سببا لإثارة القلاقل في الدولة كما سيتلى عليك بعد، فإن إسلامهم وإن تضمن مساواتهم بالمسلمين لم يصل بهم إلى التمتع بحقوق المسلمين وميزاتهم كاملة؛ فقد حيل بينهم وبين مناصب الدولة، ونظر إليهم نظرة اشتباه وحذر كما ينظر إلى من يبيع نفسه رخيصة يريد عرض الحياة الدنيا. وقد زالت هذه الفروق في النهاية، ولكن بعد أن أحدثت نزاعا خطيرا وثورات متعاقبة.
كان فتح العرب للأندلس في جملته نعمة ورخاء على الأندلسيين المحكومين؛ لأنه أبطل ما كان يملكه كبار النبلاء ورجال الكنيسة من الضياع الواسعة، وحولها ملكيات صغيرة، ثم رفع عبء الضرائب عن الطبقة الوسطى، واقتصر منها على الجزية على غير المسلمين، والخراج على المسلمين وسواهم، ثم حث على تحرير العبيد والرفق بهم، وإصلاح أحوالهم فأصبحوا زراعا مستقلين في خدمة ساداتهم المسلمين.
وكان الفتح على النقيض من ذلك شرا وبلاء على الحاكمين، فليس هناك أبعد شططا من أن تتخيل أن العرب الذين انتشروا بهذه السرعة فوق نصف العالم المتمدين كانوا متحدين على أي معنى مقبول من معاني الاتحاد، فإن ذلك لم يكن صحيحا، وقد بذل محمد جهده، وكد بكل ما أوتي من حكمة وحزم وشخصية مهيبة عجيبة ليحافظ جهد المستطيع على صورة للوحدة العربية؛ لأن العرب كانوا شعوبا وقبائل، وكان بين هذه القبائل حروب وترات دامية استمرت طويلا، وكان للنعرة القبلية التي لم تنطفئ شعلتها بعد الإسلام أكبر سلطان على نفوسهم، ولو بقيت دولة الإسلام في حدود بلاد العرب ولم تتجاوزها، ما بقي شك في سرعة انتقاضها وزوالها؛ لكثرة ما كان يقع بين القبائل من التنافس والتحاسد، وقد تبع وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
خروج عام من القبائل.
والحق أن الإسلام لم تثبت أركانه ولم يصبح دين الدنيا إلا حينما سلح نفسه وأصبح دينا محاربا، فنجا من الانتكاس بتوالي انتصاراته؛ لأن العرب إذ ذاك ألقوا إلى حين تحاسدهم المدمر القاتل جانبا ليتعاونوا في اقتناص الغنائم، على أنه من المحقق أن تحمسهم للفتوح كان يؤججه عنصر قوي من التعصب للدين والرغبة في نشره؛ فقد حاربوا لأنهم يقاتلون أعداء الله ورسوله، وحاربوا لأن مثوبة الشهداء وكئوس السعادة والنعيم كانت تنتظر من يقتلون في سبيل الله، غير أننا لا نستطيع أن ننكر أن ثروة القياصرة والأكاسرة، والأراضي الخصبة، والمدن العامرة في الممالك المجاورة - كانت عاملا كبيرا في تحمس المسلمين لنشر الإسلام.
وحينما استقر لهم الملك وهدأت موجة الفتوح، عادت إليهم الشحناء، وتحركت فيهم عقارب الحسد والغيرة والتفريق التي كانت استلتها جلبة الحروب وغنائم الفاتحين، فانطلقت بعد احتباسها منذرة بالشر والدمار، فإن روح العنصرية القبلية انتشر في كل جزء من أجزاء المملكة التي أخضعوها، وتأثر به الخلفاء بدمشق، فكان تعيين الأمراء في الولايات يتبع هذه النزعة القبلية، وكان اختلاف القبائل وتعصبها بالأندلس داعية لكثير من الفوضى واضطراب الأمن والنظام في أثناء الخمسين سنة الأولى من حكم العرب حينما كان حاكم إفريقية أو الخليفة نفسه يعين أمير الأندلس، فكان هؤلاء الأمراء يبقون في مناصبهم، أو يعزلون، أو يقتلون تبعا لميول بعض العشائر والقبائل الذين كانوا يعارضون مرة أن يكون الأمير مدنيا، ومرة في أن يكون قيسيا، وثالثة في أن يكون يمنيا، واستمرت هذه النعرة تقذف سمومها طول مدة حكم العرب بالأندلس.
يضاف إلى ذلك، أن الأندلس كان بها إلى جانب العشائر العربية المختلفة حزب آخر عظيم الخطر يجب أن يحسب له حساب، فإن طارقا لم يتم له فتح الجزيرة إلا بجيش جمهرته من البربر؛ لذلك أصبح هؤلاء عنصرا عظيم الشأن في الحياة الجديدة، ولم تكن أمة البربر ضعيفة خائرة كالإسبان الذين اصطبغوا بصبغة الرومان، ولكنهم كانوا ممتلئين حياة وعزما وإقداما، وحينما غزا العرب بلادهم، قاومهم عديد من قبائلهم الباسلة في معاقلهم الجبلية وفي السهول الممتدة من مصر إلى المحيط الأطلنطي مقاومة عنيدة كانت أشد عنفا من مقاومة الفرس وجنود رومة المدربين، وكانوا يشبهون العرب في كثير من الوجوه، فكان لهم قبائل كما كان لهؤلاء، وكانت ميولهم السياسية ديمقراطية كالعرب، غير أنهم كانوا يجلون الأسر الشريفة إجلالا ذهب بخطر الديمقراطية بين قوم جاهلين، وكانت صفاتهم الحربية عربية في أكثر مظاهرها، واستمر القتال بين هذين الفريقين من الرعاة المنتجعين سبعين سنة، حتى إذا تغلب عليهم العرب في النهاية كان هذا الفوز عن رضا من البربر أكثر من أن يكون هزيمة محققة، فسمح البربر للأمير العربي أن يجعل دار حكمه قريبة من الساحل، ولكنهم حتموا إبقاء حكومتهم القبلية للفصل في شئونهم كما كانت، وطلبوا أن يكونوا إخوانا لا خولا ولا عبيدا للفاتحين.
واستمر هذا النظام الأجوف قائما مدة من الزمن، وتسابق البربر إلى الإسلام، وتحمسوا له حماسة تفوق تحمس العرب أنفسهم، وبعد قليل أصبحت بلادهم عشا للمذاهب الدينية المبتدعة التي بدلت بالأصول الإسلامية الفطرية عناصر وهمية مثيرة للعواطف، يدسها أصحاب العقول البعيدة الخيال في كل دين، ووجد المبتدعون - بعد أن طردوا من حظيرة الدين الحق - في عقول السذج من البربر أرضا خصبة لإنماء مذاهبهم، وقديما عرف البربر بسرعة قبولهم لما يلقى عليهم من المذاهب الدينية، وبشدة تأثرهم بها وتحمسهم لها، ذلك التأثر الذي ذهب بهم أفواجا إلى اعتناق الإسلام، والذي مكن طارقا واثني عشر ألفا منهم من فتح الأندلس.
وقد استغل هذه السذاجة في حركته السياسية الدينية زعيم المرابطين الذي قدم إلى المغرب ليبث في نفوس القوم نفوذا أقوى من نفوذ رؤساء قبائلهم، ويخضعهم بسطوة فوق سطوة حاكمهم، ولم يكن يحتاج هذا الزعيم إلى أكثر من كرامات زائفة ليسوق قطيعا من المصدقين الدهشين إلى حظيرته.
صفحة غير معروفة