، ثم تسلم من جهة أخرى أن ليس له شيء في الخارج ينطبق عليه.
وما دامت الإدراكات العقلية الكلية هي وحدها العلم الصحيح، إذن فكل ما نحصله بواسطة الحواس باطل أو شبه باطل، فنحن ندرك عددا عظيما من الجياد بواسطة الحواس، ولكن العقل يقدم لنا صورة واحدة للحصان هي الإدراك الكلي للنوع بصفة عامة، فإذا كانت هذه الصورة الواحدة التي يكونها العقل هي وحدها الحق، كانت كل الجياد التي رأيناها في الحياة العملية ظلا للحقيقة لا الحقيقة نفسها.
وليس الأمر قاصرا على الأشياء المجسدة، بل يتناول كل ضروب المعرفة، خذ الجمال مثلا، فإن سألتك عن الجمال ما هو، فقد تشير إلى وردة قائلا: إن في هذه لجمالا، كما تقول ذلك في حسناء، وكما تقوله في المنظر الطبيعي الجميل، وفي الليلة المقمرة، ولكن هذه كلها أشياء جميلة وليست هي الجمال في ذاته، وأنا أسأل عن شيء واحد هو الجمال، لا أشياء كثيرة يتمثل فيها الجمال، فإن كانت الوردة مثلا هي الجمال استحال أن تقول ذلك في أي شيء آخر؛ لأن الجمال شيء واحد، وآية ذلك أن له في اللغة لفظا واحدا، هو شيء غير هذه الأشياء التي أشرت إليها، فماذا عساه أن يكون؟ قد تعترض بأن ليس ثمت جمال واحد، وأنه متعدد يظهر في الأشياء ولا يكون شيئا بذاته، ولكن ما الذي دعاك إلى القول بأن الوردة والمرأة والمنظر والليلة المقمرة تشترك جميعا في صفة واحدة هي الجمال؟ أليس ذلك دليلا على أنك وجدت وجها للشبه بينها؟ ومن أدراك بهذا الشبه؟ إنها ليست العين؛ لأن البصر لا يدل على أن الوردة تشبه في منظرها الليلة المقمرة، هذا فضلا عن أن التشابه بين الأشياء لا يعلم إلا بالمقارنة، والمقارنة لا تكون بالحواس، إذن لا بد أن يكون في ذهنك فكرة عن الجمال تقيس بها الأشياء الخارجية، فتعلم مقدار ما لها من جمال، وبهذه الفكرة الذهنية استطعت أن ترى وجه الشبه بين الوردة والليلة المقمرة؛ لأن كلا منهما فيه شبه بالصورة التي لديك.
هذه الفكرة عن الجمال هي فكرة عن شيء واحد، فإما أن يكون لها وجود في الخارج تطابقه أو لا يكون، فإن لم يكن فهي إذن من انتحال الخيال وتلفيق الذهن؛ وبناء على ذلك تكون أحكامك كلها عن جمال الأشياء الخارجية مقيسة بمقياس شخصي محض، ونكون قد عدنا إلى الوراء حيث فلسفة السوفسطائيين بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، فما يراه جميلا فهو جميل، وما يراه قبيحا فهو قبيح، فلم يبق إلا أن نسلم بأن فكرة الجمال الموجودة في العقل إنما تطابق شيئا واحدا في الخارج تمام المطابقة هو الجمال، ومعنى ذلك أن ثمت في العالم الخارجي جمالا في ذاته مستقلا عن عقل الإنسان.
وما قيل عن الجمال يمكن أن يقال عن العدل والخير والبياض والسواد وسائر الصفات، فثمت في الخارج عدل واحد ينطبق على فكرة العدل الموجودة في العقل، وهو متميز عن الأعمال التي نصفها بالعدل، كذلك هناك أشياء كثيرة بيضاء، ولكن البياض في ذاته شيء واحد موجود فعلا وله صورة في الذهن.
وهذه القاعدة صحيحة عن الرذيلة وعن الأشياء المادية كلها كالحصان مثلا، فإن سألتك عن الحصان ما هو؟ فلست أريد حصانا معينا مما نراه في الحياة العملية، إنما أريد ذلك الحصان الواحد الموجود في الخارج، والذي له صورة في الذهن.
يتضح مما سبق أن كل إدراك كلي له حقيقة خارجية هو صورة لها، وهذه الحقائق الخارجية هي ما يسميها أفلاطون بالمثل
Ideas
ولهذه المثل صفات فهي: (1)
عناصر، ومعنى عناصر في الفلسفة أن وجودها من نفسها، لم يسبب وجودها شيء خارج عنها، وأنها أساس الأشياء ولا شيء أساس لها، لا تعتمد على شيء وغيرها يعتمد عليها، وهي الأسس الأولى للعالم. (2)
وهي عامة لا خاصة، فمثال الإنسان ليس إنسانا خاصا بل هو الحقيقة العامة لكل إنسان. (3)
وهي ليست أشياء مادية بل معاني مجردة، لها وجود في نفسها مستقل عن كل عقل، وما في العقل - إذا صدق - صورة لها. (4)
وكل مثال وحدة لا تتعدد، وإنما الذي يتعدد أفرادها، فمثال الإنسان واحد، ومثال الجمال واحد، وإنما يتعدد الأشخاص. (5)
وهي أبدية لا تفنى إنما تفنى الأشخاص، فالأشياء الجميلة تفنى، أما مثال الجمال فلا، كالتعاريف، فتعريف الإنسان حقيقة خالدة لا تتأثر بما يطرأ على أفراد الإنسان من تغير. (6)
وهي جوهر الأشياء؛ لأن التعريف يشتمل على الصفات الجوهرية للشيء، فإذا عرفنا الإنسان بأنه حيوان مفكر فمعنى هذا أن التفكير هو جوهر الإنسان، وأما الصفات العارضة كشكل الأنف مثلا فلا تدخل في التعريف. (7)
كل مثال كامل، فمثال الإنسان هو نموذجه الكامل، والإنسان الشخصي يبتعد منه ويقرب بنسبة كماله. (8)
وهي لا يحدها زمان ولا مكان وإلا كانت مشخصة. (9)
وهي معقولة، أعني أن في إمكان العقل إدراكها، وذلك بالبحث والاستنباط.
تلك هي صفات المثل التي تميزها من الأشياء المحسة تمييزا ظاهرا، فمثال الحصان مثلا يختلف عن الحصان نفسه في أن المثال حقيقة مجردة، وأنه وجود مطلق أما الحصان فشيء محسوس، وهو باطل، وليس له من الوجود الحقيقي إلا بمقدار قربه من مثاله، ومعنى ذلك أن الأشياء المحسة فيها جانب الوجود لقربها من المثال، وفيها جانب العدم لبعدها عن التجريد، فهي لهذا وسط بين الوجود والعدم، أعني أنها أنصاف حقائق، كذلك يتميز مثال الشيء عن الشيء نفسه بأن المثال واحد، أي إن هناك مثالا واحدا للحصان، أما الشيء نفسه فكثير متعدد، والمثال لا يحده الزمان والمكان؛ لأنه فكرة مجردة، أما الشيء المحس فزماني مكاني، والمثال لا يتغير ولا يتحرك، أما الشيء فمتغير أبدا متحرك أبدا.
وقد رد أرسطو نظرية أفلاطون هذه إلى مصادر ثلاثة: فقد أخذ من الإيليين فكرة الوجود المطلق وطبقها على المثل، وأخذ من هرقليطس فكرة التغير المطلق وطبقها على الأشياء المحسة، كما أخذ من سقراط نظرية المدركات العقلية.
ولما كانت المثل دائمة ثابتة لا يطرأ عليها تغير أو فناء كانت هي مصدر المعرفة الحقيقية، على خلاف عالم الحس الذي يخضع لتغير متصل لا ينقطع، ولا يثبت الشيء على حاله لحظتين متتابعتين، فهو لا يصلح أن يكون مصدرا للعلم؛ لأنك لا تستطيع أن تعلم شيئا عن جسم يتغير من لحظة إلى لحظة؛ إذ لا بد أن يثبت أمام العقل حتى يمكن العلم به، ولكن هذه الأشياء المحسة ليست مجهولة منا كل الجهل، فهي تصور المثل وتحاكيها على حال يختلف حظه من الدقة باختلاف الأشياء؛ وهي لهذا يمكن معرفتها بقدر دقة محاكاتها للمثل، فإن كان هذا الإنسان أقرب من ذلك إلى مثال الإنسان، كنا به أعلم .
وليست تقتصر المثل على الأشياء العقلية كالخير والجمال والعدل، والأجسام كالحصان والشجرة والنهر، والصفات كالبياض والسواد، ولكنها تتناول الأشياء المصنوعة أيضا، فهذه المقاعد والموائد والملابس والأسرة لها مثل أيضا، بل إن هناك مثلا للقبح والظلم، ومثلا لصنوف الأقذار.
وقد كتب أفلاطون في إحدى حواراته ما يدل على ذلك دلالة واضحة، فجعل بارمنيدس يسأل سقراط الصغير: هل هناك مثل للشعر والأقذار؟ فأنكر سقراط في جوابه أن يكون لمثل هذه الأشياء الوضيعة مثل، فيصححه بارمنيدس قائلا: إنه إذا ارتفع إلى مرتبة الفلسفة العليا فلن يزدري هذه الأشياء كما يزدريها الآن، والخلاصة أن كل شيء يكون له في الذهن إدراك كلي، أعني أن كل نوع تنطوي تحته جزئيات كثيرة ويكون له اسم واحد يطلق عليه، فله مثال.
ثم تقدم في نظرية المثل فقال: إن الحقيقة المطلقة - أي المثل - ليست وحدها منعزلة، ولكنها أعضاء من كل واحد، أي إنها في مجموعها تكون كلا ذا أجزاء، وكل هذه الأجزاء متصل بعضها ببعض.
فكما أن المثال الواحد يطبق على جزئيات كثيرة من الأشياء المحسة يكون هو بينها العنصر المشترك، كذلك يكون فوق كل طائفة من المثل الدنيا التي تشترك في صفة ما مثال أعلى منها، وهذا المثال الأعلى نفسه يكون فوقه مضافا إليه ما يشبهه من المثل مثال أعلى، وهكذا دواليك: فمثال البياض ومثال الحمرة ومثال الزرقة يشملها كلها مثال اللون، ومثال الحلاوة ومثال المرارة تنطوي تحت مثال الطعم، ثم تنطوي مثل اللون والطعم وما إليهما تحت مثال أعلى منهما هو مثال الكيف، وهكذا تظل تتدرج في العلو حتى يتكون لديك هرم، وفي قمته المثال الأعلى الذي يفوق كل ما عداه من المثل، وهو حقيقة الوجود المجردة التي وجدت بنفسها ثم صدرت عنها سائر المثل، بل الكون كله، ذلك هو مثال الخير، ومن هذا نرى أن عالم المثل وحدة، إلا أنها تتكون من أجزاء كثيرة، وأهم مسائل الفلسفة عند أفلاطون هي معرفة مراتب هذه المثل والعلاقات التي تربط بعضها ببعض؛ ولذلك بدأ في دراسة تلك العلاقات ولكنه لم يكمل بحثه، وإنما أكثر من ضرب الأمثلة على العلاقة فقط، فقال مثلا: إن مثال الخير هو أساس كل المثل، وإن ما عداه مؤسس عليه ومشتق منه، ولكن لم يبين بعد ذلك هذه العلاقات بوضوح.
ولما كان مثال الخير هو المثل الأعلى كانت كل المثل تسير نحوه، وهذا العالم أيضا بسيره نحو المثل ينشد الخير، أي الكمال.
وهذا يسلمنا إلى التساؤل عن رأي أفلاطون في الله، وإذا تتبعنا قوله نراه يعبر عن الله طورا بصيغة المفرد، وطورا بصيغة الجمع، وينتقل في تعبيراته بسهولة من التوحيد إلى التعديد؛ ذلك لأنه يذكر أحيانا ما يفهم منه أن هناك آلهة متعددين، ويقول بعد إن هناك «خالقا» أعلى يدبر العالم ويحكمه، وهو فوق أن تحيط به العقول، ولكن ما علاقة هذا الإله الأعلى بالمثل وخاصة بمثال الخير الذي قال عنه أفلاطون «إنه أساس كل المثل»؟ الجواب عن هذا السؤال لم يتضح من كلام أفلاطون وضوحا تاما؛ لأنه استعمل في الكلام طريقة ميثولوجية، ومن ثم أخذ الشراح يفرضون الفروض لشرح هذه العلاقة، وملخص ما قالوا: إن هذه العلاقة لا تخلو من أمور ثلاثة لم يسلم كل منها من الاعتراض: فقد نقول إن الله خالق المثل ومنها مثال الخير، وهذا الفرض يهدم نظرية المثل من أساسها؛ لأنها مؤسسة على أنها قديمة لم يخلقها خالق، ولا تدين بوجودها لشيء آخر. وقد نقول إن مثال الخير أوجد الله، وهذا الفرض يحط من شأن الله ويجعله مجرد مخلوق. والفرض الثالث أنه أزلي أبدي وهو يتعاون مع مثال الخير على تدبير هذا العالم، وهذا يجعل مذهب أفلاطون ثانويا تافها. ولما رأى بعض الشارحين أن هذه الأقوال لا تنتج فرض فرضا آخر: وهو أن الله ومثال الخير كلمتان مترادفتان استعملها أفلاطون لمعنى واحد، واستدل على ذلك بعبارات وردت في كلامه، ولعل هذا أقرب الفروض لرأي أفلاطون.
كذلك مما طبقه أفلاطون على نظريته في المثل قوله في الحب، وقد لاك الناس كثيرا كلمة «الحب الأفلاطوني» ولكن أكثرهم لم يفهم معناها كما أراده أفلاطون، فأفلاطون يعتقد أن نفس الإنسان قبل ولادته كانت مجردة عن الأجساد، وكانت تعيش في عالم المثل تتأمل وتفكر، فلما حلت بالجسم - بالولادة - وانغمست في عالم الحس نسيت عالم المثال، فإذا وقع النظر على شيء جميل تذكرت مثال الجمال الذي كانت تعيش فيه وفي أمثاله؛ لأن هذا الجميل صورة من ذلك المثال، وهذا هو السبب فيما نشاهد من وله وهيام وفرح وعواطف حادة، ونحو ذلك مما يصحب النظر إلى الجميل، وهذا الحب للصورة الجميلة أول خطوة في الحب تتدرج منها النفس إلى درجات أرقى، فتدرج من حب الصورة الجميلة إلى حب النفس الجميلة إلى حب العلوم الجميلة إلى حب مثال الجمال إلى حب عالم المثل جميعه، إلى الفلسفة.
وحب الفلسفة هو غاية الغايات، هو الغاية التي ليس وراءها غاية، ومن ثم كان أفلاطون يرى أن من المستحيل الإجابة عن سؤال «ما فائدة الفلسفة؟» ويرى أن السؤال نفسه فاسد؛ لأن فائدة الشيء إنما تظهر بما هو غاية له، ففائدة المال تظهر في الأشياء التي يعد المال وسيلة إليها، فإذا سألت ما فائدة الفلسفة؟ فمعنى ذلك أن الفلسفة وسيلة لشيء، وهذا قلب لوضع الأشياء، فليست الفلسفة وسيلة لشيء، وإنما كل شيء وسيلة للفلسفة.
هذا ملخص نظرية الحب الأفلاطوني، وقد اعترض عليه بأن مقتضى قوله أن للقبح مثالا كالذي للجمال، وهذا ما تقتضيه نظرية أفلاطون في المثل، ومثال القبح معنى أزلي أبدي كامل كمثال الجمال، فكان يجب أن يكون المنظر القبيح يملؤنا فرحا وهياما ويهيج عواطفنا على النحو الذي يكون عند رؤية الجميل؛ لأن كلا يذكرنا بعالم المثل.
3
ولم يتعرض أفلاطون لشرح هذا المعنى أو الإجابة عن هذا الاعتراض الذي تستلزمه نظريته.
4 (3) رأيه في الطبيعة أو في هذا الوجود
يرى أفلاطون أن هناك عالمين: عالم المثل وهو عالم الحقيقة وهو الأساس، وعالم الطبيعة وهو عالمنا هذا، وهو عالم الظواهر المحدود بالزمان والمكان. أما العالم الأول فليس محدودا بزمان ولا مكان، وعالم الطبيعة ينقسم إلى قسمين: جسماني وهو هذه الظواهر التي نراها ونحس بها، وغير جسماني وهو النفس، ولنتكلم عن رأي أفلاطون في كل من النوعين. (3-1) العالم الجسماني (عالم الحس)
يرى أفلاطون - كما أسلفنا - أن هذا العالم الحسي صورة لعالم المثل، فكل شيء يحاول أن يحاكي مثاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكلما اشتد قربا من مثاله كان أكبر حظا من الحقيقة، ولكن لماذا يكون للمثل أشياء تصورها وتمثلها؟ وبم نعلل انبعاث هذه الصور الحسية التي تنسج على منوال مثلها؟ وكيف خرج عالم الحس من عالم المثل؟ لم يجب أفلاطون عن هذه الأسئلة إجابة واضحة صريحة، ولكنه سلك في ذلك التعبير الشعري، وذلك في كتابه المسمى تيمايس
Timaeus
وهو أغمض كتاب من كتب أفلاطون، وغموضه - كما يقول بعض المؤرخين - راجع إلى قلة معرفته بالعلوم الطبيعية، فقد كانت العلوم الطبيعية إذ ذاك في طفولتها، ومع هذا فقد حاول في هذا الكتاب أن يشرح حركات النجوم والكواكب والضوء والحرارة والصوت والماء والثلج والحديد والذهب ... إلخ، ولكن شرحه لهذه المسائل أكثره فروض يتخللها قليل من الحقائق، وبدلا من أن يسلك طريق جمع الحقائق أولا ثم يفرض الفروض لشرحها وتعليلها كما هو متبع اليوم كان يهمل جمع الحقائق ويبدأ بالفروض وهي طريقة قلما تنتج، ومن ثم كان كتابه هذا أغلبه قليل القيمة صعب الفهم، ونحن نذكر هنا شيئا من تعاليمه في هذا الكتاب:
في الكون حقيقتان نهائيتان: الوجود المطلق من ناحية والعدم المطلق من ناحية أخرى، وبين هذا وذاك مرحلة متوسطة هي هذه الأشياء التي تقع تحت حواسنا؛ لأنها تشارك المثل في وجودها، وتشارك المادة في عدمها، فالشيء قبل أن يصاغ على صورة مثاله كان مادة لا صفة لها ولا شكل،
5
وإذا انتزعت من المادة صفاتها وشكلها كانت لا شيء، فلما أن بدأ ذلك الشيء المعين ينتزع نفسه من المادة التي هي في حكم العدم، وينطبع على نسق مثاله، أخذت تميزه بعض الصفات فاكتسب بذلك حقيقة الوجود؛ ولذا كانت الأشياء المحسة أنصاف حقائق؛ فلا هي مجردة كالمثل فتكون حقيقة مطلقة، ولا هي مادة خالصة خالية من صور المثل خلوا تاما فتكون عدما مطلقا، بل هي تجمع بين الوجود والعدم. وإلى هنا نرى أفلاطون يسير في منطق فلسفي لا غبار عليه، ولكنه حين أراد بعد ذلك أن يوضح كيف انطبعت صور المثل على كتلة المادة حتى خرجت تلك الأشياء واتخذت أشكالها المعروفة لم يسعفه العقل فلجأ إلى الخيال والشعر، وكان لا بد له من ذلك لما يترتب على مقدماته التي فرضها من تناقض مستحيل؛ لأنه إذا كانت المثل هي مصدر الأشياء بانطباع صورها على المادة نتج عن ذلك أن تكون المثل متغيرة متبدلة؛ لأنها حيث تبعث من نفسها صورا تشكل بها الأشياء وتخرجها من العدم إلى الوجود لا بد أن تتصف بصفة جديدة وهي صفة الإنتاج والإخراج والخلق، وهذا يترتب عليه التغير وعدم الثبوت، ولكن أفلاطون قدم أنها دائمة لا تقبل التغير، وإذن فلا يجوز أن يصدر عنها شيء بعد أن لم يكن يصدر، فلما رأى أفلاطون استحالة أن تكون في طبيعة المثل قابلية إنتاج الأشياء، لم يجد أمامه إلا تعليلا واحدا يفسر به ذلك، فقال إن ثمت خالقا ومدبرا للعالم، قام بما يقوم به الفنان حين ينحت من المادة تمثالا على صورة معينة في ذهنه. رأى الله أو الخالق مثلا مجردة من ناحية، ومادة لا شمل لها ولا صفة من ناحية أخرى، فشكل المادة على صورة المثل، وبذلك وجدت الأشياء، وكان أول ما خلق نفسا لعالمنا هذا، هي للعالم كنفسنا لنا، وهذه النفس غير جسمانية، ولكنها في مكان، وقد نشرها في مكان خال كما تنشر الشبكة الواسعة، ثم شطرها شطرين، وحنى الشطرين وجعلهما دائرتين: دائرة داخلية ودائرة خارجية، فالأولى مدار الكواكب السيارة والثانية مدار النجوم، ثم أخذ المادة وكونها من عناصر أربعة: (الماء والنار والتراب والهواء)، وبناها على إطار روح العالم، وبذلك تم الخلق، وكان يرى أيضا أن الأرض مركز هذا العالم، وأن النجوم - وهي كائنات إلهية - تدور حولها، وأن النجوم تتحرك حركات دائرية؛ لأن الدائرة أكمل الأشكال، وإذا كانت النجوم إلهية فهي لا تحكم إلا بالعقل، ويجب أن تكون حركتها دائرية؛ لأن الحركة الدائرية هي حركة العقل، وهذا كما ترى شعر غامض سقناه لبيان نوع كتابته. (3-2) النفس الإنسانية
النفس الإنسانية كنفس العالم هي على حركته، ولها اتصال بالمثل واتصال بعالم الحس، وهي تنقسم إلى قسمين: الجزء الأعلى أو الأرقى وبه العقل، وهو الذي يدرك المثل، وهو بسيط غير مركب ولا يقبل التجزئة، وهو أبدي لا يفنى. والقسم الثاني، القسم اللاعاقل، وهو يتجرأ ويفنى، وهذا القسم ينقسم إلى جزأين: الجزء الشريف والجزء الوضيع، فالجزء الشريف تتعلق به الشجاعة وحب الشرف وكل العواطف النبيلة، والجزء الوضيع يتعلق به كل الشهوات البهيمية. والجزء الأول له اتصال بقسم العقل، ولكنه يختلف عنه بأن غريزي لا يصدر منه الشيء عن تفكير، ومركز قسم العقل الرأس، ومركز الجزء الشريف من القسم اللاعاقل القلب، ومركز الجزء الوضيع أسفل البدن، والإنسان وحده هو الذي له القسمان، والحيوان له النوعان من القسم الثاني، والنبات ليس له إلا النوع الأخير من القسم الثاني، والذي يميز الإنسان عما عداه هو قوة التفكير.
وقد ربط أفلاطون نظريته في أبدية النفس وأزليتها بنظريته في المثل بمسألتين هامتين: وهما التذكر والتناسخ.
أما التذكر، فقد قال إن كل معارفنا ليست إلا تذكرا لما كانت تعلمه النفس عندما كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تحل بالجسم، وليس يعني أفلاطون بالمعارف ما يشمل المدركات الحسية مثل: إن هذه الورقة بيضاء أو نحو ذلك، إنما يعني المعارف التي تدرك بالتفكير والعقل، وقد أداه إلى هذا الرأي ما لاحظه من أن القضايا الرياضية - ك 2 + 2 = 4، ومجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين ونحو ذلك - فطرية في النفس لم تكتسبها بتجارب خارجية ولا بالتلقين.
وبذلك اقترب أفلاطون من النظرية الحديثة التي تفرق بين العلم الضروري والعلم المكتسب، وهي النظرية التي وضعها «كانت» وملخصها: أنك إذا نظرت إلى نظرية رياضية مثل: 2 + 2 = 4 فليس معناها أن شيئين وشيئين تساوي أربعة أشياء، بل هو معنى مجرد يجب أن يكون، وبعبارة أخرى إنك لم تستفد هذا من الاستقراء، بل إن العقل علم بذلك من غير استقراء، ويحكم باستحالة ظهور حالة يكون فيها 2 + 2 = 5، وعلى عكس ذلك قضية أخرى مثل الذهب أصفر، فإن هذا جاء من طريق الاستقراء لا من عمل العقل نفسه، بل العقل نفسه يجوز وجود ذهب أزرق، ولم يمنع منه إلا عدم وجوده في الخارج، وتسمى القضية الأولى وأمثالها قضية ضرورية، والثانية قضية مكتسبة.
لم يوضح أفلاطون النظرية بهذا الشكل بل قال إنا نجد أن القضايا الرياضية يدركها العقل لا من طريق التلقين ولا من طريق التجربة، واستنتج من هذا أن هذه القضايا كانت معروفة للنفس قبل الولادة، ولا يقال إن المعلم يعلمها للطفل فيتعلمها، بل الواضح أن الطفل إذا ذكر له المعلم هذه القضايا فهمها وسلم بها، وشعر أن المعلم لم يملها عليه ولكنه كشف الغطاء عنها، واستدل على ذلك بأن سقراط حادث طفلا رقيقا لم يتعلم من قبل رياضة، وما كان يعرف شيئا عن المربع، فبسؤال سقراط له أسئلة حكيمة منطقية استطاع الطفل أن يعرف خواص المربع، ولم يلقنه شيئا، ولم يزد عن أن سأله جملة أسئلة، قال أفلاطون: وإنما لم نتذكر المعلومات من أنفسنا بسهولة، واحتجنا إلى معلم أو نحوه يذكرنا؛ لأن حلول النفس بالجسم واشتغالها به عاقها عن التذكر السريع.
أما رأيه في التناسخ فيتلخص في أن النفس كما قدمنا كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت بالجسم وتعلقت به، فإذا مات الإنسان وكان قد عاش في حياته عيشة طيبة وعلى الأخص راض نفسه على تذكر كل عالم المثل، وبعبارة أخرى تفلسف، تعود النفس إلى عالم المثل راضية سعيدة وتقيم فيه، وبعد طويل من الزمن تعود النفس فتحل في إنسان آخر، أما الذين ساءت أعمالهم في الحياة الدنيا فتعذب نفوسهم بعد الموت، ثم يحلون في جسم أحط منهم، فالرجل قد يحل في جسم امرأة ، وإذا عاش الرجل شهوانيا حل في جسم حيوان وهكذا. (4) رأيه في الأخلاق
ابتدأ أفلاطون كلامه في الأخلاق ببيان أن الفضيلة ليست مرادفة للذة، وليست هي عمل ما يراه كل شخص حقا، رادا بذلك على السوفسطائيين، فإنهم كانوا يقولون ما يراه الشخص حقا فهو حق بالنسبة له هو، وبعبارة أخرى للإنسان الحق في أن يعمل ما يراه لذيذا له، فقال أفلاطون في تفنيد هذا: (1)
إن هذا القول يستدعي أن لا شيء حق في ذاته بل الحق نسبي، فما يكون حقا بالنسبة لي قد لا يكون حقا بالنسبة لك، وما يكون فيه لذة لشخص قد يكون فيه ألم لآخر، وبهذا لا يكون الخير والشر متمايزين، ولا يكون لكل منهما حقيقة ذاتية. (2)
إذا كان الحق هو اللذة، فاللذة هي إرواء الرغبة أو الشهوة، والرغبة أو الشهوة ليست إلا شعورا، وبهذا تكون الأخلاقية (أو الحكم على العمل بالخير أو الشر) تابعة للشعور الشخصي، ولا يكون هناك قانون عام يخضع له الناس جميعا. (3)
أخلاقية العمل يجب أن تتبع قيمة العمل الذاتية لا أن تتبع شيئا آخر وراءه، أما السوفسطائيون فيجعلون أخلاقية العمل لا تتعلق بالعمل، ويجعلون أخلاقية العمل ليست إلا وسيلة لغاية أخرى وراءها، فالفضيلة ليست هي اللذة كما أن المعرفة ليست إدراك الجزئيات.
كذلك يقول أفلاطون: ليسن الفضيلة هي عمل الحق، فقد يعمل الحق على أساس باطل فلا يكون فضيلة، فليس يشترط في الفضيلة معرفة ما هو الحق فقط، بل يشترط أيضا معرفة لم كان هذا الحق حقا ... لهذا كانت الفضيلة في نظره العمل الحق صادرا عن معرفة حقة بقيمة الحق ... ولهذا فرق أفلاطون بين الفضيلة الفلسفية والفضيلة العادية التقليدية، فالأولى مؤسسة على التفكير وفهم الأساس الذي بني عليه العمل، والثانية عمل حق نشأ عن عرف أو تقليد أو غريزة أو عطف أو نحو ذلك، فعملك الخير لأن الناس يعملونه من غير فهم لماذا كان هذا حقا هو فضيلة الطيبين من عامة الناس، وإن شئت فقل هو فضيلة النحل والنمل وما إليهما، وقد تفكه أفلاطون على مبدئه في التناسخ فقال: لعل أرواح مثل هؤلاء الناس تحل فيما بعد في نحل أو نمل.
وهنا تساءل: إذن ما هو الخير؟ كيف أعرفه؟ ما مقياس الخير والشر؟ وبعبارة أخرى : ما غاية الغايات التي إذا قرب العمل منها كان خيرا، وإذا بعد عنها كان شرا؟
كثيرا ما يردد أفلاطون في كلامه كلمة «السعادة»
Happiness
مما يدل على أنه يراها غاية الغايات، وأن العمل كلما أوصل إليها كان خيرا، ولكن ما هي السعادة التي يعنيها؟
ليس يعني أفلاطون بالسعادة ما ذهب إليه فيما بعد من يسمون بالمنفعيين
Utilitarians
أمثال «بنتام» و«جون ستورت مل» فإنهم يفسرون السعادة باللذة - على اختلاف بينهم في شرحها - والدليل على أن أفلاطون لا يرضى عن أقوالهم أنهم نحوا في تفسير السعادة منحى السوفسطائيين، وقد رأيت أن أفلاطون رد عليهم في قولهم وأبى تفسيرهم، والفرق بين «ميل» مثلا والسوفسطائيين ليس إلا أن السوفسطائيين جعلوا المقياس لذة الفرد، و«ميل» جعله لذة المجموع، ورد أفلاطون عليهم (بأن هذا يجعل الأخلاقية لا قيمة لها في نفسها، وإنما هي تبع للشعور ... إلخ) يصلح أن يكون أيضا ردا على «ميل» ... إذن ما السعادة في رأي أفلاطون؟
اشتق أفلاطون إجابته على هذا السؤال من إلقاء نظرة على نظرية المثل، ونظرة على عالم الحس الذي نعيش فيه، فكانت النتيجة أنه رأى أن السعادة أو غاية الغايات تتكون من أربعة أجزاء: أولا - وهو أهمها - العلم بعالم المثل وهو الفلسفة، ثانيا: تفهم الارتباط بين عالم المثل وعالم الحس، وكيف يتجلى عالم المثل على عالم الحس، وذلك يستتبع عشق ما في عالمنا من جمال ونظام وتناسق، ثالثا: التثقف بأنواع من العلوم والفنون، رابعا: التمتع بلذائذ هذا العالم النقية الطاهرة البريئة، والترفع عما هو منها خسيس دنيء.
هذه هي السعادة أو الفضيلة الفلسفية، ولم يجرد أفلاطون الفضيلة العادية من القيمة، بل قال إن الإنسان لا يستطيع أن يقفز دفعة واحدة إلى قمة الفضيلة الفلسفية، بل لا بد من المران والسير درجات، ومما يساعد على هذا السير الاعتياد الحسن، وغرس الفضائل العرفية، والعادات الحسنة، حتى إذا جاء دور التفكير والتأمل كان الاستعداد لذلك حاصلا، واستطاع الإنسان أن يصعد على هذا الأساس.
كان سقراط يرى أن الفضيلة واحدة وهي المعرفة، وقد اتبع أفلاطون أولا رأي أستاذه في كتابته الأولى، ثم عدل عن ذلك ورأى أن كل قوة من قوى الإنسان لها فضيلة خاصة، فعنده أن أسس الفضائل أربعة: ثلاثة منها لأجزاء النفس الثلاثة التي شرحناها قبل، والرابعة جماع الثلاثة، ففضيلة قسم التفكير (وهو الجزء الأعلى من النفس) «الحكمة»، وفضيلة الجزء الشريف من القسم اللاعاقل «الشجاعة»، وفضيلة الجزء الثاني منه العفة أو ضبط النفس، فإذا أدى كل قسم عمله على الوجه الأكمل نشأ من اكتمال هذه القوى وتعاونها الفضيلة الرابعة وهي العدل.
ويتبع هذا القسم الأخلاقي رأيه في المرأة والزواج، وقد رأى فيهما ما كان شائعا في زمنه، فلم يأت فيهما بجديد، فكان يرى أن المرأة أحط طبيعيا من الرجل، ولم ينظر إليها النظرة السائدة في عصرنا من أنها جزء مكمل للإنسانية، تتصف بفضائل خاصة لا يتصف بها الرجل، بل كان يرى أن ليست المرأة نوعا آخر غير نوع الرجل لها مميزاتها الخاصة، بل يرى أنها من نوعه ولكنها أحط منه درجة، فهما عقليا من نوع واحد ولكنه يفضلها؛ ولهذا يرى أنه يجب ألا تحرم من التعلم الذي يتعلمه الرجل، وبنفس الطريقة التي نربي بها الرجل، وفي مقابل ذلك يجب أن تشارك الرجل في تحمل الواجبات، حتى الواجبات الحربية.
وتبع رأيه في الزواج رأيه في المرأة، فهو يرى أن الزوجة ليست المثل الأعلى في زمالة الرجل وصداقته، فالصديق الطبيعي للرجل ليس الزوجة ولا المرأة ولكنه الرجل، والغرض من الزواج ليس التعاون الروحي بين الرجل والمرأة والمشاركة في الصداقة؛ لأن المرأة لا تستطيع ذلك، بل الغرض من الزواج إيجاد النسل.
وقد أجاز الاسترقاق، وقال إنه ظاهر المشروعية لا يحتاج تبريره إلى برهان، وكل ما يمكن أن يقال فيه إيصاء مالكي الرقبة بالعدل مع الأرقاء وحسن معاملتهم.
ومهما قيل من أن آراء أفلاطون الأخلاقية لم تعد وجهة نظر قومه، فله أثر لا ينكر في إحدى نواحي الأخلاق، وذلك أن فكرة كانت تسود في اليونان وهي قصر عمل الخير على الأصدقاء، ومعاملة الأعداء بالشر، فنقد أفلاطون تلك النزعة نقدا صارما، وقال: إنه ليس من الخير مطلقا أن تفعل شرا، سواء كان ذلك الشر موجها إلى عدو أو صديق، وواجب حتم على الإنسان أن يعامل أعداءه بالخير لعله يكون منهم أصدقاء، ومن الفضيلة أن ترد الشر بالخير، فذلك أسمى من أن تجاوب الشر بالشر. (5) رأيه في الدولة
بحث أفلاطون في الغرض من الدولة، وبعبارة أخرى في الغاية التي نقصدها من ورائها، فقال إن الغرض من حياة الأفراد هو الحكمة والفضيلة والمعرفة، والأفراد لا يستطيعون الوصول إلى هذه الغاية من غير أن يعانوا عليها، فالغاية من الدولة إسعاد أفراد الأمة وإعانتهم على الوصول إلى هذه الأغراض التي ذكرنا، وإذ كان خير وسيلة لإعانة الأفراد على الوصول إلى أغراضهم هو التربية كانت تربية الشعب أول عمل وأهم عمل تقوم به الدولة.
يجب أن تؤسس الدولة على الفكر والتعقل، وأن تكون القوانين التي تصدرها ناشئة عن فكر وتعقل، ومثل هذه القوانين لا يمكن إلا أن تصدر عن عقلاء مفكرين، وبعبارة أخرى «فلاسفة»، فحكام الأمة يجب أن يكونوا فلاسفة، ولما كان الفلاسفة في كل أمة قليلين، وجب أن تكون الحكومة أرستقراطية، ولكن لست أعني أرستقراطية النسب ولا أرستقراطية المال وإنما أعني أرستقراطية العقل، ويجب أن يكون أول عنصر في الدولة العقل ثم القوة ثم العمل، وكل عنصر من هذه العناصر تمثله طائفة من الأمة: فالعقل في طبقة الحكام، والقوة في الشرطة والجنود والمحاربين ونحوهم، وقد احتجنا إليهم في الدولة؛ لأن بعض العامة لا يخضعون للقوانين التي يصدرها العقلاء طوعا، فيجب أن يخضعوا لها كرها (بواسطة القوة) والعمل في طبقة العمال. وهذا التقسيم الثلاثي تابع عنده للتقسيم الثلاثي للنفس الذي ذكرناه من قبل، فالقسم المفكر من نفس الشخص يقابله في الدولة فلاسفة الحكام، والقسم الراقي من النفس اللاعاقلة يقابله الجنود والمحاربون، والقسم الشهواني يقابله طائفة العمال. كذلك الفضائل لكل قسم في الدولة هي الفضائل لكل قسم في النفس، ففضيلة الحكام الحكمة، وفضيلة الجنود والمحاربين الشجاعة، والعمال العفة، وقيام كل بفضيلته، وتعاون هذه الفضائل الثلاث ينشأ عنه العدل الاجتماعي.
يجب - كما قدمنا - أن يكون الحاكم فيلسوفا، وأن يكون كذلك دائما، وأن يصرف وقته في تعرف المثل، وبعبارة أخرى في دراسة الفلسفة، وألا تستغرق أوقاتهم مسائل الحكم؛ ولذلك يجب أن يكون الحكم دوريا، فبعض الفلاسفة يحكمون حينا ويتفلسفون حينا - وهكذا دواليك - وواجب الشرطة والجنود حماية الدولة داخليا وخارجيا، فهم يحمونها خارجيا من أعدائها الخارجين، وداخليا من الدوافع اللاعاقلة التي تصدر عن غوغاء الشعب.
وعلى الجملة أهم عملهم تنفيذ الأوامر والقوانين التي يصدرها الحكام الفلاسفة، وواجب العمال أو جمهور الناس الاشتغال بالتجارة والزراعة والحرف ونحو ذلك، ويجب أن تمتنع الطبقتان الأوليان عن الاشتغال بشيء من ذلك.
ولكن كيف نعين أن هذا الفرد من طبقة الحكام أو الجنود أو العمال؟ يقول أفلاطون: إن هذا لا يترك للشخص نفسه ليلتحق بأية طبقة ولا يحدد بالمولد، فليس ابن الفيلسوف يربى ليكون من طبقة الفلاسفة وهكذا، إنما يترك إلى رجال رسميين في الدولة يعينون طبقة الشخص بناء على اختبارهم غرائزه واستعداداته كما يعينون عدد ما تحتاجه الدولة من كل طبقة من الطبقات الثلاث.
يجب على الدولة أن تمكن الأفراد من الوصول إلى سعادتهم وذلك بتشجيع ما هو خير، وهدم كل ما هو شر، ومن وسائل حصر الشر ومنع تسربه إعدام الأولاد يولدون من آباء أشرار، وعدم السماح للضعاف والمرضى من الأولاد بالبقاء، ومن وسائل تشجيع الخير سيطرة الدولة على تربية الناشئين، فيجب فصل الأولاد عن آبائهم من وقت ولادتهم وانتسابهم إلى الدولة لا إلى آبائهم، وإشراف الدولة من صغرهم على تربيتهم، ويجب اتخاذ الوسائل الفعالة في ذلك حتى لا يعرف الآباء أولادهم إذا خرجوا للحياة العامة، ويجب أن تشرف الدولة إشرافا تاما على برامج التعليم، وألا تسمح بتعليم شيء يعين على الرذيلة ويضر بأفكار الشعب، فمثلا الشعر يجب ألا يسمح منه إلا بما يعين على الفضيلة، ولا يكفي في السماح به أن يكون جميلا؛ إذ لا قيمة للجمال إذا لم تكن غايته الفضيلة، ولذلك يجب أن تشرف عليه الدولة.
يجب أن تراعى مصلحة مجموع الأمة لا مصلحة فرد أو أفراد، فيجب ألا يكون لفرد منفعة شخصية تتميز عن منفعة المجموع، ويجب أن تنهار هذه المصالح الفردية، فليس هناك ملكية، وليس هناك اختصاص الأب أو الأم بأولاد معينين بل اشتراكية في الأموال والنساء والأولاد، والدولة تملك الأولاد منذ ولادتهم. (6) رأيه في الفن
لم يكن لأفلاطون بحث منظم قائم بنفسه في الفن، وإنما له فيه آراء مبعثرة نذكر أهمها:
نظريات الفن الحديثة مؤسسة على أن الفن غاية في نفسه لا وسيلة لشيء آخر، وأن الشيء الجميل له في نفسه قيمة ذاتية، وأن الفن يحكم بقوانينه هو، وبمقتضى مقاييس الجمال، وليس يحكم عليه كما يذهب «تولوستوي» بمقتضى المقاييس الأخلاقية، وليس الجميل وسيلة للخير بل هو نفسه غاية، أما أفلاطون فيرى أن الفن يجب أن يكون خاضعا للأخلاق والفلسفة، فالشعر مثلا كما أسلفنا لا يسمح منه إلا بما يعين على الفضيلة، ولا يكفي أن يقال إنه جميل ليسمح به، فيجب أن يلجم الشعر بالأخلاق.
وفي العصر الحديث كان «رسكن» يرى هذا الرأي ومن أقواله المشهورة: «لا يمكن أن يكون جميلا إلا ما كان حقا.» هذا خضوعه للأخلاق، وأما خضوعه للفلسفة فذلك أن الغرض من التربية تفهم المثل، والعلوم والفنون إنما وضعت في برامج التعليم والتربية؛ لأنها تعين على فهم هذه المثل، أما هي فلا قيمة لها في ذاتها.
وهو يرى أن الفن إنما هو تقليد الطبيعة ومحاكاتها، فهو ليس إلا إبراز صورة للأشياء المحسوسة كما أن هذه الأشياء المحسوسة ليست إلا صورة للمثل، فالفن ليس إلا صورة لصورة ... فهو لم يلحظ ما للفن من خلق، ولم ير أن الفنان لا يقتصر على تقليد الطبيعة، بل يكملها ويسبغ عليها شيئا من شعوره وطموحه: لا، لم ير أفلاطون شيئا من هذا، بل رأى أن الفن نسخة من الأصل، وهذا الرأي معيب؛ لأنه يستلزم أن تكون الصورة الفوتوغرافية أكمل صورة لأنها أحكم تقليد.
يرى أفلاطون أن الفنان لا يستمد فنه من العقل والتفكير، بل يستمده من الوحي أو الإلهام، فهولا يصدر عنه التصوير الجميل بناء على قواعد قد وضعت، بل هو يعمل بما يلهم، ويسير على القواعد الفنية بلا شعور، ولم يقدر أفلاطون هذا الوحي أو الإلهام تقديرا كبيرا، بل رآه حقيرا وضيعا، وسماه الجنون السماوي، أما كونه سماويا فلأن الفنان يبرز إلى الوجود أشياء في منتهى الجمال، وأما أنه جنون فلأنه نفسه لا يعلم كيف صدرت عنه ولا لم صدرت، فالشاعر يجري على لسانه القول الحكيم والشعر الجميل وهو يشعر بذلك، ولكن لا يعلم كيف كان، فإلهام الفنان ليس في مستوى المعرفة العقلية، بل هو أحط منها، ومن ثم كان الفن أحط من الفلسفة.
وهكذا لم يقوم أفلاطون الفن ولا الفنان تقويما كبيرا، وكان للفن مقام أكبر في نظر أرسطو، مع أن أفلاطون فيلسوف وفنان، وكتابته الفلسفية آية من آيات الفن، وأرسطو لم يكن فنانا، بل فيلسوفا فقط، وكتابته علمية لا فن فيها، ومع هذا نظر إلى الفن بخير مما نظر إليه أفلاطون.
وما ذكرناه من رأي أفلاطون في الدولة والفن موجز أتم إيجاز، وسترى شيئا من تفصيل ذلك فيما سنعرضه من تلخيص كتابه «الجمهورية». (7) كتاب الجمهورية أو المدينة الفاضلة
كتاب الجمهورية هو أهم ما سطر أفلاطون من كتب، فهو بحث شامل لفروع متشعبة من آرائه، كأنما أراد به أن يكون ملخصا موجزا لفلسفته جميعا، ففيه مذهبه فيما وراء الطبيعة، وفي السياسة، وفي الدين، وفي الأخلاق، وفي علم النفس، وفي التربية، وفي الفن، وقد بسط فيه من موضوعات البحث ما يبدو لقارئ هذا العصر أنه جديد.
فكتاب الجمهورية في حقيقة الأمر صورة وافية لأمهات المسائل في الفلسفة، ولا غرابة، فهو صورة مصغرة لأفلاطون، ودراسة هذا الكتاب دراسة لرأي أفلاطون في المدينة الفاضلة، أو المدينة النموذجية، وهاك مجمل ما فيه:
عقد أفلاطون حوارا ، اتخذ له مكانا منزل رجل واسع الثراء أرستقراطي النسب، هو سيفالوس
Cephalus ، وجعل بين الحاضرين ثراسيماكوس السوفسطائي، وأستاذه سقراط، (ويلاحظ دائما أن أقوال سقراط إنما تعبر عن رأي أفلاطون) فألقى سقراط على سيفالوس الغني هذا السؤال: «ما هي في ظنك أعظم فائدة عادت عليك من ثروتك؟»
فأجابه سيفالوس: إنها مكنته من أن يكون جوادا كريما أمينا عادلا. فسأله سقراط في مكر وتهكم: وماذا تعني بالعدل؟ وهنا بدأ حوار فلسفي عميق حاد حول تعريف العدل، فليس أعسر من التعريف اختبارا لقوة الذكاء ووضوح التفكير، فلم يكن بد من أن يعترف سيفالوس بعد محاولة فاشلة بعجزه عن تعريف العدل، فأخذ سقراط يدور بالسؤال على الحاضرين واحدا فواحدا، وكلهم عاجز عن الأداء، فثارت ثورة الغضب في ثراسيماكوس وضاق صدره بإحراج سقراط له، فصاح في وجهه قائلا: «ما أشد غفلتك يا سقراط! ماذا تفيد من هزيمة محاوريك واحدا إثر واحد بهذا الأسلوب المعيب؟ إذا كنت تريد معنى العدل، فأسمعنا جوابك أنت قبل أن تتوجه بالسؤال، فذلك أفضل من أن تزهو بنفسك حين تفند أقوال الآخرين ... ما أكثر من يستطيع أن يوجه الأسئلة، ولكن ما أقل من يقوى على الجواب!»
فلم يعبأ سقراط بهذا القول، وأخذ يستفسر الحاضرين عن معنى العدل دون أن يدلي بإجابته، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى كان دور ثراسيماكوس، فلم يتردد سقراط في أن يتوجه إليه بنفس السؤال: ما هو العدل؟ فأجاب وهو يتميز من الغيظ: «إذن أصغ إلى ما أقول: أنا أزعم أن القوة هي الحق، وأن العدل ما كان في صالح الأقوى، والقوانين وليدة الحكومات، تتغير بتغيرها، وسواء كانت ديمقراطية أم أرستقراطية أم أوتوقراطية، فهي تصوغ القوانين بما يتفق ومصالحها، وتلك القوانين التي وضعتها الحكومات طبقا لأغراضها تفرضها على الناس فرضا باعتبارها تمثل العدل، وعلى كل من خالفها يقع الجزاء؛ لأنه عندئذ يكون مخالفا للعدل، وليس أدل على صدق ما أقول مما يحدث في حالة الحكومة الأوتوقراطية، فهي تنتزع أملاك الناس بالقوة، والعجيب أن يقابل هؤلاء الناس هذا الاعتداء على أموالهم بالتمجيد، بدل أن يقولوا إنه سرقة وغش.»
وقد نحا ثراسيماكوس في قوله هذا منحى السوفسطائيين؛ إذ قال إن ما يراه القوي عدلا فهو عدل، فالعدل ما تفعل القوة.
هكذا دار الحديث حول العدل، فقد أجيب بأن ما تفعله القوة هو الخير، وهي وحدها مقياس الأخلاق، ولكن ما قول سقراط في هذا؟ وقوله هو رأي أفلاطون، أيفضل أن يكون العدل في المساواة أم في جانب القوة وحدها؟ إنه لم يجب جوابا صريحا، ولم يزد على أن أشار إلى أن العدل يظهر في العلاقة بين أفراد المجتمع، فإذا أردنا دراسة العدل فليس الفرد موضوع البحث، ولكن المجتمع بأسره، فالعدل كما أشار سقراط في هذا الحوار جزء من أسس الاجتماع، فينبغي أن نأتيه عن طريق دراسة المجتمع، لننظر كيف يكون المجتمع وهو في أكمل نظمه، وكيف تكون العلاقة بين أفراده، وبذلك نعلم ماهية العدل، وبعبارة أخرى لو استطعنا أن نصور لأنفسنا دولة عادلة، أمكننا أن نصف الرجل العادل.
يسأل أفلاطون في عجب: إذا كان ممكنا للإنسان أن يتخيل حياة بسيطة سعيدة فماذا يمنع من تطبيق هذا النموذج الخيالي تطبيقا عمليا؟ وهو نفسه يجيب بأن الشره والرغبة في الترف هما اللذان حالا دون قيام «مدينة فاضلة» إلا في الخيال، إن الإنسان ليدفعه الطمع إلى امتلاك أوسع ما يمكن امتلاكه من متاع الدنيا وحطامها، وهو كلما حقق أمنية قامت وراءها أمنيات، فلا يزال يسعى ويسعى إلى تحصيل ما لا يملك حتى يدركه الموت دون أن يصل في طمعه إلى حد، فكانت النتيجة المحتومة لهذه الرغبة الغريزية المركبة في طبائع البشر أن يسطو فريق قوي من الناس على فريق مستضعف فينتزع منه ما يملك قسرا، وكل ذلك ينتهي إلى النزاع بين دولة ودولة، فنشوب الحرب بينهما؛ ولذا كان توزيع الثروة لا يثبت على حال دائمة، فهي متنقلة من يد إلى يد تبعا لانتقال القوة من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى جماعة، وكلما تغير توزيع الثروة تغيرت معه الحال السياسية، فإذا أربت ثروة التاجر على ثروة مالك الأرض الزراعية مثلا تحتم على الأرستقراطية أن تنزل عن مناصب الحكم لتفسح الطريق إلى طبقة التجار، وهذا ما يسمى بالحكومة الأولجاركية.
ومهما يكن نوع الحكومة، أرستقراطية كانت أم أولجاركية، فهي حتما منتهية إلى الزوال إذا ما تطرفت في مبادئها، فالأرستقراطية إن بالغت في حصر القوة وقصرها على فئة قليلة من الملاك كان في ذلك حتفها، وكذلك الأولجاركية إن أسرفت في جمع الثروة بغير تحفظ ولا حذر أدى ذلك إلى فنائها؛ لأن تلك المبالغة وهذا الإسراف لا بد أن يؤدي إلى ثورة الشعب يوما ما «وعندئذ تنهض الديمقراطية، فيتغلب الفقراء على أعدائهم، وينتقمون لأنفسهم من هؤلاء الحكام بالقتل والتشريد، ثم يسوى بين الناس في الحرية والقوة.» وهذه الديمقراطية نفسها إذا ما تطرفت في مبادئها انهار بناؤها؛ لأنها إن جعلت الناس جميعا سواسية في الحقوق والقوى فلن يستطيع الدهماء بحكم تربيتهم أن يحسنوا اختيار حكامهم، وقد يوضع الأمر في أيد طائشة جاهلة تسير بسفينة الدولة في بحر متلاطم الموج، ولا تزال الأنواء تتنازعها حتى ينتهي الحكم الديمقراطي إلى أوتوقراطية مستبدة، فما أهون أن ينبت من صفوف الشعب زعيم يداهن الغوغاء، ويستولي على أفئدتهم بالملق والرياء، فيرفعونه على أكتافهم إلى منصب الحكم، وعندئذ يصرف الأمور كما يشاء ويهوى.
استعرض أفلاطون ذلك كله، وأخذه العجب حين لاحظ أن الناس لا يصطنعون الحكمة في أمور الدولة كما يفعلون في أبسط نواحي الحياة ... إن المريض حين يدعو طبيبا لعلاجه لا يشترط فيه مثلا أن يكون جميلا، ولكنه يحرص كل الحرص أن يكون طبيبا ماهرا قادرا على أداء مهمته على الوجه الأكمل، بل اذهب إلى ما هو أحقر من ذلك من شئون العيش، وانظر كيف لا يرضى الرجل حين يريد لنفسه حذاء إلا أن يكلف بصنعه الحذاء الماهر ولا يعنيه في كثير ولا قليل أن يكون ذلك الحذاء بليغا في خطابته أو وسيما في محياه، فلماذا لا تسلم الدولة أمورها إلى أكفأ الرجال وأبلغهم حكمة؟ ... ولكن من هؤلاء؟ ... وكيف نعدهم؟
لا يرضى أفلاطون أن يجيب قبل أن يلقي بنظرة على طبيعة الإنسان فيتناولها بالتحليل والدرس، وعنده أن لا سبيل إلى فهم السياسة إلا إذا درس الفرد «فالإنسان والدولة شبيهان»، والدولة هي مجموع الأفراد، تستمد حالتها من حالتهم، فإن أردنا دولة كاملة فلا بد من إعداد المواطنين الصالحين أولا، وكل محاولة للإصلاح قبل ذلك ضرب من العبث لا غناء فيه، فدراسة الإنسان خطوة أولية واجبة لكي نرتب عليها كيفية الإصلاح، فننتهي إلى المجتمع الصالح، أي المدينة الفاضلة.
يقول أفلاطون إن سلوك الإنسان وأفعاله كلها مصادرها ثلاثة: الشهوة والعاطفة والعقل، أما الشهوة فمقرها أسفل البطن وهي مستودع النشاط، وأما العاطفة فمقرها القلب وهي تزود الإنسان في سعيه بالقوة والحرارة، وأما العقل فهو في الرأس وهو ربان السفينة يهديها إلى سواء السبيل.
وهذه القوى الثلاث موجودة في كل إنسان ولكن بدرجات مختلفة، فمن الناس من يكاد يكون شهوة مجسدة تضؤل بجانبها العاطفة والعقل، وهؤلاء ينغمسون في الحياة المادية انغماسا، ومنهم تتكون الطبقة العاملة في الأمة، ومن الناس من يطغى فيه جانب الشعور، كالمحارب الذي يقاتل من أجل الانتصار وكفى، ثم لا يعنيه بعد ذلك أظفر بالغنيمة أم لم يظفر، وهؤلاء يكونون الجيش والأسطول، وفريق ثالث قليل العدد جدا لا يستمتع في الحياة إلا بالتفكير والتأمل وهو لا يقصد إلا إلى المعرفة وحدها، هؤلاء هم رجال الحكمة الذين ينشدون العزلة والوحدة، فلا يقتحمون الأسواق ولا يجولون في ميادين القتال، فهم يقفون من الحياة العملية عند هامشها لا يدلون فيها بدلاء.
وهذه القوى الثلاث متصل بعضها ببعض أشد الاتصال: فمن مجموعها تتكون النفس، فالشهوة تسعى، والعاطفة تغذيها، والعقل يهديها، والأمر في الدولة كالأمر في الفرد، فيجب أن يتولى زمام الحكم فيها طائفة حكيمة تكون لها بمثابة العقل من الفرد لتسدد خطاها وتسير بها على هدى وبصيرة، ويجب أن ينصرف إلى شئون الزراعة والتجارة والصناعة فريق غلبت عليهم الناحية المادية (فيكونون طبقة الإنتاج) فهم ينتجون دون أن يتعرضوا للسياسة والحكم، وأما فئة الجيش فتقصر نفسها على الدفاع والحرب، ولا تتجاوز ذلك إلى مناصب الحكومة؛ فالمنتج يكون في أحسن حال ممكنة وهو في ميدان الاقتصاد، والجندي وهو في ميدان الحرب، وتسوء حالهما إذا توليا شئون الدولة، فسياسة الدولة علم وفن يحتاج إلى تدريب طويل، والملك الفيلسوف هو وحده القادر على قيادة الأمة، ولا سبيل إلى إصلاح أمراض المجتمع إلا إذا اجتمعت الفلسفة والسلطة في يد واحدة.
إن كانت الدولة لا تصلح إلا بهذا التقسيم، فما السبيل إلى تنفيذ ذلك؟ كيف نحلل الأمة إلى عناصرها الثلاثة لينصرف كل فريق إلى ما أعد له، فالمادي لميدان العمل، والجندي للحرب، والحكيم للحكم؟ يقول أفلاطون: يجب أن نبدأ بعزل الأطفال عن الكبار لندرأ عنهم عادات آبائهم السيئة؛ إذ من المتعذر أن نكون مدينة فاضلة من الشبان الذين أفسدت أخلاقهم أمثلة آبائهم، وواجب حتم أن نطهر الأخلاق من الضعف والفساد، والتربية التي يؤخذ بها هؤلاء الأطفال يجب أن تكون ممهدة مهيأة لهم جميعا، فلا يمتاز أحدهم عن أحد في شيء؛ لأننا إنما نقصد من التربية غاية واحدة، هي تمحيص الأفراد والكشف عن العبقري النابغ منهم، وليس النبوغ قاصرا على طبقة دون أخرى، وإذن فيجب أن يفسح مجال الظهور أمام كل طفل بغير استثناء، أما مواد التربية في هذه السنوات العشر الأولى فهي لا تزيد عن التربية البدنية إلا قليلا، فالمدرسة عبارة عن ملعب تقام على أرضه الألعاب المقررة.
ولكن الرياضة البدنية وحدها تربي من الطفل جانبا واحدا، ونحن إنما نريد أن نكون من الطفل رجلا متزن الجوانب، لا تطغى فيه ناحية على ناحية أخرى، ولسنا نريد بالأمة أن يكون أفرادها رباعين وحملة أثقال، بل نقصد كذلك إلى تهذيب الخلق وتنمية المعرفة، فارتأى أفلاطون أن تضاف الموسيقى إلى التربية البدنية في هذه الفترة الأولى، فهي وحدها كافية لاتساق النفس وتوازن أجزائها، والموسيقى كفيلة أن تعلم العدل؛ لأنها تدرب النفس على التوافق النغمي، «ولا يسع ذا المزاج المتناغم إلا أن يكون عادلا، فالموسيقى تهذب الخلق؛ ولذا كانت عميقة الأثر في توجيه السلوك الذي هو أساس الحياة الاجتماعية والسياسية.» وقد قيل، جريا على رأي أفلاطون: «إنه إذا تغيرت طرائق الموسيقى عند قوم تغيرت قوانينهم تبعا لها.» تأكيدا لفعل الموسيقى في توجيه النفس، وكذلك قال كاتب في ذلك (
Daniel O’Conuel ): «سلمني قياد الغناء في أمة، وأنا كفيل بتغيير قوانينها.»
من ذلك يتضح أن الموسيقى وما يشبهها من مواد الدراسة كالشعر تكسب النفس والجسم صحة وانسجاما، ولكن أفلاطون لا يفوته أن يذكر في هذا الموضع ضرر الإفراط في تعليمها، فكما أن الإسراف في التربية البدنية ينتج لنا أجساما قوية لا أكثر، هي أقرب إلى الحالة الوحشية منها إلى حالة المجتمع الراقي، كذلك المبالغة في تعليم الموسيقى قد تذيب النفس وتذهب في ترقيقها إلى حد لا تقوى معه على الثبات في معترك الحياة، فينبغي أن نقف بالطفل موقفا وسطا، ونجعل دراسته مزيجا من الطرفين، ويظل كذلك بين الموسيقى والألعاب الرياضية حتى يبلغ من عمره السادسة عشرة، فتترك الموسيقى ولا تدرس له بعد ذلك إلا إذا اضطر المعلم إلى استعمالها لتخفيف مرارة العلوم الأخرى كالرياضة والتاريخ وما إلى ذلك مما قد تمجه نفس الطفل، ولا تقبل عليه إقبالا قويا، عندئذ ينبغي أن تصاغ هذه العلوم في شعر موسيقي لتسهل على النفس إساغتها، فأساس التعليم هو رغبة التعلم، ولا يجوز مطلقا أن تساق العلوم إلى عقله سوقا: «يجب أن تقدم مبادئ العلوم إلى العقل إبان الطفولة، ولكن على شرط ألا تكون إجبارية؛ لأن الرجل الحر يجب أن يكون حرا كذلك في تحصيل المعرفة، والعلم الذي يحصله الطالب قسرا لا يثبت في الذهن طويلا، فلا تلزموا أحدا، بل اجعلوا التربية في مراحلها الأولى أدنى إلى التسلية منها إلى الجد، فذلك أنفع وأجدى، وهو الوسيلة التي تتعرف بها ميول الطفل الطبيعية.»
6
إلى هنا قد أعددنا رجال الدولة المثالية أحرار العقول أقوياء الأبدان، ولكن عنصرا ثالثا ينبغي أن يضاف إلى تربية العقل والجسم، هو الأخلاق، وهي صلة الأفراد بعضهم ببعض، فلا بد أن يتكون من هؤلاء الأفراد كل متماسك، وأن يعلم كل عضو ما له من حقوق وما عليه من واجبات ... ولكن الإنسان مفطور بطبعه على الطمع والجشع، فهو راغب أبدا في توسيع أملاكه ولو أدى ذلك إلى الاعتداء على غيره، وهو لا يني عن التنازع والتقاتل للوصول إلى غرضه ، فكيف السبيل إلى التوفيق بين نزعات الأفراد المتنافرة؟ لا يريد أفلاطون أن يعمد في ذلك إلى قوة الشرطة لتقف كل إنسان عند حده؛ لأن ذلك في رأيه وحشية لا تليق بالمجتمع الكامل الذي يضع أساسه، فضلا عما تكلفه قوات الشرطة من مال كثير يمكن ادخاره لما هو أجدى لخير الجماعة نفسها، ويرى أفلاطون سبيلا واحدة تؤدي إلى صد الاعتداء، وذلك بأن نعلم الناس أن قوة روحية عليا واجبة التقديس والعبادة، ومعنى ذلك أن المجتمع لا يستقيم بناؤه بغير الدين؛ فالأمة كما يعتقد أفلاطون لا بد لها أن تعتقد في الله، ولا يكفي أن تعتقد في مجرد قوة كونية كائنة ما كانت؛ لأنها لا تبعث الأمل في النفوس، ولا تدفع الناس إلى التفاني في العمل، ولا تغري بالتضحية في سبيل شرف أو وطن، بل ولا تطمئن القلوب الكسيرة المكلومة، ولا توحي الشجاعة في النفوس اليائسة، بل لا بد من إله حي يؤدي هذا كله، وأكثر من هذا كله؛ فهو كفيل بإرهاب النفوس الشريرة الجامحة التي تميل إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، فيلجم شهواتهم كي لا تنطلق على سجيتها وفطرتها؛ لأنها ستخشى عقاب الله كما أنها ترجو ثوابه، ثم يحتم أفلاطون أن تزاد إلى العقيدة في الله الاعتقاد في خلود النفس؛ لأن الأمل في الحياة الأخرى يشد من عزائم الناس، فلا يرهبون الموت ولا يخشون المصائب والنكبات، فالإيمان أقوى سلاح يستند إليه الرجل في معمعان الحياة.
يبلغ الفتى سن العشرين وقد نال قسطا وافرا من الرياضة البدنية، والموسيقى ومقومات الأخلاق وشذرات أخرى من العلوم بحيث لا يبلغ السن إلا وقد ربي تربية متزنة الجوانب قد تناولت جسمه وعقله وخلقه، وعندئذ تجري الدولة امتحانا عنيفا قاسيا تصهر فيه الفتيان صهرا لتبلوهم أيهم أقوم، فأما المتخلفون المقصرون فتسند إليهم الأعمال الاقتصادية، زراعة وتجارة وصناعة، وأما الناجحون فيبدءون مرحلة تعليمية أخرى تمتد عشر سنوات، تربي فيها أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ثم يجري عليهم الامتحان مرة ثانية أعسر من سابقتها وأشق، فأما الراسبون فيكون منهم رجال الجيش ، وأما الأكفاء فيستأنفون الدراسة، ولكن ماذا يضمن للدولة ألا يتألب عليها الجيش وفي يده القوة كلها؟ لا شيء غير الدين، فهو كفيل بأن يروع الجنود فلا يتجاوزوا حدودهم، ولو فعلوا لارتكبوا إثما كبيرا إذ يعلمون أن الله قسم الأمة إلى طبقاتها الثلاث، فلا يجوز لأحد أن يضيق بما قسم الله له.
نقول: إن من جاز هذا الامتحان - وهم نفر قليل جدا - يعلم الفلسفة، فهم الآن في سن الثلاثين، قد قويت عقولهم واستعدت لإساغتها، ولم يكن من الحكمة أن يعلموا الفلسفة قبل ذلك خشية أن يستعملوها في الجدل الفارغ الذي لا يقصد إلى شيء إلا الجدل في ذاته وإلا تفنيد أقوال الناس، فيكونوا بذلك كالجراء التي تجذب هذا الشيء وتمزق ذاك لمجرد اللهو والتسلية، والفلسفة التي سيبدأ الطالب في دراستها تنقسم قسمين: أحدهما التفكير المستقيم الواضح، وهو يتناول ما وراء الطبيعة، والثاني معرفة طرائق الحكم، ويشمل علم السياسة، أما القسم الأول فيقضي الطالب في دراسته خمس سنوات يدرس فيها عالم المثل، فيكون قد بلغ الخامسة والثلاثين، وممن يبلغون هذه المرتبة، ينتخب رجال الحكم.
ولكن أفلاطون لا يتعجل بتسليم هؤلاء أزمة الدولة؛ لأن إعدادهم كان حتى الآن نظريا محضا، ولا بد أن يكمله جانب التطبيق العملي، ويتحقق ذلك بأن يسمح للطلاب بعد تلك السن أن يخالطوا الناس، وأن يضربوا في الحياة الاجتماعية بسهم وافر، لتصهرهم المنازلة وتحنكهم التجربة، فهنا ستفتح لهم الحياة عن صفحات لم يعهدوها في معهدهم العلمي المنعزل، وهكذا يلبثون في مضطرب الحياة يسعون لتحصيل عيشهم بأنفسهم خمسة عشر عاما، في خلالها تصفي هذه البقية الباقية من الطلاب، فمن ينوء تحت أعباء العيش يضاف إلى قوة الجيش، ومن يثبت أمام العواصف والأنواء والكروب فهو الجدير بمناصب الحكم، وتكون سنه عندئذ قد بلغت خمسين عاما قضاها في التجربة والتحصيل .
تلك هي الديمقراطية كما يراها أفلاطون، فليست عنده في مهازل التصويت بل معناها الصحيح أن يفسح المجال أمام الجميع، فتكون لكل فرد فرصة الظهور مساوية لفرصة زميله، فمن استطاع أن يجتاز تلك العقبات المتوالية التي توضع له في طريقه يساهم في حكم الدولة مهما تكن الطبقة التي نبت فيها، قد يعترض بأن حصر الحكم في طبقة ممتازة في كفايتها ضرب من ضروب الأرستقراطية، ولكنها أرستقراطية تختلف عن الأرستقراطية المعروفة في أنها ليست وراثية، فهي كما يسميها بعض الكتاب «أرستقراطية ديمقراطية» فلا فضل ولا امتياز إلا ما أثبت الشخص من مقدرة وذكاء، فابن الحاكم وابن الحذاء سواء، تتساوى أمامها فرصة الظهور، ويبدآن شوط الحياة من نقطة واحدة، فإن كان ابن الحاكم عاجزا غبيا سقط عند العقبة الأولى واضطر أن يكون عاملا، وإن كان ابن الحذاء نابغا انفسح أمامه الطريق حتى يبلغ ذروته حيث الحكم والسلطان.
يريد أفلاطون ألا تنصرف هذه الطبقة الحاكمة إلا إلى شئون الدولة، وأن تتفرغ لها بكل قلبها، ولكي لا تنشأ بين أعضائها الغيرة والمنافسة، اشترط أفلاطون أن تسود الشيوعية حياتهم. «لا يجوز لأحدهم أن يملك متاعا أكثر من ضرورته اللازمة، ولا أن يكون له دار خاصة يقفلها من دونه بالمغاليق فيصد من جاء يسعى إليه ... وكل ما يتقاضاه الحكام من أجر يجب ألا يزيد عن مبلغ محدود يكفي لسد حاجتهم طوال العام، وينبغي أن يشتركوا جميعا في موائد عامة للطعام، ويعيشوا معا عيشة الجند في معسكراتهم.»
7
كذلك لا يجوز لهؤلاء أن يتخذوا زوجات لهم، فلا يكون لواحد منهم أسرة معروفة ينصرف إلى رعايتها دون الدولة التي وضعت أمورها أمانة في عنقه، ويرى أفلاطون أن يخصص لهم جميعا عدد من النساء، ينتخبن من الطبقة العاملة أو يؤخذن ممن وصلت بهن التربية إلى مرتبة الفلسفة والحكم، ويكون لكل واحد منهم الحق في الاتصال بأية امرأة منهن.
فأما الأطفال فينتزعون من أحضان أمهاتهم بمجرد ولادتهم حيث يربون في مكان عام، ويقوم بتربيتهم هؤلاء النسوة أنفسهن، فيكون الأطفال كأنهم جميعا إخوة ، والنساء أمهات لهم، والحكام آباء.
ولا يعترف أفلاطون بالفارق الجنسي في التربية، فلا يحال بين امرأة وبين العلم إذا ما أبدت كفاية ومقدرة، وليس ما يمنع أن تصل المرأة إلى مناصب الحكم إن كانت بها جديرة، فالأمر مرهون بالكفاية وحدها، سواء في ذلك الرجل والمرأة، فإذا لوحظ العجز في رجل جاز أن يكلف بالأعمال المنزلية كغسل الأطباق وما إليها؛ لأنها عندئذ تكون هي المهمة التي أعده الله لها.
أما الاتصال الجنسي فلا يجوز أن يترك للمصادفة العمياء، بل لا بد من تدبير محكم ترسم الدولة خطته لترقية النوع الإنساني، فإذا كنا نبذل عناية دقيقة لتحسين الماشية بطريقة التوليد حتى نظفر بنسل قوي ممتاز، أفليس الأجدر أن نصرف مجهودا وعناية لترقية الإنسان نفسه؟ ومهما بذلنا في نظم التربية من جهد فلن تكفي وحدها لتحقيق ما نريد، إذن فواجب محتوم أن نتدبر الأمر من مبدئه، فنشرف على زواج الرجل السليم من امرأة سليمة «ويجب أن نبدأ التربية قبل الولادة»، فلا يسمح بزواج إلا إذا قدم الزوجان إقرارا طبيا بخلوهما من الأمراض ... هذا، ويحرم على الرجال أن يتزوجوا قبل سن الثلاثين، ثم لا يجوز لهم أن يقربوا النساء بعد الخامسة والخمسين، أما المرأة فيمتد زمن زواجها من سن العشرين إلى سن الأربعين، وكل رجل يرفض الزواج إلى ما بعد الخامسة والثلاثين تفرض عليه ضريبة معينة، وكل طفل يولد من علاقة يحرمها القانون، كأن يكون من أبوين لم يبلغا سن الزواج أو جاوزاها، وكل طفل يولد وفيه عاهة، يترك في العراء حتى يموت.
والزواج بين الأقرباء حرام؛ لأنه يحط بالنوع، ولا بد أن نتخير أحسن الزوجات لأحسن الأزواج حتى يكون الجيل الناشئ قويا سليما، والشبان ذوو الشجاعة الباسلة يباح لهم الاتصال بمن شاءوا من النساء مهما بلغ عددهن؛ لأنه من الخير للدولة أن ينسل أمثال هؤلاء الآباء عددا وفيرا من الأبناء.
يتخذ أفلاطون لمدينته الفاضلة كل هذا التدبير ليطهر أبناءها من العلل والفساد - في رأيه - ولكن سلامة الدولة في داخليتها ليس كل شيء، فهناك وقاية أخرى واجبة وهي أن يذاد عن الأمة بسياج من جيش متين كي لا يتسرب إليها الخطر من الخارج؛ ولذا وجبت العناية الشديدة بالجيش، فيجب على الجيش أن يعيش عيشة غليظة خشنة بسيطة، فيها الاشتراكية التي تسود طبقة الحكام، ومما يجدر ذكره هنا أن المدينة الفاضلة لا تسعى إلى الحرب ولا تميل إليه، وهي تبغي حياة سلم هادئة، فلو أصبحت الدنيا مدنا فاضلة لاستغني عن الجيش؛ ولذلك كان من أول الواجبات على الدولة أن تمنع أسباب الحرب ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأول تدبير يتخذ لهذه الغاية هو منع زيادة السكان، كذلك تمنع التجارة الخارجية تحاشيا لما تجره وراءها من خلاف ونزاع، وليس من شك في أن التجارة الخارجية نفسها ضرب من ضروب الحرب؛ لأنها تؤدي إلى المنافسة الاقتصادية، وما المنافسة في أي شكل من أشكالها إلا حرب!
هكذا يشاد للأمة بناؤها السياسي: في الذروة نفر قليل من الولاة يقبضون بأيديهم على مقاليد الأمر تشريعا وقضاء وتنفيذا، وتحميهم طبقة دونها وفيرة العدد، هم ضباط الجيش وجنوده، وهذه بدورها تعتمد في عيشها على طبقة ثالثة أحط منها قدرا، وأكثر منها عددا، هي الجماعة العاملة في الزراعة والصناعة والتجارة، أما الطبقة الأخيرة فلهم الحق أن يحتفظوا بالأملاك الخاصة، وأن يتخذوا لأنفسهم زوجات، وأن يكونوا أسرا على النظام المعروف، وأما الطبقتان الأوليان فيقوم عيشهم على مبادئ الاشتراكية في المال والشيوعية في النساء.
وليست الملكية الخاصة مباحة للطبقة الاقتصادية إباحة مطلقة، فيجمع الفرد ما استطاع من ثروة ومتاع، كلا، بل من واجب الحكومة أن تراقب ذلك بعين الحذر، فلا تبيح لأحد أن يتجمع لديه من الثروة أكثر من أربعة أمثال متوسط ما يملكه الرجل العادي، وإن زادت عن هذا القدر وجب عليه أن ينزل عن تلك الزيادة إلى الدولة.
وصفوة القول: أن المجتمع الكامل هو الذي تقوم فيه كل جماعة بل كل فرد بواجبه الذي أعدته له الطبيعة، فلا تتدخل فئة في عمل فئة أخرى، ويجب أن يتعاون الجميع على تكوين وحدة متماسكة كاملة متناسقة الأجزاء لا يكون بينها نشاز.
هذا التعاون هو العدل، وتلك هي الدولة العادلة.
لقد بدأ أفلاطون بحثه بالسؤال عن العدل، وأخذ يستطرد في قضاياه، ويوسع في نطاق البحث حتى انتهى إلى ما أراد الوصول إليه، وعرف العدل بأنه: «أداء الفرد لواجبه وامتلاكه لما يخصه.» ومعنى هذا أن كل فرد يجب أن يحصل على ما يساوي إنتاجه، وأن يؤدي العمل الذي يلائم طبيعته، والرجل العدل هو الذي يعرف قدر نفسه فيضعها في موضعها الصحيح، وهو الذي يبذل كل ما في وسعه من مجهود لينتج بمقدار ما يربح.
والعدل في المجتمع هو كهذا التناسق الذي يسود الكواكب في تحركها:
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وهكذا في المجتمع يجب أن يسعى كل فرد في نطاقه دون أن يبغي على غيره بإثم أو عدوان، أما أن يتطلع رجال الأعمال إلى مناصب الحكم، أو يستولي قواد الجيش بقوة جندهم على السلطة في الدولة فاختلال في تعاون الأجزاء، وانحلال في الرابطة التي تصل عناصر المجتمع، وكل ذلك يؤدي حتما إلى دمار المجتمع وخرابه، فالعدل هو التعاون بين الأجزاء.
والعدل في الفرد هو - كالعدل في الدولة - تعاون بين أعضاء الجسم وأجزاء النفس، فكل إنسان عالم يضطرب بالشهوات والعواطف والأفكار، فإذا ما تعاونت هذه القوى وتناسقت كان الفرد قويا في معترك الحياة، أما إذا اختل التوازن بينها، وطغت قوة منها على قوة أخرى، فكانت العاطفة مثلا هي المالكة زمام الإنسان في عمله بدل عقله، أو حاول العقل أن يكون هو كل شيء بدل أن يقتصر على الهداية فقط تفككت وحدة الشخصية وسارت حتما إلى الفشل، فالعدل هو ترتيب أجزاء النفس ترتيبا جميلا، وهو للنفس بمثابة الصحة للجسم، ومبعث الرذيلة كلها خلل في التوافق بين الإنسان والطبيعة، أو بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان ونفسه.
هذه هي المدينة الفاضلة كما تصورها أفلاطون، ولم ينقطع توجيه النقد إليها منذ عهدها إلى اليوم، ومع هذا فلم تزل توحي الأفكار، وتبعث الآراء، وتهدي الحكماء.
8 (8) نظرة في فلسفة أفلاطون
إن نظرية المثل من فلسفة أفلاطون هي كالقطب من الرحى فهي تدور حولها، وتقوم على أساسها، فرأيه في الله ورأيه في الطبيعة وفي النفس، ورأيه في الأخلاق وفي الدولة وفي الفن، كل هذه فروع مستنبطة من نظرية المثل التي لم تكن ثمرة أفلاطونية مباشرة، بل هي مزيج من الفلسفة الإيلية وفلسفة هرقليطس وفلسفة سقراط اجتمع في ذهن أفلاطون فاستحال إلى لون جديد من الفلسفة مطبوع بطابعه، وأساسه التفريق بين العقل والحس، وحتى هذا التفريق بين العنصرين لم يكن من خلق أفلاطون، إنما بدأ منذ فلاسفة المدرسة الإيلية، فكان بارمنيدس أول من أشار إلى ما بينهما من خلاف، وذهب إلى أن الحقيقة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلا بطريق العقل وحده؛ لأن الحواس غاشة خادعة، ولما أن جاءت السوفسطائية حاولت أن تعترض هذا المجرى الفكري الجديد الذي يميل إلى نبذ الحواس وإنكارها، وبذلت جهدا كبيرا في محو هذا الحد الفاصل بين العقل والحس، وحصرت المعرفة فيما تأتي به الحواس من علم، فكأنما كانت تعاليمهم هذه داعية إلى استنهاض الفكر لصدها قبل أن يستفحل أمرها ويتسع نطاقها، فتصدى لهم سقراط وفي أثره أفلاطون، وردا ما زعمته السوفسطائية: فأنكرا أن تكون الحواس وسيلة للعلم الصحيح، وذهبا إلى أن المعرفة عبارة عن الإدراكات الكلية، وهذه من تحصيل العقل وحده، ثم أضاف أفلاطون إلى أن هذه الإدراكات الكلية ليست طريقة يسلكها العقل في التفكير فحسب، بل إنها لتمثل حقائق خارجية موجودة بالفعل، فنشأت بذلك نظرية المثل.
ولا بد لكل نظام فلسفي من فكرة رئيسية تكون محوره، ويمكن أن يفسر بها كل ظواهر الكون على اختلاف ألوانها، بحيث توضح في غير لبس أو غموض كيف نشأ هذا العالم المحس الذي نعيش فيه من تلك الفكرة المجردة، كما يجب أن تكون هذه الفكرة نفسها التي يتخذها الفيلسوف أساسا صدرت عنه الكائنات مفسرة لنفسها، فلا يحتاج فهمها إلى الرجوع إلى شيء سواها خارج عن حدودها، فهل استطاع أفلاطون أن يفسر بالمثل - وهي أساس نظامه الفلسفي - هذا العالم الموجود الذي نراه ونلمسه؟ وهل هذه المثل تشرح نفسها بنفسها؟ هذان السؤالان هما في الواقع مقياس دقيق تستطيع أن تختبر به كل النظم الفلسفية لتعلم مقدار الخطأ والقصور في أي نظام شئت، فإن أمكنك أن تفسر الكون بالحقيقة المجردة التي يتخذها الفيلسوف مركزا لنظامه، وكانت هذه الحقيقة المجردة المركزية قادرة على تعليل نفسها بنفسها، فالفلسفة التي بين يديك صحيحة قوية، وإلا فهي قاصرة بمقدار عجزها عن تعليل العالم أولا، وتعليل نفسها ثانيا.
فلنتناول أساس النظام الأفلاطوني بالاختبار، فنرى إلى أي حد كانت نظرية المثل كفيلة بشرح العالم من ناحية، وشرح نفسها من جهة أخرى: (1)
هذا العالم الذي نعيش فيه ملئ بالأشياء المحسة كأنواع الحيوان والجماد، فما علاقة هذه الأشياء بأصل الكون، أي المثل؟ يقول أفلاطون: إن الأشياء صور للمثل أو حكايات لها، فمثال الإنسان مثلا نموذج يحتذيه أفراد الإنسان، ويحاولون تقليده ما استطاعوا، ولكن هذا القول لا يكاد يدل على شيء، فلماذا وجدت هذه الصور؟ وكيف نشأت؟ هذا ما نريد الجواب عنه؛ إذ لا بد أن يكون لوجود هذه الأشياء سبب، ولا بد أن يكون هذا السبب في طبيعة المثل نفسها لا خارجا عنها، أي إن فيها قوة باطنة تدفعها بالضرورة إلى تصوير نفسها في الأشياء؛ رغبة منها في تكرير صورتها، بهذا وحده يمكننا أن نعلل وجود الأشياء من المثل، ولكن أفلاطون لا يعترف بأن في المثل هذه الضرورة التي تميل بها إلى تكرير نفسها، فقد عرفها بأنها وحدها الحقيقة، وأنها أوجدت نفسها بنفسها، وأن وجودها لا يعتمد على شيء آخر، وأنها لا ينقصها شيء ولا تحتاج شيئا، فإذا كانت في هذه المرتبة من الكمال المطلق، فلا داعي لأن تسعى إلى تحقيق وجودها في الأشياء المحسوسة؛ لأن وجودها حقيقي لا يحتاج إلى إثبات أو تقرير، فلماذا جاوزت حدود نفسها إلى المادة تطبع عليها صورها؟ لماذا لم تكتف بنفسها وهي الحقيقة الكاملة التي لا ينقصها شيء؟ إن رغبتها في تكرير نفسها شعور منها بنقص أرادت أن تكمله بهذه الأشياء التي طبعتها على غرارها، ففي الكون مثلا أشياء كثيرة بيضاء اللون، وبناء على نظرية المثل يكون وجود هذه الأشياء البيضاء مستمدا من مثال البياض، ولكن لماذا تحرك مثال البياض فأخرج هذه الأشياء البيضاء؟ فالمثال نفسه هو البياض الكامل، فكان من الطبيعي أن يكتفي بنفسه إلى الأبد دون أن تضطره حاجة إلى تقرير وجوده في هذه الأشياء البيضاء، وقل مثل هذا في كل شيء وفي كل مثال، إذن ليست المثل كافية لتعليل وجود هذا العالم المحسوس، وكأنما أدرك أفلاطون في مثله هذا القصور، فقال بفكرة الإله، وقال إنه وراء المثل والمادة معا، فهو يصوغ المادة على نموذج المثل، وبذلك تكون عالم الأشياء، وفي هذا دليل قاطع على أن المثل وحدها عاجزة عن التعليل، وإلا لوجب أن تعلل الأشياء بالمثل نفسها لا بشيء آخر وراءها، ولو قلنا إن الله اسم أطلقه أفلاطون على مثال الخير لنكفي أفلاطون مئونة هذا الإشكال، ظهرت لنا المشكلة عينها من جديد؛ لأننا لو عللنا وجود الأشياء بمثال الخير، قامت في وجهنا الاعتراضات نفسها؛ لأنه كبقية المثل ليس فيه ضرورة تحتم عليه تكرير صورته.
هذا ولو كانت المثل هي الحقيقة النهائية المجردة، لوجب أن يكون الوجود بأسره صادرا منها متفرعا عنها، لا يشذ عن شيء واحد، وأقل شذوذ كاف لهدم الفكرة من أساسها؛ إذ يكون دليلا على قصور هذه الفلسفة وعجزها عن تعليل العالم بكل ما فيه، ولكنا قد رأينا أفلاطون يقول بفكرة الإله باعتباره كائنا وراء المثل، وإذن فهو ليس فرعا منها ولا قائما على أساسها، وليته اقتصر على هذا، بل أدخل المادة أيضا، فقال: إن هناك المثل من ناحية، والمادة من ناحية أخرى، والله فوقهما يصور هذه على مثال تلك، ومعنى ذلك أن الله والمادة لم ينشآ من المثل، بل وجدا إلى جانبها منذ الأزل، ولا ينجي أفلاطون من هذا النقد قوله إن المادة قبل أن تصاغ على صور المثل وقبل أن تتخذ صفاتها كانت شبه عدم، فليسمها كيف شاء، فهي وجود قائم بذاته لا يعتمد في وجوده على شيء، ولا تقل في حقيقتها عن المثل نفسها، فشأنها شأنها من حيث الأزلية والقدم، لم يصدر أحدهما من الآخر، فكلاهما حقيقة مجردة، وإذن فنحن بصدد مذهب اثنيني ولا ريب، ولعل هذه الاثنينية قد نشأت من الفصل التام بين الحس والعقل، فقد فرق بينهما أفلاطون كأنهما جانبان لا تربط أحدهما بالآخر علاقة ما، فتعذر عليه بعدئذ أن يملأ هذه الهوة السحيقة التي أوجدها بنفسه بين العنصرين. (2)
هل يمكن المثل أن تعلل نفسها بنفسها؟ وبعبارة أخرى، إذا استعرضناها مثالا مثالا، فهل نجدها جميعا موجودة بالضرورة وأن العقل لا يمكن أن يتصور العالم بدونها؟ ولنستعرض أولا الإدراكات الكلية التي في أذهاننا فإنها - في رأي أفلاطون - كالمثل، فهل كل إدراك كلي في الذهن ضرورة لا يستقيم العقل بغيرها؟ فمثلا 2 + 2 = 4 ضرورة عقلية لا بد منها، فشيئان وشيئان يجب أن تساوي أربعة، فنحن إذا أقمنا الدليل على أن كل إدراك كلي له هذه الحقيقة الضرورية كانت الإدراكات الكلية لا تحتاج معقوليتها إلى سند، وتكون حقائقها ثابتة، والظن بإمكان عدم وجودها يكون تناقضا يهدم نفسه بنفسه، ولكنا لو نظرنا إلى إدراكاتنا الكلية لألفينا أغلبها من غير هذا النوع، خذ لذلك - مثلا - البياض، إنه حقيقة ولكنها ليست ضرورية، صحيح أن في العالم بياضا ولكنا نستطيع أن نتصور العالم بغيره، فإنكاره لا يؤدي إلى تناقض عقلي؛ إذ ليست هناك ضرورة تحتم وجوده، أي إنه ليس جزءا من نظام العقل كما هي الحال في 2 + 2 = 4، ولا يجوز فيها أن تقول لماذا وجدت هذه الحقيقة، فهي من تركيب العقل نفسه لا تستغني عنها إلا إذا استغنيت عن العقل.
إذا وضح ذلك ننتقل إلى عالم المثل فنجد أفلاطون يقول: إن أساس المثل كلها ومصدرها إنما هو مثال الخير، فلننظر هل هناك ضرورة تستلزم أن مثال الخير يجب أن يتضمن بقية المثل؟ فإن وجدنا الأمر كذلك كانت المثل ميسورة التعليل؛ لأنها تكون صادرة بالضرورة من مثالها الأعلى، ليس لها عن ذلك محيص، وبعبارة أخرى يجب أن نستنتج المثل كلها من مثال الخير، بحيث لو سلمنا بوجود مثال الخير لزم التسليم بوجود المثل الأخرى، فهل نستطيع أن نقول إن مثال الخير يستلزم حتما مثال البياض، فلا نذكر أحدهما إلا إذا ذكرنا الآخر؟ لا، حلل عنصر الخير كيف شئت فلن تجد فيه البياض، إذن لا يتضمن المثلان أحدهما الآخر، ويمكننا أن نفكر في مثال الخير دون أن يطوف بالعقل أدنى طائف للبياض، ولا غرابة في هذا، فمثال الخير لا يشتمل إلا على العنصر المشترك في المثل الأخرى، ولا تشترك هذه إلا في الكمال، فمثال البياض كامل في ذاته، ومثال الحصان كامل في ذاته وهكذا، فإذا كان مثال الخير يمثل البياض والحصان، فهو يمثل جانب الكمال من كل منهما، ويستبعد لون البياض نفسه والحصان نفسه، ويتضح من هذا أن المثل لا يستلزم بعضها بعضا بحكم الضرورة، وخلاصة القول أن المثل لا تستطيع أن تفسر نفسها بنفسها.
لم تثبت إذن فلسفة أفلاطون أمام هذا الاختبار، فلا هي فسرت لنا العالم، ولا هي فسرت لنا نفسها، فكان على تلميذه أرسطو أن يقوم هذا الاعوجاج، ويصلح هذا الخطأ الذي وقع فيه أستاذه، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير.
الفصل الحادي عشر
أرسطو (أرسططاليس)
Aristotle
أرسطو في شبابه. (1) حياته وكتبه
ولد أرسطو سنة 384ق.م في مدينة أسطاغيرا
Stagirus ، وهي مستعمرة يونانية ومرفأ من بلاد مقدونيا، وكان أبوه نيقوماخوس
Nicomachus
طبيبا للملك آمنتاس ملك مقدونيا، وهذا أول سبب لاتصال أرسطو اتصالا وثيقا بالبلاط المقدوني، وقد نشأ أرسطو في هذا البلاط، وتعلم مع فيلبس أبي الإسكندر مما كان له أثر كبير في حياته، وقد مات أبوه وهو فتى، فلما بلغ السابعة عشرة أرسله ولي أمره برقسانس
إلى أثينا ليتم تعلمه، وكانت مركز الحياة العقلية في العالم، فالتحق بأكاديمية أفلاطون، ويظل يأخذ عنه عشرين سنة حتى توفي أفلاطون، وقد اتهمه بعضهم بكفران نعمة أستاذه، ورووا أنه نغص عليه أواخر أيامه بما سببه من منازعات ومخاصمات في مدرسة أفلاطون، ولكن ليس هناك ما يؤيد هذا الرأي، بل إن بقاء أرسطو في المدرسة إلى أن توفي أفلاطون، وما يذكره في كتبه من دلائل الاحترام لأستاذه يجعل هذه الرواية بعيدة الحصول، وربما دعا إلى هذا القول أن أرسطو كان ذا شخصية ممتازة، وعقل مجتهد غير مقلد، فكان يزن أقوال أستاذه وينقدها ويحللها؛ فظن من ظن أن هذا تجريح لأستاذه وكفران لنعمته، ولا شيء أكثر من ذلك، فإن أرسطو في كتبه ينقد تعاليم أفلاطون نقدا قويا قاسيا ولكن من غير غمز، ويقول إنه صديق لأفلاطون، ولكنه أكثر صداقة للحق.
لما توفي أفلاطون سنة 347ق.م، انتخب ابن أخيه سبيسبوس
Speusippus
رئيسا للأكاديمية، فترك أرسطو أثينا وقصد إلى هرمياس (ملك أثرنوس
Atarneus ) في آسيا الصغرى، وكان هرمياس من أصل وضيع ولكنه ذو نفس راقية، وكان تلميذا لأفلاطون مع أرسطو، فرحب بأرسطو وأنزله منزلا كريما، وأقام في أثرنوس ثلاث سنين، تزوج في خلالها فتياس بنت أخي هرمياس، وقد ماتت وتزوج بعدها زوجة أخرى اسمها إربيليس
Herpyllis ، فأولدها نيقوماخوس، بعد هذه السنوات الثلاث قتل هرمياس بمكيدة دبرها له الفرس، وذهب أرسطو إلى ميتلين
Mytilene
فبقي فيها بضع سنوات، حتى تلقى دعوة من فيلبس المقدوني ليتولى تربية ابنه الإسكندر الأكبر، وكان عمر الإسكندر إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، فلبى الدعوة ولبث يعلم الإسكندر نحو خمس سنوات، وقد لقي من الإسكندر وأبيه تبجيلا وإكراما حتى ليقصون أن البلاط المقدوني أعانه على بحثه بمال جزيل، وبآلاف من الرقيق يجمعون له النماذج، وربما كان في هذا مبالغة، ولكن من المحقق أن القصر أعانه إعانة كبرى على بحثه.
ولما مات فيلبس تولى الملك بعده الإسكندر، فانتهت بذلك تربية أرسطو له، فعاد إلى أثينا ولم يكن رآها منذ توفي أفلاطون، فرأى المدرسة الأفلاطونية مزدهرة، وتعاليم أفلاطون سائدة، فأنشأ مدرسة أخرى في مكان يسمى لوقيون
Lyceum
فسميت المدرسة بذلك الاسم، وسمي أتباعه بعد ذلك بالمشائين
، أخذا من عادة أرسطو، فقد كان يمشي بين تلاميذه وهو يعلمهم، وقد ظل كذلك ثلاث عشرة سنة يدير مدرسته ويحرر كتبه، وأشهر مؤلفاته وأهمها كتب في هذا العهد.
في سنة 323ق .م مات الإسكندر في بابل وسط انتصاراته، ووقعت حكومة أثينا في يد أعداء المقدونيين - وكان أرسطو يعد من أتباع المقدونيين وأنصارهم - فدبر له أعداؤه اتهامه بالإلحاد، فخاف الاضطهاد، وأن يفعل به أهل أثينا ما فعلوا بسقراط، ففر إلى مدينة خلسيس
Chalcis ، وفي أول سنة من إقامته بها أصيب بمرض مات به وعمره 63 سنة، وذلك في سنة 322ق.م. (2) مؤلفاته
رووا أن أرسطو ألف نحو أربعمائة كتاب، ويقل عجبنا من هذا إذا نحن ذكرنا أن لفظ «كتاب» كان يطلق على ما يسمى عندنا الآن «فصلا» أو «بابا» وقد فقد أكثر من ثلاثة أرباع مؤلفاته، ولكن كان من حسن الحظ أن ما بقي هو أهم ما كتب، وهو يمثل شرحا تاما لآرائه في مختلف المسائل الفلسفية، وقد وصلت كتبه هذه إلينا مهوشة وخاصة ما كان منها في «ما بعد الطبيعة» فبعض رسائله فيها ناقصة، ويظهر أن مؤلفها لم يكن أتمها، وبعضها غير مرتب، فالباب منها ينتهي في أثناء البحث، ويبدأ الباب الذي يليه في وسط بحث آخر وهكذا.
وأما رسائله في الموضوعات الأخرى فأقل فوضى، ويظهر أن أرسطو كان حضر كثيرا من رسائله تحضيرا أوليا ولم يكن أعدها للنشر، فخرجت كما وصفنا، ومع هذا فكتبه ورسائله توضح آراءه توضيحا تاما كما ذكرنا.
ألف أرسطو كتبه بعد نضوجه في السنين الثلاث العشرة من آخر حياته، فلم يكن فيها تدرج في الرقي واختلاف في الآراء أحيانا كما نرى في كتب أفلاطون، بل كان فكره ناضجا، ونظرياته تامة، قد فرغ من بحثها، ويغلب على الظن أنه بدأ كتابته بالمنطق، ثم بالعلوم الطبيعية، ثم بالأخلاق والسياسة، ثم بما بعد الطبيعة.
لم يكن أرسطو فيلسوفا فحسب بالمعنى الذي نفهمه الآن، بل كان واسع المعرفة بفروع العلم المختلفة، حتى لا يكاد يكون هناك فرع لم يسترع انتباهه، ولم يكن فيه أعلم أهل عصره، وربما استثنينا من ذلك «الرياضيات»، وأحاط علما بما وصل إليه من قبله ونبذ ما رآه منها باطلا، وزاد على ما صح عنده منها نظريات جديدة وآراء مبتكرة، وما كان من الحقائق التي وصل إليها لا علم له اخترع له علما كما فعل في علم المنطق وعلم الحيوان، فألف في المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة والفن والبلاغة والفلك
1
والظواهر الجوية، وألف في موضوعات عديدة في حياة الحيوان، وكان شغوفا بهذا العلم حتى عدوا ما كان يعرفه من أنواع الحيوان نحوا من خمسمائة نوع، ومع أنه لم يرتبها الترتيب العصري فقد كان له فضل السبق في تأسيس هذا العلم، فكان أرسطو بهذا محيطا بفروع العلم المختلفة، مبتكرا فيها، مما يستحيل على أي نابغة في عصرنا أن يصل إلى ذلك، ونحن نستعرض الآن أهم آرائه في الفروع المختلفة.
أراد أرسطو أن يصلح الخطأ الذي وقع فيه أستاذه ليبدأ سيره في طريق مستقيمة مستوية، فتوجه بنظره نحو الطبيعة وما فيها، غير معترف بما اتهمت به هذه الأشياء المحسة من أنها لا تمد الإنسان بالعلم الصحيح، فلقد هجرها أفلاطون وطرحها وراء ظهره، وارتفع في تأمله إلى عالم المثل المجرد، فاعتزم أرسطو أن يهبط إلى الطبيعة مرة ثانية، على ألا يكون بحثه حسيا محضا، بل حاول أن تكون فلسفته طبيعية عقلية في آن واحد، تبدأ بدراسة أتفه الأشياء التي تقع تحت الحواس، ثم تمضي صعدا حتى تصل إلى مرتبة التعليل والشرح لكل ظواهر الوجود المتغيرة، متنقلا في بحثه من المحسوسات الكثيرة التي يغص بها الكون إلى الواحد الأبدي الخالد، وقد انتقد ما ذهب إليه أفلاطون من شرح ظواهر الكون بالمثل، وقال إنه بذلك أضاف إلى العالم عاملا آخر يوازيه كثرة ويوازيه مقدارا، وكلاهما يعوزه التعليل، ويكفي هدما للمثل أنها لا تعلل الحركة، وإن بقي تعليل الحركة مغلقا فمحال أن نفسر من الطبيعة شيئا، وإذن فلم يكن بد من محاولة أخرى لتعليل الوجود غير تلك التثنية التي فرضها أفلاطون في فلسفته، فزعم أن للكون عنصرين: مادة ومثلا، وينبغي أن يكون هذا التعليل الجديد الذي ننشده عاملا على ربط ذينك العنصرين، ليوحد بين الطبيعة وروحها، وإن شئت فقل بين الأشياء وأسبابها، وقد انتهت هذه المحاولة بأرسطو إلى ابتكار علم جديد لم يكن له وجود من قبل، فهو من خلقه وإنشائه، ذلك هو المنطق.
أرسطو.
فالمنطق - أي قوانين الفكر - سبيل مأمونة تؤدي بنا إلى الحقيقة المنشودة، بانتقال الفكر من المقدمات إلى النتائج الصحيحة، أي من الأشياء والحوادث إلى ما تتضمنه هذه من معنى، يقول أرسطو إن الإنسان مفطور بطبعه على طلب المعرفة واستطلاع العلم، والإدراك الحسي هو أول خطوة يخطوها في هذا الاتجاه؛ إذ تتعلق حواسه بالأشياء الجزئية الخارجية التي لا ينقطع سبيلها، فإذا ما تجمعت في الذهن أكداس من تلك الإدراكات الحسية، واستعان بذاكرته على الاحتفاظ بها وثب إلى المرحلة الفكرية الثانية وهي التجربة التي تقوم على مقارنة الأشياء بعضها ببعض وتعليلها، ولكن التجربة لا تزال علما ناقصا؛ لأنها كالإدراك الحسي، تدور حول الحقائق المحسة الواقعة، أما المرتبة الأخيرة العليا فهي التأمل النظري في هذه العلل التي حصلها الذهن لكي يكشف الإنسان عن منبعها وأصلها، وتلك هي المعرفة الكاملة، الفلسفة.
هذا الانتقال من الأشياء الجزئية إلى عللها، ثم إلى علة هذه العلل جميعا، هو الطريق الطبيعي الذي يسلكه العقل في التفكير، هو المنطق. (2-1) في المنطق
كل ما هو موجود في كتب المنطق العربية تقريبا هو منطق أرسطو، فلا حاجة بنا إلى أن نشرحه من جديد، والغربيون في العصور الحديثة قسموا المنطق إلى قسمين، ولنسمهما (استنتاجا من ابن خلدون) منطق الصورة (
diductive )، ومنطق المادة (
inductive )، وقد عني أرسطو بمنطق الصورة فقط، أما منطق المادة فلم يبحث ويبوب إلا في العصور الحديثة، وقد اخترع أرسطو منطق الصورة هذا وأكمله أيضا، فهو بذلك خلقه كاملا لم يزد عليه المتأخرون إلا قليلا، فما في أيدينا وأيدي الغربيين منه ليس إلا ما كتبه أرسطو تقريبا، فالمقولات العشر والكليات الخمس، والبحث في الألفاظ والقضايا والقياس وتحويل أشكال القياس إلى الشكل الأول، كل هذا بحثه أرسطو في منطقه وهو ما يبحث فيه الآن، ولم يزد المتأخرون إلا شيئين: «الأول» الشكل الرابع في القياس، فإن أرسطو لم يذكره، «والثاني» أنه لم يتكلم عن القياس الشرطي، وإنما قصر كلامه على القياس الحملي، وهذا شيء مشكوك في قيمته إلى الآن؛ لأن القياس الشرطي يمكن تحويله إلى القياس الحملي. أما ما عدا هذين فليس ما يكتب الآن إلا تكريرا لما قال أرسطو مع تغيير شكل التعبير أو الأمثلة، وكل ما يؤخذ عليه هو ما ذكرنا أنه أهمل منطق المادة تقريبا مع أنه أحق بالنظر.
ويسمى أرسطو بالمعلم الأول؛ لأنه أول معلم لعلم المنطق ولم يكن قبله علما. (2-2) ما بعد الطبيعة (ميتافيزيقا)
هذا الاسم وهو «ما بعد الطبيعة» لم يضعه أرسطو ولم يعرفه، وإنما كان يسمي هذا الموضوع «الفلسفة الأولى»، يعني بذلك أن هذا النوع من العلم هو المبادئ الأساسية العامة للعالم، وأن مبادئ كل فرع من فروع العلم ثانوية بالنسبة لها؛ لأن مبادئ كل فرع خاصة بذلك الفرع من العلوم، وأما مبادئ الفلسفة الأولى فأساسية لكل علم، وبعبارة أخرى هي أساس العالم جميعه، واسم «ما بعد الطبيعة» لم يطلق على هذا البحث إلا من نحو نصف قرن قبل الميلاد، لما نشر «أندرونيكوس»
Andronicus
كتب أرسطو، ففي هذه النشرة وضع البحث في «الفلسفة الأولى» بعد البحث في «الطبيعة» فسمى هذا البحث «ما بعد الطبيعة»، يعنون بذلك ما ورد ذكره بعد الكلام في الطبيعة، وهذا هو معنى «ميتفايزيقا»، وهذا حادث عرضي حدث اتفاقا.
نشأ بحث أرسطو فيما بعد الطبيعة من تحليله لنظرية أفلاطون في «المثل» وبيان ما فيها من أخطاء والرد عليها، وقد رد على هذه النظرية بجملة ردود، أهمها: (1)
أن نظرية المثل لأفلاطون لا توضح لنا مشكلة كيف نشأ هذا العالم مع أن هذه أهم مسألة في نظر الفلسفة، فإذا سلمنا بأن هناك مثالا للبياض مثلا، فكيف نشأت عنه الأشياء البيضاء؟ لا يمكننا أن نفهم هذا من كلام أفلاطون، ولا يمكننا أن نفهم العلاقة بين المثال وأشيائه، يقول إن هذه الأشياء صورة للمثال، وإن المثال «يشاركها في الوجود» ولكن هذه العبارة - كما يقول أرسطو - عبارة شعرية: لا توضح العلاقة، ولا تبين أساس الوجود. (2)
هب أن هذه الأشياء وضحت بنظرية المثال، فأفلاطون يرى أن المثل ثابتة على حال لا تتغير، وأنها ساكنة غير متحركة، وإذا كان كذلك فيجب أن تكون صورها - وهي الأشياء - كمثالها ثابتة ساكنة، ولكننا نرى العالم متغيرا متحركا، فالأشياء ترتقي وتنحط ولا تستقر على حال، فلم تتغير هذه الصورة مع أن أصلها - وهو المثل - ليست متغيرة؟ (3)
أن هذا الوجود مملوء بأشياء كثيرة، ومهمة الفلسفة أن تبين لنا كيف وجدت هذه الأشياء، ونظرية أفلاطون لا تبين لنا إلا أن وراء هذه الأشياء عالما آخر هو عالم المثل، وهذا الذي فعله أفلاطون ضاعف الموجودات ولم يعن على حلها بل زاد الارتباك في منشئها، فقال أرسطو: إن مثل أفلاطون في هذا كمثل شخص صعب عليه أن يعد كمية من الأشياء فضاعف عددها ليسهل عليه عدها. (4)
يرى أفلاطون أن المثل لا تدرك بالحس، والحق أنها تدرك بالحس، فهو في الحقيقة يأخذ الأشياء التي تدرك بالحس ويعممها ويسميها ثانية لا تحس، فلا فرق في الحقيقة بين الحصان ومثال الحصان والإنسان ومثال الإنسان إلا التخصيص والتعميم، وليست المثل إلا الأشياء المحسوسة مجردة، وقد شبه أرسطو ذلك بالآلهة المجسمة في بعض المذاهب الدينية «فكما أن الآلهة عندهم ليست إلا أناسي مؤلهة فكذلك المثل ليست إلا الأشياء الطبيعية أزلية مؤبدة»، ويقول أفلاطون إن الأشياء صورة من المثل، والحق بعد الذي شرحناه أن المثل صورة من الأشياء. (5)
وقد فند أرسطو نظرية المثل بما سماه «الإنسان الثالث»، ذلك أن المثال يشرح القدر المشترك بين الأشياء، فكلما كان هناك قدر مشترك كان هناك مثال، فهناك قدر مشترك بين الناس كلهم؛ لذلك كان لهم مثال هو مثال الإنسان، ولكن هناك قدر مشترك بين الفرد من الناس وبين مثال الإنسان، فيجب أن يكون لذلك مثال يشرحه، وهذا هو ما سماه «الإنسان الثالث»، وهناك كذلك قدر مشترك بين هذا الإنسان الثالث والفرد من الناس، فيجب أن يكون له كذلك مثال، وهكذا إلى ما لا نهاية، وفي هذا التسلسل، وهو محال. (6)
وأخيرا وهو أهم اعتراضات أرسطو أن المثل على رأي أفلاطون ماهية الأشياء، وماهية الأشياء يجب أن تكون فيها لا خارجا عنها، ولكن أفلاطون فصل المثل عن الأشياء وجعلها عالما مستقلا، وجعل لكل مثال وجودا مستقلا ... إلخ.
وانتقل بعد ذلك أرسطو إلى بيان أن الحقائق الكلية كالعدل والحرارة والبرودة وحقيقة الإنسان ليس لها وجود خارجي، وإنما الموجود في الخارج هو المفردات كالشيء الحار والشيء البارد، والإنسان، أعني أفراده، أما الحقائق الكلية فليس لها وجود إلا في أذهاننا، فمثلا حقيقة الإنسان هو القدر المشترك بين الناس كلهم، وهو الذي نسميه الإنسانية، والإنسانية لا توجد مستقلة وحدها إنما توجد في الأفراد، كالحرارة توجد في الحار، والبرودة في البارد وهكذا، وهذه الإنسانية لا بد أن تتحقق في كل فرد ليكون إنسانا، وإذا سلبت منه لم يبق إنسانا، وليس بضروري ما ذهب إليه أفلاطون من أن كل ما نتصوره لا بد أن يكون له صورة موجودة قائمة في نفسها في الخارج، فإننا قد نتصور ما ليس له وجود خارجي، كجبل من ياقوت وبحر من زئبق ونحو ذلك، وله في شرح ذلك والبرهنة عليه كلام لا يحتمله هذا المختصر.
ومن أهم الأسس التي بنى عليها أرسطو كلامه فيما بعد الطبيعة كلامه في «العلة» والعلة في نظره أوسع منها في نظر الفلاسفة المحدثين، ففي العصر الحديث يفرق بين العلة والحكمة، فهم يقصدون بالعلة السبب الميكانيكي الذي نشأ عنه الشيء، فإذا رأيت الماء تثلج في الإناء وقلت ما علة تثلجه؟ فالجواب أن علة ذلك هي البرودة، فهذا الجواب أبان لنا السبب الذي نشأ عنه التثلج، ولكن لم يبين لنا حكمة حصوله، وإذا قلنا ما علة موت فلان؟ فإذا قلت مرضه أو حصول حادث له فقد بينت السبب في موته، ولكن لم تبين الحكمة التي من أجلها كان الموت في هذا العالم، فبيان العلة لا يستلزم بيان الحكمة، هذا في نظر الفلسفة الحديثة، أما العلة في كلام أرسطو فتشمل ما يسمى الآن بالعلة والحكمة جميعا، قال أرسطو في هذا: إن للعلة أربعة أنواع: العلة المادية، والعلة المحركة، والعلة الصورية ، والعلة الغائية، وليست هذه العلل تتعاقب، فيوجد بعضها بعد بعض، أو يوجد بعضها في حالة وبعضها في حالة أخرى، ولكنها جميعا تعمل معا في كل حالة من حالات الوجود، وهي جميعها موجودة في كل ما ينتجه الإنسان وما تنتجه الطبيعة، ولنضرب المثل بما ينتجه الإنسان: (1)
فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكون منها الشيء، كالبرنز للتمثال، والخشب للشباك وهكذا. (2)
وأما العلة المحركة فيعني بها القوة التي عملت على تغيير الشيء واتخاذه شكلا جديدا، وليس يعني بالحركة التحول من مكان إلى مكان بل كل تحول وتغير، فإذا تغير ورق الشجر من أخضر إلى أصفر فالقوة التي نشأ عنها هذا التغير هي القوة المحركة، ففي مثل التمثال السابق العلة المحركة هي المثال (صانع التمثال)؛ لأنه هو علة تغيير البرنز من حال إلى حال. (3)
والعلة الصورية عرفها أرسطو بأنها روح الشيء وما به الشيء هو هو، وفي مثلنا هذا ما به التمثال تمثالا. (4)
والعلة الغائية هي الغرض أو الغاية أو المقصد الذي تتجه الحركة لإخراجه، فالعلة الغائية للتمثال هو التمثال نفسه؛ لأنه غاية المثال وغرضه.
فترى من هذا أن أرسطو يطلق العلة على أوسع مما يطلقه الفلاسفة المحدثون (فهم يخرجون منها ما سماه أرسطو العلة الغائية والعلة الصورية)، فقد عرف «ميل»
Mill
العلة بأنها «الشيء الذي يسبق الظاهرة ويكون سببا لها لا يختلف ولا يتغير.» فالعلة الغائية لا تسبق الظاهرة، وكذا العلة الصورية؛ لأنه لا يقصد بما يسبقها أن يكون جزءا منها ومكونا لها، إنما يعني العلم الحديث بالعلة المادية والعلة المحركة، وهما ما يسميان تقريبا في عرفنا بالمادة والطاقة، بل هناك خلاف أيضا في تصور أرسطو للعلة المحركة وتصور المحدثين لها، فالعلم الحديث يعني بها الطاقة الميكانيكية بينا أرسطو يعني بها القوة الكمالية التي تجذب إلى الغاية لا التي تدفع من المبدأ.
ثم خطا أرسطو خطوة أخرى وهي تركيز هذه العلل الأربع في اثنتين سماهما المادة والصورة، ويعبرون عنهما عادة في الكتب الفلسفية بالهيولى (المادة) والصورة، والذي دعاه إلى هذا أنه رأى أن العلة الصورية والمحركة والغائية ترجع كلها إلى الصورة، ذلك؛ أولا: أن العلة الصورية والعلة الغائية شيء واحد في النهاية؛ لأن العلة الصورية كما قدمنا ماهية الشيء وما به الشيء هو هو، والعلة الغائية بالتعريف الذي شرحناه هو بروز الشيء المطلوب إلى الوجود، وظاهر من هذا اتحادهما. ثانيا: العلة المحركة والغائية شيء واحد؛ لأن العلة المحركة هي علة الصيرورة، والعلة الغائية هي النهاية التي تصل إليها هذه الصيرورة. وعند أرسطو أن كل الأشياء إنما تتحرك لغايتها، وإنما توجد لغايتها، فالغاية هي التي تحرك للعمل، وبذلك تكون العلة الغائية هي علة الحركة أو العلة المحركة، ولنضرب لذلك مثلا: فالعلة الغائية لشجرة الورد هي الورد نفسه، والورد هو على نمو الشجرة، أو بعبارة أخرى العلة المحركة للشجرة، فالشجر إنما ينمو و«يتحرك» طبيعيا ليصل إلى غايته وهو الورد، وربما كان ذلك أظهر في أعمال الإنسان؛ لأنه يعمل لغاية يشعر بها ويقصدها، أما الطبيعة فتسير نحو الغاية بلا شعور، ففي مثال التمثال السابق: العلة المحركة للتمثال هو المثال؛ فهو الذي يحرك البرنز، ومع ذلك فالذي يحرك المثال للعمل ويدفعه إليه في البرنز هو الفكرة التي لديه من إخراج التمثال كاملا، أو بعبارة أخرى العلة الغائية، فالعلة الغائية إذن العلة النهائية للحركة، وبذلك يكونان متحدين، وفي أعمال الطبيعة لا عقل ولا فكرة، ولكنها بذاتها تتحرك لغاية، وهذه الغاية هي التي تحركها، وتكون النتيجة من ذلك كله أن العلل الثلاث: الصورية والمحركة والغائية، يمكن رجوعها إلى شيء واحد سماه أرسطو «الصورة»، وجعل في مقابلة ذلك كله المادة أو «الهيولى».
هذه الهيولى والصورة هما أساس فلسفة أرسطو الميتافيزيقية وبهما شرح العالم، وقد رأى أن الهيولى والصورة لا تنفصلان فلا صورة من غير هيولى، ولا هيولى من غير صورة، وكل موجود في الخارج يكون منهما، وهما ليسا منفصلين إلا في الذهن، ونحن نفكر فيهما منفصلين لنفهمهما فقط، والهندسة تحدثنا عن الأشكال كأنها قائمة بنفسها؛ فتذكر المثلث والمربع والمخمس والدائرة على أنها أشكال، ولكنها في الحقيقة ليس لها وجود ذاتي مستقل، إنما في الخارج أشياء على شكل مثلث أو أشياء على شكل مربع أو أشياء مدورة، لك الحق أن تتكلم عن خواص الأشكال كأنها أشياء مجردة، ولكنها في الحقيقة لا وجود لها بنفسها في الخارج ، فإذا فهمت أن لها وجودا خارجيا فقد وقعت في الخطأ الذي وقع فيه أفلاطون في عالم المثل.
ويجب الحذر من أن تفهم أن أرسطو يعني بالصورة الشكل، وإنما يعني بها جميع صفات الشيء من لون وخفة وثقل وجمال وقبح ولمعان وانطفاء وما إلى ذلك، ويعني بها كذلك العلاقة بين أجزاء الشيء بعضها ببعض، وعلاقة كل جزء بالكل ... إلخ، أما الهيولى فما اتصف بهذه الصفات وأمثالها.
فالهيولى إذن في ذاتها لا صورة لها ولا مظهر، ولا تحد ولا توصف، إنما الذي يحد الهيولى ويجعلها توصف وتظهر هو الصورة، وينتج من ذلك أن ليس هناك فرق بين الهيولى بعضها وبعض، فالشيء إنما يختلف عن الشيء بصفاته، وبذلك نستطيع أن نفهم أن ليس يعنى أرسطو بالهيولى ما نعبر عنه الآن بالمادة أو العنصر، فنحن نقول إن مادة الذهب مثلا تخالف مادة الفضة، وعنصر الأوكسيجين غير عنصر الإدروجين، ولكن في نظر أرسطو الهيولى أعمق من ذلك وليس الذهب عنده يختلف عن الفضة في الهيولى، ولكن في الصورة، أو بعبارة أوضح في الصفات، فالهيولى عنده تكون أي شيء حسب صفاتها، ويعبر هو عن ذلك تعبيرا آخر شائعا في الفلسفة وهو «ما بالقوة وما بالفعل» (
)، فالهيولى صالحة أن تكون أي شيء، أو بعبارة أخرى هي أي شيء بالقوة، ولكنها «بالفعل» شيء معين، والذي منحها هذا التعيين هو الصورة.
فالوجود أو الخلق هو تحول ما هو بالقوة إلى الشيء بالفعل، وكل حركة وكل تغير ليس إلا خطوات التحول من القوة إلى الفعل، وبعبارة أخرى من المادة إلى الصورة، والمادة وحدها ليس لها وجود في الخارج، إنما الموجود في الخارج مادة اتخذت لها صورة.
وليس هذا التحول من المادة إلى الصورة أو من القوة إلى الفعل تحولا حيثما اتفق، أعني أن المادة أثناء تحولها إلى صورة ليست تسير من الخلف بحركة ميكانيكية بحتة، إنما تسيرها «الغاية» وتجذبها إليها كما يجذب المغناطيس الحديد؛ فما لم تكن الغاية حاضرة فليس هناك قوة تحول المادة إلى صورة، فالغاية سابقة «في الفكر » على الوجود، ولكن من حيث «الزمن» ومن حيث الوجود الخارجي الشيء أولا وحصول الغاية ثانيا، فسكنى البيت غاية سبقت في الذهن بناء البيت، ولكن في الخارج بناء البيت أولا والسكنى ثانيا؛ فالذي حرك العالم إلى الوجود هو الغاية، والذي يحرك الإنسان إلى العمل هو الغاية.
وليست علاقة الله بالخلق علاقة زمن، فأرسطو يعتبر أن الزمن ليس شيئا حقيقيا ثابتا وإنما هو مظهر فقط، فالإنسان العادي يرى أنه متى كان الله هو الخالق للعالم، وجب أن يكون الله أولا وبعد سنين ربما قدرت بالملايين، رأى الله - لسبب ما - أن يبرز العالم إلى الوجود فأوجده، فهو يرى أن علاقة بالله بالعالم علاقة زمن فهو أول والعالم ثان، وعلاقة العالم بالله علاقة علة بمعلول أو مؤثر بأثر، ولكن الفيلسوف يعتقد أن هذه الزمنية عرضية ومسألة ظاهرية لا حقيقة لها، وأن العلاقة ليست زمنية ولا علاقة مؤثر بأثر، إنما هي علاقة منطقية، علاقة مقدمة بنتيجة، ف «الله مقدمة منطقية والعالم النتيجة»، والله منح العالم وجوده كما تمنح المقدمة النتيجة وجودها؛ فالنتيجة في القضية المنطقية تتبع المقدمة أعني المقدمة تذكر أولا والنتيجة ثانيا، ولكن جاءت أولا في الفكر لا في الزمن، فالتقدم والتأخر في المقدمة والنتيجة فكري لا زمني، وكذلك واجب الوجود أو مفيض الوجود على العالم عند أرسطو هو أول في الفكر لا في الزمن.
يقول أرسطو: إن العالم هو سلسلة ترق للمادة من صورة إلى صورة أرقى منها، فالعالم درجات بعضها فوق بعض، فما كان من الأشياء في منزلة عالية يكون قد غلبت صورته مادته، وما كان منها في درجة سافلة يكون قد غلبت مادته صورته، حتى إذا وصلنا إلى نهاية الحضيض وصلنا إلى مادة لا صورة لها، وإذا وصلنا إلى الذروة العليا وجدنا صورة لا مادة لها، ولكن هاتين النهايتين ليستا إلا معاني مجردة لا وجود لها في الخارج؛ لأن الذي في الخارج - كما قدمنا - ليس إلا مادة بصورة، والعالم يسير في ارتقاء مستمر، والحركة والتغير مستمران ينقلان ما فيه من درجة إلى أعلى منها، تجذبه نحوها قوة الغاية.
هذه الغاية، وإن شئت فقل الذروة العليا للموجودات، وإن شئت فقل الصورة المجردة، هي التي يسميها أرسطو «الله»، ويقول إنه هو الموجود حقا؛ لأن له أتم «صورة»، وكلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة، وهو العلة الصورية (والغائية والمحركة لهذا العالم) وإذ كان الله مثلا أو فكرة أو عقلا، وإذ كان هو العلة الغائية كان هو غاية الغايات، وهو الذي يسعى إليه ويقصد نحوه كل موجود، وإذ كان هو العلة المحركة كان هو المحرك الأول للعالم وهو مصدر كل حركة، وإن كان هو ليس متحركا؛ إذ لو كان متحركا لتحرك إلى غاية، وقد قدمنا أنه غاية الغايات، وليس يعني بقوله: «إنه محرك العالم» أنه يدفعه دفعة ميكانيكية من خلفه، وإنما يعني أنه يجذبه إلى غايته، والعالم لا أول له في الزمن، وإنما سبقه الله كما تسبق المقدمة النتيجة - كذلك لا نهاية للعالم؛ إذ لو كان له نهاية لكانت نهايته صورة مجردة - وهي كما أسلفنا لا وجود لها في الخارج.
يقول أرسطو: إن الله فكرة، ولكنه فكرة أي شيء؟ إنه لما كان صورة مجردة فليس صورة لمادة، ولكن هو صورة الصورة، فهو فكرة الفكرة، فهو يفكر في نفسه بنفسه، هو المفكر والمفكر فيه، فكما أن الإنسان الفاني يفكر في شيء فإن كذلك الله يفكر في الفكر، لا يفكر في شيء خارج عنه، وهو يعيش في سعادة أبدية وسعادته هي تفكيره الدائم في كماله.
وقد تساءل بعضهم: هل الله في نظر أرسطو «مشخص»؟ وهو سؤال لم يثره أرسطو وإنما أثاره المحدثون، وقد اختلفوا في الإجابة عنه، فبعضهم يرجح أنه مشخص، ويستدل بما ورد في كلام أرسطو من التعبير عن الله بالموجود المطلق، ومن قوله إنه يعيش في سعادة أبدية، وهذه تعبيرات تدل على أنه مشخص له وجود مستقل شاعر بنفسه، ولا يصح لنا ان نقول إن هذه التعبيرات مجازية؛ لأن أرسطو كان ينتقد على أفلاطون عباراته التمثيلية والمجازية، وألزم نفسه بالتعبيرات الدقيقة ، وتحرى أن يعبر عن أفكاره من طريق الحقيقة لا المجاز.
ويرى آخرون أن الله في نظر «أرسطو» ليس مشخصا، بدليل أنه عبر عنه بأنه الصورة المجردة، والصورة المجردة عامة شائعة وليست مشخصة، ومن وجه آخر فالصورة من غير مادة لا وجود لها، وإذ كان الله على تعبير أرسطو صورة لا مادة لها فهو ليس له وجود مشخص مستقل، وهذا الاضطراب في تخريج كلام أرسطو يدل على أن تحديد معنى الله في كلامه غير واضح صريح. (3) فلسفته الطبيعية
يرى أرسطو أن الموجودات في هذا العالم متدرجة في الرقي، وأنها واقعة بين نهايتين: هيولى لا صورة لها، وصورة لا هيولى لها، ووظيفة الفلسفة الطبيعية عند أرسطو هي تبيين النشوء والارتقاء الذي سلكه العالم من هيولى إلى صورة.
إذا أردنا أن نفهم الطبيعة وجب أن نعرف جملة حقائق؛ أولا: أن هذا العالم في سيره من الهيولى إلى الصورة يتحرك نحو غاية، فكل شيء في الوجود له غاية وله وظيفة يؤديها، ولا شيء في الوجود يتحرك لا إلى غاية، والطبيعة تعمل خير ما يمكن للسير في هذا السبيل، وفي كل شيء دلالة على سير الطبيعة إلى غرض وغاية معقولة، فحركات العالم ليست حركات ميكانيكية مجردة عن القصد، إنما كل حركاته حتى الميكانيكية منها موجه إلى غاية.
ويجب ألا نفهم من هذا أن كل موجود إنما يتحرك لخدمة الإنسان، فالشمس تتحرك لتضيء له نهارا والقمر ليلا، والنبات والحيوان خلق لطعامه وهكذا! نعم إن كل الأشياء التي هي أحط من الإنسانية تتجه نحو الإنسان، وغايتها هو الإنسان، بحكم أنه أعلى منها في سلم الرقي، ولكن مع هذا فكل موجود مهما انحط له وجود ذاتي وله غاية ذاتية، وهي موجودة لنفسها لا لنا.
ويجب الحذر أيضا من أن تفهم من قولنا : إن العالم يسير إلى غاية، أنه شاعر بنفسه عارف بغايته، فالنحل مثلا يعمل لغاية معقولة ولكنه لا يعقلها، إنما يعملها بغريزته لا بعقله، والموجود الذي يشعر بغايته في عالم الأرض هو الإنسان وحده، أما ما عداه فيسير إلى الغاية من غير شعور وتفكير، حتى الجماد يسير إلى غاية كذلك، فخصائصه التي فيه توضح سيره إلى غاية معقولة، ولكنه هو لا يعقلها، والعالم وإن كان يسير إلى غاية معقولة فهو سائر بالغريزة وبالطبع، وإن شئت فقل بالإلهام، من غير أن يكون أمام عقله غاية واضحة يضع الخطط للسير إليها.
في عملية النشوء والارتقاء تجذب «الصورة» العالم إلى الرقي دائما، والهيولى تعوقه وتؤخره، فحركة العالم تتلخص في «جهد الصورة لتشكل الهيولى ومقاومة الهيولى للصورة»، ولما كان للهيولى قوة المقاومة لم تنجح الصورة دائما بل فشلت أحيانا، وهذا هو السبب في أن الصورة لا توجد من غير هيولى؛ لأنها لا تستطيع أن تتغلب غلبة تامة على مقاومة الهيولى، وهذا هو السبب أيضا في وجود فلتات الطبيعة، وغرائب الخلقة والإجهاض، والولادة غير الطبيعية، ففي هذه كلها فشلت الصورة في صوغ الهيولى، أو بعبارة أخرى فشلت الطبيعة في تحقيق غايتها؛ ولهذا يجب على العلم أن يعنى بدراسة الأشياء الطبيعية العادية لا الشاذة، ففي الأشياء الطبيعية العادية يستطيع العلم أن ينظر الغاية التي تسعى إليها الأشياء، وبواسطة هذه الغاية وحدها يمكن فهم العالم، ويكثر أرسطو من استعمال كلمة الأشياء «الطبيعية» و«اللاطبيعية» ويعني بالأولى ما حقق غايته، أو ما غلبت فيه الصورة الهيولى، وعكسها اللاطبيعية. •••
يتكلم أرسطو بعد ذلك على الحركة والزمان والمكان، ويرى أن الحركة هي سير الهيولى إلى الصورة، وهي أربعة أنواع؛ الأول: الحركة التي تؤثر في عنصر الشيء إيجادا وإعداما، الثاني: الحركة التي تغير الكيف، الثالث: الحركة التي تغير الكم زيادة ونقصا، الرابع: حركة الانتقال أو تغير المكان، وهذا الأخير هو أهمها.
لم يقبل أرسطو ما عرف به بعضهم المكان من أنه الخلاء أو (الفراغ)، وكان يرى أن المكان الخالي محال، كذلك لم ير ما ذهب إليه بعضهم من أن المكان شيء طبيعي موجود، وإلا لكان هناك جسمان يشغلان محلا واحدا في زمن واحد، أعني الشيء والمكان الذي يملؤه الشيء، وإنما المكان عنده هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي.
ويرى أن الزمان هو مقياس الحركة، فهو يعتمد في وجوده على الحركة (وبعبارة أخرى على التغير) ويقيس ما تقدم منها وما تأخر، وإذا لم يكن في العالم حركة لم يكن زمن، وكما يعتمد الزمن في وجوده على حساب الحركة يعتمد أيضا على العقل الذي يقيس، فما لم يوجد عقل يحسب الحركة لم يكن زمن، وقد يعترض عليه بأنه يلزم من ذلك أنه لم يكن هناك زمن قبل وجود الإنسان، ولكن هذا الاعتراض يزول إذا علمنا أن أرسطو يرى أن الإنسان والحيوانات أزلية كأزلية الزمن. •••
نذكر بعد ذلك رأيه في «سلم العالم» ... يرى أرسطو أن العالم متدرج في الرقي، بعضه أرقى من بعض في الوجود وفي القيمة، فهو في هذا ينظر إلى العالم نظرة نشوء وارتقاء، ولكن ليس ذلك بمعنى تحول النوع من شيء إلى آخر أرقى منه بمرور الزمان، فهذا النظر حديث، ولأن أرسطو يرى أن الأجناس والأنواع أزلية أبدية، فأفراد الإنسان يولدون ويموتون، ولكن النوع الإنساني أزلي أبدي، كذلك الشأن في جميع أنواع النبات والحيوان، وإذ كان الأمر كذلك لم يكن هناك تحول من نوع إلى نوع بفعل الزمان كما هو مذهب «داروين» وإنما الترقي عند أرسطو ترق منطقي أو ترق في الفكرة، فالأدنى يحمل بذور الأعلى بالقوة، فالإنسان هو القرد مثليا، والأعلى يحمل بذور الأدنى فعليا، فالإنسان فيه ما في القرد وزيادة، فما هو مضمر مستتر في الجنس السافل ظاهر جلي في الجنس العالي، فالصورة التي تحارب للظهور في السافل، تحققت وانتصرت في العالي، ومن ثم فالعالم كله سلسلة أو سلم ذو درجات، ولكن لا تتحول فيه الأنواع على مرور الزمن إلى أنواع أرقى.
وأكبر مظهر لهذا التدرج هو تركيب البنية أو كما سماه هو «العضوية »
organization ، وإذا نحن نظرنا إلى العالم من هذه الناحية، فأول ما يلفت نظرنا انقسامه إلى أجسام عضوية وغير عضوية (وهذا التقسيم واختيار الألفاظ للدلالة عليه من وضع أرسطو) ففي أدنى درجات السلم الأجسام اللاعضوية، وفيها تضعف «الصورة » حتى تكاد تكون هيولى بلا صورة، ومع هذا فلها من غير شك صورة، وهي ككل شيء تتحرك لغاية، ولكن غاية الأجسام اللاعضوية خارجة عنها، فهي تتحرك إلى الغاية بقوة خارجية كما نعبر عنها الآن بقوة الجاذبية.
أما الأجسام العضوية فغايتها فيها، فهي تحقق نفسها بنفسها، فهي تنمو، وليس نموها مجرد حركة ميكانيكية كما نضع حجرا على حجر، وإنما نموها من الداخل، وتحويل لما في الخارج إلى داخل للوصول إلى الغاية.
وفي الأجسام العضوية تتجلى الصورة أكثر من تجليها في الأجسام اللاعضوية، ونظامها الداخلي أتم، وهذا التنظيم الداخلي هو ما نسميه روح الجسم العضوي أو نفسه، فعمل النفس - حتى في الإنسان - ليست إلا تنظيم البدن وتوضيح العلاقة بين الهيولى والصورة، وهذه النفس الحية في الأجسام العضوية درجات بعضها فوق بعض، فالراقي منها هو ما كان أكثر تحقيقا للصورة.
وأول ما يسعى إليه الجسم العضوي تحقيق شخصه ونوعه، فللأول وهو يتغذى، وللثاني هو ينسل، وأحط درجات الجسم العضوي ما اقتصر على هذين العملين: التغذي والنسل، وهذا هو النبات، وقد أفاض أرسطو في تقسيم النبات إلى أنواع وتدرجه حسب قدرته على هذين الوظيفتين.
ويلي النبات في الرقي الحيوان، وإذ كان النوع الراقي فيه ما في السافل وزيادة، كان الحيوان يشارك النبات في التغذي والنسل ويزيد في الحس، فالإدراك بالحواس خاصة من خصائص الحيوان لا النبات، ويتبع وجود الحس الشعور باللذة والألم؛ لأن اللذة حس سار والألم عكسه، وتبع هذا وجود الدافع للبحث عن اللذيذ وتجنب المؤلم، وهذا لا يكون إلا بالقدرة على الحركة؛ ولهذا كان أكثر الحيوان قادرا على التنقل بخلاف النبات، لأنه لا يشعر بلذة ولا ألم، فلا يسعى لتحصيل الأول والفرار من الثاني، وكما فعل في النبات فعل في الحيوان، فقسمه إلى أنواع متدرجة تبعا لأداء وظيفته.
ويلي الحيوان في الرقي الإنسان، وله ما للحيوان والنبات من تغذ ونسل وحس ويزيد عليها «العقل»، وهو المميز له عن باقي النبات والحيوان، وهو أهم وظيفة له، ثم أخذ يشرح هذه النفس العاقلة، فرأى أنه من السخافة ما ذهب إليه أفلاطون من تقسيم النفس إلى أجزاء؛ لأن النفس شيء واحد لا يتجزأ، والأعمال التي تصدر عنها وإن كانت مختلفة، فإن هذا الاختلاف ليس معناه أن هذه الأعمال صادرة من أجزاء مختلفة، بل معناه أنها مظاهر مختلفة لشيء واحد، كالزجاجة الواحدة، محدبة من إحدى مناظرها ومقعرة من الناحية الأخرى، وهي هي واحدة.
ولهذه النفس الإنسانية وظائف أو ملكات، فأحط دركاتها الإدراك بالحواس، ونحن لا ندرك بحواسنا من الشيء إلا صفاته، فندرك من قطعة الذهب أنها ثقيلة الوزن وأنها صفراء ونحو ذلك، ولكنا لا ندرك ما وراء ذلك، فلا ندرك جوهر الشيء وقوامه الذي اتصف بهذه الصفات، وبعبارة أخرى ما يمكن علمه هو الصورة لا الهيولى.
ويلي هذه الدرجة في الإدراك ما سماه «الحس المشترك» ويعني به المركز الذي تتجمع فيه الإدراكات الحسية المختلفة، فهو يرى أن أنواع المعرفة - حتى أبسطها - مثل أن هذه الورقة بيضاء لا يكفي فيها إدراك حسي واحد، بل لا بد لإدراكها من مقارنة ومقابلة، وما يجمع هذه الإدراكات الحسية من الحواس المختلفة ويعمل هذه المقارنة والمقابلة هو «الحس المشترك».
ويلي هذه الدرجة في الرقي قوة الخيال أو «المخيلة» وليس يعني بها الخيال الخالق المبتكر كالذي عند الشاعر والفنان، وإنما يعني القوة التي تتجمع فيها صور الأشياء حتى بعد زوال الأشياء من أمام الحواس، وهي قوة عند كل أحد لا عند الفنان وحده.
ويليها «الحافظة»، وهي كالمخيلة في حفظ الصور، إلا أنها تزيد عليها أنها مع حفظها للصورة تدرك أنها صورة حصلت من إدراك حس ماض.
ويلي الحافظة «الذاكرة»، والفرق بينهما أن الصور التي في الحافظة تحضر أمام العقل من غير قصد واختيار، أما الذاكرة فإنها تستطيع أن تثير صورها، وتحضرها أمام العقل باختيارها.
وتلي هذا قوة العقل، والعقل نفسه له درجتان: أحطهما العقل القابل وأرقاهما العقل الفاعل، فللعقل قوة على التفكير قبل أن يفكر فعلا، فهذه القدرة على التفكير تسمى العقل القابل، والعقل المفكر بالفعل يسمى العقل الفاعل.
ومجموع هذه القوى كلها هو «النفس»، وهذه النفس كما علمنا هي صورة الهيولى، وإذ كانت الصورة لا تنفصل عن الهيولى، فالنفس لا توجد من غير بدن فهي وظيفة الجسم؛ ولهذا أنكر ما ذهب إليه فيثاغورس وأفلاطون من التناسخ، خصوصا حول الأرواح في أجسام حيوان، قائلا إن وظيفة شيء لا يمكن أن تكون وظيفة لشيء آخر، وعلاقة النفس بالبدن كعلاقة نغمات المزمار بالمزمار نفسه، فالنغمات صورة والمزمار هيولى، كذلك النفس - إن عبرت تعبيرا شعريا - هي موسيقى الجسم أو روح المزمار، فإذا قلنا بتناسخ الأرواح فكأننا نقول بانبعاث نغمات المزمار من سندان الحداد - وقد يظهر من ذلك أن هذا الرأي يستتبع رفض أية فكرة تقول بأبدية النفس؛ لأن الوظيفة تفنى بفناء العضو، وسنعرض لهذه المسألة بعد - ولكنا نقول هنا إن رأي أرسطو في النفس أرقى من رأي أفلاطون فيها ومن رأي عامة الناس اليوم، فالفكرة الشائعة عند الناس أن النفس وإن لم تكن مادة إلا أنها شيء، ويمكن أن توضع في الجسم وتخرج منه كما نضع الماء في زجاجة ونصبه منها، وأن العلاقة بين الجسم والنفس علاقة ميكانيكية بحتة، ولكن فكرة أرسطو أن النفس صورة الجسم لا يمكن أن تنفصل عنه، ولا يمكن أن توجد نفس بلا بدن، والعلاقة بينهما ليست علاقة ميكانيكية بل علاقة كل شيء بوظيفته، والنفس ليست شيئا تخرج من الجسم وتدخل فيه، بل هي وظيفة الجسم.
ويقول أرسطو إن كل ملكات النفس التي ذكرناها من إحساس وحس مشترك ... إلخ، تفنى بفناء الجسم ما عدا العقل الفاعل فإنه لا يهلك، وهو أزلي أبدي، لا أول له ولا نهاية له، قد جاء إلى الجسم من الخارج، ويفارقه عند الموت، وقد جاء من الله؛ لأن الله هو العقل المطلق، فهو يعود إليه بالموت، أعني إذا انقطع الجسم عن العمل، ولكن إذا كانت كل الملكات تفنى ما عدا العقل الفعال، فمعنى ذلك أن الحافظة أيضا تفنى، ولكن الحافظة لا بد منها للشخصية، فلولا الحافظة لكانت إدراكاتنا إحساسات متفرقة لا رابطة بينها، والحافظة هي التي تجعلني أربط ماضي بحاضري، وبعبارة أخرى هي التي تجعلني أشعر أني بالأمس هو أنا الآن، فإذا فنيت الحافظة لم تكن هناك شخصية، فكيف تكون حياة العقل الفعال وحده من غير حافظة؟ لم يتعرض أرسطو للإجابة عن هذا بوضوح.
بعد النبات والحيوان والإنسان في الرقي تكون الأفلاك، فهل يرى أنها تتمة لسلم العالم، وأنها أرقى من الإنسان وتأخذ في التدرج إلى الله؟ أو يرى أنها سلسلة وحدها لا تكمل سلم العالم الأرضي؟ رأيان لشراح فلسفة أرسطو: وليس هنا موضع شرح أدلة كل رأي.
على كل حال يرى أرسطو أن الأجسام السماوية أجسام إلهية، وأن الكواكب ومنها الشمس والقمر تدور حول الأرض في اتجاه معاكس للنجوم، وأن هذه الأجسام السماوية أرقى من الإنسان، لها قوة عاقلة أقوى مما عنده، وهي تعيش عيشة سعيدة لا يعتورها نقص، وهي أزلية أبدية، وعالمها لا يعرف الموت والفساد ونحو ذلك مما يعرفها العالم الأرضي، وليست مكونة من عناصر أربعة كالعالم الأرضي، بل هي مكونة من عنصر آخر هو الأثير - ولأنها أبدية كانت حركاتها أبدية، ولأنها مثال الكمال كانت حركتها مثال الكمال، فحركتها ليست في خط مستقيم بل هي حركة دائرية - وقوله هذا يرجح قول القائلين بأنه يرى اتصال السلسلة بين العالم الأرضي والسماوي، وأنها تكون سلما واحدا متدرجا في الرقي، وفي الذروة من ذلك كله «الله» فهو الصورة المجردة، وهو ليس في عالم زمان ولا مكان؛ لأن ما في الزمان والمكان منته محدود، والله ليس كذلك.
وبعد فإلى أي حد يتفق أرسطو في رأيه في التدرج والارتقاء مع الآراء الحديثة في التطور؟ لقد ذهب سبنسر إلى أن التطور هو الانتقال من حالة لا محدودة، متفككة، متشابهة، إلى حالة محدودة متماسكة متميزة الأجناس، وهذا ما قاله أرسطو، ولو أنه عبر عنه بأسلوب غير هذا، فهو يسميه تحركا من الهيولى إلى الصورة، وهو يصف الصورة بأنها ما يحدد الشيء من صفات، فبعد أن كانت الهيولى مادة لا محدودة، جاءت الصور فطبعتها في أشياء محدودة، وهو يرى كذلك أنه كلما ارتقى الشيء كان أكثر تحددا؛ لأنه يكون أوفر حظا فيما يصيبه من الصورة، والهيولى قبل أن تشكلها الصور كانت متجانسة، فقد رأينا أنها في بدايتها كانت خلوا من الصفات، أي إنها كلها عنصر متجانس، وإن ما أدى بها إلى هذا التباين الذي نلاحظ في الأشياء إنما هو الصفات التي اكتسبتها الأشياء من صورها.
أما التماسك الذي أشار إليه سبنسر في صفات التطور فهو ما عبر عنه أرسطو بالعضوية
organization ؛ إذ قال إن صورة الشيء هي عضويته، وهو يذهب إلى ما ذهب إليه سبنسر من أن الكائن يكون أكثر رقيا كلما صعد في سلم العضوية، وكل نظرية في التطور إنما تقوم على هذه الفكرة الأساسية، فكرة النظام العضوي، فأرسطو في الواقع هو خالق الفكرة وواضع لفظها، ولم يزد سبنسر عليه شيئا إلا ما أورده من أمثلة يؤيد بها صحة النظرية، ساعده عليها تقدم العلم الحديث.
ولكن الفرق بين أرسطو ورجال النشوء الحديث هو أن أرسطو وقف عند تصوره أن التطور ليس إلا رقيا منطقيا، ولم يدرك أنه حقيقة واقعة تحدث على مر الزمن، فأرسطو ودارون سواء في معرفة الفرق بين النظام العضوي الراقي والسافل، ولكن أرسطو وقف عند هذا الحد ولم يعلم أن هذا الكائن السافل سينقلب مع كر الأعوام كائنا راقيا بالفعل.
ولا يقتصر الخلاف بين أرسطو والمحدثين على هذا الفرق، بل هما يختلفان فيما هو أهم من هذا، فأرسطو قد تغلغل في فلسفة التطور أكثر مما فعل العلم الحديث، بل إن شئت فقل إن العلم الحديث ليس لتطوره فلسفة على الإطلاق؛ لأننا حين نقول إن هذا الكائن أرقى من ذلك يجب أن نستند على أساس عقلي في التفرقة بين الكائنين من حيث الرقي والانحطاط، فعلى هذا العماد يتوقف ما إذا كان الكون يخبط في سيره خبط عشواء، أو هو كون يسير وفق نظام وخطة مدبرة نحو غرض معلوم، أما نظرية سبنسر فلا تتضمن معنى التقدم، بل هي تكاد تقف عند مجرد التقرير بأن كائنا يتغير فيصبح كائنا آخر، والتغير لا يلازمه التقدم حتما، فقد يتغير الشيء إلى شيء يساويه علوا أو دونه في المرتبة.
ولا يمكننا أن نفهم الكون إلا إذا أثبتنا أنه يتطور ولا يقتصر على التغير من حالة إلى حالة أخرى كائنة ما كانت، والتطور يقتضي أساسا عقليا تقوم عليه العقيدة بأن بعض الكائنات أرقى من بعض، فلماذا يكون الإنسان أعلى مرتبة من الحصان، أو الحصان أعلى من حيوان الإسفنج؟ إذا أجبت على هذا السؤال فقد حصلت على فلسفة التطور، أما إذا وجهت السؤال إلى رجل الشارع فسيجيبك على الفور بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه لا يأكل الكلأ فحسب، بل هو كائن مفكر له حظوظ وافرة من العلم والدين والفن والأخلاق، ولكن سله لماذا تكون هذه الحالات أرقى من أكل الكلأ، فلن تظفر منه بجواب ... انتقل من رجل الشارع إلى الفيلسوف الحديث، إلى سبنسر، وسله يجبك بأن الإنسان أرقى من الحصان؛ لأنه أشد تركبا في نظامه العضوي، ولكن لم يكون هذا دليلا على الرقي؟ هنا يقف العلم صامتا لا يحير جوابا، لا بل هو يخرج من الصمت بما هو شر من الصمت فيقول: «ليس في حقيقة الأمر رقي وانحطاط، وإنما هي ألفاظ أطلقها الإنسان ليدل بها على المقارنة بين الكائنات من حيث تركيبها العضوي، هي طريقة بشرية للتفكير ليس غير، فنحن نقيس الرقي بمقياسنا، فما كان قريبا منا شبيها بنا كان في رأينا أعلى مرتبة مما هو بعيد عنا مباين لنا في كل نظامه وتركيبه، أما وجهة النظر المجرد فلا تفرق بين كائن وكائن.» ولو سلمنا مع العلم الحديث بهذا لانتهينا إلى نتيجته المنطقية، وهي أن الكون ليس له هدف يرمي إليه، وليس ثمت عقل يسير على مقتضاه، بل هو يسير كما شاءت له المصادفة، وإن كان هذا هكذا فلا فلسفة بل ولا أخلاقية؛ لأننا لو أنكرنا الرقي والانحطاط بين الكائنات فلا مفر لنا من إنكار الفرق بين الخير والشر، وحينئذ لأن تكون سفاكا أو قديسا سواء.
لنترك سبنسر إذن، ولنستدبر الزمن فنلقي على أرسطو هذا السؤال : لماذا يكون العلو في النظام العضوي معناه الرقي؟ إنه يجيب بأنه لغط في القول أن نردد هذه الألفاظ: انحطاط ورقي، أعلى وأسفل، ما لم يكن لدينا غرض ننسب إليه الأشياء فنحكم عليها بالنسبة إليه صعودا أو هبوطا؛ إذ لا معنى للتقدم إلا أن يكون تقدما نحو غاية معلومة، فلو سار جسم في خط مستقيم في فضاء لا نهائي، فمن الخطأ أن نسمي هذه الحركة تقدما؛ لأنه لا فرق بين أن يكون الجسم المتحرك عند هذه النقطة أو بعدها بفرسخ أو فرسخين؛ لأنه لن يكون في هذا الوضع الجديد أقرب إلى شيء منه وهو في مكانه الأول، أما إن كان ذلك الجسم لغايته نقطة معينة فعندئذ يصح وصفه بالتقدم أو التأخر؛ لأنه كلما سار شوطا كان أقرب إلى غرضه المقصود أو أبعد.
وبناء على ذلك يجب أن تكون فلسفة التطور غائية، تعترف بأن العالم يسير نحو غاية منشودة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكننا أن نصفه بالبعد أو القرب من الغرض، وبعبارة أخرى لا نستطيع أن نحكم عليه بالرقي أو الانحطاط، فما هو هذا الغرض؟ يجيب أرسطو بأنه: تحقيق العقل، فقد كان الكائن الأول عقلا خالدا ولكنه لم يتمتع بالوجود الحقيقي الفعلي، فأخذ يمثل نفسه في النبات ثم في الحيوان، ثم حقق وجوده في الإنسان، وسيظل يرقى في الإنسان حتى يصل إلى وجود خالص من كل شائبة، وعندئذ يكون الكمال المنشود، ولكن كيف بالعالم إذا وصل إلى هذه المرتبة؟ أيصاب بالجمود فلا يسير؟ إنه لن يصل يوما إلى ذلك الكمال، وسيظل دوما يقصد إليه دون أن يبلغه.
وإذن فمقياس الرقي والانحطاط هو مقدار ما يتمتع به الكائن من عقل، ولا يجوز لمعترض أن يسأل: لماذا يكون العقل علامة على الرقي؛ لأن كلمة «لماذا» معناها أن العقل يريد سببا عقليا، ومن التناقض الظاهر أن يسأل العقل عن سبب معقوليته، فسؤالك لماذا كانت الحياة العقلية أرقى كسؤالك لماذا كان العقل عاقلا، وهو سؤال ظاهر السخافة.
وفي تعاليم أرسطو ما يشعر بمذهب الحلول ، وهو المذهب القائل بأن الله حال في كل شيء، وأن كل شيء مظهر له، فإن فلسفة أرسطو تقول: إن كل شيء في العالم يسعى لتحقيق العقل وله حظ منه، والعقل الكامل هو الله، وإن اختلفت الأشياء في مقدار حظها منه. (4) رأيه في الأخلاق
يختلف أرسطو عن أفلاطون في الأخلاق في أن تعاليم أفلاطون تجاوزت ما في قدرة الإنسان وتوغلت في الروحانيات والمثل العليا، على حين أن أرسطو لمس الحقائق وبنى عليها تعاليمه الأخلاقية العملية، بحث أرسطو في «ما هو الخير» كما بحث أفلاطون، ولكن أفلاطون كان يحتقر عالم الحس وما فيه، فكان في إجابته ينظر إلى عالم فوق عالم الحس، أما أرسطو وهو المحب للحقيقة والواقع، فقد أجاب بما في استطاعة جمهور الناس أن يصل إليه.
أول ما يعرض للباحث في الأخلاق البحث عن غاية الغايات، فالناس يعملون لغاية، وقد تكون هذه الغاية وسيلة لغاية أخرى وهكذا، ولكن يجب أن تكون في النهاية غاية أخيرة ليست وسيلة لشيء هي التي تسمى غاية الغايات - يقول إن هذه الغاية الأخيرة محل اتفاق بين الناس وهي السعادة، فكل ما يبحث الناس عنه وكل باعث لهم على العمل وما يتطلبونه لذاته لا لشيء آخر وراءه، هو السعادة - ولكن الناس جميعا على اختلاف طبقاتهم يختلفون في مفهوم السعادة، سواء منهم الفلاسفة والعامة، فبينا يرى بعضهم السعادة في حياة اللذة، إذا بآخرين يرون السعادة في الهرب من اللذة، وكل يرسم للسعادة في الحياة صورة تخالف ما يرسمه الآخر، ولكن لم يحدثنا أرسطو عن طبيعة السعادة ولم يشرحها شرحا وافيا يبين الغرض منها.
غير أنه قال - بناء على تعاليمه السابقة - إذا رأينا أن كل شيء في الوجود له وظيفة وله غاية يسعى بطبيعته للسير إليها فالخير للإنسان ليس في لذة حواسه فقط؛ لأن الإحساس وحده وظيفة الحيوان لا الإنسان - أما وظيفة الإنسان التي امتاز بها فالعقل، فعمل العقل هو الخير بالنسبة للإنسان، والأخلاقية إنما هي في الحياة العقلية، وسيتضح ذلك مما يلي:
ليس الإنسان حيوانا ذا عقلية فقط، بل لما كان الجنس الراقي فيه ما في السافل وزيادة، ففيه الملكات التي في النبات والحيوان فهو يتغذى كالنبات ويحس كالحيوان، والتغذي والحس طبيعة فيه، فيجب أن تكون الفضيلة نوعين: نوعا راقيا يوجد في حياة العقل والتفكير والفلسفة، ونوعا آخر وهو ما يتعلق بالتغذي والحس، والفضيلة في هذا النوع الأخير أن تخضع الشهوات ورغبات الحس لحكم العقل، وإنما كان النوع الأول أرقى لسببين: الأول أنه فضيلة العقل، وبالعقل صار الإنسان إنسانا، والثاني: أنه فضيلة فيها تشبه بالله، إذ حياة الله هي حياة الفكر الخالص.
والسعادة تتكون من النوعين معا، ولم ينكر أرسطو ما للظروف الخارجية من تأثير كبير في السعادة، فالفقر والمرض وسوء الحظ تعوق الإنسان عن أن يصل إلى السعادة، وأضدادها وسائل للسعادة لا السعادة نفسها، فالغنى والصداقة والصحة ليست السعادة ولكنها وسائل لها، وأعني بذلك أنه بهذه الأمور تكون السعادة قريبة المتناول، وبدونها يصعب الوصول إليها، وهذه الأشياء قيمتها في ذلك فقط.
لم يتكلم أرسطو طويلا وبالتفصيل عن النوع الراقي من الفضيلة وفي قوله عن النوع الثاني خطأ سقراط في فهمه أن الفضيلة في المعرفة، وأن المعرفة كافية وحدها في السير في طريق الحق، وأن الإنسان إذا فكر تفكيرا مستقيما عمل عملا مستقيما، وقال إن سقراط نسي عامل الشهوة في الإنسان، فقد يفكر جيدا ويرشده فكره إلى الصواب، ولكن تتغلب عليه شهوته فتغويه، ويقول أرسطو إن وسيلة غلبة العقل المران، فبالمران على ضبط النفس وتحكيم العقل والتزام أوامره يمكن ترويض الشهوة وتذليلها، فكلما طال وضع الشهوة تحت نير العقل اعتادت ذلك؛ ولهذا علق أهمية كبرى على العادة، وقال إن تعويد الإنسان العادات الطيبة هو السبيل الوحيد لتكوين الإنسان الطيب.
وإذا كانت الفضيلة في حكم العقل للشهوة كان لا بد في الفضيلة من العنصرين معا، فيجب أن تكون شهوة وأن يكون عقل يحكمها، فالزهاد الذين يريدون أن يستأصلوا الشهوة من أساسها مخطئون؛ إذ ينسون أن الشهوة عنصر في الإنسان واستئصالها هدم لعنصر من مكوناته، وبتعبير أرسطو إن الشهوة مادة الفضيلة والعقل صورتها، فبهدم الشهوة انهدمت المادة، ولا تقوم الصورة بلا مادة، فهناك نوعان من الغلو فاسدان: محاربة الشهوة حتى تموت، وإطاعتها حتى تغلب العقل، والفضيلة في الوسط، وهو الاعتدال، ونشأ من هذا نظريته المعروفة بنظرية الأوساط أي إن كل فضيلة وسط بين رذيلتين.
ولكن كيف أعرف هذا الوسط؟ ما المقياس؟ من الذي يحكم؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة عسيرة، فليست المسألة مسألة خط مرسوم أقيسه لمعرفة وسطه، وليست هناك قاعدة واضحة أستطيع بها أن أعرف ذلك، والحكم فيها يتوقف على الظروف المحيطة بالشخص وعلى الشخص نفسه، فما هو نقطة الوسط في حالة ليس كذلك في حالة أخرى، وما هو اعتدال لإنسان إسراف لجاره وهكذا، فيجب أن يترك الأمر لتقدير الشخص بعد أن يمرن على صحة النظر لمعرفة الوسط.
ولم يعبأ أرسطو كثيرا بحصر الفضائل وتعدادها كما فعل أفلاطون، بل رأى أن الحياة أكثر تركبا من أن ينحى فيها هذا المنحى، والفضيلة تختلف باختلاف ظروف الحياة، فهناك فضائل بقدر ما يحيط بالإنسان من ظروف، وقائمة الفضائل التي ذكرها أرسطو ليست - كما قال - حصرا للفضائل، وإنما ذكرها للتمثيل، وقد مثل لرأيه في نظرية الأوساط بالشجاعة فقال: إنها وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين البخل والإسراف ... إلخ.
ولم يطبق هذه النظرية على العدل، فلم يبين أية رذيلتين هو وسط بينهما؛ لأنها في نظره على ما يظهر فضيلة الدولة أكثر منها فضيلة الفرد، حتى يظن بعضهم أن الكتابة عليها في كتاب الأخلاق لأرسطو جاء من خطأ الوضع. ويقول إن العدل نوعان: عدل موزع، وعدل مصحح، فالعدل الموزع يظهر في إعطاء المكافآت والمنح حسب مؤهلات الأفراد، والعدل المصحح يظهر في العقوبة؛ فإنه إذا أخذ إنسان فائدة أو منفعة أو لذة لا يستحقها حصل اختلال في الوجود ، ويجب أن يصحح بأن يوقع عليه ألم أو ضرر يتعادل مع ما حصل مما ليس له حق فيه.
كان أرسطو يقول بحرية الإرادة، وعاب على سقراط رأيه في الفضيلة لأنه يستلزم الجبر، فعند سقراط أن التفكير الصحيح يستتبع حتما العمل الصالح، وهذا معناه أن ليس له إرادة في اختيار الخير والشر؛ لأن الإنسان الذي يفكر صحيحا لا يفعل الخير اختيارا بل جبرا، وعلى العكس من ذلك أرسطو فهو يرى أن الإنسان مخير بين أن يعمل الخير والشر وقادر على فعل كل منهما، ولم يتعرض أرسطو إلى بيان المشاكل التي تعترض نظرية حرية الإرادة والتي هي مثار الجدل الشديد بين الفلاسفة المحدثين.
أرسطو مع أحد تلاميذه في أثينا. (5) رأيه في الدولة
ليس علم السياسة في نظر أرسطو منفصلا عن علم الأخلاق، بل هو يرى أن الأول قسم من الثاني، فعلم الأخلاق إما أن يبحث في أخلاقية الأفراد أو في أخلاقية الجماعات، والثاني هو المسمى عادة بالسياسة، وهناك سبب آخر للاتصال بين القسمين، وهو أن أخلاقية الفرد لا تجد غايتها إلا في الدولة، وبعبارة أخرى في المعيشة الاجتماعية، ولا يمكن أن يصل الفرد إلى غايته بدونها.
وقد وافق أرسطو أفلاطون في أن الغرض من الدولة إسعاد أفراد الشعب، وبدونها لا يمكن أن يسعدوا؛ لأن الإنسان حيوان سياسي بالطبع، ويعني من قوله «بالطبع» ما تقدمت الإشارة إليه من أن الدولة غاية محتمة له، وجزء أساسي من وظائفه، ويرى أن الدولة صورة والفرد هيولى، وأن وظيفة الدولة تربية الأفراد على الفضيلة وتهيئة الأسباب لهم ليكونوا فاضلين، وبدون ذلك لا يكون الإنسان إنسانا إنما يكون وحشا ضاريا.
يرى أرسطو أن أصل الدولة يرجع إلى الأسرة، فأول كل شيء كان الفرد، ثم أخذ الفرد يبحث عن رفيق في الحياة فكانت الأسرة (والأسرة في نظره تشمل الرقيق؛ لأن أرسطو كأفلاطون لم ير عيبا في نظام الرق)، ومن مجموعة أسر تكونت القرية ثم المدينة، ومن مجموعة قرى ومدن كانت الدولة.
هذا هو الأصل التاريخي للدولة، ولكن أهم من أصلها التاريخي في نظر أرسطو أن الأسرة وإن سبقت الدولة في التاريخ فالدولة سبقت الفرد والأسرة في الفكر؛ لأن الدولة هي الغاية، والغاية تسبق الوسائل في الفكر كما تقدم، فالدولة من حيث هي صورة سابقة على الأسرة من حيث هي هيولى، وإذ كانت الأشياء تشرح بغاياتها فالأسرة تشرح بالدولة لا العكس.
وليست الدولة مجموعة من الأسر تكوم كما يكوم الرمل بل هي جسم عضوي، وليست علاقة الجزء بالجزء علاقة آلية (ميكانيكية) بل هي علاقة عضوية، فالدولة لها حياة خاصة، وأعضاؤها لها حياة كذلك، وحياة هذه الأعضاء داخلة ضمن الحياة العليا وهي حياة الدولة، وإذ كان الفارق بين الجسم العضوي واللاعضوي أن الأول له غاية في نفسه، والثاني له غاية خارجة عنه كانت الدولة لها غاية في نفسها، والفرد كذلك له غاية في نفسه، وأن غاية الدولة تتضمن غاية الفرد، وبعبارة أوضح كل من الدولة والفرد له غاية وكل له حياة وكل له حقوق، ومن ثم كان هناك نظران يعدهما أرسطو غير صائبين؛ الأول: الرأي الذي يقول بحياة الأفراد وينكر حياة الدولة، وبعبارة أخرى يقول بأن للفرد غاية في نفسه ولا يقول بأن للدولة حياة مستقلة، والرأي الثاني: من يعكس هذا ويقول بحياة الدولة حياة حقة، وينكر حقيقة حياة الأعضاء، فالذين يرون أن الدولة ليست إلا أفرادا مكدسة، وأن الدولة ليس لها غاية إلا حماية الأفراد وإسعادهم وليس لها وجود مستقل ولا غاية مستقلة، هؤلاء يمثلون الرأي الأول الخاطئ، وهؤلاء يخضعون الدولة لمصلحة الفرد، وينظرون إليها كأنها وسيلة فقط لحماية أرواح الأفراد وملكهم، لا غرض لها في نفسها وإنما غرضها خدمة الأفراد، فهذا النظر لا يقر بأن للدولة حياة ولا بأنها جسم عضوي، وكأن أرسطو بهذا يفند نظرية «العقد الاجتماعي» التي ذاعت في القرن الثامن عشر، كما يرد على النظر الحديث القائل بأن الدولة ليس لها من وظيفة إلا أن تضمن أن حرية الفرد لا يحد منها إلا حق الأفراد الآخرين في أن يتمتعوا بمثل حريته، ويمثل الرأي الآخر الخاطئ ما ذهب إليه أفلاطون من إنكاره حياة الأعضاء، فهو يرى أن الأعضاء لا شيء، وأن الدولة هي كل شيء، ومن أجل ذلك يضحي بالفرد للدولة، ويرى أنه لا يعيش إلا لمصلحتها وليس للفرد غاية في نفسه. يرى أفلاطون أن الدولة وحدة متجانسة الأجزاء ليس لأجزائها حياة مستقلة، ولكن أرسطو يرى أن حياة الدولة حياة جسم عضوي فهو وحدة وأجزاؤه مرتبط بعضها ببعض ولكنها غير متجانسة، ولكل جزء حياته الخاصة، وكما أخطأ أفلاطون في نظره إلى الفرد كذلك أخطأ في نظره إلى الأسرة، فأرسطو يرى أن الأسرة كالفرد جزء حقيقي من الكل الاجتماعي وهو الدولة، وهو جسم عضوي في جسم عضوي وله غاية في نفسه وله حقوق خاصة، أما أفلاطون فيرى أن يلغي نظام الأسرة لمصلحة الدولة بالاشتراكية في النساء وبتربية الأولاد في المربى العام، فقضى بذلك على الأسرة التي هي جزء لا بد منه للدولة في نظر أرسطو.
لم يحصر أرسطو أقسام الدولة حصرا تاما؛ لأنه رأى أن أشكال الحكومة تختلف باختلاف البيئة والزمان، ولكنه قسمها أقساما على سبيل المثال لا الحصر، فقال إن هناك ستة نماذج للحكومة، منها ثلاثة جيدة وثلاثة رديئة، ورداءة الرديئة أتت من أن فيها نوع إفساد للجيدة، وهذه الستة هي: (1)
حكومة الفرد، وهي حكم فرد لأمة بحكم أنه متفوق عليها في عقله وحكمته؛ فهو لذلك يحكمها طبيعيا فإذا فسد هذا نشأت: (2)
حكومة الاستبداد، وهي أن يحكم الفرد لكن لا لكفايته وحكمته بل لقوته. (3)
والحكومة الأرستقراطية، وهي أن تحكم الأمة الأقلية العاقلة أو الأقلية الممتازة بكفايتها فإذا فسد هذا نشأت: (4)
الحكومة الأوليجاركية، وهي أن تحكم الأقلية الغنية أو الأقلية القوية. (5)
الحكومة الجمهورية، وهي أن يكون أفراد الأمة متساويين في الكفاية ليس فيها فرد أو طبقة ممتازة، فيشترك الأفراد كلهم أو أغلبهم في الحكم، فإذا فسدت نشأت عنها: (6)
الحكومة الديمقراطية، وهي وإن كان الحكم فيها في يد الأغلبية، فأهم مميزاتها أن الحكم فيها في يد الفقراء.
لم يعين أرسطو - كما عين أفلاطون - المثل الأعلى للدولة، فأرسطو يقول ليس هناك شكل خاص هو في نفسه خير الأشكال، فكل شكل يعتمد على ما يحيط به من ظروف، فقد يكون شكل حسنا لأمة في عصر على حين أنه سيئ في عصر آخر وأمة أخرى؛ ولذلك لم يعن برسم المثل الأعلى للدولة، أو كما نقول: «المدينة الفاضلة»، ولكن من هذه الحكومات الثلاث الجيدة فضل أرسطو حكومة الفرد، فحكم الفرد الحكيم العادل خير أنواع الحكم عنده، ولكنه عد ذلك متعذرا أو على الأقل متعسرا، فقل أن يوجد هذا الإنسان الكامل، ونرى هذا النوع موجودا بين الأمم المبتدية في طورها الأول؛ فنرى في الجماعة فردا يفوق الباقين في أخلاقه وصفاته فيحكمهم، ويلي هذا النوع من الحكومة الأرستقراطية ودونها في نظر أرسطو الحكومة الجمهورية ويقول: إنها كانت أنسب أنواع الحكومات للمدن اليونانية في بعض ظروفها ودرجة رقيها. (6) رأيه في الزواج ونظام التربية
يرى أرسطو أن المرأة بالنسبة للرجل كالعبد لسيده، أو كنسبة العامل باليد للمفكر، أو البربري للإغريقي، فهي عبارة عن رجل ناقص التكوين لم يتم خلقه، والذكر بحكم الطبيعة أسمى مرتبة من الأنثى، فهو بالضرورة قوام عليها، له أن يحكم وعليها أن تطيع؛ ذلك لأنها ضعيفة الإرادة، ولذا فهي عاجزة عن أن تستقل في خلقها دون أن تعتمد على مرشد يهديها سواء السبيل، وتكون المرأة في خير حالاتها إذا ما قبعت في عقر دارها حيث الحياة هادئة ساكنة، تاركة للرجل معترك الحياة الخارجية، ولقد خطأ أفلاطون حين سوى بين الرجل والمرأة في مدينته الفاضلة.
وينصح أرسطو للشاب بتأجيل زواجه حتى يبلغ سن السابعة والثلاثين، وعندئذ يتزوج من فتاة لا تتجاوز العشرين؛ لكي يفقد الزوجان قوة التناسل وحدة العواطف في أسنان متقاربة: «فلو بقي الرجل قادرا على الإنسال بينا تكون المرأة عاجزة عن الحمل، أو العكس، لنشأ بين الزوجين عراك وخلاف ... ولما كانت مقدرة الرجل تمتد إلى سن السبعين، وتقف مقدرة المرأة عند سن الخمسين، وجب أن يكون بدء اتصالهما ملائما لهذه النهايات، واتصال الذكر بالأنثى وهما لا يزالان صغيرين خطر على ما ينتجان من أطفال، ويلاحظ في كل أنواع الحيوان أن نسل الصغير يكون ضئيلا ناقص التكوين، وغالبا يكون إناثا.» [السياسة]
ويحسن بناء على ذلك ألا يترك أمر الزواج لأهواء الشبان تلعب به كيف شاءت لهم عواطفهم، بل يجب أن يوضع تحت إشراف الدولة لكي تحدد سن الزواج لكل من الجنسين ولتضمن سلامة النسل من جهة، وتضبط عدد السكان من جهة أخرى، فلو ازداد السكان زيادة كبيرة، فسيضطر الآباء إما إلى قتل الأبناء بعد ولادتهم، أو إلى إجهاض الأجنة قبل وضعها: «وإن كان لا بد من الإجهاض فليكن قبل أن تدب في الجنين الحياة والحس.» [السياسة]
ويجب أن يكون عدد سكان الدولة ملائما لثروتها وشتى ظروفها: «فإن قل السكان قلة كبيرة لم تستطع الدولة أن تكفي نفسها بنفسها، وإن كثر السكان كثرة عظيمة ... تنقلب الدولة إلى أمة، وكثيرا ما تكون عاجزة عن اتخاذ حكومة دستورية.» [السياسة]
أما التربية فيجب أن يوضع زمامها في يد الدول لكي تشكلها حسب ما يقتضيه نوع الحكومة القائمة، فينشأ الطلاب على طاعة القانون وإلا استحال قيام الدولة، ومن لم يدرب على الطاعة لم يستطع أن يكون بعد قائدا له الأمر، هذا وستعمل الدولة لتنشئة الأفراد على حب الجماعة، وعلى أن خير حرية هي ما قيدها القانون: «فالإنسان إذا ما كمل صار أرقى أنواع الحيوان، وهو شرها إذا انفرد عن الجماعة وانعزل.» ولقد نشأت الجماعة وتطورت لما للإنسان من مقدرة على التخاطب والتفاهم، ثم كانت الجماعة عاملا شاحذا للذكاء، ثم كان الذكاء سببا للنظام، ثم كان النظام أساسا للمدنية، ففي الدولة المنظمة يستطيع الفرد أن يسلك ألف طريق إذا أراد سموا وارتفاعا، أما إذا انسلخ عن الجماعة وعاش منعزلا فلا سبيل إلى الرقي: «وإذا عشت منفردا فإما أن تكون حيوانا أو إلها.» [السياسة]
وهنا يضيف نيتشه، الذي أخذ فلسفته السياسية عن أرسطو هذه العبارة: «وإما أن تكونهما معا، أي أن تكون فيلسوفا.» وهو يرى أن تشرف الدولة على التربية وأن تتدرج بها تبعا لتطور الإنسان، فتبدأ بالتربية البدنية، ثم بتربية النفس غير العاقلة وهذه هي التربية الخلقية، ثم بتربية النفس العاقلة وهي التربية الفكرية. (7) رأي أرسطو في الفن
يمتاز أرسطو عن أفلاطون بأن آراءه في الفن أنظم وأكثر التئاما، وتنحصر أفكاره في الفن في موضوعين: (1)
آراؤه في الطبيعة وأهمية الفن على العموم. (2)
آراؤه التفصيلية في تطبيق نظرياته في الفن على الشعر.
يتميز الفن عن الأخلاق بأن الأخلاق تتعلق بالأعمال وما تصدر عنه الأعمال من باعث وغرض وشعور ونحو ذلك، أما الفن فلا يهتم إلا بما ينتجه الفنان، كذلك يتميز الفن عن عمل الطبيعة بأن الطبيعة تنتج أمثالها، فالنبات يخرج نباتا، والحيوان ينتج حيوانا مثله، أما الفنان فقد ينتج شيئا آخر يخالفه فينتج شعرا، وينتج صورة، وينتج تمثالا.
للفن نوعان: فهو إما أن يكمل الطبيعة وإما أن يخلق جديدا، فمن النوع الأول مثلا فن التطبيب، فإذا قصرت الطبيعة في منح الصحة للبدن جاء الطبيب يساعد الطبيعة بفنه ويكمل ما بدأت به، ومن النوع الثاني ما نسميه اليوم بالفنون الجميلة، من تصوير وموسيقى وشعر، هذا النوع الثاني وإن سماه أرسطو مقلدا للطبيعة فهو - في نظره - لا يقلد الأفراد والجزئيات بل يقلد الشيء الكلي في فرد، ومعنى هذا أنه إذا صور إنسانا فهو لا يصور فردا يراه وإنما يصور فيه المثل الأعلى للإنسان أو الفرد الكامل منه، فهو يلقي على الصورة نفحة مما يتصوره من الكمال، فالإنسان العادي ينظر إلى الفرد من الناس كأنه فرد، أما الفنان فيرى الإنسانية في الفرد، فيلقي على الصورة شيئا من هذا النظر العالي، وتكون وظيفته أن يعرض ما يتصوره من الإنسانية فيما يصور.
ومن ثم كان الشعر أقرب إلى الحق، وإن شئت فقل إلى الفلسفة من التاريخ؛ لأن التاريخ يبحث في الجزئيات من حيث هي جزئيات ويخبرنا بما كان، ويوصل إلينا معرفة ما حدث وانقضى، ويهتم بتكرار حوادث لا معنى لها، أما الفن - ومنه الشعر - فيتعلق بروح هذه الحوادث الذي لا يفنى، وبالحقيقة التي ليس ما يعرض من الحوادث إلا مظهرا لها - فإذا نحن رتبنا الفلسفة والتاريخ والفن حسب أهميتها: كانت الفلسفة في المرتبة الأولى لأنها تبحث في الشيء الكلي من حيث هو كلي، ثم يليها الفن لأن غرضه هو الشيء الكلي متحققا في جزئي، ثم التاريخ لأنه يبحث في جزئي من حيث هو جزئي - وإذ كان لكل شيء وظيفة لا يصح أن يعدوها وجب على الفن ألا ينافس الفلسفة، فيجب أن لا يتعرض للكلي المجرد، ولا يصح للشاعر أن يصوغ شعره من الأفكار المجردة، إنما يصوغه من الجزئيات ويفيض عليها من الكليات، ومن ثم نقد إمبذقليس؛ لأنه عبر عن فلسفته بالشعر، وبعبارة أخرى فنن فلسفته وهذا ما لا يجوز.
بحث أرسطو في الشعر واهتم بالشعر التمثيلي، وقسم هذا الشعر التمثيلي إلى قسمين: المأساة
Tragedy
والمهزلة
Comedy ، ويقول إن المأساة تصور أنبل نماذج الناس، والمهزلة تصور أحطها، ومعنى هذا عنده أن بطل المأساة يجب أن يكون ذا شخصية كبيرة، وأن يظهر بمظهر لائق محترم، أما الوضيع والحقير فلا يصلح أن يكون بطلها، وعلى العكس من ذلك بطل المهزلة، فيجب أن يتمثل مخلوقا حقيرا تافها سخيفا حتى يستثير منا الضحك، كذلك المأساة تستثير الرحمة والشفقة، فتستخرج منا أنبل العواطف، أما ما يحملنا على الضحك والهزء فليس يحرك منا جانب العواطف الشريفة. (8) نظرة في فلسفة أرسطو
لن يطول بنا موقف النقد لأرسطو كما حدث عند أفلاطون وذلك لسببين؛ الأول: أنه كان أقل تعرضا للخطأ منه، والثاني: أن أهم ما يؤخذ على فلسفته ردها الكون إلى عنصرين أوليين، شأنه في هذه الثنائية شأن أستاذه، ولما كنا قد نقدنا هذه الناحية في أفلاطون فحسبنا الآن إشارة سريعة عجلى، فليست فلسفة أرسطو في أساسها إلا الفلسفة الأفلاطونية أزيل منها كثير مما كان يشوبها من مواضع الضعف ومواطن الزلل.
لقد كان أفلاطون بحق واضعلسفة المثالية (
Idealism )، ولكنه لم يستطع أن يهذبها حتى تصح وتستقيم، فتركها لخلفه إرثا مثقلا بالأخطاء، انظر إلى الروح كيف رآها شيئا يقحم في البدن إقحاما ثم ينتزع منه آخر الأمر انتزاعا، كأنما هي مادة تدفع في مادة دفعا آليا، فذلك منه رأي لم ينضجه طول البحث، ثم انظر فوق ذلك إلى خلطه العجيب بين الحقيقة المجردة وبين الوجود الواقع، وكيف ذهب إلى أن للفكرة الكلية التي يصل إليها الذهن وجودا فعليا في الخارج، فبذلك نزل بالكلي إلى مرتبة الجزئي، تلك بعض الأخطاء التي شوه بها أفلاطون فلسفته المثالية؛ فكان حتما على أرسطو أن يخلص نظرية المثل مما علق بها من شوائب، وأن يجلوها ويزيل ما غشاها به صاحبها من غبار.
أقام أرسطو فلسفته على أساس من أفلاطون، فقد اتفق معه بادئ الأمر على أن الحقيقة النهائية التي صدر عنها الوجود بأسره هي الفكر، أو بلفظ آخر الكلي، أو بكلمة ثالثة المثال، أو بعبارة رابعة الصورة أو ما شئت فسمه. اتفق معه على هذا الأساس ولكنه اختلف معه فيما أقامه عليه من بناء، فقد ذهب أفلاطون إلى أن الصورة العقلية الكلية التي يرسمها الإنسان في ذهنه للأشياء إنما هي صورة لها مقابل موجود فعلا في عالم خاص هو عالم المثل؛ ولذا كان - في رأيه - يسيرا على الروح الهائمة أن تشهد تلك المثل، فنقد أرسطو هذا الرأي من أستاذه؛ لأنه رأى في ذلك نزولا بالفكر إلى منزلة الأشياء الجزئية المحسوسة، فما ينبغي أن يكون للصورة الذهنية مقابل في الخارج كما هي الحال في الصور التي تنقلها إلينا الحواس، وهذب أرسطو من هذا الرأي فقال إنه على الرغم من أن الإدراك الكلي هو الحقيقة، إلا أنه ليس له وجود مستقل في عالم خاص به، بل إن وجوده محصور في هذا العالم الذي نعيش فيه، وليست الإدراكات الكلية إلا صور الأشياء الجزئية، وبهذا تفوق أرسطو على سلفه تفوقا بعيدا، وخطا بالفلسفة مرحلة فسيحة حتى بلغ بها أبعد حد عرفه الفكر اليوناني.
ولم يكن فضل أرسطو على الفلسفة مقصورا على ما ذكرنا من تهذيب المذهب المثالي، ولكنه أنتج فوق ذلك فلسفة للتطور لم يشهد التاريخ لها ضريبا حتى اليوم، إذا استثنينا «هيجل»، بل إن هيجل حين أخرج للعالم مذهبه في التطور إنما كان يتأثر أرسطو في خطاه ، ولعل هذا الجانب من فلسفته أقوم ما أضاف إلى ثروة الفكر، على الرغم من أنه قد استعار أساس البحث من أسلافه، فما نحسبك قد أنسيت مشكلة الصيرورة أو التحول، وكيف كانت للفكر اليوناني محاولات في هذا منذ أقدم العصور؛ فذلك هرقليطس ومن جاء بعده من فلاسفة بذلوا جهدا كبيرا لعلهم يدركون كيف أمكن لهذا التحول الطارئ على الأشياء أن يكون، فباءوا آخر الأمر بالإفلاس، على أن هذا الذي قد فشلوا فيه لم يكن من المشكلة إلا أتفه جوانبها، وإنما الأمر كل الأمر هو معنى التحول، والغاية التي تقصد إليها هذه الصيرورة الدائمة الدائبة بين الأشياء، فليس ما نرى في العالم من تحول وتغير ضربا من العبث لا يقصد إلى غاية معلومة كما ذهب أولئك الفلاسفة القدامى، ولكنه ارتقاء بالأشياء من الأسفل إلى الأعلى، فيستحيل أن تكون هذه الأحداث المتعاقبة في الكون كما زعم القدماء «قصة يرويها مأفون، تدوي بالصوت وتضطرب بالحركة ولا تدل على شيء» بل لا بد أن يكون أمامها غاية؛ لهذا لم يقنع أرسطو بالبحث في إمكان الصيرورة فحسب، بل أخذ يقيم البرهان على أن لهذا التحول الدائب قصدا ومعنى، فليس يخبط في سيره خبط عشواء إنما يسير نحو غاية معلومة يعرف السبيل إليها، أما الغاية فلا شك في أنها عقلية، وأما سبيلها فهو ارتقاء عقلي منظم ينتقل بالعالم مرحلة بعد مرحلة.
تلك كانت فلسفة أرسطو، وهي على الرغم من أنها أبلغ ما وصلت إليه الحقيقة في التعبير عن نفسها في العصور القديمة، إلا أنها لا تخلو من الخطأ والنقص، وأي فلسفة تخلو منهما؟ وها نحن أولاء نعمد إلى مقياسنا ذي الحدين، الذي ذكرناه من قبل لنخبر به فلسفته، ونرى هل وصلت بالفكر إلى حد يجوز الركون إليه، وذلك المقياس هو أن نطرح هذين السؤالين: هل يمكن لمبدئه أن يفسر العالم؟ وهل يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه؟ (1)
لعل ما أدى بفلسفة أفلاطون إلى الفشل في تفسير الكون هو تلك التثنية التي ذهب إليها، بأن شطر الوجود إلى حس وفكر، أو بعبارة أخرى إلى مادة ومثل، فتعذر عليه بعد ذلك أن يشتق هذا العالم من تلك المثل؛ إذ زعم أنها مستقلة عن العالم تمام الاستقلال، فأوجد بذلك هوة سحيقة بين شطري الوجود استحال عليه رتقها كما ذكرنا، فجاء أرسطو ولمس هذا النقص في فلسفة أستاذه، فحاول أن يتداركه بالإصلاح، وذلك بأن يمحو تلك الاثنينية من فلسفته محوا، فبدأ بإنكاره أن يكون الكلي والجزئي منفصلين، وأن يكونا في عالمين متباعدين، فلا يمكن أن يكون المثال شيئا هنا، وأن تكون المادة شيئا غيره هناك، بحيث يحتاجان إلى قوة خارجية تدفعهما فتقرب بينهما وتدمجهما في وحدة هي هذا العالم الذي نرى، إنما الكلي والجزئي أي الصورة والمادة كل لا يتجزأ، هكذا عدل أرسطو من رأي أفلاطون، فهل تراه وفق في إزالة الاثنينية ومحوها كما أراد؟ لا نحسبه كذلك، فلا يكفي أن تجمع المادة إلى صورة بأية وسيلة من الوسائل ثم تزعم أنهما قد أصبحتا وحدة متصلة لا سبيل إلى انفصالها مع اعترافك بأنهما حقيقتان نهائيتان مستقلة إحداهما عن الأخرى؛ لأنه إن كان مبدأ العالم المطلق هو الصورة لزم أن تكون المادة صادرة عن تلك الصورة، وأن يقوم الدليل على أن المادة ليست إلا مظهرا لها. إنه لا يكفي أن تدلل على أن الصورة تخلع على المادة شكلها وكفى، بل يجب أن تكون الصورة منشئة المادة وخالقتها، وأن يكون كل شيء في الوجود قد صدر منها وفاض عنها ما دامت هي وحدها الحقيقة الأولى كما فرضنا، ولكن ها نحن أولاء نرى بين أيدينا عنصرين: صورة ومادة، فإما أن تكون المادة نشأت من الصورة أو لا تكون، فإن لم تكن تحتم ألا تكون الصورة وحدها هي الحقيقة النهائية للكون، بل تقف المادة معها كتفا إلى كتف عنصرا نهائيا أصليا، وبذلك يكون في العالم كائنان كلاهما لا ينشأ عن أخيه، ولكنهما موجودان معا منذ الأزل، وما هذا من أرسطو إلا إقرار بالاثنينية لا ريب فيه، فهل عالج فلسفة أفلاطون كما أراد؟ كلا، إنه لم يستطع ، ووقع فيما أراد أن ينجو منه، وإذن فقد بقيت مشكلة الوجود قائمة تنتظر الحل إذ لم يفسرها أرسطو. (2)
هل يفسر مبدأ الصورة نفسه؟ الجواب هنا أيضا بالنفي؛ لأنه لا يفسر نفسه إلا إذا نهض الدليل القاطع على أنه مبدأ تمليه البداهة ويحتمه العقل، أو بعبارة أخرى يلزم وجوده بالضرورة، ولكنه ليس كذلك، فهو بيان للأمر الواقع لا أكثر ولا أقل، فلا ندري لماذا يجب أن يكون الواقع هكذا، وألا يكون شيئا غير هذا. إنه كان ينبغي لأرسطو إذا أراد أن يفسر هذا بتعليل معقول أن يبرهن على أن كل ما في العالم من صور وحدة مرتبطة منظمة، وأن بعضها ينشأ من بعض كما سبق لنا القول في نقد أفلاطون. إنه كان ينبغي أن يشتق المثل مثالا من مثال حتى يردها جميعا إلى مثال أعلى يلزم وجوده بالضرورة ولا يحتاج إلى تعليل، يقول أرسطو إن التغذي هو صورة النبات والإحسان صورة الحيوان، وإن التغذي يمر في تطوره إلى الإحساس، وهو يقف عند حد هذا البيان لما هو واقع حادث فلا يعدوه إلى التعليل، لماذا يجب أن يتطور التغذي إلى إحساس؟ ولم كان هذا التطور ضرورة منطقية ليس إلى وقوعها من محيص؟ فهو قد وصف التطور ثم تركه بغير تعليل.
إن أرسطو يزعم لنا أن العالم يسير نحو غاية مقصودة، هي تحقيق العقل لوجوده، وأن هذه الغاية قد تحققت على وجه التقريب في الإنسان لأنه كائن عاقل، وهذا قول معقول لا غبار عليه، ولكن أليس معناه أن كل خطوة في التطور - أعني في سير العالم - يجب أن تكون أعلى من التي قبلها لأنها تكون أدنى إلى الغاية التي يتجه العالم نحوها في سيره؟ ولما كانت تلك الغاية هي تحقيق العقل لنفسه كان معنى قولنا أن كل خطوة أعلى من التي قبلها أنها أكثر منها عقلا، ولكن كيف يكون الإحساس أكثر عقلا من التغذي؟ ولماذا لا يكون العكس صحيحا؟ هو يقول إن التغذي يتطور إلى إحساس، فلماذا لا يجب أن يتطور الإحساس إلى تغذ؟ ما الذي يمنع أن ينعكس الوضع؟ إن كل فلسفة للتطور مقضي عليها بالفشل إذا لم توضح لماذا تكون الصورة العليا عليا والسفلى سفلى، فمثلا لماذا يجيء التغذي أولا باعتباره أسفل ثم يتلوه الإحساس ولا يكون العكس؟ إن كنا لا ندري سببا لاستحالة وقوع العكس فقد أفلست فلسفتنا في التطور في أهم أغراضها؛ إذ معناه أننا لا ندري فارقا حقيقيا يميز بين الأسفل والأعلى، وعلى ذلك يكون الانتقال في نظرنا مجرد تغير وتحول من حالة إلى حالة، ولا يلزم أن يصحبه علو وارتقاء ما دام لا فرق بين أن تتحول «أ» إلى «ب» أو «ب» إلى «أ»، فقد كان ينبغي إذن لأرسطو أن يقيم الدليل على أن الإحساس أرقى للعقل من حالة التغذي بأن يبين أن الإحساس نتيجة منطقية للتغذي؛ ذلك لأن الترقي المنطقي هو الترقي العقلي بعينه، وقل مثل هذا في سائر الصور جميعا.
إذن فلم يوفق أرسطو حين فرض الصورة أصلا للكون في أن يبرهن على أنها ضرورة، وعلى أن الصور الجزئية مشتقة بعضها من بعض، فلا هي فسرت نفسها، ولا هي قدمت للكون تعليلا مقبولا، ولكن إن عجزت فلسفة أرسطو عن أن تقطع في هذا الموضوع بقول فصل فقد سارت في سبيل ذلك شوطا بعيدا. (9) مقارنة بين أفلاطون وأرسطو
يقول بعضهم: «إنك إذا تحولت من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة أرسطو كنت كمن هبط من ذروة جبل إلى أرض ذات مزارع وبساتين، تعهدت زرعها وأشجارها يد ماهرة، وأحيطت بسياج حصين.»
يعنون بذلك أن أفلاطون يحلق في السماء، أما أرسطو فيبحث في الأرض ويلمس الواقع، ويقسم القضايا التي تتعلق بكل علم تقسيما دقيقا. كان أرسطو تلميذا لأفلاطون - كما ذكرنا - ولكن فلسفته تختلف اختلافا كبيرا عن فلسفة أفلاطون. لم يكن أرسطو شاعرا خياليا كأفلاطون، إنما كان يحب الحقائق الواقعية ويميل إلى تنظيمها ووضع أسماء لها. لم يكن يهتم كثيرا بالنظريات الرياضية كما كانت تهتم مدرسة أفلاطون، إنما همه في حقائق البيولوجيا (علم الحياة) وأشباهها، يرى أن طريق المعرفة يجب أن يبدأ بالحقائق الواضحة ثم يتدرج منه إلى ما فوقه.
كان أفلاطون يرى أن الحقيقة مركزها في النظام الروحاني، السماوي (في عالم المثل)، وليس عالم الحس المادي إلا مظهرا له، أما أرسطو فيرى الحقيقة في عالمنا الذي بين أيدينا؛ ذلك كان غرضه أن يفهم ما حوله، وهما نظران يكادان يكونان متناقضين، فالأول يرى أن عالمنا لا يفهم إلا بالعالم الآخر الروحاني الإلهي، أما الثاني فيرى أن عالمنا يفهم من ذاته وبإعمال عقلنا فيه نفسه. وقد انتقد أرسطو نظرية أفلاطون في المثل، وقال إنها لا تعين على فهم هذا الوجود، وإنها ليست إلا تطورات خيالية؛ لذلك كانت طريقة شرح أفلاطون لهذا العالم ولنظريات الأخلاق والفن طريقة شعرية، أما أرسطو فطريقته إعمال عقلنا فيما بين أيدينا، والاستعانة على ذلك بالمنطق، ونظراته في الأخلاق تشعر بأنه ينظر إلى الإنسان كإنسان لا كمخلوق إلهي، ونظرته السياسية تدور على نظرته للجماعة كما يراها في هذا العالم الأرضي، لا على مثال كمالي وراء عالمنا نتطلع لاحتذائه. لا يثق أفلاطون بالحواس ولا يرى أنها توصل إلى علم، أما أرسطو - وإن رأى فيها نقصا - فهو يرى أنها تصح أن تكون آلات تستخدم لمعرفة بعض الحقائق الأولية، وهكذا ترى الفرق بين عقلية الفيلسوفين كبيرا، ويجمعها ما قلنا من أن أحدهما يحلق في السماء يبحث عن الحق، والآخر يلمس الأرض يبحث عن الحق، وقد قال أحد الكتاب الألمان: «إن كل مولود يولد إما أفلاطونيا أو أرسططاليسيا.» يعني بذلك أن الناس إما أن يميلوا إلى الخيال وإما إلى الواقع، إما إلى ما وراء المادة وإما إلى الحقائق العلمية، إما إلى الشعر وإما إلى المنطق الجاف، فالذين مزاجهم العقلي من النوع الأول أفلاطونيون، والآخرون أرسططاليسيون، وقد نقد بعض المحدثين هذا النظر إلى أرسطو وقالوا - بحق - إن أرسطو في فلسفته لم يخل من نفحة شعرية، ولم يكن واقعيا صرفا، فكتابته في بعض الموضوعات كالهيئة وما يتعلق بالأفلاك مصبوغة بصبغة أفلاطون الشعرية، لا بما يغلب عليه من نظرة تجريبية واقعية. (10) المذاهب الفلسفية بعد أرسطو
تاريخ الفلسفة اليونانية بعد أرسطو تاريخ قصير؛ لأنه لم يكن تاريخ إنشاء وبناء، بل تاريخ انحطاط سريع، ويرجع السبب في تدهور الفلسفة اليونانية بعد أرسطو إلى عوامل سياسية واجتماعية، ذلك بأن الفلسفة ليست مستقلة تنمو وتنحط حسب كفاية الشخص الباحث وحدها، إنما تسير جنبا لجنب مع الحالة السياسية والاجتماعية والدينية والفنية للأمة، فالنظام السياسي والفن والدين والعلم والفلسفة كلها أشكال مختلفة تعبر بها الأمة عن حياتها ودرجة رقيها، ففلسفة الأمة تدل على تاريخها.
وبلاد اليونان من عهد الإسكندر خضعت لسلطان مقدونيا، وطغت قوة المقدونيين على مدنية اليونان وسلبتها حريتها واستقلالها، فأصيبت بالهرم، ولم يمض زمن طويل حتى اكتسحها الرومان وصيروها ولاية من مملكتهم الواسعة.
كان من جراء ذلك أن الفلسفة اليونانية أصيبت بالهرم كذلك، فالروح العلمي الخالص، والبحث للبحث، والاهتمام بالحقيقة للحقيقة لم نره بعد أرسطو، وأصبح الباعث على البحث في الفلسفة ليس حب الاستطلاع، ولا الشوق إلى تعرف الحقيقة، إنما كان الباعث على الفلسفة بجث الفرد وراء ما يخلص من شرور الحياة وويلاتها، وبذلك أصبحت الفلسفة شخصية بعد أن كانت عالمية، وصارت كل الأبحاث تدور حول الشخص وخيره ومصيره وسعادته، ومن أجل هذا كانت كل الأبحاث الفلسفية أخلاقية، وإن بحث شيء بعدها فإنما يبحث خدمة لها، وكاد ينقطع ما كنا نشاهد في العصور الأولى لليونان من بحث في العالم وشئونه وقضاياه، وتصوروا الإنسان هو المحور والعالم يدور عليه بعد أن كان الأولون يتصورون الإنسان نقطة من محيط العالم، وصار البحث فيما وراء المادة والبحث في الطبيعة والمنطق والفن إنما هو لخدمة البحث الأخلاقي، واختل التوازن الذي كان موجودا في الأبحاث الفلسفية في الموضوعات المختلفة.
كذلك كان من نتائج هذا التدهور عدم الابتكار إلا قليلا، ولم يكن ممن جاء بعد أرسطو إلا إحياء لبعض النظريات القديمة وتوسيعها والدوران حولها، ولكن لا جديد.
على كل حال كان أهم الفرق بعد أرسطو الرواقيون والأبيقوريون.
الفصل الثاني عشر
الرواقيون
The Stoics (1) حياة زينو
1
ولد زينو القبرصي مؤسس المدرسة الرواقية نحو سنة 342ق.م في مدينة سيتيوم
Citium
من أعمال قبرص، وقد كانت مدينة يونانية تغلب على أهلها النزعة الدينية التي يتميز بها الجنس السامي، وقد كان ينتمي إلى هذا الجنس عدد كبير من سكان تلك الجزيرة، وكان أبوه بل أسرته جميعا تشتغل بالتجارة، فبدأ زينو في طليعة شبابه يمارس تلك المهنة، ثم نزلت به كارثة مالية فادحة أصابته بجنوح مركب فيها ماله فاصطدمت بصخرة حطمتها، وبذلك فقد زينو كل ثروته، فذهب إلى أثينا حيث تتلمذ لكراتس
Crates
الكلبي، وستلبو
Stilpo
الميغاري، وبوليمو
الأكاديمي، فاجتمعت لديه فروع شتى من المذاهب الفلسفية؛ إذ درس فلسفة الكلبيين وطرائق حياتهم العملية، كما درس الفلسفة الميغارية، هذا فضلا عما تأثر به من تعاليم سقراط التي درسها مما كتب أكزنوفون وأفلاطون، فتناول تلك الآراء جميعا، وطبعها بطابع ذهنه، وأخرجها للناس فلسفة جديدة، فأنشأ حوالي سنة 300ق.م مدرسة في رواق مزخرف نسب إليه المذهب وأصحابه، ولئن كان التاريخ لا يعي من أخريات أيامه إلا قليلا فإنه لا يسعه أن يخفي تلك الشخصية الممتازة البارزة التي صادفت من قلوب معاصريها كل إجلال وإكبار، لما تحلت به من خلق نبيل، ولما اتصفت به حياته من بساطة واعتدال استطاع بفضلهما أن يعمر أعواما طوالا دون أن تصيبه علة أو مرض، ثم شاء أن يختم حياته بيده، فانتزع نفسه من صدره اختيارا في سنة 264ق.م (أو 260).
زينو الرواقي. (2) أعلام المذهب الرواقي
وجدير بنا أن نلم إلمامة خفيفة بأعلام الرواقيين الذين خلفوا زينوا، فقد تزعم المدرسة الرواقية من بعده كلنثيس
Cleanthes
وأخذ يديرها بين سنتي 264 و232، وقد كتب فيما كتب نشيدا دينيا رائعا كان من أثره أن اكتسب المذهب الرواقي تلك النزعة الدينية القوية التي عرفت عنه، ثم خلفه كريسبس
Chrysippus
وقد تولى رئاسة المدرسة بين سنتي 232 و204ق.م، وهو الذي أكمل جوانب النقص في مذهب الرواقيين، حتى انتهى بفضله إلى ما هو عليه من تمام، فضلا عما بذل من جهد في رده على ما وجهه إليه الشكاك ورجال الأكاديمية من سهام النقد، وهكذا لبث المذهب الرواقي في أثينا ينتقل من زعيم إلى زعيم حتى كانت سنة 150ق.م، أو ما بقرب منها: فانتقل إلى روما، حيث خيم برواقه إلى سنة 200 بعد الميلاد، وأبرز أعلام هذا المذهب من الرومانيين هم: سينيكا، وأبكتيتس، والإمبراطور ماركس أورليوس، وشيشرون، فقد نفخوا فيه من روحهم بما أنتجت أقلامهم. (3) أساس المذهب الرواقي
لم يحفظ لنا التاريخ مما كتب الفلاسفة الرواقيون في ثلاثة القرون الأولى من حياة مدرستهم إلا أجزاء قليلة متناثرة، وذلك على كثرة ما سطرت أقلامهم كثرة خصبة وافرة، حتى قيل عن أحدهم - كريسبس - أنه ألف وحده نحو سبعمائة كتاب؛ ولذا كان من المتعذر أن نرد أجزاء المذهب إلى أربابها من أعلام الرواقيين، فليس لدينا ما نستطيع أن نعتمد عليه في التمييز بين آراء زينو نفسه وما أضافه أتباعه، وبخاصة كريسبس، فكان لزاما علينا أن ننظر إلى المذهب كله كوحدة دون أن نعمد إلى تتبع مراحل نموه وتطوره، فلنأخذه كما خلفه كريسبس.
سنكا.
ماركس أورليوس.
جاءت الفلسفة الرواقية مناقضة لفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أقام هؤلاء فلسفتهم على أساس البحث النظري قبل كل شيء، أما الرواقيون فلم يأبهوا بالآراء النظرية ولم يعيروها من عنايتهم ودرسهم إلا بمقدار ما تكون سبيلا إلى الجانب العملي من الحياة، فليست الفلسفة عندهم أن يتقصى الإنسان بنظره الأرض والسماء ثم يقف عند هذا الحد لا يعدوه، إنما هي - كما عرفوها - فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية.
أراد زينو إذن أن يحيا حياة فاضلة تقوم على أساس من الخلق القويم، ولكن من له بهذا الأساس؟ وأين يجده؟ إنه يريد عمادا ثابتا وطيدا لا تتزعزع قوائمه مع اختلاف الزمان والمكان، فالتمس بادئ ذي بدء كراتس الكلبي عسى أن يصادف عنده أساسه المنشود، ورافقه زمنا طويلا، حتى أخطأ فريق من أتباع زينو فاعتبروا أنفسهم ورثة للفلسفة الكلبية التي تفرعت عن فلسفة سقراط، وكانوا يتخذون سقراط وديوجنيس وأنتسثنيس أمثلة عليا لما يجب أن يكون عليه الحكيم، وإذن فقد كان غرضهم الأسمى هو غرض المدرسة الكلبية بذاته: سعادة الإنسان واستقلاله بفضيلته، وكان تعريف الفلسفة عندهم هو تعريفها عند ذلك المذهب الكلبي: عمل الفضيلة، وقاسوا قيم الأبحاث النظرية بمقدار اشتراكها في بناء الحياة الأخلاقية، ولكن فات هذا الفريق أن مذهب زعيمهم زينو لم يكن هو بذاته مذهب المدرسة الكلبية ولا هو تهذيبه فحسب، بل إنه شيء آخر جديد خلقه زينو خلقا وأنشأه إنشاء، وإن يكن قد استقى عناصره من سابقيه.
لم يكن الرواقيون جميعا على اتفاق تام في فلسفتهم، فبينا تجد هيريلوس
Herrilus
يصرح بأن المعرفة وحدها هي الخير الأسمى وأنها غاية الحياة المثلى، ترى في الطرف الآخر «أرستون» يحتقر الثقافة والتعليم، ويسخر من كل ضروب المعرفة، فإن كانت تلك المعرفة متعلقة بماء وراء الطبيعة فهي محاولة فاشلة، فهيهات لهذا العقل البشري العاجز أن يصل إلى شيء مما وراء الطبيعة، وأما إن كانت المعرفة بحثا في الطبيعة المادية نفسها فهي عبث لا غناء فيه، وكأنما أراد أرستون بذلك أن يحصر الرواقية في حدود الفلسفة الكلبية فلا تعدوها، بأن ركز القيمة كلها في الأخلاق وحدها، وبين هيريلوس من ناحية وأرستون من ناحية أخرى كان زينو يرى أن المعرفة العلمية شرط أساس للحياة الأخلاقية؛ ولذا فقد قسم فلسفته إلى أبحاث ثلاثة: المنطق والطبيعة والأخلاق، على أن يكون الأولان وسيلتين تؤديان إلى الثالث وهو الغاية المنشودة.
أما المنطق فقد تأثر فيه خطو أرسطو، وإن يكن قد أضاف إليه، وأما الطبيعة فقد بناها على مزيج من نظرية هرقليطس وآراء أرسطو، وأما الأخلاق فقد خفف من غلواء المدرسة الكلبية فأدخل على صلابتهم شيئا من اللين، من تلك العناصر المتفرقة أقيمت الفلسفة الرواقية، فلا يجوز لأحد أن يزعم أنها استمرار للفلسفة الكلبية وحدها بحال من الأحوال. (4) المنطق
خير لنا أن نمر في بحثنا على الجزء من منطق الرواقيين الذي يتصل بالقواعد؛ لأنه في جوهره منطق أرسطو، وأن ننصرف بعنايتنا إلى نظريتهم التي أضافوها - وهي من ابتكارهم - على أصل المعرفة ومقياس الحقيقة.
أنكر الرواقيون ما ذهب إليه أفلاطون من أن في النفس مثلا جاءتها بالفطرة منذ الولادة، ولم تكتسب من العالم الخارجي، وزعموا أن نفس الطفل عند ولادته تكون صفحة بيضاء خالية من كل أثر وصورة، ثم لا تلبث أن تتوارد على حواسه آثار منبعثة من الأشياء الخارجية فتنطبع صورها في لوحة الذهن كما تنطبع صورة الختم على قطعة الشمع، وإذن فالعقل قابل للآثار الحسية منفعل بها، وقد يكون له أثر فعال ولكن على ألا تتجاوز تلك الفاعلية ما تقدمه له أعضاء الحس من مادة، فهو لا يخلق من عنده شيئا، إنما ينحصر تصرفه في هذه الدائرة الضيقة وحدها، يشكل فيها ويصور من أجزائها كيف شاء، وإذن فمعين المعرفة كلها هو العالم الخارجي، يرسل إلينا أسباب العلم فتسلك إلى أذهاننا سبلا خمسة، هي الحواس، وليس سوى ذلك علم ولا معرفة خلافا لما ارتآه أفلاطون «من أن العقل وحده مصدر المعرفة تنبع منه لأنها مطبوعة فيه وأما الحواس فهي لا تؤدي إلا إلى الوهم والزلل»، نعم أنكر الرواقيون ما أثبته أفلاطون من أن هذه المدركات الكلية - أو بعبارة أخرى أسماء الأجناس كإنسان وحصان وشجرة - صور لحقائق ميتافيزيقية موجودة فعلا خارج حدود أذهاننا، فتلك الإدراكات الكلية إن هي إلا أفكار في عقولنا نحن، انتزعناها مما صادفنا في الحياة من جزئيات، فجمعنا كل طائفة من الأشباه في جنس واحد، وأطلقنا عليها اسما مشتركا، فليس لهذا الاسم المشترك مدلول خارج نفوسنا.
وما دامت المعرفة كلها إنما صدرت عن الأشياء المحسة فالحقيقة هي المطابقة بين ما ينطبع في أذهاننا من آثار وبين الأشياء الخارجية نفسها، أو بعبارة أخرى هي تطابق بين صورة الشيء في أذهاننا وبين الشيء نفسه، ولكن كيف السبيل إلى معرفتنا أن هذه الأفكار التي تحملها رءوسنا نسخ صحيحة لأشيائها في الخارج، ما يدريك أن صورة الشجرة التي في ذهنك تنطبق على مسماها، ولم لا تكون هذه الأفكار من لعب الخيال وصنع الوهم؟ أثمت مقياس نقيس به الحقيقة فنميز بين الفكرة الصحيحة والفكرة الزائفة؟ يجيب الرواقيون أن نعم، ولكنه ليس في هذه الإدراكات الكلية لأنها صنيعة أذهاننا، فهي التي كونتها وركبتها مما أتت به الحواس، قد رأيت زيدا وعمرا وأحمد وخالدا فكونت لنفسك من هؤلاء صورة سميتها «إنسانا»، فلا يجوز لك بحال من الأحوال أن تتخذ هذا الذي كونته لنفسك بنفسك مقياسا تميز به الباطل من الصحيح، وإذن فلا حق إلا هذه الآثار الحسية نفسها؛ وعلى ذلك فمقياس الحقيقة لا بد أن يكون في دائرة الإحساس ولا يتعداها؛ مقياس الحقيقة هو الشعور لا الفكر.
ويرى الرواقيون أن الأشياء الحقيقية تبعث فينا شعورا قويا واضحا، أو اعتقادا بأنها حقيقة، وهذه القوة وهذا الوضوح في الصورة التي تنبعث في الذهن من شيء حقيقي كفيلان بتمييز الصور الذهنية الصحيحة التي تمثل حقائق خارجية من الصور التي نسجتها الأحلام وركبها الخيال، فالشيء الحقيقي إنما يفرض نفسه على نفوسنا فرضا، وليس لإنكاره من سبيل؛ إذ يقوم في النفس اعتقاد جازم بأن هذا الشيء المعين موجود فعلا في الخارج، فهو حقيقة مؤكدة، وهذا الاعتقاد هو وحده مقياس الحقيقة.
وإذن فقد عادت الفلسفة أدراجها كرة أخرى، واتسمت بالطابع الشخصي، وأصبح مقياس الحقيقة ليس قائما على العقل وهو عنصر عام، بل على الشعور وهو عقيدة شخصية محصورة في الفرد. (5) الطبيعة
وضع الرواقيون أساسا لفلسفتهم الطبيعية وهو: «أن ليس في الوجود غير المادة.» وهذا المبدأ يتفق ورأيهم في المعرفة الذي شرحناه، فإن كانت المعرفة لا تأتي من طريق الحواس فما لم يحس لا يعرف، وكل شيء موجود هو مادة، حتى الروح وحتى الله تعالى، وقد أداهم إلى هذا النظر اعتباران؛ الأول: أن وحدة الوجود تتطلبه، فالعالم واحد ولا بد أن يكون نشأ من مبدأ واحد، فالقول بأن هناك مادة ومثلا كما يقول أفلاطون ينشأ عن وجود فاصل بين الاثنين ليس عليه جسر يعبر عليه بينهما، فيجب أن نقتصر على المادة ونعمل فيها عقلنا، وثانيا - أن الجسم والنفس - والعالم والله متفاعلان، فمثلا الجسم يؤدي إلى أفكار في النفس، والنفس تبعث على حركات في الجسم، وهذه كانت تكون مستحيلة إذا لم يكن الجسم والنفس من عنصر واحد، فالمادي لا يمكنه أن يؤثر في غير المادي والعكس، فلا بد أن يكون هناك اتصال واتحاد في العنصر، وحينئذ يجب أن يكون الكل ماديا.
ثم بحثوا في أساس المادة الذي نشأ عنه هذا العالم، والذي هو أصل لكل التغيرات، فتبعوا في ذلك مذهب هرقليطس القائل بأن النار أساس كل شيء، وأن كل شيء مركب من نار، وقد مزجوا رأيهم المادي بالحلول فقالوا إن الله هو النار الأولى، ونسبة الله إلى العالم كنسبة روحنا إلينا، ونفس الإنسان نار كذلك، وجاءت من النار الإلهية وانبثت في الجسم كله، وكذلك الله منبث في العالم كله لأنه نفس العالم والعالم جسمه.
وعلى الرغم من أن الله منبث في كل شيء في الوجود كما تنبث روح الإنسان في كل أجزاء جسمه، إلا أنه كالروح البشرية أيضا - مع انبثاثها هذا تتخذ لها مستقرا من الجسم يكون مركزا رئيسيا لها، يمتاز عن بقية الأجزاء - كذلك هو مع انتشاره في كل دقائق الكون قد تخير لنفسه مكانا اتخذه مركزا رئيسيا ممتازا، وموقعه من الكون في المحيط الخارجي، وعلى رأي آخر في قلب العالم، ومن ثم تنبعث قواه في كل أنحاء الكون.
لم يكن بادئ الأمر في الوجود غير الله في هيئة النار كما أسلفنا، ثم تحرك الله، أو تحركت تلك النار الإلهية بتعبير أصح، وحولت جزءا منها إلى هواء، ثم جزءا من الهواء إلى ماء، ثم سوى جزءا من الماء أرضا، ومعنى ذلك أن هذا هو الهواء وهذا الماء وتلك الأرض إن هي إلا صور من الله حول نفسه إليها عمدا، وأبقى من نفسه جزءا إلهيا خالصا، لا يزال في أصله الناري، وهو الذي حدثناك عنه أنه مستقر في محيط الكون الخارجي أو في القلب، وهو الذي يبدو لنا كأنه وحده الله، منفصلا عن هذا العالم، يسيره ويدبره، والواقع أنهما جميعا شيء واحد على اختلاف في الكيف والدرجة.
ولكن العالم لن يلبث على صورته هذه إلى الأبد، بل إنه سيعود - إذا سار ما قدر له من شوط - فيتحول إلى نار عظيمة تصهر كل شيء إلى بخار ملتهب كما كان أول الأمر، وسيعود الله أو «زيوس»
Zeus
حسب تعبيرهم فيحتضن العالم في نفسه ولا يكون في الوجود إلا هو في صورة واحدة، ولن يلبث حتى يعود فيخرج مرة ثانية، وهكذا سيتعاقب على العالم حالان: الهدم والبناء إلى ما لا نهاية، ولما كان ذلك يحدث على أساس من النظام والقانون، وليس متروكا أمره فوضى، فإن العوالم المتعاقبة اللانهائية في عددها ستجيئ متشابهة أتم الشبه حتى في أدق التفصيلات، فيقع في كل عالم ما وقع في سالفه من أحداث ويظهر فيه ما ظهر في ذاك من أحياء وأشياء في دقة وضبط، لا يجد الشذوذ إليهما سبيلا، وفيم اختلاف المسبب إن كان السبب هو هو والقانون بذاته لا يتغير ولا يعتريه نقص ولا زيادة؟ ولئن كان العالم هكذا مسيرا بقانون مقدور فهو مجبر على السير في طريق معينة ليس لأي شيء عن السير فيها محيص، بما في ذلك الإنسان.
يتضح مما سبق أنه على الرغم من مادية الرواقيين فقد قالوا إن الله هو العقل المطلق، وهم بهذا القول لم يعدلوا عن ماديتهم لأنهم فسروه بأن النار الإلهية عنصر عاقل، وإذ كان الله عاقلا فالعالم مسير بالعقل والحكمة، ومن هذا ينتج: (1)
أن العالم سائر إلى غاية، يسير نحوها بنظام وجمال وثبات. (2)
وأن العالم خاضع لقوانين ثابتة، يسيره حتما قانون العلة والمعلول والسبب والمسبب؛ لهذا لم يكن الإنسان حرا؛ لأنه لا يمكن أن يكون حر الإرادة في عالم مجبر، قد نقول إننا نختار هذا أو ذاك، ولكن هذه العبارة ليست تدل إلا على أننا نرضى هذا أو ذاك، وما اخترناه أو ما رضيناه فنحن لا شك مضطرون إليه.
ونفس الإنسان جزء من النار الإلهية؛ ولهذا كانت نفسا عاقلة، ولكن ليست نفس كل فرد تأتي مباشرة من الله، وإنما النار الإلهية انبعثت منها نفس الإنسان الأول ثم تنقلت من الأصل إلى الفرع وهكذا على طريق التوالد، وبعد الموت تستمر كل نفس، أو الخيرة منها - مذهبان في ذلك عندهم - حية متصلة بالفرد إلى أن يحصل الاحتراق العام ، فتعود هي وكل شيء إلى الله. (6) الأخلاق عند الرواقيين
تعاليم الرواقيين الأخلاقية مؤسسة على مبدأين أشرنا إليهما في تعاليمهم الطبيعية: (1)
أن العالم محكوم بقانون شامل ثابت ليس فيه استثناء. (2)
أن طبيعة الإنسان الأساسية طبيعة عاقلة، فصاغوا آراءهم الأخلاقية في هذا المبدأ: «عش على وفاق الطبيعة.» يعنون بذلك شيئين: (أ)
يجب أن يعمل الناس على وفاق الطبيعة بمعناها الواسع أعني على قوانين الطبيعة التي تحكم العالم. (ب)
أن يعملوا على وفاق الطبيعة بمعناها الضيق، أعني حسب أهم شيء في طبيعتهم وهو الجزء العاقل، فيسير الإنسان على حسب ما يرشد إليه العقل خاضعا لقوانين العالم تكون حياته حياة أخلاقية، فالفضيلة هي السير حسب العقل، والإنسان الحكيم هو من يخضع حياته لحياة العالم ويعد نفسه ترسا في دولابه الدائر، والخضوع للعقل قال به أفلاطون وأرسطو من قبلهم وإنما الفرق في شرح الرواقيين لهذا المبدأ، فأرسطو مثلا عد أهم جزء في الإنسان عقله كما قال الرواقيون، ولكنه عد الشهوات جزءا من الإنسان له مكانه ولم يتطلب محاربتها وإنما تطلب ضبطها بواسطة العقل، أما الرواقيون فعدوها شرا محضا يجب إبادته، وصوروا الحياة حياة حرب بين العقل والشهوات يجب فيها أن ينتصر العقل ويظفر بالشهوات يعدمها، ومن ثم كانت نظراتهم تنتهي بالتقشف والزهد وعدم التوازن بين قوى الإنسان.
قد جعل أرسطو الفضيلة أكبر شيء قيمة، ولكنه مع هذا جعل للمال والظروف والأشياء التي حولنا قيمة في الحياة، أما الرواقيون فقالوا: لا خير في الوجود إلا الفضيلة، ولا شر إلا الرذيلة، وما عداهما فشيء تافه لا قيمة له، فالفقر والمرض والألم والموت ليست شرورا، والغنى والصحة واللذة والحياة ليست طيبات، فإذا انتحر الإنسان وأعدم حياته لم يعدم شيئا ذا قيمة، واللذة ليست ذات قيمة، وعلى الإنسان ألا يبحث عن اللذة، فالسعادة الحقة في الفضيلة، والإنسان يجب أن يكون فاضلا لا للذة ولكن لأنه الواجب، وليس هناك درجات للفضائل ولا للرذائل، فكل الفضائل خير ومتساوية في الخير، وكذلك الرذائل.
والفضيلة مؤسسة على شيئين: العقل والمعرفة؛ لهذا كان المنطق والطبيعة ونحوها من العلوم ليست لها قيمة ذاتية، إنما قيمتها في أنها أساس للفضيلة، وأساس الفضائل كلها الحكمة، ومن الحكمة تنبع فضائل أساسية أربع، وهي: بعد النظر والشجاعة، وضبط النفس أو العفة، والعدل، وإذا كانت الحكمة أساس هذه الفضائل كان من حازها حاز كل شيء، ومن فقدها فقد كل شيء، والإنسان إما فاضل بكل ما تدل عليه الكلمة، وإما شرير بكل ما تدل عليه الكلمة، وليس في العالم إلا اثنان: حكيم ومغفل، ولا شيء بينهما، وليس هناك تدرج من الشر إلى الخير، فالحكيم هو الكامل، وهو الحر والغني، وهو الملك حقا، وهو الشاعر وهو الفنان والنبي، وليس للمغفل إلا البؤس والقبح والفقر، وهؤلاء الحكماء في الدنيا قليلون، وكلما تقدم الزمن زادوا قلة.
وقد وضع الرواقيون قواعدهم هذه قاسية جافة كما رأيت، ثم أخذوا يعدلونها ويستثنون منها حسب ما ألجأتهم إليه الظروف، فعدلوا نظرهم في إبادة الشهوات لما رأوا أن ذلك مستحيل، وإن كان ممكنا فهو يؤدي إلى الفناء العاجل، والعجز عن العمل، فقالوا: إذن، إن الحكيم لا يفقد شهواته ولا يستأصلها، ولكن لا يسمح بنموها. كذلك عدلوا قولهم بأن كل شيء عدا الفضيلة والرذيلة لا يؤبه له، فلما رأوا أن هذا لا يسير مع الحياة العملية أعلنوا أن من الأشياء التي لا يؤبه لها ما يفضل بعضه بعضا، فإذا خير الإنسان بين الصحة والمرض اختار الصحة، وقالوا: إن ما عدا الفضيلة والرذيلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما يفضل، وما يجتنب، وما يهمل فلا يهم. كذلك عدلوا رأيهم في أن الإنسان إما حكيم وإما مغفل، فقد رأوا أن أبطال العالم ورجال التاريخ والسياسة ينطبق عليهم ما ذكروه عن المغفلين؛ لأنهم ليسوا حكماء على الإطلاق، فهم كثيرا ما ينغمسون في الرذائل، حتى الرواقيون أنفسهم لا يخلون ممن يرتكب الأخطاء أحيانا، وفضلاؤهم لا يصح أن يقارنوا بسقراط وديوجنيس فاعترفوا بأن من الناس من ليسوا فضلاء، ولكنهم يقربون من الفضلاء.
وقالوا: ومهما بلغ الإنسان من استقلاله عن العالم الذي يحيط به، واستغنائه عن كل شيء مكتفيا بنفسه فإنه لا بد متصل ببني جنسه في كثير أو قليل، وهو بما ركب فيه من نفس عاقلة يدرك أنه جزء من الكون، وأنه مضطر لذلك إلى العمل من أجل الجميع، ويدرك كذلك أن سائر الكائنات العاقلة لا تختلف عنه نوعا ولا تقل عنه فيما لها من حقوق، وأنهم يخضعون لنفس القانون العقلي الذي يخضع له هو، ويدرك أيضا أن الطبيعة إنما أرادت بهؤلاء جميعا أن يعيشوا معا في مجتمع واحد، يعمل الواحد من أجل الآخر، فقد جبلت في الإنسان غريزة الاجتماع الذي لا بد لنشأته وقيامه من شرطين: العدالة والحب بين الأفراد، وبغيرهما لا يرجى لمجتمع دوام البقاء؛ ولذا فلا مندوحة للحكيم أن يصادق الحكماء جميعا، وأن يبادلهم حبا بحب.
ويرى الرواقيون أن هذه الصلة بين أفراد الإنسان لا يجوز أن تقتصر على أبناء الوطن الواحد، فالعالم كله أمة واحدة لا فرق بين رجل ورجل، ولقد تابع زينو بهذا الرأي المدرسة الكلبية متابعة وفية لم يغير في رأيهم شيئا، حتى قيل عن الكتاب الذي ألفه زينو وأسماه «في الدولة» أنه «كتب على ذيل كلب» إشارة إلى أنه تأثر في كتابه هذا آراء الكلبيين خطوة خطوة.
فلم ير الرواقيون مبررا للتفريق بين بني الإنسان في المعاملة ما داموا ينتمون جميعا إلى أصل واحد، ويسيرون إلى غاية واحدة ويخضعون لقانون واحد، وهم أعضاء جسم واحد، فيجب وجوبا لا مفر منه أن نعامل كل إنسان كائنا من كان، معاملة حسنة طيبة، لا نستثني من ذلك العبيد، فهم كذلك جديرون منا بكل عناية وتقدير.
والدين الحق عند الرواقيين هو الخضوع لقوانين الكون وصروفه المقدورة، وهو تلبية حاجات المجتمع وخدمته، والتقوى هي عبادة الآلهة ومحاكاتهم حتى نرتفع إلى ما هم فيه من كمال، هي في صفاء القلب ومضاء العزيمة، فليس الإيمان الصحيح والدين القويم إلا الحكمة والفضيلة، وبعبارة أخرى الدين والفلسفة شيء واحد. •••
ومن هذا ترى أن الرواقيين لم يأتوا بجديد كثير، وإنما اقتبسوا من أقوال من قبلهم، وكانوا قساة في تعاليهم لا ينظرون إلى الأشياء إلا من جانب واحد، وقصروا الفلسفة على الفلسفة التي تتعلق بأنفسهم، فما يهم من الفلسفة عندهم هو الإجابة عن هذا السؤال: «كيف أعيش؟» ومن محاسنهم التي لا شك فيها أنهم رقوا الشعور بالواجب، ودعوا إلى سمو النفس فوق سفاسف الحياة.
ومن متأخري الرواقيين إبكتيتس
Epictetus ، وهو من أكبر معلميهم (50-130م) وقد كان عبدا رقيقا، يحكون أن سيده كان يعذبه يوما وقد لوى رجله فلم يزد إبكتيتس أن يبتسم ويقول في هدوء: «ستكسر رجلي.» فلما كسرت قال في غير جزع: «قلت إنك ستكسر رجلي.» وكان من أهم تعاليمه أن أخلاقنا وسعادتنا إنما تعتمد على قوة المقاومة، وما نجد في هذه الحياة من آلام ليس إلا تمرينا رياضيا نصل به إلى ضبط النفس والإمساك بزمامها.
الفصل الثالث عشر
الأبيقوريون
The Epicureans
أبيقور.
أسس أبيقور مدرسته قبل أن يؤسس زينو مدرسته بسنة أو سنتين، فسارت المدرستان جنبا إلى جنب متنافستين تنافسا شديدا، على الرغم من أنهما تشتركان في كثير من المواضع.
ولد أبيقور في ساموس سنة 342ق.م، ولما بلغ عامه الثامن عشر انتقل إلى أثينا حيث قضى عاما واحدا، ثم قصد إلى كولوفون، وبقي فيها اثني عشر عاما لا ينقطع عن الدراسة والبحث، معلما نفسه بنفسه، فلما أن كانت سنة 310 أسس مدرسة في ميتيلين
Mitylenes ، ثم نقلها إلى لمبساكوس
Lampsacus
وأخيرا استقر في أثينا سنة 306، وأقام المدرسة في داره وحديقته وأوصى قبل موته أن تخصص للمدرسة من بعده، ومن هنا أطلق على تلاميذه الذين كانوا يوالون الحضور ويحرصون على الاستماع لحديثه اسم «فلاسفة الحديقة» وقد جمعت بين أفرادها كثيرا من النساء والعبيد، هذا وقد اتصل أبيقور عن طريق الرسائل بأصدقائه في الخارج اتصالا لم يفتر ولم ينقطع، يبادلهم الرأي والنظر، وكان أبيقور ذا شخصية محبوبة؛ إذ تعلق به تلاميذه تعلقا مبعثه الإكبار الذي كاد يصل بهم إلى حد التقديس، وقد رسخت منزلته من نفوسهم رسوخا لم يذهب به الموت، بل ازدادوا له بعد موته حبا وإجلالا، وقد بقيت مدرسة أبيقور قائمة نحوا من ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله، فلم يزد معتنقو مذهبه شيئا ذا قيمة على ما وضعه هو، ولا غيروا من آرائه.
وقد ألف أبيقور فأفرط في التأليف؛ إذ أخرج نحوا من ثلاثمائة مجلد، على أن يد الزمان قد عبثت بمعظمها فلم تبق لنا من ذلك الخضم الزاخر إلا قطرات ضئيلة، ومن أهم كتبه كتاب «في الطبيعة» ويقع في سبعة وثلاثين جزءا، كذلك وضع ملخصا لفلسفته في أربع وأربعين قضية أراد بها أن تحفظ عن ظهر قلب، ولعل ذلك ما عمل على ذيوع آرائه وسيرورة كلماته بين الناس إلى عهد طويل بعد وفاته، وقد كتب نظرية المعرفة في كتاب عنوانه «القانون»، أما الأخلاق فأشهر كتبه التي وضعها فيها: «في الخير الأسمى» و«ما يجب أن نتجنبه» و«في أنواع الحياة». (1) الفلسفة الأبيقورية (1-1) نظرية المعرفة
لئن كان زينو رأس المدرسة الرواقية قد اعتبر الفلسفة سبيلا تؤدي إلى غاية وراءها، هي الحياة العملية، فقد بالغ أبيقور في ذلك الرأي مبالغة عظيمة، حتى كاد ينبذ الأبحاث العلمية والرياضية نبذا تاما، فهي عنده عبث لا غناء فيه، وليست تطابق الحقائق الواقعة في شيء، ولم يقدر من فروع الفلسفة إلا ما يبحث في الأخلاق ومعيارها الذي يقاس به الخير والشر، أما علم الطبيعة فلا يراد لذاته، ولكن لكي يقفنا على أسباب الأحداث الطبيعية حتى لا تعود تلقي في نفوسنا الرعب، ولا يكون للآلهة تلك الرهبة القديمة، ولا للموت ذلك الأسى المعهود، وأما البحث في الطبيعة البشرية فهو كذلك وسيلة لغاية؛ إذ يحلل لنا نفسية الإنسان فندرك رغباته الحقيقية، فنعلم ما هو خليق بالرغبة فيه، وما هو حقيق بالرغبة عنه.
على هذا الأساس بحث الأبيقوريون في الطبيعة الإنسانية، وانتهوا من بحثهم بنظرية يشرحون بها وصول المعرفة إلى الذهن، أساسها أن الأشياء الجزئية التي نصادفها في الحياة والتي تصلنا عن طريق الحواس هي وحدها الحقيقة، فكل ما تحوي رءوسنا من أفكار وآراء إن هي إلا سلسلة من الإدراكات الحسية التي انبعثت إلينا من الأشياء الخارجية، فانطبعت صورها في أذهاننا. وإذن فالإدراك الحسي هو وحده المقياس الذي نقيس به الحقائق النظرية، أما الجانب العملي من الحياة فمقياسه الشعور باللذة والألم.
وليس من شك في أن هذا الإدراك الحسي مقياس صحيح، فإن وجد الشك إليه سبيلا فمعنى ذلك أننا نفرق بين ما نعرف وما نعمل وذلك مستحيل؛ لأننا نسير في الحياة وفق ما جاءت إلينا بها الحواس من معرفة الظواهر التي نعيش في وسطها. أما هذا الاعتراض الذي يقام عادة في هذا الصدد من أن الحواس كثيرا ما تزل وتخطئ فتنقل إلينا خطأ ووهما في مكان الحقيقة الواقعة فمردود؛ لأنك إن أخطأت فليس خطؤك راجعا إلى الصورة التي نقلها إليك الإدراك الحسي، بل يرجع إلى الحكم الذي وصلت إليه أنت، فلا ريب في أن الحواس نقلت إليك صورة صحيحة لا غبار عليها، ولكن قد يصيبها التغير في ذهنك، فتحكم بأن الصورة الذهنية مطابقة لحقيقتها الخارجية، في حين أنه لا يحق للإنسان أن يقطع بقول في أي صورة ذهنية؛ لأنه لا يعلم إن كان لها في الخارج أصل يطابقها أم لا، وهنا يتركنا الأبيقوريون في حيرة، فلا يدلوننا على طريقة نميز بها الصور التي تمثل الواقع من تلك التي أصابها المسخ والتشويه فليست تمثل في الخارج شيئا.
ومن تلك الآثار الذهنية التي تطبعها الحواس على صفحة الذهن تتكون لدينا المدركات الكلية عن الأجناس بواسطة الذاكرة؛ لأنها تحتفظ بالمعلومات الجزئية المتفرقة، ثم تعيدها إلينا عند الموازنة والمقارنة لنصل إلى حكم كلي، وما دامت هذه الأحكام الكلية منشؤها المدركات الحسية وهذه الأخيرة حق فالأولى حق كذلك، أي يمكن اعتبارها مقياسا للحقيقة كالإدراكات الحسية والشعور سواء بسواء، وهناك شيء رابع هو الخيال، فيرى أبيقور أنه يتكون مما يكون في النفس من صور جاءتها بها الحواس من قبل، وإذن فالخيال كذلك مقياس صحيح تقاس به الحقيقة، فإن كان الإدراك الحسي، والشعور باللذة والألم، والإدراك الكلي، والخيال، مقاييس للحقيقة لا تخطئ ولا تزل، فمن أين يجيئنا الخطأ إذن؟ يجيب أبيقور: إننا نتعرض للخطأ في الرأي عندما نتجاوز ما أتت به الحواس، فنحاول أن نستنتج منه شيئا بدون وساطة الحواس، كأن نصدر حكما عن المستقبل بناء على الماضي، أو نرى رأيا في الأسباب الخفية التي تختبئ وراء ظواهر الطبيعة؛ ولذا فأبيقور يحذرنا ألا نعدو في مثل هذه الأحكام ما عرفناه من تجربتنا العملية التي منشؤها الحواس. (1-2) علم الطبيعة
لم يهتم أبيقور بعلم الطبيعة إلا من ناحية فائدتها في إزالة المخاوف الخرافية من عقل الإنسان، فهو يقول إن الإنسان قد ملئ خوفا من الله ومن العقاب على أعماله، ومن الموت بسبب ما قيل عن الحياة بعد الموت - وهذا الخوف أكبر منغص لحياة الإنسان ومضيع لسعادته، فإذا ذهب الخوف تخلصنا من أكبر عائق يعوق السعادة - ولا وسيلة إلى إزالة هذا الخوف إلا بدراسة الطبيعة، وفهمنا أن هذا العالم آلة ميكانيكية، محكوم بأسباب طبيعية لها نتائجها الطبيعية، وليس فيه كائنات فوق الطبيعة، والإنسان في هذا العالم حر، يبحث عن سعادته حيث كانت وكيفما يريد، وهو حر الإرادة - عكس ما يقول الرواقيون - ووظيفة الفلسفة أن تعين على تحقيق سعادته في هذا العالم.
كان أبيقور ماديا فلا يرى هناك أرواحا مجردة ولا شيئا غير المادة، وكل الأشياء مكونة من ذرات - كما هو مذهب ديمقريطس - وهذه الذرات عند أبيقور تختلف في شكلها ووزنها لا في كيفيتها، والنفس ذاتها ليست إلا ذرات تتفرق عند الموت، ويقول إنه لا يصح أن نفكر في آخرة، وهذا يجعلنا سعداء، ويحررنا من الخوف منها، وليس الموت شرا؛ لأننا إذا متنا فلا نكون، وإذا كنا فلا موت، وقد أخذ المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
فإذا جاء الموت فلا شعور؛ لأن الموت نهاية الشعور، ومن الحكمة ألا نخاف مما نعلم أنه عندما يجيء لا نشعر، كذلك ذهب أبيقور إلى أنه لا معنى للخوف من الآلهة، وهو لم ينكر وجودها، بل قد اعترف بآلهة لا تعد ولكنه قال إن لها أشكال الإنسان لأن شكله أجمل شكل في الوجود، وهم يأكلون ويشربون ويتكلمون اللغة اليونانية، وجسمهم يتكون من عنصر كالضوء، وهم يعيشون عيشة سعيدة هادئة أبدية، وهم لا يتدخلون في شئون هذا العالم لأنهم في سعادة، فلم يزجون بأنفسهم في ضوضاء هذا العالم يحملون عبء حكمه؟
إذن فلا خوف من الموت ولا خوف من الآلهة ، ولا شيء على الإنسان إلا أن يبحث كيف يعيش سعيدا في أيامه التي يعيشها على ظهر الأرض، والبحث في هذا وظيفة علم الأخلاق. (1-3) الأخلاق
كما أن الذرة كانت أساسا للطبيعة عند أبيقور، كذلك كان الفرد أساسا للأخلاق، فقد ذهب الأبيقوريون - كما ذهب قبلهم القورينائيون - إلى أن أساس الأخلاق اللذة، فاللذة وحدها غاية الإنسان، وهي وحدها الخير، والألم وحده هو الشر الذي يفر منه الإنسان ويتجنبه، والفضيلة ليست لها قيمة ذاتية، إنما قيمتها فيما تشتمل عليه من اللذة.
هذا هو أساس نظرية الأخلاق في رأي أبيقور، وما قاله بعد ذلك إنما هو شرح للذة، ولم يعن أبيقور باللذة ما عناه القورينائيون من اللذة الوقتية، بل عنى باللذة اللذة بأوسع معانيها، فيصح أن نرفض لذة عاجلة لأنها تستتبع ألما أكبر منها، ويصح أن نتحمل ألما عاجلا لأنه يستتبع لذة أكبر منه.
كذلك لم يقصر أبيقور نظره على اللذة الجسمية، بل قال إن اللذة العقلية أكبر قيمة من اللذة الجسمية؛ لأن الجسم لا يحس إلا باللذة الحاضرة، أما العقل فيستطيع أن يتلذذ بذكر لذة ماضية، وبأمل في لذة مستقبله، وقال: إن خير لذة يتطلبها الإنسان هدوء البال وطمأنينة النفس، ووافق الرواقيين في قولهم إن السعادة تعتمد على نفس الإنسان أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، وذهب إلى أن من أهم اللذائذ العقلية لذة الصداقة؛ لأن مدرستهم لم تكن مجرد تلاميذ في مدرسة بل كانوا - فوق ذلك - أصدقاء.
كذلك ذهبوا إلى أن الفرار من الألم خير من السعي في تحصيل اللذة، فعدم الألم وهدوء النفس وذهاب الاضطراب من الخوف أفضل من العمل على إيجاد اللذة الإيجابية. وقالوا إن اللذة لا تكون في كثرة الحاجات وسدها، بل إن كثرة الحاجات تجعل من الصعب سدها، وهي تركب الحياة من غير أن تزيد في السعادة، فخير لنا أن نقلل حاجاتنا جهد الطاقة. وكان أبيقور نفسه يعيش عيشة بسيطة ويحث تلاميذه على بساطة العيش، ويقول إن البساطة والاعتدال وابتهاج النفس وضبطها أهم وسائل السعادة، وأكثر طلبات الإنسان وحرصه على الشهرة ليس بضروري بل لا قيمة له. ولم يكن الأبيقوريون شهوانيين أنانيين كما يفهم بعضهم من هذا اللفظ، فقد رأيت حثهم على الاعتدال والبساطة وقالوا لأن تحسن خير من أن يحسن إليك، واليد العليا خير من اليد السفلى.
ويشترط أبيقور على الحكيم لكي يكون جديرا بهذا الاسم أن يسيطر سيطرة تامة على رغباته؛ حتى لا تدفع به في طريق الضلال، وكثيرا ما كان يصف نفس الحكيم بهدوء البحر، أو بالسماء الصافية المشمسة، وهو لا يجيز للإنسان تحت أي ظرف من الظروف أن يرضى لنفسه الذل والهوان من كائن من كان، بل لا يرضاهما من الحياة نفسها، فإن كان لا بد من الذل مع الحياة جاز للإنسان أن يطلق الحياة مختارا.
أما علاقة الفرد بالدولة فيرى أن القوانين جميعا إنما شرعت لحماية المجتمع من خرق الحمقى وظلمهم؛ إذ لا يستطيع أن يسلك في حياته طريقا قويمة عادلة غير الحكماء، أما أوساط الناس فلا مندوحة من ردعهم بقوة القانون لعجز نفوسهم عن تقويم نفسها بنفسها، ويرى الأبيقوريون أن الدولة بقوانينها قد نشأت بادئ الأمر بالتعاقد بين أفراد المجتمع؛ ولذا فيجب علينا أن نحترم القانون، وأن نطيعه ما وسعتنا الطاعة والاحترام.
الفصل الرابع عشر
الشكاك أو اللاأدرية
The Sceptics
الشك كلمة يراد بها المذهب القائل بأن معرفة الحقائق في هذا العالم لا يمكن الوصول إليها، أو يشك في الوصول إليها، فهو مذهب هادم للفلسفة؛ لأن الفلسفة ليست إلا السعي لمعرفة حقائق هذا الكون - ومذهب الشك هذا ظهر في عصور مختلفة في تاريخ الفلسفة، فقد رأيناه عند السوفسطائيين، فقد كان جورجياس - أحد زعماء السوفسطائية - يقول كما سبق: إننا نشك في وجود الأشياء، وإن كانت موجودة فلا سبيل إلى معرفتها - وفي العصور الحديثة كان زعيم الشكاك «دافيد هيوم»، فقد أبان أن وسائل المعرفة التي يعتمد عليها العقل البشري كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والجوهر والعرض ونحو ذلك، ليس إلا وهما وخداعا، ومن ثم لا تمكن المعرفة. وبملاحظة تاريخ الفلسفة يتبين لنا أن نوع الفلسفة الذي يعتمد على التفكير الذاتي، أعني تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائما الشك؛ ذلك لأن المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر إلى عقله ونفسه مهملا ما في الخارج أداه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق، فالآن لما اقتصر الرواقيون والأبيقوريون على هذا النوع من التفكير النفسي والأخلاقي أسلم ذلك إلى الشك، فقد انحطت القوة الروحية للأمة، ومل العقل والنفس من التفكير في ذاتهما، وفقدا الثقة بأنفسهما، فجاءهما الشك في إمكان الوصول إلى الحقيقة.
واشتهر من هؤلاء الشكاك في ذلك العصر بيرو
1
وقد ولد سنة 360ق.م، واشترك في الحملة التي سيرها الإسكندر إلى الهند، ولم يخلف لنا كتبا نعرف منها آراءه إنما نعرف عنه من تلميذه تيمون
Timon ، ويظهر أن بيرو لم يصل إلى الشك عن طريق البحث الفلسفي العميق في الحقيقة وإمكانها إنما قال به عن طريق أنه وسيلة للسعادة وذريعة لتخفيف ويلات الحياة.
يقول «بيرو»: إن خير طريق يسلكه الحكيم أن يسائل نفسه هذه الأسئلة الثلاثة؛ أولا: ما هي هذه الأشياء التي بين أيدينا وكيف تكونت؟ ثانيا: ما علاقتنا بهذه الأشياء؟ ثالثا: ماذا يجب أن يكون موقفنا إزاءها؟ أما السؤال الأول: فالإجابة عنه إنا لا نعرفها، إنما نعرف ظواهرها، أما حقيقتها الباطنية فنحن بها جد جاهلين، والشيء الواحد يظهر بمظاهر مختلفة للأشخاص المختلفة؛ لهذا كان من المستحيل أن نعرف أي الآراء حق، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن آراء العقلاء مختلفة كاختلاف آراء العامة، وكل وجهة نظر يمكن البرهنة على صحتها وتأييدها كنقيضها، ورأيي مهما كان واضحا عندي فعكسه واضح عند غيري ومقتنع به اقتناعي، فما عند كل إنسان رأي لا حقيقة، وهذه هي العلاقة بيننا وبين الأشياء ، وهو الإجابة عن السؤال الثاني، أما عن السؤال الثالث: فيجب أن يكون «الوقف» التام؛ فنحن لا نستطيع أن نتأكد من شيء ولو كان تافها، ومن ثم كان أتباع بيرو لا يصدرون على الأشياء أحكاما قاطعا، فهم لا يقولون إن الحق كذا، وإنما يقولون «يظهر لنا كذا» و«ربما كان كذا» و«من المحتمل» ونحو ذلك، وكما قالوا ذلك في الأشياء المادية قالوه في الأخلاق وفي القانون، وفي الأشياء المعنوية، فلا شيء في نفسه حق، ولا شيء في ذاته خير أو شر، وإنما هو خير في رأيي أو رأيك أو حسب القانون والعرف، وإذا عرف العاقل ذلك لم يفضل شيئا على آخر، وكانت النتيجة الجمود التام، وعدم العمل، فإن أي عمل إنما هو نتيجة التفضيل، فإذا ذهبت يمينا أو شمالا فمعنى ذلك أني أفضل ذلك لغرض، فإذا انعدم هذا التفضيل انعدم العمل، وهو ما يرمي إليه بيرو؛ فالعمل مؤسس على العقيدة والعقيدة لا تكون ما لم يكن هناك جزم بأن الحق في جانبها وهو ينكر ذلك، ويرى أن اللذائذ والرغبات يجب أن تنبذ، وأن يعيش الإنسان في هدوء تام وبعقل مطمئن، وبنفس هادئة حررت من كل وهم وضلال، وليس الشقاء في العالم إلا نتيجة عدم الوصول إلى ما يرغب فيه أو فقده إذا كان، فإذا تحرر العاقل من هذه الرغبات فقد تحرر من الشقاء، والعاقل يستوي عنده الشيء ونقيضه، فالصحة أو المرض، والموت أو الحياة، والغنى أو الفقر سواء عنده متى عدم الرغبة، وإذا كان مضطرا في هذا الوجود إلى العمل كان مضطرا أن يخضع للعرف والقانون لا عن اعتقاد بأنهما حق أو مقياس للخير.
كارنيادس. •••
وذاعت نظرية الشكاك في هذا العصر واعتنقتها «أكاديمية أفلاطون»، فقد ظلت مدرسته قرونا يتولاها رؤساء عديدون يسيرون على ما رسم أستاذهم الأول «أفلاطون»، فلما رأسها أرسيسيلوس
Arcesilaus
دخلها الشك، وسميت المدرسة من ذلك الحين «الأكاديمية الحديثة»، وأظهر ما يميزها معارضتها الشديدة للرواقيين، فقد اعتقدوا أن الرواقيين سريعو التصديق بالحقائق من غير أن تدعم بالبرهان، وقد رد عليهم أرسيسيلوس في نظريتهم في أساس المعرفة التي شرحناها، وذهب إلى أنه لا أساس للمعرفة، وليس هناك مقياس نقيس به الحقيقة لا الحواس ولا العقل، ومن مأثور قوله: «لست أدري، ولست أدري أنني لا أدري.» ولكن لم تبالغ الأكاديمية الحديثة في الشك كما بالغ بيرو ، فقد ذهبوا إلى أن الإنسان يجب أن يعمل، وإذا لم يكن في الإمكان معرفة الحق فاحتمال الحق وظنه كافيان في الهداية إلى العمل.
ويعد «كارنيادس»
Carneades
أشهر الأكاديمية الشكاكة، ومما يمثل رأيه قوله: (1)
لا يمكن البرهنة على شيء لأن النتيجة يجب أن يبرهن عليها بالمقدمات، والمقدمات تحتاج إلى برهان وهكذا، فيؤدي ذلك إلى التسلسل. (2)
لا يمكن أن نعرف إن كان رأينا في شيء حقا أو لا لأنا لا نستطيع المقارنة بين الشيء ورأينا؛ لأن ذلك يتطلب أن نخرج من عقلنا، فنحن لا نعرف عن الشيء إلا رأينا فيه، فكان من المستحيل المقارنة بين الشيء وصورته في ذهننا؛ لأننا لا ندرك إلا الصورة.
وبعد أن خمد مذهب الشك حينا عاد فظهر في «الأكاديمية» واشتهر من الدعاة إليه إينيسيديموس
Aenesedimus ، وكان معاصرا لشيشرون، وقد امتاز المتأخرون من الشكاك برجوعهم إلى تعاليم بيرو، وقد اشتهر إينيسيديموس هذا بوضعه للمبادئ العشرة التي يبين فيها استحالة المعرفة، وهي في الحقيقة ليست عشرة وإنما هي اثنان أو ثلاثة صاغها بأشكال مختلفة، وجعلها عشرة للولوع بعدد العشرة، وهي: (1)
إن شعور الأحياء وإدراكهم الحسي للأشياء يختلف. (2)
الناس يختلفون طبيعيا وعقليا، وهذا الاختلاف يجعل الأشياء تظهر أمامهم بمظاهر مختلفة. (3)
اختلاف الحواس يسبب اختلاف تأثرها بالأشياء. (4)
إن إدراكنا للأشياء يعتمد على حالتنا العقلية والطبيعية وقت إدراكنا. (5)
إن الأشياء تظهر بمظاهر مختلفة في الأوضاع المختلفة وعلى المسافات المختلفة. (6)
إدراكنا الحسي للأشياء ليس إدراكا مباشرا بل بواسطة، فمثلا نحن ننظر إلى الأشياء وقد توسط بينها وبين حواسنا الهواء. (7)
تختلف مظاهر الأشياء باختلاف كميتها ولونها وحركتها ودرجة حرارتها. (8)
يختلف تأثرنا بالشيء بمقدار إلفنا وعدم إلفنا له. (9)
كل ما نزعمه من المعلومات محمول على موضوع، وكل هذه المحمولات ليست إلا علاقات بين بعض الأشياء وبعض أو بينها وبين أنفسنا، وليست تخبرنا بحقيقة الأشياء ذاتها. (10)
آراء الناس وعرفهم يختلف باختلاف البلاد.
ويريد أن يصل بهذه القضايا العشر إلى القول بأن العلم بكنه الأشياء لا يمكن؛ لأن ما عندما من الوسائل لا يمكننا من ذلك.
الفصل الخامس عشر
عصر الاختيار
Eclecticism
لم يكد الرومان يغزون مقدونيا وينشرون ألوية النصر على ربوعها، حتى بدأت اليونان عهدا جديدا أخذت تتلاشى فيها مميزات شخصيتها، وتندمج في الإمبراطورية الرومانية اندماجا، وما أسرع ما أخذت روما واليونان تتبادلان الآراء والأفكار والأساتذة والطلاب، فقد ارتحل إلى روما كثير من أساطين العلم والفلسفة في اليونان، كما نزحت أفواج من شبان روما إلى أثينا يلتمسون في مدارسها الفلسفية ما أطفأ غلتهم من فلسفة وعلم، وهكذا لبث تيار الفكر بين البلدين متصلا، فما جاء القرن الأول قبل ميلاد المسيح حتى كانت الفلسفة اليونانية قد تمكنت من نفوس الرومان وأخذت بأهوائهم، فأصبحت ضرورة لازمة لا يجوز أن تخلو منها الثقافة العليا، ولما كان اليونان بادئ الأمر هم الأساتذة الذين نقلوا إلى الرومان تعاليمهم فقد استطاعوا بحكم أستاذيتهم أن يطيعوا تلاميذهم بروحهم وميولهم، ولكن لم يمض طويل زمن حتى انطبع هؤلاء الأساتذة أنفسهم بالطابع الروماني متأثرين بالبيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية، فأخذوا يلائمون بين أنفسهم وذلك الروح الجديد، وعلى ذلك تغير لديهم معيار القيم الذي يقدرون به الأشياء، وأصبحت الحياة العملية وحدها هي المقياس، فلا يأبهون كثيرا بالقيمة العلمية لذاتها إن لم تكن وسيلة إلى الحياة العملية.
استعرض الرومان مذاهب اليونان الفلسفية، لا يتعصبون لواحد دون الآخر، بل أخذوا يتخيرون من كل مذهب ما يتفق وروحهم، فطفقوا يمحون من المدارس الفلسفية أوجه الخلاف، ويستخلصون منها جميعا وجه الشبه بينها، فيكون هو مذهبهم، وخصوصا ما اتصل بالحياة العملية بسبب قريب أو بعيد.
وإذن فقد وقف الرومان من الفلسفة موقف الاختيار دون أن يدفعوا بها إلى الأمام خطوة جديدة، وهكذا انقضى الزمن بين المذاهب التي أشرنا إليها - من رواقية وأبيقورية وشك - وبين ظهور الأفلاطونية الحديثة في تحجر هذه المذاهب وركودها، فلا نظريات جديدة ولا قضايا مبتكرة، وتقاربت المذاهب المختلفة، وأصبحت الخلافات بين المذاهب خلافات ناعمة، وصاروا أميل إلى الراحة والخمود - بل أصبحنا نرى أتباع مدرسة الأكاديمية الشكاكة تعلم مبادئ الرواقيين، والرواقيين يعلمون مبادئ هذه الأكاديمية وهكذا - ولم يحافظ الأبيقوريون على تعاليمهم.
ولقد كانت الإسكندرية مكانا طبيعيا تتلاقى عنده تلك المذاهب جميعا؛ وذلك لموقعها بين الشرق والغرب، فتستطيع أن تكون حلقة بين الطرفين، فهناك امتزجت الآراء والمذاهب، وفي ذلك يقول «إنج»
Inge : «تقابل الشرق والغرب في شوارعها (الإسكندرية) وفي قاعات الدرس بها وفي معابدها، وفيها اصطبغت اليهودية أولا ثم المسيحية ثانيا بالصبغة اليونانية.»
وأبرز ما شرح في الإسكندرية من مذاهب هي الفيثاغورية والأفلاطونية، ومذهب أرسطو في الصورة والهيولى، ومذهب المدرسة الأورفية في الزهد، ووجه الشبه بين هذه المذاهب جميعا هو تفريقها بين الروح والمادة، وجعلهما عنصرين متميزين، واتخاذها مثلا تكون أمام الإله نماذج يصور الخلق على غرارها، هكذا قال أفلاطون، وهكذا قالت المدرسة الفيثاغورية الحديثة في الأعداد، إذ نظروا إلى الأعداد فاعتبروها نماذج مثالية صيغ على نسقها العالم، وهكذا قال أرسطو إذ ذهب إلى أن الهيولى (أي المادة) تنزع إلى الصورة، ففي كل هذه المذاهب ترى عنصرا مشتركا هو وجود نماذج جاءت الطبيعة على مثالها، مهما اختلفت في شرح هذه النماذج.
أخذت الإسكندرية هذا وأضافت إليه ما ذهبت إليه الفيثاغورية الحديثة من أن «الكشف» هو الوسيلة إلى المعرفة، فالبصيرة فوق العقل، وبهذا انفسح الطريق للنزعة الصوفية التي حاولت التخلص من ظلام الشك الذي ساد في الناس حينا من الدهر، فإن كان العقل قد عجز عن الوصول إلى الحقيقة وأدى بالإنسان إلى حيرة الشك فليلجأ هذا الإنسان إلى كشف البصيرة لعلها تكون له هاديا. (1) فيلو
ونستطيع أن نضرب بهذا الفيلسوف «فيلو» مثلا لذلك الضرب من التفكير، فقد ولد في سنة 25ق.م من أسرة نبيلة في الإسكندرية وكان يهوديا، ومات سنة 50 بعد الميلاد، فكان يؤمن بالوحي حسب ما جاءت به التوراة، كما كان يؤمن بتعاليم الفلسفة اليونانية، وكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق غامض لبيان الحقائق، على حين أن الكتاب الإلهي المقدس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق، وكان يرى أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التعاليم العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة، ومن هنا نشأ ما لهما من حكمة، وفيلو هو المسئول عن خلط التعاليم الفلسفية بالوحي والإلهام الشرقي.
كان فيلو يعلم أن الله - وهو الذي لا يحده حد - يجب أن يكون فوق هذا العالم المحدود، وليس هناك لفظ ولا فكر يستطيع أن يساير أبديته، وليس يمكن للفكر أن يدرك كنهه، وهو فوق أن تدركه العقول، وليست تصل نفس الإنسان إلى الله عن طريق العقل والتفكير، ولكن عن طريق رياضة النفس والكشف، ولا يستطيع الله أن يدبر هذا العالم مباشرة؛ لأن هذا العالم مادي محدود، إنما لله كائنات روحانية هم سفراء الله يعملون في هذا العالم ما يريد الله، ويخلقون ويحكمون، وعلاقة الله بالملائكة وعلاقة الملائكة بالعالم علاقة انبثاق كأشعة الضوء تنبثق من مركز ساطع، ويقل ضوء الأشعة كلما بعدت عن المركز، وهذا النوع من الكلام يمثل لنا ما في كلام فيلو من تصوف وبعد عن منحى التفكير الذي كان عند اليونان.
الفصل السادس عشر
الأفلاطونية الحديثة
The New Platonists
يختلف مؤرخو الفلسفة في عد الأفلاطونية الحديثة فلسفة يونانية، أو فلسفة للقرون الوسطى، ولكل وجهة نظر؛ فالذين لا يعدونها يونانية يستندون على بعد الزمن بين العهدين، ولأن مؤسسها وهو أفلوطين ولد سنة 205 ميلادية، فهذه الفلسفة وليدة المسيحية، ولأن طابع هذه الفلسفة ليس طابعا يونانيا بحتا بل هو مصبوغ بصبغة الإلهام الشرقي، وكان مركزها في الإسكندرية لا في اليونان، وكانت الإسكندرية إذ ذاك مدينة عالمية لا يونانية يتقابل فيها الناس من كل جنس ويلتقي فيها الشرق بالغرب. والذين لا يرونها من فلسفة القرون الوسطى يرون أن فلسفة القرون الوسطى نشأت في أحضان النصرانية وفي تربتها، وهي تناهض الوثنية اليونانية، وفلسفة الأفلاطونية الحديثة ليست نصرانية، بل هي عدوة النصرانية، وقد حافظت على الروح الوثني في البيئة المسيحية ، وترى فيها الروح اليوناني ظاهرا، والثقافة اليونانية سائدة، فأولى أن تعد فلسفة يونانية.
في العصور الأولى للمسيح ظهر في الإسكندرية مذهب الأفلاطونية الحديثة، وقد سمي بهذا الاسم لأنه وليد تعاليم أفلاطون، ولكنه وليد غير شرعي لأنه لم يحافظ على كثير من أسس أفلاطون، فمبنى فلسفة أفلاطون رأيه في المثل، وقد ملأ فلسفته بضروب من الخيالات وأحاطها بكثير من الغموض، فأخذت الأفلاطونية الحديثة هذه الخيالات والأساطير التي استعملها أفلاطون على سبيل التمثيل والاستعارة ونحو ذلك على أنها حقائق، ومزجتها مزجا تاما بإلهام الشرق وأحلامه.
ومؤسس هذا المذهب أمونيوس سكاس
Ammonius Saccas ، كان أول أمره حمالا، وقد ولد من أبوين نصرانيين، ولكنه اعتنق الدين اليوناني القديم، وهو أول المعلمين الإسكندرانيين الذين حاولوا التوفيق بين تعاليم أرسطو وأفلاطون ومات سنة 242م، ولم يؤثر عنه أي كتاب.
وأكبر مؤيديه والمنتصرين لمذهبه تلميذه أفلوطين، وربما عد مؤسس المذهب، وقد ولد سنة 205م في ليكوبوليس (أسيوط) ولكن لم تعرف بالضبط جنسيته، وتعلم في الإسكندرية ولازم أمونيوس إحدى عشرة سنة، ثم سافر مع الحملة التي جهزها الإمبراطور جورديان لمحاربة الفرس، رجاء أن يتعلم الفلسفة الفارسية والفلسفة الهندية من أصولها، وفي سنة 245 قصد إلى روما حيث استقر بها، وأسس مدرسته التي قام عليها حتى مات في كامبانيا سنة 270م، والعرب لم تعرف كثيرا عنه، ولكن تعرف مذهبه وتطلق عليه مذهب الإسكندرانيين، ويطلق عليه الشهرستاني «الشيخ اليوناني» وقد ألف أفلوطين كتبا كثيرة حفظت عنه، ويطلق عليها اسم التاسوعات
Enneads
وتفرع مذهبه إلى فروع كثيرة: فكان منه فرع في الإسكندرية، وفرع في الشام، وفرع في أثينا، ولقد كان أفلوطين في حياته محببا إلى النفوس مقربا من العظماء، فكان الإمبراطور جالينوس ينزله من نفسه منزلة سامية ويقدره أعظم التقدير، حتى قيل إنه اعتزم أن يقطعه منطقة كامبانيا ليقيم عليها مدينة فاضلة تحكم على مثال ما ارتأى أفلاطون في الدولة، هذا وقد عهد إليه فريق كبير من علية القوم بالقيام على تربية أولادهم، فضلا عن أفواج الشبان التي كانت تؤم بيته وتحضر مجلسه، ويقال إنه قد كانت لأفلوطين بصيرة نافذة في الطبائع البشرية حتى استطاع أن يتنبأ لكثير من الأطفال الذي كان يتعهد تربيتهم بمستقبلهم إما فشلا أو نجاحا، ولم يبدأ أفلوطين في كتابة ما كتب إلا وهو في سن الثامنة والأربعين، بعد أن أكمل فلسفته. أما حياته الشخصية فبنيت على الزهد والتقشف لتطهير الروح من أدران الجسد، فلم يكن ينعم بالنوم إلا بقدر ما تضطره إليه الحاجة اضطرارا، ولم يكن يبيح لنفسه من الطعام إلا ما يقيم أوده، وقد حرم على نفسه أكل اللحوم، ومما يذكر عنه أنه لم يسمح لفنان بتصويره بحجة أن المصور لا يزيد بصورته على أن يثبت «ظلا لظل»، وقد تنازل عن كل ثروة، وفك رقاب من كان يملك من رقيق، وكان يصوم يوما بعد يوم، وحاول أن يتصل بالله، وقالوا إنه ظفر بذلك أربع مرات.
يقول هذا المذهب: إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بد له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يحل فيما خلق، بل ظل قائما بنفسه على خلقه، ليس ذاتا وليس صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له. ولما كان الشبه منقطعا بينه وبين الأشياء لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية، فهو ليس مادة وهو ليس حركة وليس سكونا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيها له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدا له، وهو لا نهائي لا تحده الحدود، فلسنا نعلم عن طبيعة الله شيئا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأن الله فوق العالم ولأنه غير محدود لا يمكنه أن يخلق العالم مباشرة، وإلا لاضطر إلى الاتصال به، مع أنه بعيد عنه لا ينزل إلى مستواه، ولأنه واحد لا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم؛ لأن الخلق عمل، أو إنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغيير في ذات الله، والله لا يتغير، يقول أفلوطين: إن الله علة العالم، ويقول من ناحية أخرى: إن الله فوق العالم، ولا يمكن أن يتصل به أي اتصال، هذان قولان متناقضان، فكيف التوفيق بينهما؟ وكيف نشأ العالم عن الله؟ فلجأ أفلوطين في الإجابة عن هذا إلى الشعر والاستعارة والتمثيل، يقول: إن تفكير الله في نفسه وكماله نشأ عنه فيض، وهذا الفيض صار هو العالم، وكما يبعث اللهيب ضوءا والثلج بردا كذلك انبعث من الله شعاع كان هو العالم. وبذلك خرج أفلوطين من المأزق المنطقي بعبارات شعرية؛ وعلى ذلك يكون الكون قد انبثق من الله انبثاقا طبيعيا بحكم الضرورة، ولكن ليس في هذه الضرورة أي معنى من معاني الاضطرار والإلزام، وليس في الخلق معنى الحدوث وليس يقتضي تغيرا في الله. ولما كان كل كائن قد تفرع هكذا من الواحد الأول - الله - فهو يميل بفطرته إلى العودة إلى أصله ومبعثه الذي كان صدر عنه، ولا ينفك يحاول أن يصل إليه. أما ذلك المصدر الأول فمستقر في نفسه مكتف بها لا يتصل بما تفرع عنه من أشياء، وهذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سلما نازلا من درجات الكمال، فكل شيء أقل كمالا مما فوقه، ويستمر التناقص في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخر السلم انعداما تاما، حيث يتلاشى النور في الظلام.
وأول شيء انبثق من «الواحد» هو العقل، وهذا العقل له وظيفتان: وظيفة التفكير في الله، ووظيفة التفكير في نفسه، وقد خلع أفلوطين على هذا العقل شيئا من خصائص المثال الذي شرحه أفلاطون.
من هذا العقل انبثقت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للقسمة، ولهذه النفس ميلان: فتميل علوا إلى «الواحد» وتميل سفلا إلى عالم الطبيعة، وقد انبثقت منها النفوس البشرية التي تسكن هذا العالم، فنفس العالم - كالعقل - تنتمي إلى العالم الإلهي الروحاني الذي يقع فوق الحس، وهي تعيش عيشة خالدة لا تحدها حدود الزمن، إلا أنها دون العقل درجة، فهي تقف على هامش العالم الروحاني قريبة من حدود هذا العالم المحسوس، ولو أنها ليست جثمانية في ذاتها إلا أنها تميل إلى الأشياء الجثمانية فتنظر إليها، وهي تقف بين الأشياء من جهة وبين العقل من جهة أخرى وسيطا تنقل العلل والأسباب التي تبدأ من العقل فتوصلها إلى الأشياء.
من هذه النفس الأولى - أو نفس العالم - خرجت نفس ثانية أسماها أفلوطين بالطبيعة، وهذه النفس الثانية هي التي تشترك وحدها مع العالم المادي كما تمتزج نفوسنا مع جسومنا، وهذه النفس الأخيرة - التي هي عبارة عن النفوس الجزئية الموزعة على الكائنات - هي أدنى مراتب العالم الروحاني، والخطوة التي تليها مباشرة هي المادة التي هي أبعد الكائنات عن الكمال، ويقول أفلوطين إن انبثاق النفوس الجزئية عن نفس العالم هو كانبثاق الضوء من مركزه، وكلما بعد عن المركز ضعف حتى يصير ظلاما، وهذا الظلام التام الذي انحسر عنه ضوء النفس هو المادة، فالمادة ضوء سلبي، وهكذا يسبح أفلوطين في خيالاته الشعرية.
يقول إن المادة هي مصدر التعدد، وهي سبب الشرور؛ لأنها عبارة عن العدم، والعدم أشد درجات النقص، والنقص هو الشر، وإذن فالمادة هي منشأ الشرور جميعا، وغاية الحياة التحرر من ربقة المادة، وأول خطوة لذلك التحرر من سلطة الجسم والحواس، وعن هذا تنشأ الفضائل العادية، والخطوة الثانية الفكر والتفلسف، والخطوة الثالثة أن تسمو النفس فوق التفكير وتصل إلى «اللقانة» أو المعرفة أو العلم اللدني. وكل هذه الخطوات إعداد للدرجة الأخيرة - وهي أنه يذوب في الله، وذلك بالهيام والذهول والغيبوبة والوجد - عند ذلك تتحد النفس بالله، ولا يقال في هذه الدرجة إنه يفكر في الله ولا ينظر إلى الله؛ لأن كل هذه العبارات تدل على الانفصال أو وجود شيئين، إنما يتحد بالله ويكون هو وهو وحده. وتصل النفوس البشرية الراقية إلى هذه الدرجة في لحظات من الحياة، ثم تعود إلى حالتها البشرية العادية، وقد ذكر أفلوطين أنه سما إلى هذه الدرجة وذاق لذة الاتحاد وأدرك ساعات التجلي بضع مرات في حياته يقال إنها أربع.
وقد جاء بعد أفلوطين فلاسفة استمروا يرقون هذا المذهب ويعدلونه، من أشهرهم فورفوريوس
ويامبليكوس
Iamblicus
وسريانوس
Syrianus .
وقد كان من أسباب وجود مذهب الأفلاطونية الحديثة انتشار مذهب الشك، فإذا أيقن العقل أنه لا يستطيع الوصول إلى الحق بتفكيره وبحثه حاول أن يعرفه بكشفه ولقانته، يئس العقل من نفسه فلجأ إلى الكشف والإلهام، ورأى أن التفكير المنطقي لم يفده فأمل أن يفيده السكر الروحي.
وكان هذا المذهب يميل أول أمره إلى البحث مشوبا بالإلهام، ثم غرق في الإلهامات، ونفذ منها إلى الشغف بالاطلاع على المغيبات وخوارق العادات، والاعتناء بالسحر، والتصرف بالأسماء والطلاسم والتنجيم والدعوات والعزائم ونحو ذلك.
وطبيعي أن تنتهي عند ذلك الفلسفة؛ لأن الفلسفة إنما أسست على العقل ولا يمكن أن تقبل شيئا فوق العقل، فما ذهبت إليه الأفلاطونية الحديثة من وضع اللقانة والغيبوبة والوجد والإلهام فوق العقل يخالف الفلسفة في أساسها - وهذا النوع أعني نوع إدراك الحق عن طريق الإلهام والوجد واللقانة أقرب إلى النمط الديني منه إلى النمط الفلسفي - عند ذلك خمدت الفلسفة، وظلت خامدة يقتصر المشتغلون بها على تقليب الآراء الفلسفية القديمة وتلوينها حسب ما يحيط بهم من ظروف إلى أن جاء عصر «النهضة» فحييت الفلسفة من جديد، وأسست أنواع من الفلسفة جديدة ووضعت للبحث أنماط جديدة سنعرض لها فيما بعد إن شاء الله.
أهم مصادر الكتاب
STACE (1) A Gritical History of Greek
وكان عليه أكبر اعتمادنا، ومنه أكثر اقتباسنا
ZELLER (2) Outline of Greek Philosophy.
ERDMANN (3) History of Philosophy.
DURANT (4) A Story of Philosophy.
BURNET (5) Greek Philosophy.
BENN (6) History of Ancient Philosophy.
A. E, BAKER (7) How to understand Philosophy.
LUDWIG NOIRÉ (8) Development of Philosophic thought from Thales to Kant.
DRESSER (9) History of Ancient and Medieval
صفحة غير معروفة