هكذا كان يفكر عبد البديع حين فتح الباب ودلف إلى الحجرة سليمان، وقام عبد البديع في أدب بالغ، وقد اشتعل في نفسه كره عنيف لسليمان، فقد كان يريد أن يحادث الباشا على انفراد، والآن لم يصبح هذا الانفراد ميسورا، ولكن هذا لم يمنع عبد البديع أن يقول: مرحبا سعادة البك. - أهلا عبد البديع أفندي، لي زمان لم أرك، كيف حالك؟ - الحمد لله يا سعادة البك، أطال الله عمرك! - كيف حال الزراعة عندكم؟ - ماشية يا سعادة البك، بركة الباشا كبيرة. - كم يرمي الفدان؟ - من القطن يا بك؟ - نعم. - خمسة. - فقط؟ - نعمة. - والقمح؟ - من خمسة إلى ستة أرادب. - فقط؟ - نعمة يا سعادة البك، طيب، والله إن أرضنا تنتج أحسن محصول في الجهة. - لا، لا يا عبد البديع أفندي، لا بد أنكم لا تحسنون الخدمة. - يا سعادة البك الحال عندنا لا يقاس بالحال في أوروبا. - ولم لا؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله، هناك أوروبا، وهل أوروبا يا بك مثل العواسجة؟ شتان يا سعادة البك! شتان. - المسألة خدمة أرض فقط، لو خدمت الأرض أعطتك. - إنها أرض عمك وأرضك بجانبها، اوصل لنا في مرة وأرشدنا، ونحن ننفذ أوامرك.
وقبل أن يجيب سليمان، يفتح عم دهب الباب قائلا في لهجته الحازمة: سعادة الباشا.
ويدخل الباشا إلى الحجرة ويسلم على سليمان وعبد البديع أفندي ويقعد، ويقعد سليمان، وينظر الباشا إلى عبد البديع منتظرا أن يخرج، ولكن عبد البديع يقول: سعادة الباشا يسمح لي. - ماذا؟ - كلمة صغيرة، فإني أريد أن أسافر الليلة إن أذن سعادة الباشا.
ويتململ الباشا في كرسيه، وينظر إلى سليمان راجيا أن يفهم ويترك الحجرة، ولكن سليمان لم يتحرك من مكانه، فلم يجد الباشا مفرا آخر الأمر من أن يقول لابن أخيه: اتركنا دقيقة يا سليمان. - أمرك يا عمي.
ويقوم سليمان خارجا حاقدا على عبد البديع أن يخفي عنه سرا، فقد كان يحسب أنه يريد محادثة الباشا في شأن من شئون الزراعة، وقد كان يحب أن يعرف كل شئون الزراعة، زراعة عمه الباشا بالذات.
قال عبد البديع في لجلجة: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا وأبقاك! سعادة الباشا يعرف أنني خاطب لابنة عمي محبوبة منذ زمن بعيد.
وقاطعة الباشا: عظيم، عظيم، وتريد أن تتزوج؟ - أطال الله عمرك يا سعادة الباشا. - طيب اكتب أمرا إلى نفسك أن تصرف خمسين جنيها تتزوج بها.
وسمع عبد البديع الرقم فتحجرت عيناه هنيهة، ثم فاض منهما دمع فرحان، فما كان يطمع في غير عشرين، وانكب عبد البديع على يد الباشا متشبثا بها، ملقيا عليه بفمه، ولكن الباشا يختطفها منه في حزم: ماذا جرى يا عبد البديع، متى رأيتني أسمح لأحد أن يقبل يدي؟ أستغفر الله يا ابني، واستغفره أنت أيضا! اذهب يا ابني، أنت ابني، اذهب بارك الله لك في زوجتك وبارك لها فيك!
وقال عبد البديع والدموع تجري على خديه: وبارك لنا فيك يا سعادة الباشا، وأطال عمرك، ولا أرانا فيك سوءا أبدا يا سعادة الباشا!
وخرج عبد البديع ونادى الباشا: يا سليمان، يا سليمان.
صفحة غير معروفة