ومن سكنت هذه الأحوال الشريفة في باطنه ، بقيت نفسه أسيرة حقيرة ، مضبوطة عن صفات المتجبرين ، محفوظة عن مخروم الحركات، موزونة بالعدل، تلطفت غلظته، وتهذبت قسوته، واعتدل جوره، والتزم العدل في أموره، إن تحرك تحرك عدلا، وإن نطق نطق حكمة وفضلا، أو صمت صمت فكرة وحلما، أو نظر نظر عبرة وحقا، أو سمع سمع إشارة وحكما، وذلك لأن عقله تصرف في نفسه تصرف المؤدب لطفله، وعقله تأيد بربه، واتصل بنور قربه، فالقلب منه في اتصاله بربه متصل بتهذيبه لنفسه، فهو قائم بربه على همه وعقله، وقائم بهمه وقلبه على نفسه، وهذه هي العناية لأهل العناية، المتوطنين مقامات أهل الولاية، و(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
فصل
وهؤلاء قسمان: قسم أهل فناء، وقسم أهل تمكين وبقاء فغالب ما يظهر على أهل الفناء من الانقباض والانفراد، ومجانبة المعارف والناس ، وإهمال بعض حقوقهم؛ من البداية بالسلام، وإظهار التودد إلى أهل الإيمان، والإخلال ببعض جزئيات المتابعة، من إجابة الدعوة، واتباع الجنائز، ومخالطة الخلق، فما سببه إلا اجتماعهم على حالهم، وسياستهم أنفسهم بما يلزمهم من حقوق معروفهم، فالحال على هؤلاء بسلطنة تقبضهم عن كثير من التفرقات.
وفيهم من يشهد بقلبه انحراف كل منحرف، وما قام بقلبه من
صفحة ٤٧