فرت كليوبطرا ناجية بدمها إلى حدود سورية، ومضت تجمع الجيوش لغزو مصر من طريق سينا، وجمع بطلميوس حشده وتحصن في قلعة فلوسيوم، وهي ميناء مصرية حصينة، تشرف على البحر، وتقع في سفح الصحراء المنخفضة المرملة، على بضعة فراسخ شرقي الموقع الذي تقوم عليه الآن «بورسعيد»، وتأهب الجيشان للجلاد: هذا للهجوم، وذاك للدفاع.
وكانت كليوبطرا قد أشرفت بجيوشها على قلعة فلوسيوم، وأخذت تعد العدة للهجوم على قوات أخيها المحتمية من وراء الأسوار، وفي المواقع الحصينة القائمة من حول القلعة، ومضت تزحف حذاء الشاطئ، حتى لم يبق بينها وبين المدينة إلا بضعة أميال، وفي الثامن والعشرين من شهر سبتمبر سنة 48ق.م. وقع حادث، قدر له أن يكون سببا في كتابة صفحات جديدة في تاريخ مصر، فقد رأى الناظرون من الشاطئ، سفينة حربية، دارت حول قمة برزت في البحر غربي فلوسيوم، وألقت مراسيها على بعد قليل من الشاطئ.
من فوق هذه السفينة وقف القائد پومپيوس الروماني، وزوجه كرنليا، بعد أن هزم في موقعة فرساليا، وفر إلى مصر محتميا بملكها بطليموس الثاني عشر، ولكن الحالات التي كانت قائمة في العالم الروماني، أوقعت پومپيوس ومستشاروه في حيرة؛ فإن مصر إذا حمت پومپيوس، وقعت في حرب مع يوليوس قيصر، عدوه، وإذن يكون في قتل پومپيوس مخلصا من هذا المأزق الحرج، وتمت المؤامرة على ذلك، وقتل پومپيوس، وفي تلك الأثناء هبط يوليوس قيصر الإسكندرية متعقبا خصيمه، فلما علم بمصرعه، أراد أن ينتهز هذه الفرصة السانحة، ليتدخل في شئون مصر، متخذا من وصية «بطلميوس أوتيلس» ذريعة إلى ذلك؛ فبعد أن دخل الإسكندرية، وحط رحاله في قصرها الملكي، أرسل رسلا إلى بطلميوس وكليوبطرا، ليوافياه إلى الإسكندرية، فيصلح ذات بينهما، فسارع بطلميوس ومستشاروه بالعودة، ليحولوا دون كليوبطرا والعرش بكل وسيلة، ولكن كليوبطرا كانت تعلم حق العلم أن هبوطها الإسكندرية جهرة بمثابة حكم عليها بالإعدام، فإن أخاها لن يتعفف عن أن يغري بها رجلا من رجاله، يقتلها غيلة، فتسللت إلى الإسكندرية، ودخلتها تحت جنح الظلام مستخفية، لتبدأ مأساة «الحب الأول». •••
كانت الساعة حوالي السابعة من المساء، والملاحون يفرغون من السفن آخر ما لديهم من أحمال البضائع، على أرصفة الإسكندرية المزدحمة، وأخذت سفائن الصيد تلقي مراسيها سراعا على مرافئ ثغر «أونسطوس»
Eonostus
كأنهن طيور عيقت عن الرواح، وبدأ الليل يرخي سدوله السوداء، عندما تسللت آخر سفينة إلى الميناء، كأنها تحاول أن تلتفع من الليل بستر يحميها العيون.
من هذه السفينة، نزل رجل عريض الأكتاف، قوي الأصلاب، وقد اشتمل بعباءة سوداء، سترت جسمه من مفرق رأسه إلى قدميه، وشد قلنسوة السفر على رأسه، حتى سامتت حافتها أذنيه، ثم مد يده في عناية وتؤدة، ليأخذ بيد سيدة صغيرة السن، خفيفة الخطو كأنها القطاة، حتى يخيل إليك أنها ما تزال في طور الطفولة.
بيد أن كليوبطرا لم تكن طفلة، بالرغم من أنها لم تكن قد حطمت السابعة عشرة من عمرها، بعد أن أمضت سنتين زوجا لأخيها، الذي حملتها تقاليد الأسرة الملكية على أن تتزوج منه، بعد أن مات أبوها، وكانت شريدة طريدة، فهي تعود مستخفية تحت جنح الظلام، مظلة بحماية «أفوللوذورس»
Apollodorus
هابطة الإسكندرية هبوط النسر، بعد طول التجواب، وقد كسبت من التجاريب قدرا، قلما حازته من بنات حواء، من كانت في مثل عمرها.
صفحة غير معروفة