مقدمة
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
إيون كريانجا (1837-1889)
ي. ل. كاراجيالي (1852-1912)
باربي ديلا فرانسيا (1852-1918)
تيودور أرغيزي (1880)
بنايت إستراتي (1884-1935)
سيزار بترسكو (1892)
ال. ساهيا (1908-1937)
صفحة غير معروفة
زهاريا ستانكو (1902)
مقدمة
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
إيون كريانجا (1837-1889)
ي. ل. كاراجيالي (1852-1912)
باربي ديلا فرانسيا (1852-1918)
تيودور أرغيزي (1880)
بنايت إستراتي (1884-1935)
سيزار بترسكو (1892)
صفحة غير معروفة
ال. ساهيا (1908-1937)
زهاريا ستانكو (1902)
قصص رومانية
قصص رومانية
تأليف
محمد مندور
مقدمة
هذه صفحات مختارة من فن القصص في الأدب الروماني تمثل ألوانا مختلفة من هذا الفن عند شعب صديق يشبه في كفاحه من أجل التحرر والوعي بذاته شعبنا العربي إلى حد كبير، بل ربما كان كفاحه أكثر عنفا وضراوة، حتى بالنسبة للغته القومية والاحتفاظ بمقوماته الأصلية.
فالشعب الروماني الأصلي جاءته اللغة اللاتينية مع الغزو الروماني، وتطورت تلك اللغة كلهجة محلية حتى أصبحت ما يعرف اليوم باسم اللغة الرومانية، ولكن هذه اللهجة التي أصبحت لغة لم تتم وتتطور وتستقر بغير عوائق وهزات أتتها من غزوات جيرانها وسيطرتهم على البلاد بعد تضعضع الإمبراطورية الرومانية؛ فتعرضت تلك اللغة لمؤثرات سلافية عميقة، ثم لمؤثرات تركية قد تكون أقل عنفا واتساعا، ولكنها مع ذلك عاقت نمو اللغة القومية وأصابتها بالبلبلة؛ نتيجة لاحتلال تركيا لرومانيا قرونا طويلة، ولكن الشعب الروماني الأصيل استطاع بالرغم من كل ذلك أن يسترد المقومات الأساسية لقوميته وفي مقدمتها اللغة، وكان ذلك بنوع خاص وبشكل واضح في القرن التاسع عشر، فإن ظهور القوميات في أوروبا نتيجة للروح الثورية التي اشتعلت بكل بلد من بلاد أوروبا في ذلك القرن.
وإذا كان الشعب الروماني في مرحلة كفاحه من أجل قوميته الأصيلة، وتدعيم هذه القومية بكل دم قوي سليم قد تعرض في ثقافته وأدبه وفنه إلى مؤثرات غربية قوية؛ كالمؤثرات الألمانية والفرنسية وغيرها، فإنه لم يلبث ابتداء من منتصف القرن الماضي تقريبا أن تخطى تلك المرحلة أيضا ليعتمد على نفسه، ويبحث عن أصالته الخاصة، وقاد هذه الدعوة عدد من أدباء رومانيا ومثقفيها الذين التفوا في مقاطعة مولدافيا - بنوع خاص - حول المجلة التي أصبحت من مشاعل تاريخ الثقافة والأدب والفن في رومانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي مجلة «داسيا الأدبية»، ورأى هذا النفر من الأدباء والفنانين أن طريقهم إلى الأصالة هو العودة إلى ماضيهم القومي، ويوميات مؤرخيهم الأوائل بلغتهم الرومانية النقية من جهة، واستحياء آدابهم الشعبية من جهة أخرى، باعتبار أن تلك الآداب هي التي تعبر عن الروح الأصيلة للشعب وتقاليده، ومواضع اهتمامه بطريقة تلقائية نابعة عن طبيعة الحياة، وغير متأثرة بالثقافات والتيارات والآداب والفنون الوافدة من الخارج، والتي تؤثر بنوع خاص في المثقفين لا في أدباء وفناني الشعب.
صفحة غير معروفة
وأخيرا دراسة واقع الحياة الرومانية المعاصرة والكشف عما فيها من مظالم ومساوئ، وتصوير مشاهد الطبيعة وحياة البشر المرتبطة بتلك المشاهد، والمتأثرة بها والمؤثرة فيها، وهذه هي التيارات الثلاثة التي سيجدها القارئ في هذه المختارات التي يرجع أقدمها إلى أبعد من سنة 1840؛ أي التي تقع كلها في الفترة الحديثة التي أخذت فيها رومانيا تكتشف نفسها، وتستكمل مقومات أصالتها. (1) مادة القصص
ففي هذه المختارات سيلتقي القارئ بالتيار التاريخي في مثل قصة «ألكسندرو تابو شنيانو» للكاتب «كونستنتين نيجروزو» التي استقى مادتها من كتاب اليوميات القدماء، وصور فيها ذلك الصراع الدامي الذي كان يجري بين الأمراء في العصر الإقطاعي للسيطرة على الحكم، ويرسم فيها لوحة دامية لمذبحة فظيعة دبرها أحد هؤلاء الأمراء لمنافسيه على نحو ما فعل محمد علي بالمماليك في مذبحة القلعة الشهيرة في تاريخنا الحديث، بل وأشد ضراوة، وقد أعمل المؤلف في تصوير هذه اللوحة خيالا قاسيا تهتز من حوله أصلب الأعصاب.
وفي هذه المختارات يلتقي القارئ بالحكايات الشعبية التلقائية التي قد لا تكون فيها الحبكة الفنية، ولكن فيها سخر السذاجة وعصير الحياة الشعبية النضرة في مثل قصة «الأب نيكيفور الحلنجي» للكاتب «إيون كرييانجا» الذي تقرأ قصته الشعبية فيخيل إليك أنك تسمع متحدثا شعبيا خفيف الروح، ولا تقرأ لكاتب محترف.
وبالمثل في قصة الكاتب الكبير «كاراجيالي» التي سماها «فندق مانيوالا»، وصور فيها نزوات النفس الفطرية ومغامراتها، التي لا تحس فيها بأي افتعال أو تصنع، وتوهمك بأنها من صميم الواقع الممكن الحدوث في الحياة التلقائية ومصادفاتها العجيبة ومعتقداتها الساذجة.
وإلى جوار القصص التاريخية والفولكلورية، سيلتقي القارئ بالتيار الواقعي الفني المحبوك الذي يرسم صورا أخلاقية دقيقة مكتملة القسمات، مجسدة في شخصية نموذجية، مثل: شخصية «الحاج ديدوز» للكاتب «باربودي لافرانكيا» التي يجسد البخل على نحو لا يقل دقة وشمولا وثراء في التفاصيل عن شخصية «هارباجون» عند «موليير»، و«إيوجين جراندين» عند «بلزاك».
حتى إذا انتقلت إلى الكاتب «تيودور أرغيزي» التقيت بالمنمنمات؛ أي: اللوحات الفنية الصغيرة الشاعرية الروح والأسلوب في مثل لوحاته عن «القط» و«شجرة العرائس» و«سن سعيد» و«خطاب عائلي» و«رجل مسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهي لوحات تتفاوت بين المثالية العاطفية المرهفة في تصويره الشعري للقط، ولحياته في المنزل وللأطفال، وبين الواقعية النقدية الحادة في مثل لوحات «الرجل المسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهذه اللوحات لا نعتبرها قصصا إلا تجاوزا؛ لأنها في الواقع وكما قلنا منمنمات؛ أي: ميداليات فنية صغيرة مطرزة في دقة وشاعرية ساحرتين.
ولما كانت البيئة الزراعية أسبق إلى الوجود في رومانيا - التي كانت أول الأمر تعتمد في حياتها على الزراعة قبل كل شيء - فقد كان من الطبيعي أن ينصرف اهتمام الأدباء والفنانين أول الأمر إلى هذه البيئة ومشاكلها وويلاتها، عندما أدركوا أن واقع حياتهم هو المنبع الثري الذي ينبغي أن يمنحوا منه، ومن هنا جاءت قصص مثل: «أمطار يونيو» للكاتب «ساهيا» التي تصور كفاح الفلاحين الرومانيين، وشجاعة المرأة الرومانية التي تلد في الحقول في تجلد، وهي تعمل كادحة مع زوجها في سبيل لقمة العيش وسط الطبيعة المتجهمة وضغط السلطات الحاكمة وقسوتها، بل وتلد توأمين؛ فيبلغ عدد أطفالها التسعة، وزوجها لا يملك إلا قطعة صغيرة من الأرض لا يدري كيف يشبع بها أحد عشر فما جائعا، وهي قصة بالغة القوة والإثارة ورائعة البنان الفني والتعبير الموحي.
ولما كانت رومانيا قد أخذت تتصنع - وبخاصة في القرن العشرين - بعد اكتشاف ثروتها المعدنية الضخمة - وبخاصة آبار البترول الغنية - فقد كان من الطبيعي أن يمتد اهتمام أدبائها وفنانيها إلى البيئة العمالية الصناعية الجديدة، ومن هنا أخذ يظهر هذا النوع من القصص في مثل الفصل الذي ترجمناه من رواية «الذهب الأسود» للكاتب «سيزار بترسكو»، وهو كاتب تقدمي مناضل صور في روايته الصراع العنيف بين الشعب الروماني ورأس المال الأجنبي المستغل الذي وفد إلى رومانيا للسيطرة على ذهبها الأسود؛ أي على ينابيع بترولها الغزيرة.
ولما كانت حياة الإنسان العاطفية لا بد من أن يكون لها نصيبها في كل إنتاج أدبي فني، وفي أية صورة اتخذها هذا الإنتاج، فقد كان من الطبيعي أن نلتقي في فن القصص الروماني أيضا بالقصص ذات الطابع العاطفي الخالص في مثل قصة «شجرة الليلا» التي تكون فصلا من رواية «الجذوع مرة» للكاتب «زهاريا ستانكو» الذي عرف كيف يمزج في قصته بين المأساة العاطفية الخاصة لبطلها وبطلتها، وبين ويلات الحرب ومآسيها المفجعة، وفي مثل قصة «كيراكيرالينا» الرائعة للكاتب بنيات إستراتي، التي مزج فيها المؤلف بين صورة عاطفة الصداقة البريئة المخلصة بين فتى روماني شريد وبائع يوناني متجول التقى به في بلاد الشرق، وبين صورة حياة هذا الشريد الشقية المعذبة؛ نتيجة لظلم وانحلال كبار أثرياء الإمبراطورية العثمانية وتجارتهم بالرقيق الأبيض الذي وقعت بين براثنه «كيراكيرالينا» أخت هذا الشريد، وخرج المؤلف من المزج بين الصورتين المتقابلتين المتداخلتين بلوحة متكاملة موحدة تهز أعماق العاطفة الإنسانية الشريفة. (2) الأشكال الفنية
وبالرغم من أن المجموعة الفرنسية التي اخترت منها هذه الصفحات من فن القصص الروماني تحمل اسم
صفحة غير معروفة
Nouvelles Rumaines ، وقد أعدها الأستاذ الروماني «تيودور فيانو»، وقدم لها كما قدم لها أيضا الأستاذ الفرنسي «جان بوتيير» المتخصص في الآداب واللغة الرومانية، إلا أن مختارات هذه المجموعة لا تنطوي كلها تحت المصطلح الفني الذي اتخذ عنوانا لها، بل تضم - كما رأينا - قصصا قصيرة وأخرى متوسطة وفصولا من روايات طويلة، بل ولوحات فنية شعرية الطابع.
والواقع أن في اللغة الفرنسية ثلاثة مصطلحات يطلق كل واحد منها على نوع خاص من فن القصة؛ فهناك لفظة
Cone
التي تقابل ما اصطلحنا في العربية على تسميته بالقصص القصيرة، كما أن لفظة
Roman
التي اصطلحنا على ترجمتها إلى العربية بلفظة الرواية أو القصة الطويلة ، بينما هناك لفظة ثالثة هي
Nouvelle
التي لم نستقر بعد على مرادف لها بالعربية، وهي تطلق في الفرنسية على نوع من القصص المتوسطة الطول التي يغلب عليها عادة الطابع الإخباري، وربما كان ذلك هو السبب في تسميتها بلفظة
Nouvelle
التي تعني في أصلها اللغوي «الخبر»، وإن كنا نلحظ أنه إذا كان عملاق هذا الفن القصصي الخاص الكاتب الفرنسي «بروسبير ميرميه» قد احتفظ له بطابعه الإخباري حتى لتكاد القصص التي كتبها من هذا النوع تقتصر على تصوير الأحداث دون الوصف والتحليل المسهبين، إلا أن هذه الخاصية لم تلتزم دائما من الكتاب الآخرين الذين اكتفوا في إدخال قصصهم تحت هذا النوع بالاعتماد على كمها.
صفحة غير معروفة
أي اعتبروا كل قصة متوسطة الطول داخلة فيه، مع أنه من الواجب فنيا ولتمييز هذا النوع من غيره من أنواع القصص أن يحتفظ له بطابعه الإخباري، وعندئذ كنا نستطيع أن نترجم هذا المصطلح إلى العربية بعبارة القصة الإخبارية متخذين لها نماذج من قصص «بروسبير ميرميه» التي كتبها في هذه الصورة، مثل: «كولومبا» و«ماتيو فالكوني» وغيرهما.
ومهما تكن الاختلافات الشكلية الاصطلاحية، فإن هذه الصفحات من فن القصص الروماني تكون نماذج رائعة للفن القصصي كله مهما اختلفت صوره وأبعاده، وهي تعطي فكرة واضحة متكاملة عن اتجاهات هذا الفن ومنابعه وأهدافه ومواضع اهتماماته. (3) أوجه شبه
والقارئ العربي - فضلا عن المتعة الثقافية والفنية التي سيجدها عند قراءة هذه الصفحات المختارة - فإنه لن يعدم الوقوع على أوجه شبه بين حياة شعبنا العربي وكفاحه واتساع اهتماماته وبحثه عن أصالته الخاصة، وبين حياة الشعب الروماني وكفاحه واتساع اهتماماته هو الآخر وبحثه عن أصالته الخاصة.
وإذا كنت لم أقرأ حتى اليوم لأحد أدبائنا تصويرا لمذبحة المماليك في القلعة - مثلا - على نحو ما قرأت هنا قصة الكاتب «نيجيرتسو» عن مذبحة «ألكسندرو لابونشيانو»؛ فإنني قد وجدت مع ذلك ما يشبه هذا الفن القوي في مثل قصة «العسكري الأسود» للدكتور «يوسف إدريس»، كما أنني ألاحظ أن فننا القصصي يمر اليوم بنفس المراحل والتطورات والاهتمامات التي مر بها الفن القصصي الروماني عندما أخذ يعود إلى ماضيه في القصة التاريخية منذ «جورجي زيدان»، ثم عندما أخذ يتجه إلى حياتنا الريفية بأسلوب يجمع بين الرومانسية العاطفية والواقعية في قصة «زينب» «لمحمد حسين هيكل»، وأخيرا اتجاه أدبائنا نحو مشكلات ومعارك الفلاحين في مثل قصة «الأرض» «لعبد الرحمن الشرقاوي»، وكفاحنا الوطني في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وفي الفترة الأخيرة اهتمامنا بالآداب الشعبية وجمعها وتسجيلها، ودراستها كأساس لاستيحائها في أدبنا الجديد الذي أخذت طلائعه تظهر.
ويسرني أن ألاحظ أيضا أن حركة التصنيع القائمة الآن على قدم وساق في بلادنا لا بد أن تخلق عما قريب الأدب الذي يعالج حياة الطبقة العاملة وكفاحها الصناعي، ومشاكلها الخاصة على نحو ما حدث في الأدب الروماني سواء بسواء.
وهكذا أرجو أن يفيد عملي المتواضع في ترجمة وتقديم هذه المختارات إلى قراء العربية فائدة تجمع بين المتعة الفنية الخالصة وإبراز أوجه الشبه والالتقاء والتقارب بين كفاح الشعوب النامية وبحثها عن ذاتها.
محمد مندور
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
ينتمي كونستانتين نجروزو إلى أسرة متواضعة من نبلاء ملدافيا، وهو أحد جماعة كتاب مجلة «داسيا الأدبية» التي كان يديرها «ميخائيل كجالنيشاينو»، والتي كانت تهدف قبيل ثورة سنة 1848 إلى الكفاح في سبيل أدب قومي أصيل، وهو كاتب موهوب تميز في بدء حياته الأدبية بالطابع الرومانسي، ولكنه لم يلبث أن تكشف في «أسود فوق أبيض» و«خطايا الشبابا» عن كاتب واقعي عامر بالسخرية قادر على أن يصور شخصيات ومواقف أصيلة من حياة ملدافيا في أواسط القرن الماضي، وهو خالق القصة التاريخية، وتعتبر قصة «إسكندر لابوشنيانو» أروع ما كتب في هذا الفن، كما أنه خلف قصيدة ملحمية إضافية بطلها الرئيسي هو إتيين الكبير الذي حكم ملدافيا في القرن الخامس عشر، وقد كان مترجما متحمسا عرف الجمهور الروماني بمؤلفات موليير وفلتير وفيكتور هيجو وا. كانتمير وبوتشكين وغيرهم.
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
صفحة غير معروفة
(1) وإذا كنتم لا تريدونني فإنني أريدكم
كان يعقوب الهرقلي
2
قد مات مقتولا بأسلحة ستيفان تومسا
3
الذي كان يحكم البلاد، عندما استطاع إسكندر لابوشنيانو - الذي كانت جيوش يعقوب قد هزمته مرتين وفر لاجئا إلى القسطنطينية - أن يحصل على تعضيد الجيوش التركية، وأن يعود ليسترد الحكم من تومسا المغتصب، ويسترجع العرش الذي ما كان ليفقده قط لولا خيانة النبلاء، وقد دخل ملدافيا على رأس سبعة آلاف فارس، وثلاثة آلاف من الجنود المرتزقة ومزودا بفرمان بأمر خان التتار بأن يمد له يد العون كلما احتاج إليها.
وها هو الآن يعدو فوق خيله، وإلى جواره وزيره روكدان، وقد امتطى كل منهما جوادا عربيا، وتدجج بالسلاح من الرأس إلى القدم، وقال إسكندر بعد لحظة صمت: «ما رأيك يا روكدان؟ هل سننتصر؟»
وأجاب الوزير: «لا شك في ذلك يا سيدي، فالبلاد تئن تحت نير تومسا، وسيعطيك الجيش كله لمجرد أن نعده بزيادة المرتبات، وأما عن النبلاء الذين لا يزالون أحياء، فإن خوف الموت هو وحده الذي يمسكهم، ولكنهم عندما يرون قوات عظمتك سينضمون إلينا ويتخلون عنه.» - إني لأسأل الله ألا أضطر إلى أن أفعل ما فعله الحاكم ميركيا
4
في الفلاكيين، ولكني أكرر ما قلته لك أكثر من مرة من أني أعرف هؤلاء النبلاء بحكم حياتي بينهم. - إن الأمر لعظمتك تقضي فيه بحكمتك السامية، وظلا في مثل هذا الحديث حتى وصلا إلى قرية تيكوشي بين بوخارست ومدينة إياسي، ووقفا عند حافة غابة لكي.
صفحة غير معروفة
واقترب أحد السواس ليقول: يا سيدي، لقد وصل بعض النبلاء وهم يطلبون الإذن بالمثول أمام عظمتك.
وأجاب إسكندر: فليأتوا.
وفورا دخل إلى خيمة إسكندر أربعة من النبلاء محاطين بأتباعه وضباطه، وكان اثنان منهما أكبر سنا واثنان أصغر، والأكبر هما موتزوك وزير الداخلية، وفيفر تزا كبير الياوران، وأما الأصغر فهما القائدان المساعدان سبانكوك وستروبكي.
واقتربوا من الأمير إسكندر، ثم انحنوا حتى الأرض، ولكنهم لم يقبلوا - كما جرت العادة - ذيول قفطانه.
فأجابوا: لك السعادة والرخاء يا صاحب العظمة، واستطرد إسكندر يقول: لقد علمت بالرزايا التي حلت بالبلاط، وقد جئت لإنقاذها، وأنا أعلم أن الناس ينتظرونني في غبطة.
وأجاب موتزوك قائلا: فلتسمح عظمتك بأن أقول أن كل شيء هادئ عندنا، ولربما يكونوا قد قصوا عليك أشياء لا وجود لها ، فلدى قومنا عادة سيئة هي تفخيم الأشياء تفخيما مسرفا، ولقد كلفنا بأن نخبرك أن الشعب لا يريدك ولا يحبك، وأن عظمتك تحسن صنعا لو عدت إلى ...
وأجاب لابوشنيانو - وعيناه تقدحان الشرر: «إذا كنتم لا تريدونني ولا تحبونني، فإنني أنا أحبكم، وسأستمر في طريقي، وافقتم أم لم توافقوا، وأما أن أترك أنا البلاد، فأهون منه أن يرتد الدانوب صاعدا إلى منبعه! آه! البلاد لا تريدني، بل أنتم الذين لا تريدوني إذا صح فهمي!»
فقال سبانكيوك: «إن رأس الرسول لا يمكن أن تقطع، وإن من واجبنا أن نخبرك بالحقيقة، فالنبلاء مصممون على الهجرة إلى المجر وبولندا وفلاشيا، حيث لهم أقارب وأصدقاء، وسيعودون مع جيوش أجنبية؛ فتنزل المحنة بشعبنا عندما يصطدم البعض بالبعض، ولربما قاسيت أنت نفسك يا صاحب العظمة من هذه المحنة؛ وذلك لأن الأمير ستيفان تومسا ...»
فقاطعه قائلا: «تومسا! هل هو الذي علمك أن تتكلم بهذه الجرأة؟ لست أدري لماذا لا أسحق فكيك؟!»
ثم أضاف - وهو ممسك بالمدقة النحاسية التي كانت في قبضة بوجدان: «إن هذا الملعون تومسا هو الذي علمك ...؟»
صفحة غير معروفة
فقال فيفيرتزا: «لا يمكن أن يكون ملعونا ذلك الذي استحق أن يسمى «مسحة الرب».» - «ولكن ألست أنا أيضا «مسحة الرب»؟ أولم تقسموا لي أنا - أيضا - بالولاء عندما لم أكن غير نبيل يافع؟ وأنت يا بترو، أولم تكن أنت الذي اختارني؟ وكيف كان حكمي؟ أي دم أرقته؟ ومن الذي خرج من عندي دون أن ينال حقه بالعدل والقول الطيب؟ ومع ذلك لا تريدونني الآن ولا تحبونني! ها ها ها!» وأخذ يضحك، والضحك يلوي عضلاته وعيناه تختلجان بلا توقف.
وقال سترويكي: «فلتسمح يا صاحب العظمة بأن أقول لك: إن أرضنا ستطأها من جديد أقدام عصابات البرابرة، وعندما تنهب أسراب الأتراك بلادنا وتدمرها، فما الذي سيتبقى لتتولى عليه الملك يا صاحب العظمة؟»
وأضاف سبانكيوك: «ثم ما الذي ستستطيع أن تشبع به نهم هؤلاء الوثنيين الذين اصطحبتهم معك يا سيدي؟» - بأموالكم لا بأموال الفلاحين الذين تنهبونهم، فأنتم تعتصرون الشعب، وقد حان الوقت لكي تعتصروا بدوركم! كفى! ارحلوا أيها النبلاء، اذهبوا لتنصحوا من أرسلكم بأن يتنحى عن طريقي إذا كان لا يريد أن أصنع من عظامه أبواقا ومن جلده طبولا!
وانصرف النبلاء محزونين فيما عدا موتزوك الذي بقي، فسأله الأمير: «لماذا بقيت؟» فأجاب موتزوك - وقد جثا على ركبتيه: «مولاي، لا تعاقبنا على قدر أوزارنا، ولتذكر أنك نشأت من هذه الأرض، ولتتذكر قول الكتاب المقدس لتغفر لنا أخطاءنا، ولتجنب هذه البلاد التعسة الدماء، اصرف يا مولاي هذه العصابات الوثنية، ولا تحتفظ إلا بالمولدافيين الملتفين حولك يا صاحب العظمة، ونحن مسئولون عن ألا يمس أحد شعرة من رأسك، وإذا احتجت إلى جيوش فسوف نحمل السلاح جميعا رجالا ونساء وأطفالا، وسوف نثير البلاد من أجلك، ونسوق أتباعنا وعبيدنا، ألا فلتمنحني ثقتك!»
فقال لابوشنيانو الذي أدرك قصده: «أمنحك ثقتي؟ لعلك تظن أني لا أعرف المثل المولدافي القائل: قد يغير الذئب من وبره، ولكنه لا يغير من طبعه؟ ولعلك تظن أنني لا أعرفكم، ولا أعرفك أنت أكثر من الآخرين، وأنني لا أعلم كيف تخليت عني عند الهزيمة وأنت قائد جيوشي؟ حقا، لقد كان فيفيرتزا عدوا لي دائما، لكن وفي صراحة، وسبنسيوك لا يزال شابا، وقلبه عامر بحب وطنه، وأنا أحب أن أرى جرأته التي لا يحاول أن يخفيها، وستويكي طفل لم يعرف بعد الناس والملق والكذب، كما لا يعرف أن كل ما يلمع ليس ذهبا، وأما أنت يا موتزوك، أنت الذي شاب في العداوة، وتعود تملق جميع الأمراء، وخان المستبد كما خانني وكما ستخون تومسا، قل لي، أوما أكون بالغ الحمق إذا عدت فمنحتك ثقتي؟ ومع ذلك، فإنني أغفر لك محاولتك خديعتي، وأعدك بأنني لن أدنس سيفي بدمك، وسأجنبك الهلاك؛ لأنني في حاجة إليك لكي تعينني على تحمل عداوة الشعب، فلا تزال هناك زنانبير ولا بد من تنظيف الخلية!»
وقبل موتزوك يده كالكلب الذي يلعق يد من يضربه بدلا من أن يعضها، فقد كان مغتبطا بالوعد الذي حصل عليه، وكان يعلم أن الأمير إسكندر سيكون في حاجة إلى رجل مغامرات مثله، وكان تومسا قد أمر رسله بأن يعودوا إذا لم يستطيعوا إقناع لابوشنيانو، وأن يتجهوا إلى القسطنطية لكي يحاولوا حملها على التخلي عنه بتقديم الضراعات والهدايا، ولكنهم عندما رأوا أنه يتمتع برضا الباب العالي، وتوجسوا خيفة من العودة إلى تومسا خاوي الوفاض، فقد طلبوا من الأمير إسكندر الإذن لهم بالبقاء ومصاحبته، وتلك كانت خطة موتزوك باسترضاء لابوشنيانو، وحصلوا فعلا على ذلك الإذن. (2) سيكون عليك تقديم الحساب يا سيدتي
أحس تومسا بعجزه عن مقاومة لابوشنيانو، ففر إلى فلاشيا، ولم يعترض أي عائق طريق لابوشنيانو، ففي كل مكان استقبله الشعب بفرحة وثقة متذكرا فترة حكمه الأولى التي كانت أقصر من أن تكشف عن خلقه البغيض.
ولكن النبلاء كانوا يرتعدون، وكان لديهم سببان قويان للقلق، فهم يعلمون أن الشعب يبغضهم، وأن الأمير لا يحبهم.
وبمجرد أن وصل لابوشنيانو أمر بحمل كميات كبيرة من الخشب إلى جميع قلاع مولدافيا - ما عدا قلعة هوتان التي تقع على الحدود بين يسارابيا وأوكرانيا - ثم أمر بإشعال النار فيها لتدمير مأوى أولئك الساخطين الذين طالما احتموا خلف هذه الجدران؛ لكي يدبروا المؤامرات ويثيروا الفتن؛ ولكي يحطم نفوذ النبلاء ويهدم أركان الإقطاع، انتحل كافة الأعذار لكي ينتزع منهم أملاكهم، وبذلك يحرمهم من الوسيلة الوحيدة التي بقيت بين أيديهم لإخضاع الشعب وإفساده.
ولما كان يرى أن هذه الإجراءات لا تكفي، فقد أخذ يقتل - من وقت إلى آخر - بعض النبلاء لأهون خطأ يرتكبونه في الوظائف العامة، أو لأصغر مطلب يتقدمون به، كانت الرءوس تتدلى معلقة على باب القصر مع بطاقة تدون عليها الجريمة الحقيقية أو الوهمية التي ارتكبها كل منهم، وما تكاد رأس تتعفن حتى تحل محلها رأس أخرى.
صفحة غير معروفة
ولم يجرؤ أحد أن يغتابه، فضلا عن أن يتآمر ضده؛ وذلك لأنه كون لنفسه حرسا من المرتزقة الألبانيين والصربيين والمجريين، والمطاردين بسبب جرائمهم، الذين وجدوا ملجأ عنده، وبفضل سخائه عليهم التفوا حوله، وأما الفرق المولدافية وقوادها من الضباط الذين أخلصوا له، فقد وضعهم في الاحتياطي، كما سرح معظم الجند ، ولم يستبق منهم إلا العدد القليل.
وذات يوم تحدث طويلا مع موتزوك الذي كان قد استرد حظوته لديه، والذي خرج من القصر بعد أن عرض عليه خطة لجباية ضرائب جديدة، ثم أخذ لابوشنيانو يتمشى في صالة القصر، وقد لاح أنه مضطرب يحدث نفسه، ويدبر - فيما يبدو - مذبحة جديدة وجريمة جديدة، وإذا بالباب السري يفتح وتدخل الأميرة روكساندرا.
ويقول الراوي: إنه عندما مات أبوها الأمير الطيب بترولاريس
5
الذي بكاه الشعب كله، ودفن في دير بروباتا المقدس الذي كان قد بناه، بقيت هذه الأميرة وهي في غضاضة العمر تحت وصاية أخويها الكبيرين إلياس وستيفان، وخلف إلياس أباه على العرش، ولكنه بعد حكم قصير قضاه في الدعارة اتجه إلى القسطنطينية، حيث اعتنق الدين الإسلامي وخلفه ستيفان على العرش، وكان أسوأ من أخيه، فأرغم الأجانب وجميع الكاثوليك على التخلي عن دينهم، وكثير من الأسر الغنية التي كانت مستقرة في البلاد أخذت طريقها إلى المنفى؛ مما أصاب الزراعة والتجارة بأضرار فادحة.
وأما النبلاء الذين كان معظمهم ذوي قربى للبولنديين والمجريين، فقد اتفقوا مع المنفيين على القسم على موت ستيفان، ولقد كان من الممكن أن يتريثوا في تنفيذ خطتهم لولا أن حياة الأمير المنحلة حملتهم على التصميم على العمل بأسرع ما يمكن، فالراوي يقول في سذاجة: «إن أية سيدة نبيلة لم تكن تستطيع أن تنجو من نهبه لها ما دامت جميلة.»
وذات يوم بينما كان الأمير بناحية تيتورا في مقاطعة إسي القديمة، ينتظر النبلاء الذين كانوا في صحبته عودة أقاربهم المنفيين، وخافوا أن يفلت من أيديهم، فقطعوا حبال خيمته، وانقضوا عليه وقتلوه.
ومن أسرة بترولاريس، لم يبق الآن غير روكساندرا، وكان النبلاء قتلة أخيها قد قرروا تزويجها ممن يدعى «يولد» الذي رشحوه لتولي العرش، ولكن لابوشنيانو الذي اختاره النبلاء المنفيون تصدى «ليولد»، وبعد أن هزمه وسجنه قطع أنفه واحتجزه في أحد الأروقة، ولكي يكسب قلب الشعب الذي كان لا يزال يذكر حكم لاريس الطيب، تزوج من ابنة هذا الأمير.
وهكذا أصبحت روسكاندرا الرهينة من نصيب المنتصر ، ودخلت إلى الصالة وفي ملابسها من الأبهة ما يليق بزوجة وابنة وأخت أمير.
كانت ترتدي ثوبا مذهبا، وفوقه صدار من المخمل الأزرق مبطن بالفراء، أكمامه الواسعة تتدلى إلى الخلف، وحول خصرها حزام مذهب ذو حلقات زمردية مطعمة بالحجارة الكريمة، وحول عنقها عدة صفوف من اللؤلؤ الدقيق، وكانت بطانة الفرو التي تميل قليلا على كتفها تزينها ريشة من الزمرد، وقد ثبتت إلى جوارها زهرة الزبرجد، ووفقا لموضة العصر كان شعرها المرسل يتهدل على ظهرها وكتفيها.
صفحة غير معروفة
وكان في وجهها ذلك الجمال الذي اشتهرت به نساء رومانيا، وإن يكن اختلاط الأجناس قد انحط به، وكانت حزينة كالزهرة التي تتعرض للشمس دون ظل يحميها، فهي قد رأت أقاربها يموتون، ورأت أحد أخويها يتخلى عن دينه، كما رأت الآخر يقتله أعداؤه.
وقد كان من المقرر أول الأمر أن تتزوج من «يولد» الذي لم تكن تعرفه مجرد معرفة، ولكن الشعب تصرف في قلبها دون استشارتها، واضطرها أن تصبح زوجة للأمير إسكندر الذي أطاعته وكأنه مولاها وسيدها، وودت أن لو أحبته، ولكنها لم تجد عنده أقل قدر من الحساسية.
اقتربت وانحنت وقبلت يده، فطوقها لابوشنيانو من خصرها، ورفعها كالريشة، ثم أجلسها على ركبتيه، ثم طبع على جبهتها قبلة، وهو يقول: ما الأمر يا أميرتي الحسناء؟ وما الذي جعلك تتركين مغزلك مع أن اليوم ليس يوم عيد؟! ومن الذي أيقظك مبكرا هذا الصباح؟ - إنهن الأرامل اللائي بللن بدموعهن عتبة بابي، وهن يصحن طالبات الانتقام من الرب، ومن العذراء المقدسة لكل ما تريق من دماء.
فأربد وجه لابوشنيانو، وأرخى ذراعه عن خصرها، وخرت روكساندرا عند قدميه وهي تقول: آه يا سيدي وزوجي الشجاع! كفى إراقة دم وكفى أرامل وأيتاما، فأنت يا صاحب العظمة بالغ القوة، ولا يمكن أن ينال منك شيئا هذا النفر من النبلاء المساكين، وما الذي ينقصك يا مولاي؟ وأنت لست في حرب، والشعب هادئ وخاضع، وأما أنا فالله يعلم كم أحبك، وأطفالك صغار وحسان، وأذكر أننا جميعا مقضي علينا بالموت، وأنت نفسك يا صاحب العظمة فان وسوف تقدم حسابا ، ولا يمكن أن يكفر بناء الأديرة عن إراقة الدماء، كما أن محاولة تهدئة الله ببناء الكنائس يعتبر تحديا له.
فصاح بها لابوشنيانو قائلا: اخرسي أيتها المرأة الحمقاء.
ثم نهض فجأة واضعا يده - كما جرت العادة - على الخنجر المعلق في حزامه، ولكنه عاد بسرعة إلى السيطرة على نفسه، وانحنى لينهض روكسندرا وهو يقول لها: يا سيدتي، لا تتركي مثل هذه الأقوال الحمقاء تخرج من فمك، وأنا في الواقع لا أدري ماذا يمكن أن يحدث، توجهي بالشكر إلى القديس ديمتري الشهيد العظيم الذي يوزع الزيت المقدس، ويحمي الكنيسة التي بنيناها في بانجاراتزي، إذ منعني من ارتكاب خطيئة عندما ذكرني أنك أم أطفالي. - لن أسكت ولو لقيت حتفي، فبالأمس وأنا داخلة إلى القصر ألقت امرأة وأطفالها الخمسة بأنفسهم أمام عربتي لكي يوقفوني ويطلعوني على رأس مثبتة بالمسامير على الباب.
وقالت المرأة: «إنك ستحاسبين يا سيدتي على تركك زوجك يذبح أبناءنا وأزواجنا وإخوتنا، انظري يا سيدتي ... ها هو زوجي أبو هؤلاء الأطفال الخمسة الذين أصبحوا يتامى ... انظري جيدا.» وأرتني الرأس الملطخة بالدماء ... ونظرت إلى تلك الرأس نظرة مروعة! آه يا سيدي ... منذ تلك اللحظة وأنا أرى تلك الرأس وأرتعد، ولم أعد أعرف طعم الراحة.
وقال لابوشنيانو - وهو يبتسم: وماذا تريدين؟
أريد أن توقف سفك الدماء وأن توقف المذابح، ولا أريد أن أرى رأسا مقطوعة؛ وذلك لأن قلبي يتمزق.
وأجاب الأمير إسكندر: لن تري ابتداء من بعد غد ... وأنا أعدك بذلك، وغدا سأعطيك دواء ضد الخوف.
صفحة غير معروفة
كيف؟! ماذا تعني؟
سترين غدا، وأما الآن يا أميرتي المحبوبة فاذهبي لرؤية أطفالك، وللعناية ببيتك كربة بيت طيبة، واعملي على إعداد وليمة؛ لأن النبلاء سيكونون ضيوفي غدا.
وخرجت الأميرة روسكاندرا بعد أن قبلت يده من جديد، وصحبها زوجها حتى الباب.
ودخل قائد الشرطة فأسرع الأمير نحوه، وهو يقول: هيه ... هل أعددتم كل شيء؟ - نعم، أعددنا كل شيء. - ولكن، هل سيحضرون؟ - نعم، سيحضرون. (3) إن ما نريد هو رأس موتزوك
في اليوم السابق دعي النبلاء إلى الاجتماع في اليوم اللاحق - يوم العيد في الكنيسة العامة - حيث سيحضر الأمير أيضا لسماع القداس، ثم يأتي الجميع إلى القصر لتناول الطعام.
وعندما وصل الأمير كان القداس الكبير قد ابتدأ، وكان جميع النبلاء قد اجتمعوا في الكنيسة.
وخلافا للمعتاد كان لابوشنيانو ذلك اليوم في كامل أبهته الأميرية، فعلى رأسه التاج الكبير، وفوق قميصه البولندي من المخمل الأحمر كان يلبس - وفقا للزي العثماني - معطفا طويلا من الفراء، وأما السلاح فلم يكن يحمل منه غير خنجر ذهبي المقبض، ومن خلال أزرار قميصه كان يلوح درع الزرد.
وبعد أن سمع القداس نزل عن مقعده الأميري لكي يذهب إلى الماء المقدس؛ ليرسم به علامة الصليب أمام الأيقونات، وفي خشوع كبير اقترب من تابوت القديس يوحنا الصغير وأحنى ركبته لكي يقبل المخلفات المقدسة ويقول: إنه كان في تلك اللحظة بالغ الشحوب، وإن مخلفات القديس أوشكت أن ترتعد.
وعندما عاد إلى مقعده التفت نحو النبلاء، وقال: أيها السادة النبلاء، منذ أن ارتقيت العرش وأنا أظهر نحو أغلبكم شدة بالغة، ولقد كنت قاسيا فظيعا فأرقت دما كثيرا، والله يعلم كم ندمت وكم أسفت، ولكنكم تعلمون أن ما اضطرني إلى ذلك إلا الرغبة في إيقاف المنازعات وخيانات أولئك الذين كانوا يدبرون لهلاكي ولخراب البلاد، وأما اليوم فقد تغير الموقف، وعيون الناس قد زالت عنها الغشاوة، فأدركوا أنه لا يمكن أن يكون هناك قطيع بلا راع، وكما قال المسيح: «سأضرب الراعي فتتبدد النعاج»، أيها السادة النبلاء، فلنعش من الآن في سلام، وليحب بعضنا البعض كإخوة وفقا لإحدى الوصايا العشر التي تقول: «أحب أخاك الإنسان كما تحب نفسك»، وليصفح أحدنا عن الآخر ما دمنا جميعا فانين، ولنصل لمخلصنا يسوع المسيح - وهنا رسم علامة الصليب - لكي يغفر لنا خطايانا، كما يغفر بعضنا لبعض خطاياه.
وبعد هذه الخطبة العجيبة تقدم إلى وسط الكنيسة، ورسم علامة الصليب من جديد، ثم التفت نحو الجميع، ونظر أمامه أولا ثم عن يمينه وعن يساره، وقال: اغفروا لي أيها القوم، وأنتم أيضا أيها السادة النبلاء. «ليغفر لك الله يا صاحب العظمة»، هكذا قال الجميع، ما عدا شابين من النبلاء ظلا صامتين مستغرقين في التفكير، وهما مرتكنين إلى قبر بالقرب من باب الكنيسة، ولكن أحدا لم يلاحظهما.
صفحة غير معروفة
وخرج لابوشنيانو من الكنيسة، وهو يدعو النبلاء إلى الوليمة التي أعدها لهم، ثم امتطى حصانه واتجه نحو القصر وانفض الجميع.
وقال أحد النبيلين اللذين لم يمنحا الغفران للأمير إسكندر: ما رأيك؟
وأجاب الآخر: رأيي ألا نذهب إلى هناك.
ثم اختفى الاثنان في الجمع، وكان سبانيوك وسنرويكي.
كانت استعدادات ضخمة قد اتخذت في القصر لهذه الوليمة، وكان قد ذاع أن الأمير قد تصالح مع النبلاء، وكان النبلاء قد تلقوا في غبطة هذا الحدث؛ لأنه سيمكنهم من الحصول على مناصب جديدة، ومن جمع ثروات جديدة بنهب الفلاحين، وأما الشعب فلم يكترث لهذه المصالحة، فهو لم يكن يأمل منها نفعا ولا ضررا ... وكان الشعب يقبل إسكندر حاكما، بينما كان يزمجر ضد موتزوك، ذلك الوزير الذي لم يكن يستخدم نفوذه عند الأمير إلا في اضطهاد، كلما رفع التظلمات التي يشكو منها من نهب موتزوك، وكان لابوشنيانو لا يرد عليها، أو لا يلقي إليها بالا.
وباقتراب موعد الوليمة أخذ النبلاء يصلون كل على جواده، مصحوبا باثنين أو ثلاثة من الخدم، ولاحظوا أن صحن القصر كان مليئا بالجنود المرتزقة المسلحين، وأن أربعة مدافع كانت مصوبة نحو المدخل، ولكنهم ظنوا أنها وضعت هناك لإطلاقها - كما جرت العادة - احتفالا بتلك المناسبة المبهجة، وإذا كان البعض قد خشي أن تكون هناك مكيدة، فإنهم بعد دخولهم لم يستطيعوا الارتداد؛ وذلك لأن الأبواب كانت محروسة، وكان الحراس قد تلقوا الأوامر بألا يسمحوا لأحد بالخروج.
وما إن تجمع النبلاء - وعددهم سبعة وأربعون نبيلا - حتى جلس لابوشنيانو على رأس المائدة، وعن يمينه بتروتوزان رئيس الديوان، وعن يساره الوزير مع موتوزك ونفخ في البوق؛ فأخذت أطباق الطعام تصل.
وفي ذلك الوقت لم يكن ذوق الطعام مرفها في ملدافيا، فحتى في أكبر الولائم، كانوا يقتصرون على قليل من الألوان، فكان هناك الحساء البولوني، ثم أطباق يونانية بالخضر الطافية في الزيت، والأرز التركي، وأخيرا أنواع مختلفة من اللحوم المحمرة، وكانت المفارش والفوط من نسيج رقيق ينسج في البيوت، وكانت الصواني التي يحمل عليها الطعام، والأطباق والكئوس كلها من الفضة، وعلى طول الجدار كانت تصف الدنان الكبيرة المنبعجة، مليئة بنبيذ أودوبستي وكتناري، وخلف كل نبيل وقف خادم يسكب له الشراب، وكان جميع هؤلاء الخدم مسلحين.
وفي صحن القصر إلى جوار بقرتين كبيرتين أو أربعة كباش محمرة كانت هناك ثلاثة براميل نبيذ مفتوحة، وكان الخدم يشربون ويأكلون كما يشرب ويأكل النبلاء، وكانت جميع الرءوس قد أخذت تدب فيها الحميا، وقد أخذ النبيذ يعمل عمله، فالنبلاء يقدحون كئوسهم في جلبة، ويشربون على صحة الأمير، والجند المرتزقة يجاوبونهم بصيحات مرحة وطلقات المدفع تزأر.
واقتربت الوليمة من نهايتها عندما رفع فيفرتسا رأسه، وهو يقول: «إنني أرجو لك حياة طويلة يا سيدي! فلتحكم في سلام في هذه البلاد، وليثبك الله فيك برحمته، نيتك الطيبة في ألا تهلك النبلاء بعد الآن، وألا تظلم الشعب ...»
صفحة غير معروفة
ولم يتم حديثه إذ ضربه قائد الشرطة بالمدقة على جبهته؛ فخر ميتا.
وصاح قائد الشرطة قائلا: آه! أتسبون الأمير؟ اهجموا عليهم أيها الرجال ... وبسرعة استل الخدم الواقفون خلف النبلاء خناجرهم وأخذوا يضربون، كما دخل الجنود المرتزقة بقيادة ضابطهم، وانقضوا على النبلاء بالحراب، وذلك بينما سحب لابوشنيانو الوزير موتزوك من يده نحو النافذة المفتوحة، وأخذ يتأمل المذبحة التي ابتدأت وهو يضحك، بينما موتزوك تصطك أسنانه وشعر رأسه يقف، وهو يحاول الضحك أيضا إرضاء لسيده، وكان هذا المشهد الدامي في الواقع منظرا بشعا، ولنتصور صالة طولها خمسة عشر قدما وعرضها اثنا عشر، وبها حوالي المائة من القتلة المصممين على القتل - أي جلادين - ومن المحكوم عليهم بالإعدام، فريق يدافع بجنون اليأس، وفريق بسورة الحميا، ولكن النبلاء الذين لم يتوقعوا مثل هذا الغدر، والذين حضروا مجردين من السلاح، لم يستطيعوا الصمود في الدفاع، فأخذوا يتساقطون من الضربات الجبانة التي تلقوها من الخلف، وكان الشيوخ منهم يموتون وهم يرسمون الصليب، بينما دافع عدد من الشبان عن أنفسهم - في جنون - مستخدمين في ذلك كل ما وصلت إليهم أيديهم من كراسي وأطباق ومعالق، كما أن البعض كان يطبق على رقبة قاتله رغم ما به من جروح ويكاد يخنقه، ومن كان ينجح منهم في انتزاع حربة، كان يقتضي ثمنا باهظا لحياته.
وقتل عدد من الجنود المرتزقة، ولكن أحدا من النبلاء لم يفلت من القتل عند نهاية المذبحة، فالسبعة وأربعون جثة كانت ممددة على الأرض، وفي تلك المعركة انقلبت المائدة وتحطمت الدنان، واختلط النبيذ بالدم مكونا بركة فوق البلاط.
وبينما كانت المذبحة دائرة في أعلى، كان القتل يدور أيضا في صحن القصر، وعندما رأى خدم النبلاء أنفسهم وهم يهاجمون غدرا أخذوا يهربون، ومن استطاع منهم الهرب بتسلق الجدران جرى ليستنفر بيوت النبلاء، ويدعو إلى العون الخدم الآخرين، وبذلك أثاروا الشعب، وراحت المدينة كلها تجري نحو أبواب القصر، وتهاجمها بضربات البلط.
وكان الخمار قد أثقل الجند، فلم يقاوموا إلا مقاومة ضعيفة، بينما أخذت الجموع تزداد حمية.
وعلم لابوشنيانو بهياج الشعب؛ فأرسل قائد الشرطة لكي يسأل الشعب عما يريد وعما يطلب.
وقال الأمير - وهو يلتفت نحو وزيره: والآن يا موتزوك، أوما تراني على حق في التخلص من كل هؤلاء الأشرار، وفي تخليص البلاد من مثل هذا الطاعون؟
وأجاب هذا التابع الحقير بقوله: «إن ما فعلته يا سيدي في منتهى الحكمة، ومنذ زمن طويل كنت أفكر في أن أنصح به يا صاحب العظمة، ولكن حكمتك سبقت نيتي، ولقد أحسنت صنعا بقتلهم؛ وذلك لأن ... لأن ... بدون ذلك ...»
وقاطع لابوشنيانو موتزوك الذي أخذ يتلعثم قائلا: ولكني ألاحظ ... ثم أضاف: بودي أن آمر بإطلاق المدافع على هؤلاء الرعاع. - فليكن ... ولتطلق المدافع عليهم، وأي بأس في قتل عدد من هؤلاء الأجلاف، إذا كان كل هؤلاء النبلاء أنفسهم قد هلكوا ... نعم فليقتلوا جميعا.
وأجاب لابوشنيانو - باشمئزاز: لقد كنت أتوقع هذه الإجابة، لكن لنسأل أولا عما يريدون؟
صفحة غير معروفة
وفي تلك الأثناء كان مدير الشرطة يطل من أعلى الأسوار على الجمهور؛ ليصيح به قائلا: «أيها الناس، إن صاحب العظمة الحاكم يريد أن يعرف ماذا تريدون ؟ وماذا تطلبون؟ ولماذا ثرتم؟»
وظل الناس فاغري الأفواه، فهم لم يتوقعوا مثل هذا السؤال.
وكانوا قد حضروا دون أن يعرفوا لماذا، كما أنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يريدون، ثم أخذوا يكونون جماعات صغيرة، ويسأل بعضهم بعضا عما يجب أن يطلبوه، وأخيرا أخذوا يصيحون: «فلتخفض الضرائب! ولتوقف إجراءات ملاحقتنا من أجل الديون! ليوقف نهبنا ... إننا في بؤس، ولم يعد لدينا مال! ... لقد سلبنا موتزوك كل شيء، موتزوك موتزوك هو الذي سلخنا ونهبنا! إنه مستشار الحاكم! ألا فليقتل! ... موتزوك يجب أن يموت! إن رأس موتزوك هي التي نريد!»
ولاقت هذه العبارة الأخيرة صدى في كل القلوب، فأصبحت كالشرارة التي تشعل نارا عاتية، فتجمعت جميع الأصوات لتكون صيحة واحدة هي: «إن رأس موتزوك هي التي نريد.»
وعندما رأي لابوشنيانو قائد الشرطة داخلا سأله: «ما الذي يريدون؟!»
فأجابه قائلا: «رأس الوزير موتزوك.»
وانتفض هذا الأخير كمن لدغته أفعى قائلا: ماذا؟ ... ماذا تقول؟ لا بد أنك أسأت السمع يا صديقي ... لعلك تمزح، ولكن الوقت ليس وقت مزاح ... ما معنى هذه الكلمات؟ ولماذا يريدون رأسي؟ ... إنك أصم لم تحسن السمع.
وقال الحاكم: «بل نعم ... استمع أنت فصيحتهم تصل إلى هنا.»
وبالفعل، كان الجند قد أوقفوا المقاومة، وكان الشعب قد أخذ يتسلق الجدران، وهو يصيح بملء حنجرته: «فليسلم إلينا موتزوك! إن رأس موتزوك هي التي نريد!»
وصاح هذا المجرم قائلا: «آه ... يا لتعاستي ... أيتها العذراء النقية، لا تتركيني أهلك! ماذا فعلت في هؤلاء الناس يا أم الإله أنقذيني ... وأقسم أن أبني كنيسة وأن أصوم بقية أيامي وأن أطلي بالفضة عرشك المقدس القائم في دير نيامتزو ... أيها الأمير البالغ الرحمة، لا تصغ إلى هؤلاء الفلاحين الأجلاف! أصدر أوامرك بضربهم بالمدافع وليهلكوا جميعا، فأنا نبيل كبير، وما هم إلا فلاحين أجلاف.»
صفحة غير معروفة
وأجاب لابوشنيانو - في برود: «فلاحون نعم! ولكنهم كثيرون، أليست خسارة أن نقتلهم جميعا من أجل فرد واحد؟! إني أحتكم إليك ... اقبل الموت من أجل هذا البلد الذي كما كنت تقول لي من قبل لا يريدوني ولا يحبني! وإني لسعيد إذ أرى الشعب يكافئك عن الخدمات التي قدمتها إلي، أنت الذي باع جيشي في أنطون زكلي، ثم تخلى عني لينضم إلى تومسا.»
وصاح موتزوك - وهو يشد لحيته بعد أن أيقن من كلمات الطاغية أنه لا أمل في النجاة: «يا لتعاستي! ... دعني على الأقل أعود إلى بيتي لأرتب شئونه! ارحم زوجتي وأطفالي! دعني أؤدي شعائر الاعتراف في الكنيسة!» ثم أخذ يبكي ويصيح وينتحب.
فصاح به لابوشنيانو قائلا: «كفى! لا تنتحب كالمرأة! كن شجاعا كروماني أصيل! وما جدوى الاعتراف؟! وماذا يمكن أن تقول للقس؟ هل تقول إنك لص وخائن وملدافيا تعلم ذلك؟! هيا خذوه وسلموه للشعب، وقولوا له: هكذا يجازي الأمير إسكندر كل من ينهبون البلاد.»
وفورا قبض عليه قائد الشرطة وضابط الجنود المرتزقة، وأخذا يجرانه وهو يعوي بكل قواه ويحاول أن يقاوم، ولكن ماذا تستطيع يدا عجوز إزاء أربع أيد قوية! وحاول أن يستخدم ساقيه كمتراسين، ولكنه أخذ يصطدم بجثث النبلاء الآخرين، وينزلق فوق الدماء التي كانت قد تجمدت على البلاط، وأخيرا خارت قواه وسحبه أعوان الطاغية خارج القصر، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وألقوا به إلى الجموع.
ووقع هذا النبيل التعس في أيدي ذلك التنين الذي مزقه إربا في أقل من لحظة.
وقال رسل الطاغية: «هكذا يعاقب الأمير إسكندر من ينهبون هذا البلد.»
ورد الجمهور قائلا: «فليحي صاحب العظمة الحاكم!» واكتفى بهذه الضحية وانصرف.
وبينما كان موتزوك التعس يهلك على هذا النحو، كان لابوشنيانو قد أصدر الأوامر برفع أدوات المائدة ومفارشها، ثم قطع رءوس جميع النبلاء المقتولين، وإلقاء جثثهم من النافذة.
ثم أخذ الرءوس وصففها على مهل وسط المائدة واضعا في الصفوف السفلية رءوس النبلاء الأقل شأنا، وفي الصفوف العلوية رءوس الأكثر شأنا وفقا لأنسابهم وألقابهم، حتى اكتمل أمامه هرم من سبع وأربعين رأسا، وعلى قمته رأس بيرهم حامل الأختام.
وبعد أن غسل يديه اتجه نحو باب سري، ودفع المزلاج والقضيب الخشبي الذي كان يغلقه، ثم دخل إلى مقصورة الأميرة.
صفحة غير معروفة
ومنذ بدء هذه المأساة كانت الأميرة روكسندرا لا تعرف شيئا عما يجري، ولكنها مع ذلك كانت تشعر بالقلق، ولم يكن باستطاعتها أن تعلم سبب الضجة التي سمعتها؛ لأن النساء - كما كانت العادة عندئذ - لم يكن يخرجن من مقاصيرهن، كما أن الخادمات لم يجرؤن على المخاطرة بأنفسهن وسط جيش لا يعرف أي نظام، ومع ذلك فإن واحدة منهن أكثر جرأة كانت قد خرجت، وعندما سمعت عن حركة تمرد ضد الحاكم جاءت لتخطر سيدتها.
وكانت الأميرة الطيبة ترتعد خوفا من غضب الشعب، وعندما دخل عليها إسكندر، وجدها تصلي أمام الأيقونة ومن حولها أطفالها.
وصاحت قائلة: «آه ... هأنت ذا ... شكرا لله! لقد كنت في خوف شديد.» - لقد أعددت لك ما يشفيك من خوفك على نحو ما وعدتك، تعالي معي يا سيدتي!
ولكن ماذا كانت تلك الصيحات، وذلك العواء الذي كنت أسمعه؟ - لا شيء! ... إن الخدم كانوا يتشاجرون، ولكنهم هدءوا الآن.
ثم أخذ روكسندرا من يدها وقادها نحو الصالة ... وعندما رأت ذلك المشهد المخيف صرخت صرخة فظيعة وأغمي عليها، فقال لابوشنيانو وهو يبتسم: «المرأة هي المرأة دائما، فهي تفزع عندما ينبغي عليها أن تبتهج!»
وأخذها بين ذراعيه وحملها إلى مقصورتها، ثم عاد بعد ذلك إلى الصالة، حيث قائد الشرطة وضابط الجنود المرتزقة ينتظرانه.
وقال للضابط: «تول أنت قذف جثث هؤلاء الكلاب من فوق الأسوار، وصفف رءوسهم على الجدران، وأما أنت يا قائد الشرطة، فلتحضر إلي سبانكيوك واسترويكي»، ولكن سبانكيوك واسترويكي كانا الآن بالقرب من نهر دنيستر، وكان أعوان الأمير الذين لاحقوهما قد أدركوهما في نفس الوقت الذي أخذا يعبران فيه النهر، وقد صاح بهم سبانكيوك قائلا: «قولوا لمن أرسلكم: إننا سنلتقي قبل أن نموت.» (4) إذا حدث أن شفيت، فإنني أنا أيضا سأحمل البعض على ارتداء المسوح
منذ ذلك المشهد كانت أربع سنوات قد مرت لم يأمر خلالها الأمير إسكندر بإعدام أحد من النبلاء؛ وذلك وفاء بالوعد الذي كان قد قطعه للأميرة روكسندرا، ولكنه أخذ يشبع نهمه الطاغي إلى رؤية الناس يتألمون باختراع أنواع مختلفة من التعذيب.
كان يفقأ الأعين ويقطع الأيدي ويشوه كل من يشك بهم، وإن تكن شكوكه على غير أساس؛ لأن أحدا لم يعد يجرؤ أن يهمس ضده.
وبالرغم من كل ذلك لم يكن مطمئنا؛ لأنه لم يستطع أن يضع يده على سبانكيوك وسترويكي اللذين أقاما في كامينتزا «في أوكرانيا» في انتظار وترقب اللحظة المناسبة، وبالرغم من أن إسكندر كان له صهران من الأمراء ذوي النفوذ في البلاط البولوني، فإنه كان يخشى أن يستنفر هذين النبيلين البولنديين اللذين كانا يترقبان أية تعلة لكي يدخلا ملدافيا، ولكن هذين الرومانيين كانا أكثر وطنية من أن يجهلا أن الحرب ودخول جيوش أجنبية معناه نهاية وطنهما.
صفحة غير معروفة
وكان لابوشنيانو قد دعاهما مرارا إلى العودة مقسما بأغلظ الإيمان أنه لن يسيء إليهما، ولكنهما كانا يعرفان جيدا قيمة هذا القسم، ولكي يحكم لابوشنيانو رقابته عليهما أقام في قلعة هوتان التي قوى استحكاماتها، ولكنه أصيب بالتيفوس ثم استشرى فيه المرض سريعا حتى دنا به من حافة القبر.
وأثناء هذيانه لاح له أنه يرى جميع ضحايا قسوته الفظيعة، وهم يهددونه ويرعبونه، ويدعونه إلى الحساب أمام الله، وعبثا كان ينقلب في فراش ألمه بحثا عن الراحة.
واستدعى مطران المدينة تيوفان والقسس والنبلاء، وقال لهم: إنه قد وصل إلى نهاية حياته، وطلب منهم الغفران في تضرع ثم ابتهل إليهم لكي يرأفوا بابنه روكدان وارث العرش ويساعدوه؛ لأنه غض الإهاب ومحاط بأعداء أقوياء لا يستطيع مقاومتهم، كما لا يستطيع الدفاع عن البلاد بدون اتحاد النبلاء وإخلاصهم وطاعتهم.
ثم أضاف قائلا: «وأما عن نفسي، فقد اعتزمت إذا شفيت أن أنقطع للعبادة في دير سلاتينا، وأن أطلب الغفران حتى تحين نهايتي؛ ولهذا أرجوكم أيها الآباء أن تخففوا عني مواعظكم عندما ترونني أقترب من الموت.»
ولم يستطع أن يقول أكثر من ذلك؛ إذ أخذته التشنجات، وتصلب جسمه في إغماءة شبيهة بالموت، حتى إن مطران المدينة والقسس ظنوه يقترب من نهايته، فخففوا عنه المواعظ ونادوه باسم «بيس» - وهو صيغة التدليل لبترو - الاسم الذي كان يحمله قبل أن يصبح أميرا.
وبعد ذلك حيوا الأميرة روكسندرا كوصية على العرش حتى يبلغ ابنها القاصر سن الرشد، وأعلنوا روكدان أميرا لموافيا، ثم انطلق الفرسان نحو النبلاء سواء منهم من كان في البلاد ومن كان في المنفى ونحو قواد الجيش.
وعند هبوط الليل وصل سبانكيوك واسترويكي، وما أن وطئت أقدامهما الأرض عند بعض الأصدقاء حتى اتجها مسرعين نحو الحصن الذي كان صامتا ومهجورا وكأنه قبر عملاق، ولم يكن يسمع غير خرير مياه الدنيستر الرتيب وهي تصدم الجدران الرمادية العالية، ثم صيحات جنود الحرس المملة، وهم يلوحون في ضوء الشفق مستندين إلى رماحهم الطويلة، وعندما وصل النبيلان إلى القصر أدهشهما ألا يلتقيا بأحد، وأخيرا دلهما أحد الخدم على حجرة المريض، وعند دخولهما سمعا ضجة كبرى ووقفا يصغيان.
كان لابوشنيانو قد صحا من إغمائه.
وعندما فتح عينيه رأى راهبين واقفين: أحدهما عند وسادته، والآخر عند نهاية الفراش بلا حراك كتمثالين من برونز، وألقى بنظرة على جسمه، فرآه مدثرا في معطف، ومسوح راهب ملقى بالقرب منه، وأراد أن يرفع يده غير أن مسبحة من الصوف عاقته، وظن أنه يحلم وأغلق عينيه، ولكنه عاد ففتحهما ورأى نفس الأشياء: المسبحة والمسوح والرهبان.
وسأله أحد الرهبان عندما رآه لا ينام قائلا: «كيف حالك أيها الأخ بيسي؟»
صفحة غير معروفة
وذكره هذا الاسم بكل ما حدث، وصعد الدم إلى رأسه، ونهض قليلا وهو يقول: «ما هذه الوحوش ... آه ... إنكم تعبثون بي! اخرجوا من هنا يا حثالة القسس! اخرجوا وإلا قتلتكم جميعا عن بكرة أبيكم.»
ونظر حوله ليتبين ما إذا كان هناك سلاح في متناوله، ولكنه لم يجد إلا المسوح الذي ألفاه في هياج على رأس أحد الرهبان.
وعندما سمعت الأميرة وابنها ومدير البلدية والنبلاء والخدم صيحاته، هرعوا جميعا إلى حجرته.
وفي هذه اللحظة وصل النبيلان اللذان كانا يسترقان السمع من خلف الباب.
وقال لابوشنيانو بصوت مبحوح فظيع: «آه ... لقد ألقيتم المعطف فوقي وأنتم تظنون أنكم ستتخلصون مني! نحوا الغشاوة عن أبصاركم، إن الله أو بالأحرى الشيطان سيرد لي صحتي، وعندئذ ...»
وقال الأسقف - مقاطعا: «لا تجدف أيها التعس ! إنك في ساعتك الأخيرة! اذكر أيها المذنب التعس أنك الآن راهب ولم تعد أميرا! اذكر أن تجديفك هذا وصيحاتك تلك تفزع هذه المرأة المسكينة البريئة، وهذا الطفل الذي هو كل أمل ملدافيا.»
فرد المريض - وهو يجاهد لكي ينهض من الفراش: «اخرس أيها الوحش المنافق! أنا الذي جعلتك أسقفا، وأنا الذي سأعزلك ... آه ... لقد ألقيت فوقي المعطف، ولكنني إذا شفيت سوف ألقيه أنا على الكثيرين ... وأما عن هذه الكلبة، فسأقطعها إربا هي وابنها لكي أعلمها ألا تصغي بعد إلى نصائح هؤلاء الوحوش أعدائي، لقد كذب من قال إنني راهب ... إنني لست راهبا بل أميرا! إنني الأمير إسكندر! إلي بأتباعي! أين رجالي الشجعان؟ اضربوا! اضربوا حتى النهاية! إنني آمركم! اقتلوهم جميعا! ولا ينجون منهم أحد! آه إنني أختنق! إلي بالماء ... الماء ... الماء!»
ثم خر فوق سريره، وهو يلهث من الغضب والهياج.
وخرج الأسقف والأميرة حيث وجدا سترويكي وسبانكيوك في انتظارهما عند الباب.
وقال سبانكيوك - وهو يمسك الأميرة من يدها: «يا سيدتي، يجب أن يموت هذا الرجل فورا ... ها هو مسحوق ضعيه في كأسه ...» فصاحت وقد تملكها الذعر: «سم؟!»
صفحة غير معروفة
ورد سبانكيوك قائلا: «نعم سم! وإذا لم يمت هذا الرجل فورا، فإن إمارتك أنت وابنك تتعرض للخطر، لقد عاش الأب ما يكفي، كما ارتكب ما يكفي من الجرائم، يجب أن يموت الأب لكي يستطيع الابن أن يعيش.»
وخرج خادم من حجرة المريض، فسألته الأميرة: «ما الأمر؟»
لقد استيقظ المريض وهو يريد ماء ويطلب ابنه، وقد طلب إلي ألا أعود بدونه، فصاحت الأم الحنون وهي تضم في لهفة الطفل إلى صدرها: «آه ... إنه يريد قتله!»
وأضاف سبانكيوك قائلا: «لم يكن هناك وقت للتردد يا سيدتي، تذكري حكم الطاغية ستيفانتزا،
6
واختاري بين ابنك وزوجك، واستدارت المرأة المسكينة نحو الأسقف وعيناها تسحان الدموع قائلة: وما رأيك يا أبي؟» - إن هذا الرجل قاس وفظيع يا بنيتي، فاستمدي الرأي من الله مولانا، وأما أنا فسأشرع في الإعداد للرحيل مع ملكنا الجديد، وليغفر الله لمن كان أميرنا، وليغفر لك أنت أيضا.
هكذا قال الأسقف الورع ثم أخذ ينصرف.
وتناولت الأميرة روكسندرا من يد إحدى الخادمات كأسا من الفضة مليئة بالماء، وفي غير وعي منها تقريبا وتحت ضغط النبلاء أسقطت فيه السم، ودفعها النبلاء إلى حجرة المريض.
وسأل سبانكيوك سترويكي الذي كان قد وارب الباب لكي ينظر: ماذا يفعل؟
إنه يطلب ابنه ويقول: إنه يريد رؤيته ... إنه يطلب ماء ... الأميرة ترتعد ... إنها تقدم له الكأس ... إنه لا يريد أخذها.
صفحة غير معروفة