كان يعلم أن قلبه نافر من زواجه هذا إلى هواه الأول، وكان قلبه الشاب قوي النبض، عنيف الحجة، ولكن استطاع في لحظة أن يضع حول قلبه سياجا من المنطق، فخفت النبض هونا، وانبعث وصفي في غفوة من قلبه يتم الزواج، في اندفاعة خائف، وفي سرعة قلق، وفي عزم حيران.
يصبح الصباح فيندفع وصفي إلى التليفون يطلب إلى العاملة أن تصله بمنزل إسماعيل باشا مصطفى، وبعد هنيهة يكون وصفي على موعد أن يلتقي بالباشا في منزله في الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم ذاته.
وفي الساعة الخامسة يكون وصفي قد أخذ مكانه من إسماعيل باشا مصطفى، والباشا يرحب به في إجلال، فهو يعرفه من زمن بعيد، ويلاحقه كاتبا وسياسيا، ويحمل له في نفسه - إلى جانب الحب - إكبارا، وقد كان وصفي عالما بمكانه من نفس الباشا، ولكن علمه لم يمنع الخجل أن يلعثم لسانه بعض الحين، بعض الحين فقط، ثم سرعان ما جرى الحديث فيما قدر له أن يجري وسرعان ما تحدد موعد الخطبة، وصفي متعجل والباشا مسرور بهذا التعجل، وصفي يخشى أن يطغى عليه قلبه إن تراخى الموعد، والباشا يظن تعجل وصفي عدم صبر عن لقاء عروسه.
والتقت الرغبتان وإن اختلفت البواعث والظنون، وتم الحديث، واستأذن وصفي وخرج، وعند باب المنزل التقى وصفي بأم وديدة تحمل فوق رأسها بقجتها، فحياها تحية عابرة، وانصرف عنها باهتة ذاهلة أن لم يمل وصفي على أذنها ولم يتح لها أن تميل على أذنه.
ركب وصفي عربته وأمر السائق أن يسعى به إلى بيت عمه أحمد باشا، وما أن أتم إصدار أمره حتى صكت حوافر الخيل مسامع أم وديدة وهي في طريقها إلى باب الحريم.
الفصل الخامس
كانت حجرة المكتب في بيت الباشا خالية لا يشغلها إلا كاتب زراعته عبد البديع أفندي الدكر، شاب يفتتح الحلقة الثالثة من عمره، صورة قوية المعالم للفلاح المصري، مغلفا بعادات الريف، لم ينزع من غلافه شيء، لن تخطئ عيناك حقيقته، ولن تخدعك منه هذه الحلة التي يضعها على نفسه كلما اقتضت الأعمال أن يزور الباشا في المدينة؛ فقد شب في القرية، وفي مكتب الباشا، يتلقى عن أبيه أحمد الدكر فنون حساب الدوبيا، ومحاسبة الأنفار، وصرف التقاوي والسماد، وظل بالقرية وبمكتب الباشا عمره جميعه حتى مات أبوه، فتولى هو عمله.
ولم يكن مجيئه هذه المرة في عمل، وإنما جاء ليستأذن الباشا أن يكمل نصف دينه بالزواج من خطيبته التي خطبها له أبوه منذ هو طفل، ومنذ عروسه وليدة، إنها ابنة عمه «محبوبة»، محبوبة العمر كله، كم يشتاق إليها، إلى الزواج بها، وإلى أن تخلو بهما حجرة، ويقفل عليهما رتاج، إنه يحبها، ويخفق قلبه لرؤيتها، وتمور الدماء في عروقه حين يلتقي بها وقد ألقت على رأسها خمارها الأسود، وهو منذ يومين لا يطيق صبرا، فقد رآها في صحن دارها، وقد لبست جلبابها الأحمر الهفهاف الذي لم يكن قد رأى منه إلا طرفه الأقصى حين كان يتدلى تحت جلبابها الأسود، رأى الثوب جميعه، رأى ظهره، ورأى أكمامه وقد انشمرت عن ذراعيها، ذراعيها هي، بل لقد رأى أيضا ساقيها تحيطان بالطست، رأى ذلك جميعه حين ولج بيت عمه الذي كان مفتوحا، رأى «محبوبة» فتملاها مليا، حتى إذا أحس أنها توشك أن تلتفت خلفها سارع عائدا بظهره إلى باب الدار، ومن هناك قال: يا ساتر.
وقامت محبوبة عن الغسيل، ومن وراء باب حجرتها قالت (وهي تدرك من المنادي): من؟ - أنا عبد البديع يا محبوبة، عمي هنا؟ - لا، خرج، اتفضل. - لا، أستأذن أنا؛ سأعود إليه في العشية.
هو منذ تلك اللحظة لا يطيق صبرا، ولولا أن الأعمال كانت متراكمة لركب القطار إلى الباشا لحظة ترك محبوبة، ولكنه صبر نفسه يومين بغير نوم، لقد كانت ساقا محبوبة وذراعاها تطارده في النوم والصحو على السواء، حتى لقد خشي أن يخطئ في الحساب؛ فجاء، جاء منذ الأمس، ولكنه لم يستطع أن يحادث الباشا؛ فقد كان جالسا طوال الوقت إلى ولدي أخويه، فلم يره إلا وهو في طريقه إلى السيارة، ولم يتسع الوقت إلا لأن يسأله الباشا سؤالا عاما عن حال الزراعة، ثم طلب إليه أن يبيت إلى الغد، وبات ليلته في بيت الباشا، وخرج في الفجر ليصليه حاضرا في سيدنا الحسين، وحين عاد كان الباشا قد خرج، ثم ها هو ذا ينتظره وقد اقتربت الساعة من السادسة، وإنه يخشى أن يبيت هذه الليلة أيضا دون عودة إلى القرية، إلى محبوبة.
صفحة غير معروفة