ولكن من هو «عمانوئيل كانت»؟
ولد في كونسبرج
Konigsberg
في بروسيا سنة 1724م، وإذا استثنينا فترة قصيرة قضاها في التدريس في قرية قريبة من بلده، فإنه لم يغادر مسقط رأسه طوال حياته، وقد كان ضئيلا نحيلا هادئا، انحدر من أسرة فقيرة هاجرت من سكوتلانده قبل ولادة الفيلسوف ببضع مئين من السنين، وكانت أمه عضوا في جماعة دينية محافظة، تتمسك بالعقيدة الدينية تمسكا دقيقا شديدا لا هوادة فيه ولا تسامح، فانغمس فيلسوفنا إبان طفولته في الدين من الصباح إلى المساء، فأدى ذلك إلى نتيجتين؛ الأولى: أن هذا التطرف في العبادة قد أحدث في نفسه رد فعل فاعتزل الكنيسة في رجولته، والثانية: أن هذه النشأة الدينية قد طبعته على الكآبة من ناحية، وحفزته إلى صيانة الإيمان من إغارة الإلحاد من ناحية أخرى.
ولكن كيف يتسنى لشاب يعاصر «فردريك الأكبر» و«فولتير» أن يخرج نفسه من تيار الشك الذي طغى على ذلك العصر بقوة حتى غمر جميع الناس؟ لا، لم يستطع «كانت» أن يجنب نفسه الشك السائد في زمانه، وتأثر أعمق الأثر، حتى بمن أراد أن ينقض آراءهم، وربما كان أشد الفلاسفة تأثيرا في نفسه عدوه المحبوب «ديفد هيوم»، وسوف نرى فيما بعد نتيجة هذا التجاذب بين إيمانه وشك عصره، وكيف أدى به ذلك في آخر كتاب أخرجه - وسنه تقرب من السبعين - إلى التجاوز عما بدأ به حياته من محافظة وإيمان، إلى إباحية كادت تؤدي إلى موته لو لم تحمه شيخوخته وشهرته، وتقرأ «كانت» في أخريات أيامه، فيخيل إليك أنك إنما تستمع إلى «فولتير»! ولقد قال «شوبنهور » إن أدل ما يدل على تسامح «فردريك الأكبر» أن يتمكن «كانت» من نشر كتابه «نقد العقل الخالص»، ولعل «كانت» قد أحس أنه وجد من التسامح في إخراج كتابه على ما فيه من آراء ما لم يكن ليجده في أي مكان آخر، أو في حكم أي ملك غير «فردريك»، فأهدى كتابه هذا إلى «زدلتز
zediltz » وزير المعارف في حكومة «فردريك» تقديرا لهذه الحرية التي أطلقوها للناس في إبداء ما يعن لهم من الآراء.
وفي 1755م عين «كانت» محاضرا في جامعة كونسبرج، وظلت الجامعة خمسة عشر عاما ترفض أن تعينه أستاذا بها، حتى إذا كان عام 1770م عين أستاذا للمنطق والميتافيزيقا، وقد أكسبه طول اشتغاله بالتدريس خبرة واسعة بفن التربية، فأخرج في هذا الموضوع كتابا كان هو نفسه يقول عنه إن به طائفة كبيرة من الآراء القيمة، غير أنه للأسف لم يستطع تطبيقها في تدريسه، ولكنه مع ذلك كان مدرسا ناجحا من الوجهة العملية، وكانت له منزلة رفيعة في نفوس تلاميذه، ومن بين آرائه العملية أن يوجه المدرس أكبر قسط من عنايته للفئة المتوسطة من التلاميذ؛ لأن الأغبياء لا يجدي فيهم المجهود، والنوابغ لا يحتاجون إلى مجهود غيرهم.
ولقد كان الناس يتوقعون كل شيء إلا أن يخرج هذا الأستاذ الهادئ المتواضع نظاما جديدا في الفلسفة يهتز له العالم أجمع، نعم كان الناس يصدقون كل شيء إلا أن يثير «كانت» أوروبا كلها بآرائه، وهو ذلك الحيي الذي لم يسئ قط إلى أحد، بل إنه هو نفسه لم يكن يتوقع أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، فقد كتب وهو في سن الثانية والأربعين يقول: «لقد شاء لي حسن الطالع أن أكون عاشقا للميتافيزيقا، ولكن معشوقتي لم تطلعني حتى الآن إلا على قليل من حسنها.» وكان يتحدث حينئذ عن البحث فيما وراء الطبيعة أنه هاوية سحيقة لا قاع لها ولا قرار، وأنه محيط مظلم لا شطآن فيه ولا منائر يهتدى بضوئها في خضمه، وأنه كثيرا ما تحطمت بين أمواجه نظم فلسفية بغير جدوى. ولقد ذهب «كانت» إلى أبعد من هذا في يأسه من الميتافيزيقا بأنه اتهم كل من يشتغلون بها بأنهم إنما يسكنون من تأملاتهم أبراجا عالية، حيث الهواء شديد فيعصف بآرائهم الخيالية ويذروها هشيما ... قال كل ذلك عن البحث فيما وراء الطبيعة كأنه لم يدر أنه سيخرج للعالم أقوى ما شهد العالم من الميتافيزيقا.
وقد كان في النصف الأول من حياته أميل إلى البحث في الطبيعة منه فيما وراءها، فكتب عن الكواكب والزلازل والنار والرياح والأثير والبراكين ووصف الأقطار والأجناس البشرية وما إلى ذلك، وكانت نظريته في الأجرام السماوية قريبة من النظرية السديمية التي ارتآها «لابلاس»، ومن آرائه أن الكواكب كلها قد سكنها الأحياء أو سيسكنونها، وأبعدها عن الشمس فيه نوع من الكائنات العاقلة أسمى بكثير من سكان هذه الأرض؛ وذلك لأنها أقدم عمرا، وإذن فقد أتيح لها أمد أطول للنمو والتكون. وله كتاب في الأجناس البشرية (هو مجموعة المحاضرات التي ألقاها في حياته). قال فيه إن الإنسان لا بد أن يكون قد تحدر من أصل حيواني، وأنه قد أصابه كثير جدا من التغير والتطور، ويستشهد على ذلك بأمثلة منها أنه لو كان الطفل في العصور الأولى من حياة الإنسان يصرخ عند ولادته كما يصرخ اليوم لما استطاع الحياة يوما واحدا؛ لأن صراخه كان سيدل الحيوانات المفترسة على مكانه فتهجم عليه لتلتهمه، وإذن فيرجح أن يكون الإنسان اليوم مخالفا كل المخالفة لما كان عليه بالأمس. ثم يستطرد «كانت» فيقول: «كيف أحدثت الطبيعة هذا التقدم؟ وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك؟ إننا لا ندري ... وماذا يمنع أن تسوق المصادفة ثورة عظيمة في الطبيعة تؤدي إلى انقلاب هذه الحالة الحاضرة، فيعقبها مرحلة ثالثة يتهذب فيها الأورانج أوتان، أو الشمبانزي، فيرهف من نفسه أعضاء الشم واللمس والكلام، حتى يبلغ بها هذا التركيب الدقيق الذي أدركه الكائن البشري؟» يضاف إلى هذا عضو مركزي يعينه على الفهم فتتقدم تلك القردة تدريجا بفضل ما تنشئه من نظم اجتماعية، ولعل «كانت» يريد - بهذا التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل - أن يذكر لنا رأيه بطريقة غير مباشرة فيما حدث في الماضي عند انتقال الإنسان من حالته الحيوانية إلى حالته الحالية.
هكذا أخذ «كانت» ينمو في إنشاء فلسفته نموا بطيئا، ولقد سار حياته على نظام مطرد دقيق «استيقاظ، ثم شرب القهوة، ثم الكتابة، ثم المحاضرة، ثم الغداء، ثم التنزه.» فلكل من هؤلاء ساعته المحددة، فإذا ما خرج عمانوئيل «كانت» بمعطفه الرمادي وعصاه في يده، وأخذ يتجه ناحية الطريق الصغير الذي تكتنفه أشجار الزيزفون، والذي لا يزال يسمى «نزهة الفيلسوف» عرف الناس أن الساعة قد بلغت منتصف الرابعة تماما، وضبطوا ساعاتهم، ولم يمتنع «كانت» عن نزهته تلك في صيف أو شتاء، فإذا اكفهرت السماء أو تلبدت بالسحب التي تنذر بالمطر، رأيت خادمه الكهل «لامب
صفحة غير معروفة