ولكنه لم يضن عليه بشراء جهاز صغير خاص بصنع الدندورمة والجرانيتة، سهل الاستعمال، فكان يملأ وعاءه الداخلي باللبن المحلى حينا، أو بالليمونادة حينا آخر، ويلتهم الدندورمة والجرانيتة، ما يملأ حلة متوسطة. •••
وسطح البيت مملكة تنعم بحرية مطلقة، سقفه سماء الفصول الأربعة بألوانها المتباينة. وفي الأفق قباب عديدة ومآذن مفردة ومزدوجة، تستوي بينها مئذنة الحسين كالعروس بقدها الممشوق المنطلق. الكتاكيت تتجمع وتتلاصق تحت الشعاع، كأنها خميلة متكاملة الألوان، نقيق الدجاج يترامى من وراء الباب الخشبي، رءوس الأرانب تبرز من أفواه البلاليص المائلة. وأنت تجمع البيض في حجر جلبابك، وتقدم أعواد البرسيم للأرانب، وترمي الحب للكتاكيت، وثمة كرسي خيزران قديم نقول له كن سوارس، أو كارو، أو سيارة، أو طيارة فيكون بقدرة الخيال الطموح. والطشت يملأ بالماء فيكون بحيرة، والسلم الخشبي ينام على الأرض، فيصير قضيبا للترام. الوهم والحلم والحقيقة شيء واحد. وفي الصيف تنقل الأم الكانون والحلل إلى السطح تحت تكعيبة اللبلاب، فيشارك في اللعبة الجديدة بما يحلو له، يغسل اللحمة، يدق التوابل في الهاون، يخرط الملوخية، وفي المواسم يسهم في نقش الكعك ولت العجين وتسمين خروف العيد. ومن فوق السطح رأى الطيارة وهي تمرق في الفضاء، وأزيزها يملأ الجو، ولمح سائقها في حجم اللعبة الصفيح، ورأى القمر في الليل، ورصد ظهور ليلة القدر، ليكون من أهل الحظوة والسعادة. ورأى أيضا فتوات الحواري وهم يتصارعون كالوحوش، كما رأى التاريخ في مواكب ثواره وسمع هتافاتهم، وشاهد أعداءهم وهم يطلقون الرصاص بلا رحمة. وفي الليالي الحلوة والنجوم تزهر، تفرش الأم فروة تحت اللبلابة، فيتربع أمامها على ضوء مصباح يشتعل فوق الطبلية، ليسمع حكايات الإنس والجان. ومع أن أكثر الوقت يمضي في وحدة إلا أنه لا يمضي في صمت. حواره متصل دائما مع الكتاكيت، والدجاج، والأرانب، والنمل، ومع الجماد أيضا كالكرسي، والطشت، والسلم، والتمثال الصفيح، ويتجاوز ذلك إلى الخيالات والأشباح. ولكن السطح أيضا كثيرا ما يكون ملتقى الأهل والجيران، فيحلو السمر ويطيب الغناء، ويكثر اللعب مع الأقران من الذكور والإناث. وتلك العروس الصغيرة بنت أم علي الداية التي قادتهما الغريزة الكامنة الغامضة إلى طريق اللهفة المحفوف بالنشوة والحذر. •••
وموسم القرافة من مواسم الأفراح! أليس موسم الفطائر والزهر والريحان، والمسيرة بصحبة الوالدين في مهرجان حافل من النساء والرجال والأطفال؟ ويطالعك باب الحوش المفتوح على مصراعيه، فرش مدخله بالرمل ورش الماء. يضعون السلال في حجرة الرحمة، ويهرعون إلى القبر ليغطوه بالأزهار. إنه قائم بشاهديه كما كان لا يتغير، غارق في صمته وغموضه، مثير للحيرة وحب الاستطلاع. يمعن النظر في قاعدته لعله يطلع من منفذ عما في جوفه. جدود وأقارب لم يرهم، يرقدون في سلام، ويتلقون من الزيارة والتلاوة أنسا ورحمة. والوالدان يخاطبان القبر بكلام غريب وكأنهما يخاطبان أحياء يسمعون ويستجيبون. ويتلى القرآن، وتوزع الرحمة على الفقراء والشحاذين. ويتسلل إلى الخارج فيجد نفسه بين كثيرين من أقرانه، فيتجاذبون أطراف الأساطير، كل شيء يدعو للفرح؛ فلماذا تدمع العيون؟! •••
ولكن ما شأن هذه الجارة التي تلوح أحيانا فوق سطحها الملاصق لسطح بيتنا؟ تسقي الزرع أو تزقق الحمام، لها وجه أبيض منير، وشعر أسود غزير تضمه في ضفيرة طويلة مسترسلة، نظرتها جدابة باسمة، وروحها خفيفة فاتنة. هي أكبر منه بزمن طويل، ولكن أمه تخاطبها كما تخاطب ابنة لها. تداعبه بأحلى الكلام، وتتحفه بين الحين والحين بالملبن ونبوت الغفير، وإذا زارت أمه بصحبة أمها رفعته بين يديها وقبلته. وهو يخجل منها، ويرغب في المزيد منها. وكلما صفا له الوقت ملأت خياله، ومرة قالت له أمه بحضور أبيه: أنت تنظر إلى أبلة طول الوقت تريد أن تأكلها.
فقال: إنها جميلة. - وماذا تريد منها؟
تحير قليلا، ثم قال: أن أتزوجها!
فضحك الأب وقال: خيبك الله .. انتظر حتى تعرف كيف تكتب اسمك دون أخطاء. •••
ويعشق رمضان، والعيدين، ويحب الأيام في انتظارها. والكرار أول ما يبشرنا باقتراب شهر رمضان حين ترص بجنباته أجولة الياميش. وتهفو نفسه للصيام، ولكن الأم تمتنع عن إيقاظه وقت السحور. وتسمح له بالصوم عدد الساعات التي يستطيعها، فتدرب عليه رويدا حتى شرع فيه جادا في السابعة ومعه الصلاة. وتلاشت آلام الصوم في مسرات لا حصر لها؛ السحور، والإفطار، والفوانيس، واللعب ما بين الميدان والحسين وترديد الأناشيد. في الأيام الأخيرة من الشهر يمضي به أبوه إلى السكة الجديدة، إلى محلي جاكويل وجوستر، فيشتري له بدلة جديدة وحذاء جديدا يحفظهما لصباح العيد، ويتفحصهما بحنان، ويشمهما بوجد متلذذا برائحة الجلد والقماش الجديدين. وحلق الشعر، والحمام ، وأخذ الزينة الكاملة، والانطلاق إلى ميدان الأفراح، والزمامير، والأراجيح، والكعك والغريبة، والعديات، وزيارات الأقارب والأحباب. وسينما الكلوب المصري، وشارلي شابلن وماشست. أما عيد الأضحى فيشهد صداقة جديدة مع الخروف كما يشهد الغدر به في فجر اليوم الموعود، إفطاره شواء وغداؤه فتة ورقاق، وفي تلك الأيام بدأ حب الله يطرق القلب الصغير مع حب الجارة المليحة واهبة القبلات والملبن. •••
ولذة الحواس أشمل من الطعام والحلوى. أول خضرة أطلت من تكعيبة اللبلاب، وأصص القرنفل. والتروللي يشق طريقه في حقول حدائق القبة، يدفعه سائقه الحافي. الخضرة والأزهار تهب القلب فرحة طائرة ومناجاة عذبة، والجداول توقظ ذكريات الروح. وروائحها الفاتنة عرفها أول ما عرفها عند تقطير ماء الزهر والورد من خزان المياه في حمام البيت القديم. أما مسرة الأذن فحديثها يطول. تنهمر من الأفراح والليالي الملاح، والفونوغراف مرددة تلاوة المقرئين، وطقاطيق العوالم، وأغاني عبد الحي حلمي، والمنيلاوي، وصالح، ومنير، والبنا، وسيد درويش، فيما سبق أم كلثوم وعبد الوهاب، ولكل مسرة موضع تعيش فيه وتبقى. •••
وسينما الكلوب المصري متى وكيف ملكت الفؤاد؟ كيف انضمت إلى رصيد الحب والأحباب حكايات الغرب الأمريكي، وخفة شارلي شابلن، وقوة ماشست، وجمال ماري بكفورد؟ سحر وحلم، حسبته أول الأمر حقيقة وأنه يوجد في مكان ما وراء الشاشة في خان جعفر أو حارة الوطاويط. سلمت بعد ذلك بأنها صور، ولكنها منقولة عن وقائع حقيقية لا روايات خيالية. وددت لو أقضي العمر أمام الشاشة مع الأبطال. وعشقت ماري بكفورد، وأرضاني تشابه مراوغ بينها وبين جارتي المليحة. وصدقت بكل حماس أن وليم هارت اسمه الحقيقي علي الديان، وأنه أصلا من باب الشعرية! وجيء لي بجهاز عرض صغير يدار باليد، ويضاء بمصباح غازي، ويزود بشرائط قصيرة منزوعة من الأفلام في غفلة من أصحابها، فرحت أديره في غرفة السطح الصغيرة التي أصبحت بفضله مرتادا لبنات الحي الصغيرات. •••
صفحة غير معروفة