والكرة حذت حذو الجمل، فأخذت تتذوق هي الأخرى المربى المسروقة والبونبون والفطائر، بل يلوح أن الدب لم يأكل قط قدر ما أخذت تأكل جميع الكرات التي تهجم الآن على السلاطين والصناديق وتفرغها بسرعة.
وبابا لم يعاقب الدب أو الجمل أو الكرات؛ لأنه يعلم أنها لا بد أن تنمو كما أن الدواليب لا تغلق بالمفتاح، بل وغطاء صناديق البونبون مرفوع قليلا، وورق السلفان الذي يغطي سلاطين المربى غير مربوط؛ وذلك لأن الكرات ليس لها أصابع تحل بها الخيط وتفتح الدواليب، ومع ذلك فبابا سيتربص أحد الأيام في الدولاب نفسه، وعندما يأتي الدب والجمل في هدوء لكي يتمتعا وبين مخالبهما ملعقة صغيرة، سيجدون بابا مختفيا بين سلاطين المربى، ولست أدري من الذي سيتملكه الخوف أكثر من الآخرين عندئذ ويولي الأدبار: الجمل أم الدب أم بابا؟
سأكتب لكم بما يتم. (6) الرجل المسكين
كنا نعرفه شقيا بائسا، وقد اعتدنا حالته الاجتماعية الثابتة إلى الأبد، كأحد حروف الأبجدية، فهو مثقل بالهموم، ويستنشق حزنا عميقا.
ولم يكن يعرف كلما التقينا به حديثا غير حديث الظلم الأبدي الذي وقع فريسة له، والمضايقات العديدة التي لا بد أن يخوض فيها كل يوم وكأنها البرك أثناء غدوه ورواحه، والرجل المسكين كان يعمل مدرسا أو موظفا أو صحفيا أو بغير مهنة محددة، وكان الرجل المسكين مشتتا ومجمعا، وكثيرا ما نلتقي في كافة الطرقات وكافة الأيام بمثل هذا الرجل المسكين المسحوق بين العربات التي خرجت عن شريط الحياة.
وذات يوم بينما كنا نكدح مع عائلتنا في نزهة يوم أحد على الأقدام بعيدا عن المدينة، مر الرجل المسكين إلى جوارنا في سيارة فخمة، وكل من أفراد أسرته يحمل مخلاة محشوة بالمأكولات، وقد أغرق أشباحنا في تراب الطريق، وأوشك أن يدوسنا، وعند عبوره بنا لمحنا ولاح متأثرا، من كان بالسيارة؟! يلوح أنه قد حيانا!
وبعد أيام قليلة قابلنا الرجل المسكين سائرا على قدميه في المدينة مقوسا ممزق الثياب خابي النظرة، وكان يحمل تحت ذراعه حقيبة مليئة بالكتب، وقد أوضح لنا - دون أن نطلب منه شيئا - كيف ولماذا كان يوم الأحد الماضي في سيارة فخمة، وقد شل معارضتنا بإلحاح، فأكد أنها كانت عربة أحد أصدقائه، وهو رجل ثري يضعها أحيانا تحت تصرفه لكي يمكنه هو وأسرته من الذهاب إلى الجبل؛ لاستنشاق قليل من الهواء، وقد انتهز الفرصة لكي يصل إلى مصيف بوستيلي في الجبل، وعاد في نفس المساء إلى بوخارست، والخوف يسيطر عليه من وقوع حادثة، لا بالنسبة له ولا بالنسبة لقبيلته العائلية، بل بالنسبة للسيارة، وكان قد تعلم القيادة لحسن الحظ، وكان مثالا للحذر، فعند انحناءات الطريق كان يهدئ إلى أقل سرعة ممكنة، وكذلك عند ملتقى الطرق، وكان مالك العربة رجلا ثريا وكريما، فكان يعطيه البنزين نفسه مجانا؛ لكي يجعل النزهة أقل ما تكون كلفة عليه، وأما فيما عدا ذلك، فالأمور تأخذ مجراها العام، ولما كان الرجل المسكين لا بد له من أن يأكل في بيته، فقد نقل ببساطة وجبته من العاصمة إلى الجبل.
وفي يوم آخر أخذ الرجل المسكين يبني بيتا، ووجدناه يصيح بالأوامر وسط الجرادل والحفر المملوءة بالجير على حافة رصيف، ويقسم كالوثني، وعند رؤيته لنا تحول إلى رجل ودود لطيف، ولاح خجولا، ولكن في غير اضطراب، ورأى أن يقدم لنا تفسيرات مؤصلة، فامرأته قد ورثت من عم بعيد مات بغير وارث مباشر، ولو كانت التركة متواضعة، لما منع ذلك الأسرة من أن تتشجع، فتذكر أن لها صديقا بالغ الغنى كان قد وعدها بقطعة أرض صغيرة للبناء عن طريق القرض، على أن ترده عندما تستطيع دون أن يضع أحد السكين على عنقها، وأما الطوب فقد استعاره من صاحب مصنع كانت أحواله على غير ما يرام، وقد حصل منه أيضا على الخشب والجير، وعندئذ لم ير ضيرا في أن يبدأ العمل، وأن يسير في المهمة، فالنجاح يصل إليه الإنسان دائما بقوة الإرادة والنشاط؛ وخاصة مع الإيمان بالله، وكوخ يملكه الإنسان في نهاية حياة كادحة، أوما يستحقه رجل مسكين؟ وما دام قد أخذ في بنائه فليجعله أكبر اتساعا حتى ينجزه في وقت أسرع، وكان يضم سبع شقق، وأضاف الرجل المسكين: لا بأس! شيء قد بني باقتصاد شديد وبأقل قدر من المواد.
الرجل المسكين هنا والرجل المسكين هناك، وفي كل مكان يحاول الرجل المسكين أن يخفف ولو قليلا من بؤسه في فترة أزمة لم ير لها مثيل من قبل، وبطريق غير محسوس لم يعد رجلا مسكينا وأصبح رجلا وقحا ثرثارا، يمتدح الشرف والاقتصاد وروح التنظيم والعمل والمثابرة، وجميع الفضائل التي يستخدمها رجل مسكين لكي يمتلك منزلا كبيرا وعربة كبيرة وأرضا واسعة وثروة ضخمة، بريئا عندما يسرق، وجريئا عندما يصل إلى هدفه.
الرجل المسكين! ماذا تريدون؟ إنه يفعل ما يستطيع. (7) ماريا نيكيفور
صفحة غير معروفة