وقد ملك هذا الخاطر على أبي نفسه ووجدانه، بصورة لم يكن لخيالي الشاب إذ ذاك أن يتصورها. كنت أستيقظ جوف الليل أحيانا لبعض شأني، فأراه في البهو الذي تفتح عليه غرف نومنا، يسير ذهابا وجيئة، ويكلم نفسه أحيانا، بعبارات لا أتبينها، وأسمعه يذكر اسمي واسم أختي المتوفاة. وكنت إذ ذاك أتسلل من غرفتي على أطراف أصابعي لقضاء ما أيقظني، ثم أعود متسللة كذلك حتى لا يشعر بي.
وكنت أذكر ما أرى من ذلك لأمي، فأشعر بأنها ترتاع له، وتشفق منه. وأفضت إلي في هذه الآونة بأن أبي يريد تطليقي، وأوصتني بأن أبذل كل جهد للاحتفاظ بزوجي العزيز. ولم أكن بحاجة إلى أي جهد أبذله، وقد ربط الحب بين قلبي وقلب زوجي بأوثق رباط وأمتنه.
وقد تكرر أمامي منظر أبي، وهو يذرع البهو ذهابا وجيئة، ويكلم نفسه في جوف الليل، حتى كدت أشفق عليه. وبلغ مني الإشفاق غايته، حين رأيته ذات ليلة، وقد اعترته هزة عصبية، فبكى وبللت الدموع وجهه. عند ذلك لم أستطع أن أتسلل لأختفي منه، بل ذهبت إليه أسأله ما به؟
وأجابني: «لا شيء! إنني أشعر بمغص خفيف أقلقني، فعودي أنت إلى سريرك ونامي هادئة مطمئنة.»
وفي الصباح من ذلك اليوم دعاني أبي وقال لي: أنت تعلمين يا ابنتي كم أحبك وقد ازددت حبا لك منذ وفاة المرحومة أختك، ولست أبتغي لك في الحياة إلا السعادة. وخال أختك الذي عقدت قرانك عليه سكير مدمن، وإنما رضيت عقد القران نزولا على إلحاح أمك الطامعة في ماله، والتي تحسب أن السعادة كل السعادة في المال. أنا أعلم يا ابنتي أنك تحبينه، وأنه يحبك، لكن الحب عاطفة شباب، إن لم يعصمها خلق متين تعرضت للزوال، بل تعرضت للانقلاب إلى نقيضها. والأمر كذلك مع السكيرين المدمنين، أكثر منه مع غيرهم. لهذا فكرت في أن أحمل خال أختك على تطليقك قبل أن يطلب أن تزفي إليه. فأعينيني على ذلك بأن تظهري له النفور منه، وعدم الاطمئنان إلى الحياة الزوجية معه. فلو أنك فعلت ليسر ذلك ما أريد، وفتح أمامك باب السعادة. وأعدك بأن أزوجك من رجل أقوم منه خلقا ولا يقل عنه ثروة!
استمعت إلى هذا الكلام، فأيقنت أن تفكيره الطويل فيه هو الذي أرقه وأبكاه جوف الليل، وذكرت وأنا أسمعه ما كانت أختي تقول له عن زواج خالها مني، ووعده بأن ذلك لن يكون.
وقد كنت أرى أبي يتناول في بعض الأحيان شيئا من الشراب مع خال أختي، فخيل إلي أنه يبالغ فيما يذكره من إدمان هذا الشاب للشراب وتوفره عليه. وتواردت هذه الخواطر على نفسي في مثل لمح البصر. فلما أتم أبي كلامه، أطرقت وقد احمر وجهي خجلا أو غيظا. وبعد فترة قلت: ليس لي من هذا الأمر شيء يا أبي، فالطلاق بيد زوجي لا بيدي. وقد عودتني منذ طفولتي أن أكون معه اللطف والأدب، فلا أستطيع الخروج على ما أدبتني به. والأمر لك على كل حال!
وقمت من مجلس أبي موقنة أن ما وعد به أختي قبيل وفاتها من أن زواجي بخالها لن يتم هو الذي دفعه إلى حديثه معي.
وقصصت ما حدث على أمي، فقالت: إياك أن تغيري مسلكك مع خال أختك، فهو اليوم زوجك، أنت حل له، وهو حل لك، ولا يجوز لك بأي اعتبار أن تخرجي عن طاعته! •••
أصبحت بين أبي وأمي وقلبي، في موقف لا أحسد عليه، موقف تتجاذبني فيه العواطف المتضاربة أشد التجاذب. فأنا أحب أبي وأحترمه، وأحب أمي وأقدسها، وأحب زوجي الذي عقد أبي قراني عليه حب العبادة! وكان هذا الزوج كلما رآني أظهر من غرامه بي ما يزيدني حبا له، وما يجعل الاستجابة إلى ما طلبه أبي أمرا مستحيلا!
صفحة غير معروفة