لهذا كله رأيت أن أوضح في «خرافة الميتافيزيقا» أن كثيرا جدا من الكائنات الميتافيزيقية أدخل في باب الخرافة منه في باب الوقائع التي يستند إليها التفكير العلمي، على أنني فرقت بين نوعين من الميتافيزيقا؛ لأرفض منهما نوعا وأبقي على الآخر، فإذا كنت تصرف حديثك عما وراء «الأشياء» من خافيات عن الحواس، فذلك ما قد يورطك فيما ليس له معنى، أما إذا صرفت الحديث إلى ما وراء تركيبة لفظية معينة لتكشف عما استتر وراءها من فروض مضمرة فذلك مقبول ومشروع بل وضروري للفكر إذا أراد أن يتعمق فهمه للعلم وقضاياه، ولقد كان ما صنعه الفيلسوف عمانوئيل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» شيئا من هذا؛ إذ أراد أن يكشف عما وراء الجمل الرياضية والجمل في العلوم الطبيعية من فاعلية عقلية تضمن لتلك الجمل أن تكون صادقة صدقا ضروريا وعاما، ونستطيع أن نسمي الميتافيزيقا المرفوضة بالميتافيزيقا «التأملية» والأخرى المقبولة بالميتافيزيقا «النقدية».
ولقد أحدث كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ضجة مدوية عقب ظهوره، وكان موضع الخطأ عند معظم الناقدين أنهم خلطوا بين فلسفة ودين، فحملوا كلامي الموجه إلى فكر فلسفي من طراز معين على عقائد الدين، ولو تذكروا ما كنت أحرص الناس على أن يتذكروه، وهو أن مجال الإيمان الديني مختلف عن مجال التفكير المقيد بمنطق العقل العلمي؛ لأن «الإيمان» تصديق بغير برهان، وأما منطق العقل فطريق للبراهين، لو تذكروا ذلك لاستراحوا وأراحوا.
ونفد الكتاب بعد صدوره ببضع سنين، لكني أمسكت عن إعادة طبعه حتى يتاح لي أن أعيد كتابة بعض أجزائه شارحا مواضع الغموض، غير أن الأعوام أخذت تكر عاما بعد عام، وكثرت شواغل الحياة، ثم دبت شيخوخة وأمراض، فلم أحقق ما أردت تحقيقه، وأخيرا أنقذت الموقف بأن اكتفيت بكتابة مقدمة طويلة للطبعة الثانية أوضح فيها ما قد غمض على الناقدين، ثم غيرت عنوان الكتاب وجعلته «موقف من الميتافيزيقا» ليكون أقرب إلى الموضوعية والحياد.
أما الموقف الفكري نفسه الذي عرضته في ذلك الكتاب، فهو ما يزال موقفي إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، وحتى لو أردت شيئا من التعديل، لما تناولت بالتعديل ركنا من أركانه الأساسية.
6
كان كتاب «المنطق الوضعي» - بجزأيه الأول والثاني - وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» دعامتين من ثالوث علمي أقمته خلال الخمسينيات؛ لأدعم به وقفة فلسفية آثرتها على غيرها، ورأيت فيها نفعا عظيما للأمة العربية في نهوضها العلمي والفكري والثقافي؛ لأنها وقفة تستهدف - في مجال النظر العلمي - منهجا يضبط القول ضبطا يصونه من الانزلاق في سيال اللفظ الذي يلهينا عن المعنى، وأما ثالثة الثالوث فهو كتابي «نحو فلسفة علمية» الصادر في عام 1958م (ونال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة سنة 1960م).
في هذا الكتاب بسطت في تفصيل مستفيض النظرة التي تتحول بها الفلسفة من إقامة بناءات ميتافيزيقية يقيمها عمالقة، كل منهم يحاول أن يفسر الكون كله بمبدأ واحد؛ ليصبح العمل الفلسفي تحليلات للأسس التي تبنى عليها العلوم بناء منهجيا سليما؛ فالكتاب دعوة إلى فلسفة علمية بأكثر من معنى، أولها أن تكون قضايا العلوم ومناهجها مدار الاهتمام، وثانيها أن يجيء العمل الفلسفي نتيجة تعاون بين عدة أفراد، لا صرحا عاليا يشيده فرد واحد بمفرده، وثالثها أن يكتفى في كل عملية تحليلية بجزئية واحدة صغيرة، قد تكون جملة واحدة تتخذ مقياسا لأشباهها من حيث طريقة التركيب، كما فعل برتراند رسل في تحليله لجملة: «مؤلف ويفزلي هوسكوت» فقال «رامزي» عن هذا التحليل: إنه جاء منوالا للعمل الفلسفي في تصوره الجديد.
لكن الخمسينيات لم تقتصر على تلك الكتب الثلاثة وحدها: المنطق الوضعي وخرافة الميتافيزيقا ونحو فلسفة علمية، بل إنها شهدت كذلك لتلك الكتب روافد فرعية كان لا بد منها، من ذلك كتابان: أحدهما عن فلسفة برتراند رسل (1956م) والآخر عن فلسفة ديفد هيوم (1958م)، فأما كتابي عن «رسل» فقد أردت به دراسة منهجه في التحليل الفلسفي؛ وذلك لأن «رسل» وإن لم يكن مناصرا كاملا للوضعية المنطقة (أو التجريبية العلمية) إلا أنه أمد أنصارها ببعض أدوات التحليل التي استخدموها في عملهم الفلسفي، وأما كتابي عن ديفد هيوم فهو بمثابة العودة بالتيار إلى منبعه؛ لأن هيوم (فيلسوف إنجليزي في القرن الثامن عشر) كان بغير شك أبا لمن جاء بعده ممن أرادوا أن تكون انطباعات الحواس مرجعا وحيدا لأي معرفة تساق عن الطبيعة الخارجية.
وإلى جانب دراستي لهذين الفيلسوفين: رسل وهيوم، لعلاقتهما الوثيقة - منهجا بالنسبة لرسل، ومضمونا بالنسبة لهيوم - فقد شعرت كذلك أن دراسة موسعة لفلسفة البراجماتية (أو فلسفة الذرائع كما نسميها أحيانا) ضرورية لتحديد العلاقة بينهما وبين التجريبية العلمية: فكان أن أصدرت كتابي «حياة الفكر في العالم الجديد» لأقدم به صورة عن الفلسفة الأمريكية كلها (1956م) ثم عكفت على ترجمة كاملة للكتاب الضخم الذي ألفه جون ديوي عن «المنطق، نظرية البحث» يثير وجهة النظر «الوسيلة» - والوسيلة هي فرع من البراجماتية عرف به جون ديول، وخلاصتها أن أية فكرة علمية لا تكتمل وظيفتها إلا إذا جاءت خطوة مع غيرها من خطوات، تكون هي «الوسائل» المؤدية إلى نتيجة مطلوبة لتغيير الموقف المراد تغييره - وبعد أن فرغت من ترجمة ذلك المؤلف الكبير، تكون لدي فكرة بسطتها في مقدمة طويلة للترجمة، بلغت نحو خمسين صفحة، أقول فيها إنني أرى وجوب الإفادة من الرأي الوسلي القائل بأن الفكر لا يكون فكرا بالمعنى الصحيح، إلا إذا كانت له نتائج فعالة في تغيير أوجه حياتنا على النحو المنشود، وحاولت أن أوفق بين هذا الرأي المستقبلي من جهة، وطريقة الوضعية المنطقية في تحليلها للأفكار العلمية، وخرجت من ذلك بصيغة ترضيني.
7
صفحة غير معروفة