لم تكن دعوتي إلى التجريبية العلمية لتمضي دون أن تثير المعارضة الشديدة من جهات مختلفة، فمن المعارضين من أخذته الخشية أن يكون في تلك الدعوة العلمية الخالصة ما يمس الدين من قريب أو من بعيد، فانطلق في هجومه من هذه الزاوية، فجاء الهجوم خليطا بين حجة عقلية وعاطفة دينية، ومن المعارضين من كان دافعهم الأقوى والدفين هو المنافسة المهنية أكثر منه دفاعا عن الحق الفلسفي، وكان مما أضعف هؤلاء قصورهم عن الإلمام الكافي بما يعارضونه، ولعل علة ذلك القصور أنهم - على الأغلب - لم تكن لديهم الوسيلة اللغوية القادرة على الرجوع إلى المصادر الرئيسية لما يعارضونه، فلا هم على قدر كاف من معرفة اللغة الإنجليزية التي كتبت معظم الأصول، ولا هم على رغبة كافية في تعقب الحقيقة ليقرروا كتابتي العربية قبل أن يعارضوا، فأخذوا الفكرة بما يشاع عنها بين عابري السبيل، وكذلك كان من المعارضين من توافر له الإخلاص لكن فاتته قوة الحجة.
ولو أبعدنا الشوائب التي كثيرا ما تضاف إلى الخلاف العلمي فتفسد نقاءه، لقلنا: إن المعركة في صميمها إنما هي معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع: أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئا من داخل الإنسان متجها إلى خارجه، والآخر يجعله بادئا من خارج الإنسان متجها إلى داخله، والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني، الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل، على أساسها يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تستنبط الرياضة من مسلماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية، والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم تبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات، إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة من يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة، ليقول: إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه، إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعول في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمن جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل كان من المثاليين أو العقلانيين، ومن جعل الأولوية للحواس كان من التجريبيين.
وكان موقفي من هذا التقسيم مع التجريبيين، لكنها كانت تجريبية ذات طابع خاص، تجعل اللغة وتحليلها - لا الأشياء - مدار نظرها، فمن منطق التركيب اللغوي ذاته يستطيع الباحث أن يعلم مقدما أهو تركيب صالح للتحدث عن واقع الطبيعة حديثا ذا معنى؟ أم هو تركيب إذا ما حللناه وجدناه غير منطو على دلالة؟ ولقد أدى بنا التحليل المبدئي للغة وطرائق استخدامها إلى أنها تدور في أحد مجالين كبيرين: في أحدهما تستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، وأما في المجال الآخر فتستخدم اللغة لا لتشير إلى خارج، بل لتحرك في باطن الإنسان انفعالا أو عاطفة، أو لتقيم في داخل المتلقي بناء ذهنيا خالصا ليس من شأنه أن يكتسب معناه ودلالته من مقابلته مع كائنات العالم الخارجي، وإذا أردت مثالا يوضح الفرق بين هذين المجالين في استعمال اللغة، فقارن بين هذين القولين عن الهرم الأكبر: (1) يقع الهرم الأكبر غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشر كيلومترات. (2) تثير رؤية الهرم الأكبر في نفس المصري ذكريات المجد، وجلال الخلود ... ففي القول الأول جاءت اللغة لتشير إلى وقائع خارجية يمكن مراجعتها بواسطة الحواس لنتبين مدى صدق محتواها على ذلك الواقع، وفي القول الثاني لا تشير إلى خارج ولكنها تحرك في نفس القارئ أو السامع أصداء وجدانية لا سبيل إلى التحقق منها، وإنما يكتفى فيها بمجرد تعبير المتلقي عما قد أحسه في باطنه من تلك الأصداء. والدارس إذا ما تبين الفواصل التي تميز هذين المجالين في استخدام اللغة أحدهما عن الآخر، عرف بالتالي متى يكون القول مقبولا من الناحية العلمية ومتى يكون مرفوضا؛ إذ المجال الأول وحده هو ما يصلح للتحقيق العلمي، وأما المجال الآخر فيدخل في باب التعبير الوجداني، فإذا كانت له مقاييس، فهي مقاييس الشعر أو ما إلى الشعر من وسائل التعبير.
تلك كانت دعواي في أساسها، وترتب عليها ما ترتب من نتائج بالغة الأهمية فيما نقبله وما نرفضه مما يجرى على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، فجاءت الردود من المعارضين مختلفة باختلاف أصحابها في جدية المأخذ وعمق التفكير. (راجع فصل «من معاركنا الفلسفية» في كتابي «من زاوية فلسفية»، إذا أردت أن تقرأ تفصيلا ما قاله بعض المعارضين وما رددت به عليهم).
8
لم تكن التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) بدعاواها التي قد تبدو بسيطة أمام العين العابرة بأقل من ثورة شاملة تغير من الفلسفة وسائلها وأهدافها معا، أما الأهداف فقد كان يراود الفلاسفة على تعاقب العصور أمل بأنهم إنما يبحثون عن «حقيقة» الكون و«حقيقة» الإنسان، وربما كان لهؤلاء الفلاسفة عذرهم فيما استهدفوه، عندما كان «العلم» بالأشياء متضمنا في النظر الفلسفي، أما وقد أخذت العلوم تستقل بذواتها كلما وجد علم منها أنه قد بات له من دقة المنهج ومن تحديد موضوع البحث ما يدعوه إلى أن يكون هو صاحب الكلمة في ميدانه، فلم يعد أمام الفاعلية الفلسفية - وهي فاعلية ذهنية لا تتم معرفة بدونها - إلا أن تقصر نفسها على صب الأضواء على ما تقوله العلوم في مختلف ميادينها، دون أن تضيف هي من عندها «حقيقة» إيجابية توضع في صف واحد مع سائر الحقائق العلمية .
كان مألوفا أن يكون الفيلسوف هو الذي يتولى النظر في حقائق الفلك والطب والطبيعة والنبات والحيوان والإنسان، ونظريات السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس، وكان ذلك ممكنا لأن المعرفة كانت موحدة بغير فواصل تميز ميادين التخصص بعضها من بعض، بل كان الفيلسوف من الأعلام يحاول عامدا أن يضع لنفسه «مبدأ» ترتد إليه المعرفة كلها بشتى فروعها، فإذا قال أرسطو - مثلا - بأن لكل شيء صورة ومادة؛ فالصورة هي بمثابة «الوظيفة» المعينة التي تجعل المادة هي ما هي فيما تؤديه، كان ذلك القول شاملا ومفسرا لأنواع الكائنات جميعا في ضروب نشاطها.
ولكننا اليوم في عصر تقدمت فيه العلوم وتخصصت وازدادت دقة بأجهزتها، فلم يعد أمام الذهن «المتأمل» مجال في الوصول إلى قانون من قوانين العلم، لكن بقي أمامه أهم مجال يصلح لفاعليته، وهو أن يتعقب أقوال العلماء إلى جذورها الأولى؛ ليكشف بذلك عدة أشياء ذات أهمية بالغة، فهو يكشف أولا ما تنطوي عليه نقط الابتداء في مختلف العلوم، وهي النقط التي يسلم بها العلماء جدلا لتكون محطة يبدأ منها السير العلمي، كأن يبدأ علماء الرياضة من العدد إلى الإدراك العقلي عند الإنسان، فتكون مهمة فيلسوف الرياضة هي أن يحفر تحت العدد ليكشف عن جذوره الدفينة المضمرة، وهكذا قل في فيلسوف الطبيعة وفيلسوف التاريخ وفيلسوف الأخلاق أو الجمال أو ما شئت، فكل هؤلاء ينفذون خلال الظاهرة التي وقف عندها العلماء؛ ليروا ما وراءها من فروض مستترة، فإذا كان المؤرخ - مثلا - يبدأ من الأحداث الفعلية في الميدان الذي اختاره ليؤرخ له، ففيلسوف التاريخ ينفذ إلى ما وراء تلك الأحداث لعله يكشف عما يحركها، وأما الفيلسوف من العمالقة الكبار فيضم هذه الفلسفات الفرعية كلها في بناء واحد يضمها إذا استطاع، أو بعبارة أخرى: هو لا يكتفي بالوصول إلى الجذور الأولية للفكر الرياضي أو التاريخ أو اللغة أو الفن، بل يحاول فوق ذلك كله أن يرى ما إذا كانت تلك الفروع جميعا تلتقي في أعمق الأعماق عند مبدأ واحد، وعندئذ يقرر إذا كان للمعرفة الإنسانية وحدة واحدة تجعلها كالشجرة الواحدة برغم تعدد فروعها.
فرق بعيد - كما ترى - بين أن تجعل الفلسفة هدفها بحثا عن حقائق الكائنات، وأن تجعل ذلك الهدف بحثا فيما يقوله العلماء - أصحاب الشأن - عن الكائنات، وذلك هو الفرق الذي أحدثته التجريبية العلمية في «الهدف»، وأما «الوسيلة» إلى الهدف فكانت عند معظم الفلاسفة السابقين «تأملا» بالذهن الخالص في طبائع الأشياء، ومحاولة إقامة بناء فكري تكون تلك الطبائع أجزاءه المتصل بعضها ببعض اتصالا عضويا، وأما «الوسيلة» عند التجريبية العلمية فهي البحث في منطق اللغة التي استخدمها العلماء؛ للتمييز بين جملة تؤدي إلى معنى علمي وجملة لا تؤدي.
وإذا أردت مزيدا من الإيضاح عن لب الثورة التي أحدثتها التجريبية العلمية في الفلسفة المعاصرة، فلتتصور صفحتين متقابلتين، تقول كل منهما ما تقوله الأخرى، ولكنها تقوله بلغة مختلفة، فهكذا الأمر بالنسبة للكون الخارجي بكل ما فيه ومن فيه - من ناحية - وما قاله القائلون عن ذلك الكون - من ناحية أخرى؛ فهنالك الأشياء في جهة والكلام الذي قيل عن تلك الأشياء في جهة أخرى، ومهمة العلماء تنصب على الأشياء، وأما مهمة الفلاسفة فتنصب على الكلام، وذلك بعد أن كان العلماء والفلاسفة معا يتزاحمون على دنيا الأشياء كأنهما جماعتان تتنافسان وراء ثمرة واحدة، فحل اليوم بين العلم والفلسفة تعاون لا تنافس: العلم يبحث في حقائق الأشياء ليقول ما يقوله، والفلسفة تفحص في هذا الذي يقوله العلم لتضمن سلامة بنيته المنطقية واستمرارية جذورها مع جذعها وفروعها وأوراقها وثمارها.
صفحة غير معروفة