وعندما يسيل هذا اللون بالحياة والخصب، وتنطلق الأغاني الخضر، سيفاجأ «السادة الأغراب» بقنابل موقوتة «كان أسلافنا خبئوها مع الخبز والخمر في خشب الموميات؛ لكي تتفجر في غرف الدفن حين تحين مواعيد عودتهم للحياة». وهكذا يفتقد الشاعر اللون الذي يتنفس بالحياة والحرية في عالمه الذي طغى عليه الأخضر الطحلبي أو الأصفر المعدني ... ولا عجب بعد ذلك أن يهيب بقرائه أن «تعالوا نلون كما نشتهي هذه الأرض، أو نشعل النار فيها»، فلعلها تحملنا وتطير، ثم «تسقطنا مطرا قزحيا، وتزرعنا شجرا موقدا».
ولم يكن غريبا على الشاعر العربي أن يتجه إلى الرسام الأجنبي كما اتجه إلى الرسام العربي، وأن يكون اتجاهه إلى أولئك الذين تجمعه بهم وشائج التاريخ وقرابة الروح. في هذا الأفق العالمي والحميم في وقت واحد تبرز قصيدة عبد الوهاب البياتي إلى بابلو بيكاسو (من ديوانه النار والكلمات)
35
وقصيدة حميد سعيد
36
المرور في شوارع سلفادور دالي ... الخلفية (من ديوانه الأغاني الغجرية)، ولما كانت القصيدتان لا تستوحيان صورة محددة من صور الفنانين، وإنما تستلهمان عالمهما الثري بالغرائب والتضادات والمفارقات ثراء عالمهما الشعري، فسوف نتجاوز هاتين القصيدتين إلى قصيدتين أخريين نلمس فيهما محاولة شاعرين عربيين إعادة رسم لوحة بيكاسو المشهورة «جيرنيكا» التي ما زالت تتحدى المفسرين لقيمها التشكيلية والإنسانية المذهلة. والواقع أن هذه اللوحة الجدارية ليست مجرد لوحة غير عادية، وإنما هي انعطافة كاملة في مسار الفن العالمي بوجه عام، وفن بيكاسو بوجه خاص. وهي تشبه كونا شاسعا من التكوينات الرياضية الدقيقة والمساحات والزوايا والخطوط الهندسية الحادة التي تتفاعل مع أعلى درجات الحس التلقائي والبدائي، والتوتر الانفعالي الجياش بالغضب والتمزق والتقزز كارثة الحرب، بحيث تصيب المتلقي بالدوار (ولا ننسى أن جيرنيكا هي القرية الإسبانية التي قاست من وحشية الفاشيين في الحرب الأهلية الإسبانية). لكن اللوحة تتميز - بجانب أساليب فنية عديدة تركت عليها آثارها - بإيقاع عربي يتمثل في روح «الأرابيسك» التي تتجلى في أشكالها وخطوطها اللانهائية المتشابكة. ولعل هذه الروح، بالإضافة إلى تعبيرها عن مأساة الحرب ورعبها وتشويهاتها، هي التي جذبت الشاعرين العربيين للدوران في فلكها أو في دوامتها ...
والقراءة الأولى لقصيدتي الشاعرين حميد سعيد (محاولة إعادة رسم الجيرنيكا، ص439 من ديوانه)، وأحمد عبد المعطي حجازي (جيرنيكا أو الساعة الخامسة من ديوانه كائنات مملكة الليل، ص71)، تكشف عن عدم تقيدهما بعناصر اللوحة، أو موضوعها الأصلي، على نحو ما فعل الشاعر الفرنسي إلوار في قصيدته المشهورة عنها. لقد استلهما عالمها المخيف الذي لا يزال يطلق طاقات وإشعاعات تنذر بالويل القائم مع كل الكوارث المشابهة. وقصيدة الشاعر حميد سعيد لا توحي بأي علاقة تربطها بلوحة بيكاسو؛ فما من شيء أو وصف أو رمز مباشر يذكر بها، وعبثا نبحث عن الأشلاء المتضخمة المنشورة فيها، أو عن رأس الحصان الذي يصرخ من التمزق، أو رأس الثور المرعب، أو الأم التي تحمل طفلها الميت. سنجد في المقطع الأول عصافير قلقة تتنقل من مكان إلى مكان، وتبدأ مشوارها بالحوار الصباحي وقراءة أشعار غارثيا لوركا (أعذب قيثارة في الشعر الإسباني المعاصر اغتالها الفاشيون). وننتقل إلى المقطع الثاني الذي يقربنا من مجال اللوحة في جذبه وطرده؛ فقد بدأ السجناء القدامى «يحلون في الذاكرة، وراحت العصافير تبحث عن فرح واحد لم ير الحزن، عن مدن لم تر الشفرة القاطعة». وتظل العصافير على قلقها وبحثها عن «مقعد فارغ» وعن «ألكسندرة» التي كانت تسقيها الشاي؛ فتترجح من بعيد أن الاسم الأخير ربما ينوب عن المرأة التي مات طفلها. ونصل إلى المقطع الرابع فنجد الأرض تبحث منذ ثلاثين عاما عن الفعل الذي «يخرج من دمها الضاحك»، كما تنتظر السيد «الذي يرث الجسد المترمل»؛ فقد كان أحد السجناء الذين ذكرهم المقطع الثاني يطرق أول باب يصادفه فتفتح الباب ألكسندرة. والقصيدة كما نرى أشبه بمحارة مغلقة على أسرارها، ولا بد من أنها تحمل من تجربة الشاعر في إسبانيا مضامين ورموزا لم يساعدنا على الاقتراب منها. ومع ذلك فنحن نحس أنها تدور في عالم خرب ضاع منه الفرح، وهجره الأهل وسيطر عليه الحزن، وخيب أمل العصافير في الحب والمأوى، ولعل ضياعها في «خيخون» التي يرد ذكرها في المقطع الثالث ينطوي على الدلالة الأساسية التي أوحت بها اللوحة للشاعر: لم تعد ثمة مدن لم تر الشفرة القاطعة، ولا ثمة مدن يمكن أن تطمئن إليها العصافير ...
أما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي فيستوحي لوحة بيكاسو في خمس لوحات شعرية ترتبط كالقصيدة السابقة ارتباطا غير مباشر بدلالاتها الباقية عن زمن الحرب والرعب والاغتيال والقمع المستمر؛ فاللوحة الأولى تصور مصرع الخطيب والسياسي الإغريقي لوسياس أثناء إلقاء خطبته الأولى التي «توج فيها بامتشاق السيف أغنياته للحق». واللوحة الثانية قفزة أبعد منها في زمان الحزن والخوف؛ فهي تصور بحارة ماجلان الذين يتمنون أن توقف الأرض دورانها ساعة يدفنون فيها ماجلان، هذه الأرض التي غصت - على امتدادها بين نيويورك وموسكو - بالقبور. وتضعنا اللوحة الثالثة في قلب مأساة عصرية فجعت أحباب الشعر بموت الشاعر الشيلي بابلو نيرودا على أثر سقوط الحكم الاشتراكي الوطني ومصرع صديقه الليندي الذي كان على رأسه. والعلاقة هنا بلوحة بيكاسو علاقة مباشرة؛ فالشاعر الذي مات في عام الستين قد أصبح عاجزا عن ملاقاة الثور الخرافي الذي «يقوم الآن من لوحات بيكاسو ومن أشعار لوركا» كما كان يفعل وهو في الثلاثين. والثور المشهور في لوحة بيكاسو يأتي الآن «في هيئته العصرية النكراء، في حلته الصفراء»، بينما الشاعر المحتضر ملقى في فراش المرض الملعون ... ويأتي المشهد الأخير من فيلم شهير (فيلم «زيد
Z » الذي عالج موضوع القمع والإرهاب البوليسي في إحدى الدول الحديثة)، فيصور الرئيس الاشتراكي المقتول مع حراسه القتلى، «وجنود الانقلاب جامدو الأوجه يلقون على جثته القبض، ويصطفون كالأعمدة الجوفاء في البهو» ...
وأخيرا نصل إلى نموذج ناضج لقصيدة الصورة عند الشاعر سعدي يوسف في قصيدته التي جعلها عنوانا لأحد دواوينه «تحت جدارية فائق حسن».
صفحة غير معروفة