omnium mulierum veri .
ولقد ملأ كليوبطرا الروع لغير ضرورة، فإن طبعا يتشهى الجدة، ويحن إلى التغيير، وينزع إلى الابتكار والشذوذ، ويتحرق إلى مخاطرات جديدة، وأعصابا منهوكة متعبة كأعصاب «قيصر»، لن تألف من شيء، ألفتها منظر الملكة الفتية الفاتنة.
ولقد شعر «قيصر» بهزة عميقة، يتعذر وصف أثرها، سرت في شرايين جسمه، منذ أول نظرة أخذ بها تلك القطعة الحية من فن الطبيعة، على جسمها الجميل المتسق، وقوامها الأهيف، وحاجبيها المرتخيين في استقامة واعتدال، والأشعة النفاذة المنبعثة من عينيها، وأنفها الدقيق الشهي، وشفتيها المنفرجتين الموحيتين بالشهوة، وبشرتها اللامعة الكهرمانية، التي تغري المرء بها، إغراء فاكهة مفرطة الطيب، لوحتها الشمس.
يا للآلهة! لقد عجز الغرب كله، كما عجزت رومية بعذاراها الفاتنات المغريات، عن أن تهبه شيئا أشد من كليوبطرا اختلاسا للنهى، أو اختلابا للب، فسألها وفي نفسه لوعة تقسره على أن يستجيب لأيما تقول وتطلب ليصل منها إلى غرضه: «ماذا في طوقي أن أفعل من أجلك؟ أي شيء تطلبين؟»
فأجابته كليوبطرا مغرية فتانة، وبلغة لاتينية فصيحة كانت تجيدها، كما تجيد اليونانية والمصرية والسورية وعدة لغات أخر، ووصفت في بلاغة، عنف الاستبداد الذي قاست منه الأمرين، والإجرام الصارخ الذي بدلها من تاج الملك طردا وتشريدا؛ وقالت قول الواثق المستودع لسر رهيب، وفي قالب كله إغراء، إنها تلجأ إلى قيصر القاهر، عسى أن يرد لها تاجها المغتصب المفقود!
وكان صوتها حلوا أخاذا، حتى إن الأخبار التي روتها، وحقوقها التي اغتصبها أخوها الغادر الخداع، قد نزلت، تفيئة أن خرجت عباراتها من بين شفتيها، من قلب «قيصر» منزلة الحقائق التي لا ناقض ولا راد لها، وكيف لا تقع هذا الوقع من نفس ذلك القاضي الفيصل الشجاع، وقد فتنه ذلك الوميض السماوي، الذي بعثته عيناها الساحرتان؟
ولقد هم «قيصر» أن يمنحها كل سؤلها، غير أن عقبات تقف في سبيله، فإنه هبط مصر صديقا وحل بها ضيفا، وليس له فيها غير عدد قليل من الجند؛ في حين أن جند بطلميوس فيالق منظمة، وعلى تمام الأهبة للدفاع عن عرشه وعن ملكه، فيجب إذن أن يستعلي النهى على الطيش، وأن يستقوي العقل على المشاعر؛ لأن «إطلاق كلاب الحرب من حظائرها، لم يحن حينه».
أما «كليوبطرا» فقد حاولت في حماسة مشبوبة النار، ولكن بكل ما يتطلب الموقف من اتزان الحكم والرويئة، عجيب أن يكونا لفتاة في مثل عمرها، أن تمس «قيصر» نيرانها المتلظية، فإذا كان «قيصر» عاجزا عن أن يعلن الغزو توا، إذن فليدع زحفه على عجل، وفي أقرب وقت ممكن، وفي انتظار الجنود يعلن ارتقاءها ملكة على عرش الفراعنة.
وبينا هي تتكلم، كان قائد رومية ورجلها الأوحد، عاجزا عن أن يحول نظره عنها، ملاحظا كل إشارة من إشاراتها المتسقة، مصغيا إلى كل كلمة تخرج من بين شفتيها. «كليوبطرا، يا لك من خليلة معبودة!»
ذلك ما جال في خاطره، لما أن استروح عبق شعرها الكستنائي المتهدل من فوق كتفيها.
صفحة غير معروفة