فالشاعر ينظر بعين الرسام ويصور بريشته، ولكنه لا يقدم تقريرا تشكيليا، ولا يعنى بالجانب الشكلي على الإطلاق. إنه سندباد حائر ثائر يرسم ثلاثة رسوم مائية في منفاه الوحيد، يتحسر في أولها على مغامراته الماضية في المرافئ والقلوب والمدن البعيدة، ويناجي في ثانيها المحبوبة (الحورية أو الحرية!) التي ارتحلت مثله «كما ارتحل المجوس بلا طقوس»، وراحت تموت مثله في المنفى «هربا من الظلمات والأموات والليل الطويل»، بعد أن غدرت بهما الألوان والدنيا كما غدرت بعاشقها لعوب، ثم يخاطب هذه المرتحلة المجهولة التي تتنكر مرة في زي ساحرة، وأخرى خلف قناع أميرة، تضاجع البرق في قاع البحار، وتركض غزالة في الجبال، تتراقص فراشة على وجوه العاشقين، وتهاجر مع الطيور؛ وعلى زجاج نوافذ المقهى وفي ليل الشوارع تشعلين، نار الحنين، وعلى سطوح منازل المدن البعيدة تمطرين، بينما يموت الشاعر السندباد «كقطرة المطر الحزين»، وهو لا يستطيع أن يتحول كل هذه التحولات التي نعرفها في شعره؛ لأن التحول الوحيد الذي يقدر عليه في منفاه هو أن يتنكر بقناع أعياد الطفولة أو بعناد الرافضين، ويظل يموت كقطرة المطر الحزين على وجوه العابرين ...
ومن الصعب أن نفترض وجود لوحات أصلية صورها الشاعر، أو استلهمها في رسومه الثلاثة بالألوان المائية. ويزيد من هذه الصعوبة أن الشاعر يعزف ألحانه المألوفة على أوتاره المعروفة - كالمنفى والرحيل والتحول - ويطلق منها ذكريات وأحداثا زمنية يستحيل على المصور والرسام أن يمسكا بها في ألوانهما وظلالهما وخطوطهما. ولا شك في أنه وفق غاية التوفيق عندما سمى هذه الصور الشعرية رسوما مائية؛ فالماء والميناء والسفن والمنفى والرحلة والتحول دالات حية على هذا السندباد الثائر الذي حاول تشكيل المقاطع الثلاثة في أغنيته على نحو ما يشكل الرسام رسومه المائية، بحيث امتزجت الكلمة باللون إلى الحد الذي أوشكت معه مقاطع القصيدة أن تصبح رسوما بالكلمة، وكادت الألوان تصبح ألحانا ملونة ...
ولا يقف الأمر عند الرسم بالألوان المائية، بل نجد الشاعر يعلق رسومه بنفسه على جدار! فها هو المرحوم الشاعر «أمل دنقل» يصف مقاطع إحدى قصائده بأنها رسوم معلقة في بهو عربي (من ديوانه العهد الآتي).
33
والنظرة الأولى إلى عنوان القصيدة تشف عن عالمها الماضي والواقع والممكن، ومقاطعها رسوم معلقة في بهو الزمن العربي المثقل بالمحن والكوارث والأزمات، والقصيدة مكونة من أربعة رسوم ، ألحق الشاعر بكل واحد منها نقشا وختمها بكتابة في دفتر الاستقبال لزائرة متخيلة لمعرضه؛ فاللوحة الأولى من هذه الرسوم منتزعة من ماضيه الذي ولى وخلف الحسرة في نفوس الأبناء والأحفاد. إن ليلى الدمشقية ترنو من شرفة الحمراء لمغيب شمس الأندلس، فترى الخيوط البرتقالية «وكرمة أندلسية وفسقية، وطبقات الصمت والغبار». أما النقش فتقول حروفه: مولاي لا غالب إلا الله، واللوحة الأخرى تعرض علينا المسجد الأقصى (قبل أن يحترق الرواق)، وقبة الصخرة والبراق، وآية تآكلت حروفها الصغار. أما النقش فيصرخ محذرا: مولاي لا غالب إلا النار. ونقف أمام اللوحة الثالثة فإذا هي دامية الخطوط واهية الخيوط، لعاشق محترق الأجفان كان اسمه «سرحان»، يمسك بندقية على شفا السقوط، والنقش الملحق برسم هذا العاشق الثائر يقول: «من يقبض فوق الثورة، يقبض فوق الجمرة.» ثم تأتي اللوحة الأخيرة التي ترسم خريطة سيناء التي بدت لعيني الشاعر قبل تحريرها لطخة سوداء تملأ كل الصورة. أما النقش المكتوب عليها فهو حديث شريف تصرف فيه الشاعر تصرفا يلائم البعد السياسي لمعرضه الشعري ويتسق مع أسلوبه الخطابي المباشر الذي يلطف الوزن والقافية الداخلية من حدته: الناس سواسية - في الذل - كأسنان المشط، ينكسرون كأسنان المشط. ثم تنتهي مقاطع الصور والرسوم باتهام قاس يسجله الشاعر في دفتر الاستقبال، ويضمنه البيت المعروف لدعبل الخزاعي:
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي ... أبدا
إني لأفتح عيني (حين أفتحها)
على كثير ولكن لا أرى أحدا!
من الواضح أن هذه الرسوم الشعرية لا تقصد إلى إثارة خيال المتلقي، أو التأثير على حسه الجمالي، وإنما تستفزه إلى التمرد على زمن السقوط والانهيار، وتتوسل بالمبالغة والسخرية والخطاب المباشر لتثبيت صور الضياع في عقله ووجدانه؛ ولهذا لم يجد الشاعر نفسه بحاجة إلى إعمال خياله الخلاق أو اللجوء للوسائل الفنية والحيل البلاغية لرسم صوره؛ فالصور محددة وواضحة لكل عربي، ولم يكن على الشاعر إلا أن يزيدها وضوحا وتحديدا، ويثبتها على جدار الضمير المذنب بمسامير الحقيقة القاسية!
صفحة غير معروفة