وتحقق أحد حكام العرب من رواج هذا الدجل بين قبائل البربر حين رآهم يخضعون لامرأة تدعي الولاية وتؤيد دعواها بألاعيب من الشعوذة، فأخذ يدرب نفسه على مثل هذه الألاعيب حتى برع في أساليب الحواة، فنال من طاعة القوم واستسلامهم فوق ما كان يبتغي، ومثل هؤلاء يتبعون كل صائح، ويستمعون لكل داع، ويسرعون خفافا إلى الثورات العنيفة التي يشعلها زعيمهم بكلمة واحدة، وكان البربر سببا لكل التطورات التي حدثت في شمال إفريقية، فإنهم أقاموا دولة الفاطميين، ثم لحقوا بجيوش المرابطين فسارت منتصرة الأعلام حتى ملكت بلاد البربر وإسبانيا، ثم أسقطوا المرابطين وأحلوا محلهم الموحدين.
وشرع البربر في الأندلس - منذ حكم العرب - يناصبون الحكام العداء، وحدث أن أحد هؤلاء بالغ في إرضاء ميوله بالتمتع والإغراق في النعيم، مرهقا في سبيل ذلك رعيته، فأغضب ذلك العلماء والفقهاء فأثاروا البربر عليه، فما كانت إلا لحظة حتى هب للسلاح جميع سكان نصف الساحل الغربي لبحر الروم، وحتى دهي العرب بالأندلس بهزيمة نكراء، وأقبل من الشام ثلاثون ألفا من الجنود لاستعادة الولايات التي احتلها البربر، فحيل بين معظم هؤلاء ومن انضم إليهم من العرب بإفريقية والذهاب إلى الأندلس، وأعمل فيهم البربر السيف ذبحا وتقتيلا، وفرت فلولهم إلى سبتة بأرواحهم، فكان يهددهم في كل لحظة عدوان من الجوع والقتل.
وتأثر بربر الأندلس بوثيق اتصالهم بإخوانهم في الساحل الإفريقي بهذه الثورة التي قامت بإفريقية سنة 741م/124ه وكان يتغلغل في نفوسهم حسد قديم للعرب؛ لأنهم نالوا نصيب الأسد من غنائم إسبانيا التي لم تدن قطوفها إلا بقسي البربر ورماحهم، ورأوا أن العرب الذين لم يدخلوا البلاد إلا وقت اجتناء ثمرات الفتح اختصوا أنفسهم بكل الولايات الخصبة الباسمة من شبه الجزيرة، وتركوا لهم أبغض الأجزاء إلى النفس من سهول إسترامادور العفر، وجبال ليون الثلجية، فأقاموا بها مرغمين في جو قارس لا يحتمله من عاش في حر إفريقية، ثم إنهم رأوا أنفسهم في وضع يجعلهم دائما حامية دفاع بين حلفائهم العرب ونصارى الشمال.
تأثر البربر بكل هذا، وقام مونوسا البربري - أحد قواد طارق الذي تزوج بنت يوديس دوق أقيتانية - فأشعل نار الثورة لما أصاب إخوانه بإفريقية من الظلم، وبعد أن فاز بربر إفريقية بمطالبهم هبت ثورة عامة في الولايات الشمالية بإسبانيا، وحمل السلاح بربر غاليسية، وماردة، وقورية، وتقدموا للهجوم على طليطلة، وقرطبة، والجزيرة الخضراء، وصمموا على أن يبحروا منها إلى إفريقية للاتصال بأبناء وطنهم.
وكان الموقف شديد الخطر عصيبا، وجد فيه عبد الملك بن قطن الفهري
5
أمير الأندلس نفسه أمام مشكلة تكاد تستعصي على الحل؛ لأنه كان قد أبى أن يمد يد المساعدة لجنود الشام بسبتة، فأصبح الآن أمام أمرين أحلاهما مر وخيرهما شر: إما أن يخضع للبربر العصاة، وإما أن يستجدي معونة جنود الشام الذين رفض معاونتهم، والذين قد يكونون إذا أذن لهم بنزول الأندلس أشد بلاء وشرا من هؤلاء الذين جاءوا لطردهم، ولكنه صمم آخر على إرسال سفن لنقل جنود الشام بعد أن أخذ عليهم عهدا أن يعودوا من حيث أتوا بعد التغلب على البربر، وبعد أن قوي جيش العرب بهذا المدد، كر على البربر فاستأصل شأفتهم، ثم تعقبهم في كل مكان وبين معاقلهم الجبلية، كما يتعقب الصائد الوحوش الضارية، حتى شفى نفسه بنيل الثأر منهم.
غير أن الخطر الذي أراد عبد الملك أن يتوقاه ظهر وأبدى ناجذيه؛ فقد أبى جنود الشام أن يستبدلوا بالمروج الخضر والحدائق الفيح بالأندلس، صحراء إفريقية القاحلة؛ حيث تنوشهم رماح البربر المتغلبين، فتحدوا عبد الملك وقتلوه، واختاروا للأندلس أميرا منهم،
6
وكان من نتائج ذلك أن شب بين العرب القدماء والجنود الداخلين صراع عنيف طويل المدى، كثرت فيه المذابح، وعم الدمار، ولم ينته هذا الصراع إلا بعد أن أرسل الخليفة بدمشق أميرا
صفحة غير معروفة