يختلف العلماء حول اسم لاو-تزو نفسه: هل هو عنوان مذهب ومدرسة أخلاقية وصوفية دونت تعاليمها في واحدة وثمانين حكمة شاعرية تحمل اسم «اللاو-تزو» وتعرف بكتاب «تاو-تي-كنج» (الطريق والفضيلة)،
2
أم أنه - حسب معناه في اللغة الصينية - هو المعلم الهرم والفيلسوف العجوز، أو الكامل بين القدماء (أو-ثان) الذي اعتزل الناس وذهب إلى محو الذات والاتضاع، واجتناب الشهوة، والحرص على رغبة واحدة هي عدم الرغبة في شيء؟
وتختلف الروايات المأثورة كذلك حول هذا الحكيم الصيني؛ فبعضها يجعل تاريخ مولده في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث عشر والسادس قبل الميلاد، وبعضها الآخر يؤكد أنه عاصر حكيم الصين الأكبر كونج-فو-تسو أو كونفوشيوس (من 551-479ق.م.) الذي كان يصغره في العمر ، وأن الأخير سعى للقائه حوالي سنة 517ق.م. فعنفه المعلم العجوز على غروره وادعائه وكثرة تعليماته وقواعده الأخلاقية والاجتماعية، ونصحه بالعودة إلى طريق الحكماء القدماء. ومن هذه الروايات ما يزعم أنه عاش مائة سنة، ومنها ما يدعي أنه لم يمت أبدا، حتى إن كاتبا طاويا من القرن الرابع بعد الميلاد يقرر أن لاو-تزو قد ظهر عدة مرات خلال التاريخ، وأنه في إحدى جولاته إلى الغرب من جزيرة سيلان قد ولد ولادة جديدة على هيئة بوذا. غير أن أرجح المعلومات التاريخية تقول إنه ولد في مزرعة بمقاطعة هو-نان (إلى الجنوب من بكين) وعمل أمينا للوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في فترة من أشد فترات التاريخ الصيني اضطرابا وأكثرها حروبا. ويبدو أنه اقتنع بعد خدمته الطويلة في «تشو» بأن الدولة في طريقها إلى الخراب، فاعتزل العمل، ووضع متاعه القليل على عربة يجرها ثوران أسودان، واصطحب معه صبيا صغيرا كان هو تابعه الأمين في رحلته. وعند حدود الإمبراطورية وأمام بوابتها الأخيرة تعرف عليه موظف الجمرك أو حارس الحدود، ورجاه أن يقيم في كوخه الفقير ويدون فلسفته، فاستجاب لرجائه وأملاه أكثر من خمسة آلاف كلمة يتألف منها ذلك الكتاب العجيب الذي ذكرناه. ثم رجع إلى عربته ومعه الصبي الصغير، وعبر الجبل في طريقه إلى الغربة، فلم يظهر بعد ذلك أبدا ولم يعرف المكان الذي مات فيه، وإن كان البعض يرجح أنه مات في التييت.
وتعتمد المادة التي نسجت منها «القيصر الأصفر» على شخصية هذا المعلم الحكيم والكثير من أقواله وأشعاره التي وردت في الكتاب الشهير المنسوب إليه، كما تعتمد على عدد من الحكايات والأمثولات التي جاءت في كتابات حكيم الطاوية الآخر تشوانج تزو. وإذا كان لاو-تزو يقوم بدور ثانوي في المسرحية، فإن «بطلها» - إذا صح الحديث هنا عن بطولة! - هو تلميذه الناسك الشاب الذي أعطيته اسم «مين-كين-وو». وهو قديس ثائر أو ثائر قديس يحمل بين جنبيه ذلك الطموح الذي يعذب المصلحين ويتعذبون به، ألا وهو الطموح إلى تغيير العالم. بيد أن الناسك الشاب يتعجل تغيير العالم قبل أن يغير نفسه، ويحاول معلمه أن يرده عن تهوره فلا ينتصح، وينطلق لمواجهة الظلم والقهر والتسلط المجسد في شخصية القيصر الأصفر، فيلقى الأهوال ولا يتخلى عن حلمه بإقامة العدل. وينزوي بعيدا في قرية منسية على حدود الصين يحقق فيها نوعا من «اليوتوبيا» الصوفية التي تصورها حكماء الطاوية في صورة الجماعة الإنسانية المثالية التي تعيش تحت ظلال المحبة والتراحم، والوداعة والنقاء. ولكن هل تصمد مثل هذه «اليوتوبيا» لقوى الظلم والردع والعقاب التي اشتهرت بها الصين القديمة؟ وهل يمكن في ظروف عالمنا المعقد أن نفكر فيها لحظة واحدة، أم هي شطحة من شطحات الحكماء والأدباء لا تستحق منا اليوم أكثر من ابتسامة الإشفاق والرثاء؟ ليس مهما أن نجيب عن هذه الأسئلة؛ فالأهم من ذلك أن «اليوتوبيا»، حتى على هذا المستوى البسيط المتواضع، تظل حلما لا نستطيع أن نتخلى عنه بسهولة. وأكثر من ذلك أهمية أنها تعبر عن ضرورة خالدة لا يمكن التنازل عنها، وهي ضرورة تحدي التسلط الذي يسحق كل أحلام الإنسان، لا في حياة حرة وعادلة ومبدعة فحسب، بل في مجرد أن يحيا حياة سوية. ولا يخفى على القارئ أن التسلط مرضنا العربي المزمن الذي لا أمل في شيء على الإطلاق قبل القضاء عليه. ولولا ضيق المجال لطال بي الحديث عن هذا الموضوع الشائك الذي يمد جذوره في تراثنا ونظم حياتنا وتعليمنا وسلوكنا، والذي ترك في نفسي جراحا ستلازمني إلى آخر عمري وتدخل معي في قبري! •••
والمسرحية الثانية وهي «الطفل والفراشة» أثارتها في نفسي إحدى حكايات «تشوانج-تزو» البديعة التي تقوم على المفارقة الذكية المحيرة، والنزعة المثالية المتطرفة إلى الحد الذي تطمس معه الحواجز الفارقة بين الحقيقة والوهم. ولعل هذه النزعة الذاتية المسرفة - التي تظل تهدد الشعراء والأدباء والفلاسفة أن لم يحترزوا منها بالبدء من الواقع الحي وموضوعية البناء الفني والفكري! - قد كانت وراء تشدد تشوانج-تزو في تأكيد الجوانب السلبية في الفلسفة الطاوية، وخصوصا عدم الفعل «الوو = وي» الذي سبق الحديث عنه، بحيث صورها في صورة الفلسفة الرافضة للقيام بأي دور اجتماعي وإصلاحي أو العاجزة عنه؛ وذلك خلافا لما أراده مؤسسها الأول الذي ضمنها آراء ومواقف تعد ثورية بكل المقاييس إلى اليوم. ولعل ذلك أيضا كان من أسباب معارضة علماء الكونفوشية لتفكير تشوانج-تزو، واتهامهم له بمعاداة الإنسان والتقاليد والمجتمع، ومعاشرة الأشباح والظلال والرياح الشمالية وجماجم الموتى.
ونص الحكاية التي أشرت إليها لا يزيد عن سطور قليلة يقول فيها الحكيم الحائر المحير: «حلمت ذات ليلة، أنا تشوانج-تزو، بأنني فراشة ترف هنا وهناك، وإنني أشبه الفراشة من كل ناحية. لم أدر إلا أنني أتابع أهوائي كما تفعل الفراشة، وغاب عني الوعي بأنني إنسان. وفجأة صحوت مستيقظا من نومي، ووجدتني «أنا نفسي» مرة أخرى راقدا في فراشي. والآن لا أعرف هل كنت إنسانا رأى في الحلم أنه فراشة، أم أني الآن فراشة تحلم بأنها إنسان؟! - بين الإنسان والفراشة حاجز، وتخطي هذا الحاجز هو الذي يسمى بالتحول.»
3
وبجانب هذه الحكاية الشهيرة نسج الخيال حكاية أو أمثولة أخرى عن حكيم دعوته «هوي-تسو» وجعلته يرى في المنام أنه سمكة. والحق إنني عندما بدأت في كتابة هذه المسرحية القصيرة لم أكن أتصور أنها ستصبح سخرية من نوع «الفارس»، أو أنها ستكون نوعا من النقد الذاتي! وربما كان أهم ما يستحق الالتفات فيها هو «التحول» الذي أكده حكماء الطاوية نحو الذات الحقيقية التي تتحد مع السماء والأرض والأبدية والكل، وتتخطى حدود التراب. وتحول الفلاسفة إلى الاتحاد بمعاناة الفقراء المتعبين من أمثال المرأة الشابة التي تشقى لإطعام نفسها وولدها هو في النهاية نوع من التصحيح لأحلام الفلاسفة!
والمسرحية الثالثة «السيد والعبد» تقوم على نص مشهور من نصوص أدب الحكمة البابلية وهو «حوار السيد والعبد». وقد التقيت بهذا النص لأول مرة في الفصل الذي كتبه عالم السومريات الأستاذ توركيلد جاكوبسن في الكتاب القيم «ما قبل الفلسفة» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا،
صفحة غير معروفة