قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود ت. 1414 هجري
62

قصة الفلسفة الحديثة

تصانيف

ثم جاء «بركلي» وخطا بعد ذلك خطوة جريئة، فقد سلم بمقدمات «لوك»، ولكنه اختلف وإياه في النتيجة. ألم يقل «لوك» بأن معلوماتنا جميعا مشتقة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي إلا الإحساسات التي تنبعث إلينا منه، والأفكار التي تتولد من هذه الإحساسات عند وصولها إلى الذهن. خذ التفاحة مثلا، فهذا لونها يصل إليك ضوءا عن طريق العين، وهذه رائحتها تجيئك عن طريق الأنف، وذاك طعمها تعلمه عن طريق الذوق، وذلك ملمسها وشكلها يصلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف البصر علم عنها كل شيء إلا لونها، وإذا كان فاقدا لحاستي الشم والذوق أيضا اقتصر علم التفاحة على شكلها وملمسها، فإذا فرضنا أن أعصاب يده أصيبت بالشلل ففقدت عملها كذلك أنكر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدمت إليه من وسائل الإقناع، فلولا الحواس لما كان للأشياء الخارجية وجود، فالحواس هي التي كونتها، ولذلك لم يتردد «بركلي» في إنكار المادة إنكارا تاما، ولم يعترف بوجود شيء إلا حقيقة واحدة يحسها في نفسه ألا وهي العقل.

أجهز بركلي على المادة فمحاها على صفحة الوجود، وأشفق على العقل فسلم بوجوده، ولكن جاء بعده هيوم فأبى أن يقف عند هذا الحد المتواضع من الإنكار، وسارع إلى العقل بمعوله فألقاه في هوة العدم. ما هذا العقل الذي يتشبث بركلي بوجوده؟ ابحث في نفسك بحثا باطنيا، وحاول أن تعثر على ذلك العقل باعتباره ذاتا مستقلة فلن تعود بطائل، ولن تصادف في نفسك إلا سلسلة من الأفكار والمشاعر والذكريات يتلو بعضها بعضا، فليس ثمة عقل، ولكنها عمليات فكرية ، وصور ذهنية لا أقل ولا أكثر، وإذن فقد انهار العقل كما انهارت المادة من قبل! وهكذا قوضت الفلسفة بفئوسها كل شيء، ثم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة لا تجد وقودا يذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة، ولم يبق لها منهما شيء، قرأ «كانت» ترجمة ألمانية لكتب «ديفد هيوم» فروعته هذه النتيجة التي قضت على الدين والعلم معا؛ لأنه إن كان لا روح فلا دين، وإن كان لا مادة فلا علم، روعته هذه النتيجة الهادمة وأيقظته من نعاسه واستسلامه للآراء القديمة على حد تعبيره ... هاله أن يعلن العلم والإيمان إفلاسهما، وأن يسلما نفسيهما إلى الشك، فأعمل الفكر في وسيلة النجاة والإنقاذ. (3) من «روسو» إلى «كانت»

نادى رجال عصر التنوير بأن العقل ينتهي إلى تأييد المذهب المادي، فأجاب بركلي بأن المادة ليس لها وجود، ولم يكن يعلم بركلي - وهو القسيس المتبتل - أن هذا السهم الذي سدده إلى صدر الإلحاد سيرتد إلى نحره فيقضي عليه، لم يكن يعلم أن هذه الحجة التي أبطل بها المادة ليهدم مادية الملحدين، ستبطل كذلك العقل - أي الروح - فتنهدم روحانية المتدينين. فقد كان أجدر ببركلي أن يحارب الملاحدة الماديين الذين يتشبثون بالعقل، بسلاح آخر، فيزعم لهم أن العقل ليس هو الحكم الذي ينتهي بقوله كل زعم وادعاء؛ إذ ما أكثر النتائج المنطقية التي ينتهي إليها العقل، والتي نميل بشعورنا وفطرتنا إلى رفضها، وليس هناك ما يبرر أن أنبذ ما يمليه علي شعوري وفطرتي لأستمع إلى إملاء العقل المنطقي وحده، مع أن هذا العقل أحدث من ذلك الميل الغريزي عهدا وأضعف بناء. نعم إن العقل كثيرا ما يكون خير مرشد وأفضل هاد، لا سيما في الحياة المدنية ، ولكن إذا اشتدت أزمات الحياة فلا بد أن نلجأ إلى الشعور والفطرة نستلهمها الإرشاد، ونستهديها الطريق.

جان جاك روسو.

هذا ما نادى به جان جاك روسو (1712-1773م) الذي وقف وحده في فرنسا يحارب المادية، ويعارض الإلحاد الذي جاء به عصر التنوير.

كان روسو شابا سقيما فلم يستطع أن ينزل ببنيته العليلة في معمعان الحياة، وآثر الحياة الهادئة، فكان ذلك داعية لطول تفكيره وعمق تأمله، كأنما فر من لذعات الحقيقة المرة إلى عالم ملأه بأحلامه وخياله، وفي سنة 1749م أجرت أكاديمية ديجون مسابقة بين الكتاب في رسالة موضوعها: «هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أم إلى إصلاحها؟» وأعدت للمتسابق الفائز منحة، فظفرت مقالة روسو بالجائزة، وقد جاء في رسالته تلك أن الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، فحيثما تنشأ الفلسفة تهبط الأخلاق «ولقد شاع بين الفلاسفة أنفسهم أنه منذ ظهر رجال العلم اختفى أصحاب الشرف.» «وإنني لأصرح في يقين أن التفكير مناقض لطبيعة الإنسان، وأن الرجل المفكر حيوان سافل.» إنه لخير للناس ألف مرة أن يطرحوا هذا العقل، وأن يعمدوا أولا إلى رياضة القلب والمحبة. إن التعليم لا يخرج من الإنسان نبيلا فاضلا، ولكنه ينمي ذكاءه فقط، والذكاء أداة للشر في أغلب الأحيان، فأجدر بنا أن نعتمد على الغريزة والشعور؛ لأنهما أولى بالثقة من العقل. ولقد شرح روسو في قصته المشهورة «هلواز الجديدة» رأيه في تفوق الشعور على العقل شرحا مفصلا.

وهكذا حمل «روسو» حملته على العقل. ومجد الشعور ورفع من شأنه حتى تبدل «البدع» «المودة» في «صالونات» باريس، وأصبحت سيدات الطبقة الراقية يباهين برقة شعورهن ودقة إحساسهن، بعد أن كان الفخر كل الفخر بالعقل والتفكير، ونتج عن ذلك أن تحولت وجهة الأدب إلى العاطفة بعد أن كان مدارها الفكر، كما استيقظ الشعور الديني في النفوس واشتدت الحماسة له.

وخلاصة الدعوة التي نادى بها «روسو» هي: أنه إذا أمكن للعقل أن ينقض العقيدة في الله، وأن ينكر الخلود، فإن الشعور يؤيدهما، فلماذا لا نصدق الشعور الفطري هنا بدل أن نستسلم إلى هذا الشك الجارف الذي يؤدي إليه العقل؟

قرأ «كانت» ما كتبه «روسو» فانصرف إليه بكل قلبه، حتى إنه حين بدأ في مطالعة كتابه «إميل» أبى أن يغادر داره إلى نزهته اليومية المعتادة قبل أن يفرغ من قراءة الكتاب، ولم يكن امتناعه عن الخروج أمرا يسيرا، وهو الذي أفرغ حياته في قانون من حديد، فلا يغير من مجرى سلوكه إلا لأخطر الأسباب.

وجد «كانت» في «روسو» رجلا يريد أن يشق لنفسه طريقا يفلت به من الإلحاد الذي خيم بظلامه الحالك على النفوس، فذهب إلى تفضيل الشعور على العقل، فيما يتصل بما هو فوق الحس من الموضوعات - ولقد أراد «كانت» أن يتصدى هو أيضا لهذه المهمة الكبرى، أراد أن ينقذ الدين من العقل، وأن يخلص العلم من الشك؛ فكانت تلك رسالته.

صفحة غير معروفة