المهد
دخان الظلام
اليمامة
القرار الأخير
الخنافس
وراء العامود
تيزة أم عزيز
حملة القماقم والمباخر
الغد قادم أيضا
مؤامرة
طبقات السعادة
مسافر بحقيبة يد
رجل أفلس
لحظة عابرة
عودة القرين
الرجل الوحيد
العودة
بيت المستشار
الرجل القوي
البهو
ذوو الدخل المحدود
الحزن له أجنحة
العود والنارجيلة
لقاء خاطف
المهد
دخان الظلام
اليمامة
القرار الأخير
الخنافس
وراء العامود
تيزة أم عزيز
حملة القماقم والمباخر
الغد قادم أيضا
مؤامرة
طبقات السعادة
مسافر بحقيبة يد
رجل أفلس
لحظة عابرة
عودة القرين
الرجل الوحيد
العودة
بيت المستشار
الرجل القوي
البهو
ذوو الدخل المحدود
الحزن له أجنحة
العود والنارجيلة
لقاء خاطف
القرار الأخير
القرار الأخير
تأليف
نجيب محفوظ
المهد
في حومة الهموم لا بأس من التماس الرحمة في رحاب الأشياء التي أحبها القلب. هي أيضا حقيقة، غرست جذورها في الوجود، ومن حق الحران أن يجفف عرقه ويبل ريقه. •••
المرح بين يد حنون وحضن حنون، الغفلة السعيدة عن الزمن، نيل المطالب بالتمني، التمرغ في بستان الحرية قبل الوعي بها، مسرة الوقفة والعثرة والضحكة، والأسئلة الكبيرة تنهمر اعتباطا، ما أكثر ما يعجب وما يسر! في الانتظار سوارس والترام والتروللي، تخترق قضبانه النحيفة الحدائق. ومن الورق تصنع القوارب الصغيرة، وتعوم في الجداول لتمضي مع المياه الوانية إلى البلاد المجهولة، والهمس لأضرحة الأولياء بأعذب أماني القلب، والاشتراك في حشو الأسماك بالتوابل ودهنها بالدقيق الملتوت، وإذا سمع أذان الفجر في هدوء الليل طرب القلب لاقتراب الصبح واللعب، وعلى الوسادة يرقد تمثال الرحالة المصنوع من الصفيح الملون فيسأله هل بلغ بلاد الواق ورأى العجائب؟ والأحباب كثيرون من باعة جوالة وزفة السيرك ومواكب الفتوات والأقارب الريفيين وأساطيرهم عن العفاريت وقطاع الطرق، ولكن لكل حكاية نهاية سعيدة. •••
وأول العشق يوجد في دنيا الأطعمة، والحلوى بصفة خاصة؛ البيت يجود بالمهلبية والأرز باللبن، والسخينة، والحليب، والشهد، والعسل الأسود بالطحينة، ومن الفواكه البطيخ، والشمام، والبرتقال، والعنب، والنبق، والخوخ، أما الشارع فيختص بالدوم، والتفاح المسكر، وبراغيث الست، والملبن، والفطائر، وفوق القمة البليلة والكسكسي، الحلوى فاتنة في ذوبانها ، ساحرة في نشوتها وسريانها في الحواس، وهي أول تدريب لعشق الجمال. ويمضي الصغير بملاليمه لا يشبع ولا يرتوي، يستقبل بفيه المشوق النهم ما لذ وطاب، ويتوج جهاده بالكنافة والبقلاوة والجاتوه والشيكولاتة. •••
وفي كلمة أو كلمتين نعرف سر الدنيا والآخرة. حقا إن المخاوف كثيرة، الظلمات محدقة، ولكن الله رحمن رحيم، ينشر عنايته الإلهية، فتحيط بكل شيء، وقد يسر لنا مفتاح الأمن والأمان، بالآية نتلوها، بالصلاة نقيمها، بالصوم نتقرب به إليه، فتصفو الدنيا وتحلو، وتهب الخير والبركة، ويتقهقر إبليس وجيوشه، وننتظر هناك الجنة ونعيمها. ولا بأس من أن نستزيد من الأمن والأمان بزيارة ولي، أو تعليق تميمة بالطاقية، أو بحرق قليل من البخور. «ما أيسر السعادة في الدارين لمن يشاء!» •••
ودعوة للخروج في صحبة الأب أو الوالدين هي عز المنى، في بدلة بحار يسير تياها. يجلس الأب في حلقة من الأصدقاء، بمقهى الجندي بميدان الأوبرا، وينعزل هو وقدح الدندورمة في الطرف. ينظر إلى الميدان وحديقة الأزبكية، وتمثال إبراهيم باشا، وأحيانا يتابع أحاديث الصحاب ويستمع بانشراح إلى ضحكاتهم. لماذا يقهقهون وتتراقص شواربهم المجدولة الأطراف؟ لا يدري، ولكن وجهه يجاملهم فيضحك. ويسمع أيضا أن فلانا طلق زوجته، وأن شارع الخليج كان يستقبل مياه الفيضان في زمن مضى، ويتحول إلى ترعة تشق وسط القاهرة. ويسأل أباه: مثل الترعة التي في لونا بارك؟
فيقول الأب ضاحكا: أنت من يوم ما عرفت لونا بارك والسينما، حصلت في دماغك لوثة.
ورأى في ميدان العتبة الخضراء موقف حمير، وهما في طريق العودة إلى الحي العتيق، فاقترح على أبيه أن يركبا حمارين بدلا من سوارس، ولكن الرجل سخر من رغبته قائلا: الله يخيب ذوقك، لا فائدة من محاولة تمدينك.
ولكنه لم يضن عليه بشراء جهاز صغير خاص بصنع الدندورمة والجرانيتة، سهل الاستعمال، فكان يملأ وعاءه الداخلي باللبن المحلى حينا، أو بالليمونادة حينا آخر، ويلتهم الدندورمة والجرانيتة، ما يملأ حلة متوسطة. •••
وسطح البيت مملكة تنعم بحرية مطلقة، سقفه سماء الفصول الأربعة بألوانها المتباينة. وفي الأفق قباب عديدة ومآذن مفردة ومزدوجة، تستوي بينها مئذنة الحسين كالعروس بقدها الممشوق المنطلق. الكتاكيت تتجمع وتتلاصق تحت الشعاع، كأنها خميلة متكاملة الألوان، نقيق الدجاج يترامى من وراء الباب الخشبي، رءوس الأرانب تبرز من أفواه البلاليص المائلة. وأنت تجمع البيض في حجر جلبابك، وتقدم أعواد البرسيم للأرانب، وترمي الحب للكتاكيت، وثمة كرسي خيزران قديم نقول له كن سوارس، أو كارو، أو سيارة، أو طيارة فيكون بقدرة الخيال الطموح. والطشت يملأ بالماء فيكون بحيرة، والسلم الخشبي ينام على الأرض، فيصير قضيبا للترام. الوهم والحلم والحقيقة شيء واحد. وفي الصيف تنقل الأم الكانون والحلل إلى السطح تحت تكعيبة اللبلاب، فيشارك في اللعبة الجديدة بما يحلو له، يغسل اللحمة، يدق التوابل في الهاون، يخرط الملوخية، وفي المواسم يسهم في نقش الكعك ولت العجين وتسمين خروف العيد. ومن فوق السطح رأى الطيارة وهي تمرق في الفضاء، وأزيزها يملأ الجو، ولمح سائقها في حجم اللعبة الصفيح، ورأى القمر في الليل، ورصد ظهور ليلة القدر، ليكون من أهل الحظوة والسعادة. ورأى أيضا فتوات الحواري وهم يتصارعون كالوحوش، كما رأى التاريخ في مواكب ثواره وسمع هتافاتهم، وشاهد أعداءهم وهم يطلقون الرصاص بلا رحمة. وفي الليالي الحلوة والنجوم تزهر، تفرش الأم فروة تحت اللبلابة، فيتربع أمامها على ضوء مصباح يشتعل فوق الطبلية، ليسمع حكايات الإنس والجان. ومع أن أكثر الوقت يمضي في وحدة إلا أنه لا يمضي في صمت. حواره متصل دائما مع الكتاكيت، والدجاج، والأرانب، والنمل، ومع الجماد أيضا كالكرسي، والطشت، والسلم، والتمثال الصفيح، ويتجاوز ذلك إلى الخيالات والأشباح. ولكن السطح أيضا كثيرا ما يكون ملتقى الأهل والجيران، فيحلو السمر ويطيب الغناء، ويكثر اللعب مع الأقران من الذكور والإناث. وتلك العروس الصغيرة بنت أم علي الداية التي قادتهما الغريزة الكامنة الغامضة إلى طريق اللهفة المحفوف بالنشوة والحذر. •••
وموسم القرافة من مواسم الأفراح! أليس موسم الفطائر والزهر والريحان، والمسيرة بصحبة الوالدين في مهرجان حافل من النساء والرجال والأطفال؟ ويطالعك باب الحوش المفتوح على مصراعيه، فرش مدخله بالرمل ورش الماء. يضعون السلال في حجرة الرحمة، ويهرعون إلى القبر ليغطوه بالأزهار. إنه قائم بشاهديه كما كان لا يتغير، غارق في صمته وغموضه، مثير للحيرة وحب الاستطلاع. يمعن النظر في قاعدته لعله يطلع من منفذ عما في جوفه. جدود وأقارب لم يرهم، يرقدون في سلام، ويتلقون من الزيارة والتلاوة أنسا ورحمة. والوالدان يخاطبان القبر بكلام غريب وكأنهما يخاطبان أحياء يسمعون ويستجيبون. ويتلى القرآن، وتوزع الرحمة على الفقراء والشحاذين. ويتسلل إلى الخارج فيجد نفسه بين كثيرين من أقرانه، فيتجاذبون أطراف الأساطير، كل شيء يدعو للفرح؛ فلماذا تدمع العيون؟! •••
ولكن ما شأن هذه الجارة التي تلوح أحيانا فوق سطحها الملاصق لسطح بيتنا؟ تسقي الزرع أو تزقق الحمام، لها وجه أبيض منير، وشعر أسود غزير تضمه في ضفيرة طويلة مسترسلة، نظرتها جدابة باسمة، وروحها خفيفة فاتنة. هي أكبر منه بزمن طويل، ولكن أمه تخاطبها كما تخاطب ابنة لها. تداعبه بأحلى الكلام، وتتحفه بين الحين والحين بالملبن ونبوت الغفير، وإذا زارت أمه بصحبة أمها رفعته بين يديها وقبلته. وهو يخجل منها، ويرغب في المزيد منها. وكلما صفا له الوقت ملأت خياله، ومرة قالت له أمه بحضور أبيه: أنت تنظر إلى أبلة طول الوقت تريد أن تأكلها.
فقال: إنها جميلة. - وماذا تريد منها؟
تحير قليلا، ثم قال: أن أتزوجها!
فضحك الأب وقال: خيبك الله .. انتظر حتى تعرف كيف تكتب اسمك دون أخطاء. •••
ويعشق رمضان، والعيدين، ويحب الأيام في انتظارها. والكرار أول ما يبشرنا باقتراب شهر رمضان حين ترص بجنباته أجولة الياميش. وتهفو نفسه للصيام، ولكن الأم تمتنع عن إيقاظه وقت السحور. وتسمح له بالصوم عدد الساعات التي يستطيعها، فتدرب عليه رويدا حتى شرع فيه جادا في السابعة ومعه الصلاة. وتلاشت آلام الصوم في مسرات لا حصر لها؛ السحور، والإفطار، والفوانيس، واللعب ما بين الميدان والحسين وترديد الأناشيد. في الأيام الأخيرة من الشهر يمضي به أبوه إلى السكة الجديدة، إلى محلي جاكويل وجوستر، فيشتري له بدلة جديدة وحذاء جديدا يحفظهما لصباح العيد، ويتفحصهما بحنان، ويشمهما بوجد متلذذا برائحة الجلد والقماش الجديدين. وحلق الشعر، والحمام ، وأخذ الزينة الكاملة، والانطلاق إلى ميدان الأفراح، والزمامير، والأراجيح، والكعك والغريبة، والعديات، وزيارات الأقارب والأحباب. وسينما الكلوب المصري، وشارلي شابلن وماشست. أما عيد الأضحى فيشهد صداقة جديدة مع الخروف كما يشهد الغدر به في فجر اليوم الموعود، إفطاره شواء وغداؤه فتة ورقاق، وفي تلك الأيام بدأ حب الله يطرق القلب الصغير مع حب الجارة المليحة واهبة القبلات والملبن. •••
ولذة الحواس أشمل من الطعام والحلوى. أول خضرة أطلت من تكعيبة اللبلاب، وأصص القرنفل. والتروللي يشق طريقه في حقول حدائق القبة، يدفعه سائقه الحافي. الخضرة والأزهار تهب القلب فرحة طائرة ومناجاة عذبة، والجداول توقظ ذكريات الروح. وروائحها الفاتنة عرفها أول ما عرفها عند تقطير ماء الزهر والورد من خزان المياه في حمام البيت القديم. أما مسرة الأذن فحديثها يطول. تنهمر من الأفراح والليالي الملاح، والفونوغراف مرددة تلاوة المقرئين، وطقاطيق العوالم، وأغاني عبد الحي حلمي، والمنيلاوي، وصالح، ومنير، والبنا، وسيد درويش، فيما سبق أم كلثوم وعبد الوهاب، ولكل مسرة موضع تعيش فيه وتبقى. •••
وسينما الكلوب المصري متى وكيف ملكت الفؤاد؟ كيف انضمت إلى رصيد الحب والأحباب حكايات الغرب الأمريكي، وخفة شارلي شابلن، وقوة ماشست، وجمال ماري بكفورد؟ سحر وحلم، حسبته أول الأمر حقيقة وأنه يوجد في مكان ما وراء الشاشة في خان جعفر أو حارة الوطاويط. سلمت بعد ذلك بأنها صور، ولكنها منقولة عن وقائع حقيقية لا روايات خيالية. وددت لو أقضي العمر أمام الشاشة مع الأبطال. وعشقت ماري بكفورد، وأرضاني تشابه مراوغ بينها وبين جارتي المليحة. وصدقت بكل حماس أن وليم هارت اسمه الحقيقي علي الديان، وأنه أصلا من باب الشعرية! وجيء لي بجهاز عرض صغير يدار باليد، ويضاء بمصباح غازي، ويزود بشرائط قصيرة منزوعة من الأفلام في غفلة من أصحابها، فرحت أديره في غرفة السطح الصغيرة التي أصبحت بفضله مرتادا لبنات الحي الصغيرات. •••
وتقليد التجارب المثيرة لذة أيضا. الأب أول من قلدت والأم أيضا. وقبل ذلك فترة يسيرة ثم انقطع بالزجر. وسيدنا شيخ الكتاب ومقرعته، ألف المنديل حول رأسي كعمامة، أتربع على صندوق، وتجلس الخادم على الأرض بين يدي، أحاكي صوته وألوح بالعصا، وألقي الدرس، وأسمع وأعاقب آخذا ثأري من كل ما لحقني في يومي الثقيل، أو أغطي الصندوق بملاءة فيكون قبرا، وأخاطبه كما يخاطب والدي القبر: «السلام عليك يا أبي، والسلام عليك يا أمي»، وأتلو ما تيسر، وتنزعج أمي لذلك غاية الانزعاج وتنهال علي باللكمات. وأقلد الفتوات لاعبا بالعصا في الهواء، وأقلد المتظاهرين هاتفا بحياة سعد، وسقوط الحماية، وأقلد الباعة، والعوالم، وبعض الزائرات ذوات اللوازم الغريبة، وأحيانا أقلد «الردح» الذي يصدم سمعي في الميدان، ويهزني ما أثيره من سخط أو إعجاب تبعا للظروف والأحوال. •••
والجولات السعيدة في مساكن الإخوة والأخوات، تنطلق بنا من الحي العتيق إلى أحياء جديدة كالحدائق، والسكاكيني، والظاهر، وغمرة، في مسكن ألقى رجلا غريبا، وفي آخر أجد امرأة غريبة، ولكننا نقابل عند الجميع بالحب والترحاب. وهناك المواليد الجدد، يرقدون في المهد أو يحبون، وأنا بالقياس إليهم رجل بالغ الرشد. وتنهال علي القبلات والحلوى، وألاعب الصغار تحت رقابة مشددة. وتختلف درجات الحب بالنسبة إلي بين بيت وبيت، فبيت يتراءى لي وكأنه امتداد لبيتي في ألفته وحرارته، وآخر لا يخلو من شيء من التحفظ الذي لا يشعر به سواي، ولكنها بصفة عامة أسرة متماسكة متوادة متحابة، لا أذكر أن نبت في أرضها الخضراء شوكة واحدة، وشد ما أحببتهم جميعا كما أحبوني. •••
ودنيا الآثار العجيبة طفت بأرجائها المترامية، قبل أن ألتحق بأية مدرسة. وعندما عدت إليها في الرحلات المدرسية كانت عودة إلى أرض العجائب، التي نقشت رموزها في القلب والخيال إلى الأبد. الخطوة الأولى بدأتها مع الأب، ثم وقعت الأم في شباكها، فصارت من طقوس تقواها الأضرحة والمساجد الأثرية، وبعض الكنائس، وتكايا الصوفية، والأهرام، ودار الآثار الفرعونية، والإسلامية، والقبطية، كم حركت من خيالي وأثارت من شجوني. وحديث أبي عنها موجز جدا وجاف، أما الأم فلا أدري من أين جاءت بكل تلك الأساطير عنها. وأطول وقت قضيناه في حجرة المومياوات المحنطة، تنحني فوق التابوت متفحصة المومياء بخشوع وأسى، وأسألها: أهم أحياء ؟
فتقول: أموات من زمن بعيد. - هل أهلنا في القبر مثلهم الآن؟
فتقول بجدية: الله أعلم بحالهم.
وأسأل باهتمام: هل كلنا سنموت؟
فتقول باسمة: بعد عمر طويل إن شاء الله.
ولعل جوابها طمأن قلبي! •••
والصداقة من نعم الحياة الكبرى. دائما وجد الصديق، فوق السطح، في الميدان، في الحارة. ومنهم العابر، والمقيم. من العابرين أقرباء ينزلون عندنا إذا جاءوا من الريف، ومن أبناء العم والعمة. نلعب معا في البيت وخارجه، وأكون لهم مرشدا لحي الحسين فيسيرون ورائي كالسياح - ونحن نقزقز اللب - من بيت القاضي إلى خان جعفر، إلى الحسين، والسكة الجديدة، والغورية، والصاغة، والنحاسين، والوطاويط، وقرمز، والكبابجي، وبين القصرين، وحارة الشوام، وقصر الشوق، والسكرية؛ ثم نتفرج على المجاذيب عند الباب الأخضر. أما المقيمون فكثرة ترهق الحصر، ولكن يتصفون باللطف والمسالمة في أغلب الأحوال. يحبون السباق والجري وراء عربات الرش، وحكي الحكايات، والترنم بالأغاني الجماعية، يتميز بينهم بالأناقة أبناء دكتور العيون، والشيخ بشير والد فاتنتي. ولم يخل التجوال من لقاء من نطلق عليهم أبناء الشوارع، وهم رغم أسمالهم البالية، وأقدامهم الحافية على قدر كبير من خفة الروح، أما خرقهم للتقاليد المرعية فلا حدود له، يرددون الأغاني الفاحشة فنشعر بالفطرة أنها ترشح من يحفظها للنار وبئس القرار. ويوم يمر دون لقاء مع أولئك أو هؤلاء لا يحسب من العمر. •••
حتى تلك السن المبكرة جدا لم تخل من الحومان حول الجنس الآخر، والانسياق مع جاذبية المغامرات الخاطفة، واكتشاف كنوز الفواكه المحرمة، تتم في حذر يفضح الشعور بالإثم، والوعي لحد ما بالذنب. ودعك من فاتنتي التي تتخايل في حصنها كالحلم، فهناك حجرة السطح وبئر السلم يشهدان حوادث مثيرة وغير نادرة، فضلا عن أن سحر النساء ينفث نداءاته الغامضة في عمق وسرية وبلا انقطاع، وغير مفرق بين غريبة وقريبة، يافعة أو ناضجة. •••
فترة خاطفة تبدو لعين الحالم خطوة أولى في طريق بلا نهاية. خطوة تمهيد ليس إلا، ثم تتلوها المدرسة، والمراهقة، والشباب، والنضج، والشيخوخة، الحياة بكل أبعادها المتاحة. لكن مهلا .. هي فترة قصيرة ولكنها تحمل أجنة احتمالات لا تعد. تشهد مولد الأسئلة الخالدة، والحب، والجنس، والصداقة، والقيم، والحياة، والموت، في رحاب ذي الجلال. ألحان أساسية تنمو وتتنوع مع العمر، تتلقى من البحر الثري أمواجا متدافعة، وآفاقا مترامية. توزعنا الأهواء والتأملات، الحلم والأفعال، الانكماش والاندفاع، ولا نتخلى عن الرغبة الأبدية في الاهتداء إلى مصباح يضيء لنا طريق المصير.
دخان الظلام
رأيتني في رحلة مرحة من رحلات الزمان الأول. يبدو أن اليوم من أيام الشتاء اللطيفة؛ فالسماء صافية والشمس حانية. توافدنا على الميدان كما تواعدنا رغم الموت الذي فرق بيننا، بأيدينا حقائب صغيرة من الخوص المجدول الملون ملأى بالأطعمة والأشربة. زقزقت حناجرنا بالضحكات، وعبرنا حدود الميدان الشرقية المفضية إلى الخلاء، وعيون المياه وراحة النخيل والحناء. كالعادة يمضي النهار بصحبة الطعام، والشراب، والسمر، والطرب حتى ينهكنا السرور، ثم نعود بالحقائب الخاوية إلى الميدان عند الأصيل. الآن الشمس تنحدر نحو الأفق، ولفحات من البرودة تهب، ولكن في دماثة وعذوبة. تبادلنا تحيات الوداع، وتفرق الأحباب بين الطرقات المفضية إلى بيوتهم. تمهلت بعض الوقت مطمئنا إلى قرب بيتي من الميدان. وجدت نفسي شبه وحيد لندرة العابرين آخر النهار. واتجهت نحو طريقي التي تصب في الميدان كسائر الطرق. سرت وأنا في غاية من الشبع والرضا بين صفين من الأسواق والوكالات والورش، للبيع والشراء والصناعات والحرف، فيه تختلط أصوات العملاء بأزيز المواقد ودق المطارق. لا يسكت ضجيجه أو تتلاشى حركته إلا بعد هبوط الليل، وذهاب الحافلات، واستقرار النقود في الخزائن. هو الشارع الذي حلمت فيه بالنضج والعمل، وأسعدني كثيرا التجول في جنباته. ولما شارفت نهايته دهمني منظر سد من الأحجار أغلق مخرجه بإحكام. ذهلت وغضبت، وتساءلت متى قام هذا السد؟ ومن الذي أقامه؟ ولأي غاية صنعه؟ وتلفت حولي فلمحت عند زاوية السد اليمنى شخصا يجلس وراء مكتب خال إلا من تليفون. ولما استقر بصري عليه تسمرت في مكاني من هول ما رأيت. طالعني وجه غليظ بصورة تتحدى أي خيال، وفي موضع الأنف ينطلق خرطوم قصير على هيئة خرطوم الفيل، تحت عين واحدة غائرة تستقر في منتصف الجبين. تراجعت فزعا وأنا أتساءل: أهو إنسان أم حيوان؟ وأي نوع من الحيوان يكون؟ وأرى الناس منهمكين في شئونهم لا يعيرونه التفاتا، فملكتني الحيرة، وداخلني خوف من المكان كله. وطويت حيرتي في صدري وانحصر تفكيري في النجاة بنفسي من هذا الشارع الذي توهمت خطأ أنه سبيلي إلى بيتي. وجدتني مرة أخرى في الميدان فصادفني عابر سبيل، فاعترضت طريقه مستغيثا به. أشرت إلى الطريق المسدود وسألته: ماذا يجري في هذا الطريق؟
ولكنه حدجني بحنق لاعتراضي سبيله، وهتف بي: عن إذنك، لا وقت عندي للكلام الفارغ!
ونحاني جانبا ومضى. وبدوري لم أعد أفكر إلا في العودة إلى بيتي مؤجلا أي شيء إلى حينه. لا شك أن الرحلة أدارت رأسي؛ فلعل طريقي هو التالي. أية دهشة ستدرك الأصدقاء عندما أروي لهم ما رأيت. وفي الحال ولجت مدخل الطريق الثاني. إنه أضيق من الأول، لم أستدل بملمح من ملامحه على أنه حقا طريقي، ولكني لم أعدل عن السير لارتيابي الطارئ في سلامة ذاكرتي. وهو شبه خال أيضا. أجل، تقوم على جانبيه مقاه صغيرة متباعدة، ولكن لا يكاد يرى أحد في ساحته. وسطعت من مقاهيه روائح غريبة نافذة ومؤثرة، وتراءى الجالسون وكأنهم لا يسمعون، ولا يرون، ولا يشغلهم شاغل، أو يربطهم بالحياة رابط. أوسعت الخطى هربا من قلق زاحف. ولما دنوت من النهاية تسمرت قدماي للمرة الثانية. سرت الرعدة في أوصالي، ولم أصدق عيني. إنها حوقة من الهياكل العظمية، ترقص رقصة جماعية شعبية. إنه الموت يرقص أمام عيني بلا موسيقي تصاحبه. عدت جريا قبل أن يغمى علي. ماذا جرى للدنيا؟ وكيف أعثر في هذا الضياع على شرطي لأستنجد به؟ لأذهبن إلى قسم الشرطة قبل ذهابي إلى بيتي إذا تخلصت من ورطتي الخانقة. ولم يخل الميدان من عابر أو عابرين، ولكني تذكرت الدرس القاسي الذي تلقيته على يد الرجل الأول، بالإضافة إلى أنني لم أعد أثق في شيء. لم يعد لي من هدف أهم من الرجوع إلى بيتي. وهذا هو الطريق الثالث فلأجربه وأمري لله . إنه على أي حال طريق حي تتردد فيه أنفاس العشرات من البشر. ربما يكون طريقي الذي ضللته. منه تترامي نداءات الباعة على كل ما يؤكل أو يشرب. الزبائن يقبلون خفافا ويذهبون محملين بالقراطيس والأكياس واللفائف. سرت مسرعا يشدني شيء من الأمل، ولكن ماذا أرى يا ربي؟ من الزبائن من يذهب وهو يجفف دموعه، أو من يتلوى كالملسوع صارخا، أو من يرمي بجمرة دست في قرطاسه، ثم يمص أصابعه ليبترد، تألمت وتشاءمت ولكني لم أتوقف. لم أتوقف حتى رأيت في نهاية الطريق بياع لحمة رأس يرص على طبليته مجموعة من الرءوس الآدمية. ندت عني صرخة فزع. انتبه البياع إلي وراح يحملق في رأسي. ارتعدت أوصالي ووليت هاربا لا ألوي على شيء حتى وجدتني في الميدان. رباه! .. هل جننت؟ .. لم يبق إلا الطريق الرابع وهو الأخير، فما الحيلة إذا خانني الحظ فيه أيضا؟ وهتفت بصوت جهير: ماذا حدث للدنيا؟
وإذا بصوت غاضب يصيح بي: أفزعتني لا سامحك الله!
ونظرت نحو الرجل معتذرا، وأومأت إلى الطريق الأخير قائلا في توسل: لا تؤاخذني، إني مرهق وفي حاجة إلى رفيق.
فنظر إلي بارتياب وقال: آسف، فتوكل على الله.
وابتعد عني وهو يتلفت في حذر. لم يبق إلا أن أجرب حظي. المغيب يهبط ولا راد له. والطريق ليس بطريقي، ولكن بحسبه أن يوصلني إلى العمران. وهو شارع كبير ومثير، ويتسم بالفخامة والرونق. ويمكن أن تسميه بشارع المقاهي الفاخرة. وأسماء مقاهيه المرسومة بالمصابيح الكهربائية تنطق بالصراحة والصدق والتحدي. مقهى النشالين، مقهي النصابين، مقهى القوادين، مقهي الرشوة الوحيد. لأول مرة أبتسم. ليكن من أمرها ما يكون. المهم أن أرجع إلى بيتي، ولتذهب المقاهي بمن فيها وقحتها المعلنة بلا حياء إلى الجحيم. مضيت في خطى تدفعها اللهفة والأمل. ولأول مرة أرى في نهاية الشارع ما يطمئن القلب، ويسكن الخاطر. رأيت قوة من رجال الأمن تحت قيادة رجل مهيب. لم يساورني شك في أني بصدد هجمة حازمة هدفها التأديب والتطهير. وصحت في جذل: ليحفظكم الله، هل علمتم بما يجري في الطرقات الأخرى؟
ولكني تلقيت وابلا من نظرات باردة جافة منذرة بالويل والشر. وخيل إلي في ذهولي المباغت أن ثمة تحفزا لإلقاء القبض علي. وداخلني شك في هويتهم، فوليت الأدبار جريا بغير توقف غير غافل عن أنه لم يبق لي منفذ جديد للخلاص. وبلغت الميدان والظلام ينتشر. غرقت في مستنقع الحيرة ولا طوق نجاة معي. وليس الميدان خاليا فيما بدا، ولكن شغلت جنباته أشباح وفيرة، وملأت جوه همهمات غامضة، ثم ندت عنها هتافات غاية في التضارب والتناقض غاضبة متوعدة، متحفزة للقتال في الظلام البهيم. استشعرت الخطر، وما من سلاح معي سوى حقيبتي الخاوية. من أين جاء هؤلاء جميعا؟ وماذا يرومون؟ أهم أصدقاء أم أعداء؟ من الخلاء وفدوا أم من الشوارع الوحشية المعربدة؟ وتخلل الهتاف أصوات من نوع آخر؛ أغاني خليعة، وأناشيد دينية، وموسيقى عسكرية. وضاق صدري ضيقا فأوشكت أن أختنق. وركبني شعور بالضياع والخسران والقنوط. من شدة غيظي، وجهت بجامع قبضتي ضربة إلى أم رأسي. •••
وفجأة تلاشى الجحيم فيما يشبه المعجزة. تلاشي فجأة وبلا تدرج، هبطت اليقظة من مملكتها الحرة بالسماء .. يقظة مضيئة مفعمة بالعذوبة والسلام والطمأنينة، مرحة، مريحة، سعيدة تنضح بالمودة والهناء. مددت بصري نحو النافذة، فرأيت الأفق يزدهر بحديقة الشمس المشرقة.
اليمامة
ألعب تحت شجرة البلح عند الأصيل. مغروسة في موضعها من قبل أن يشيد بيتنا بزمن طويل. عندما تهب الريح يلاطم غصن من أغصانها مشربيتنا. وتطل أمي علي من حين لآخر كيلا أبتعد عن الميدان. لما أكون وحيدا أغني أو ألاعب نفسي السيجة. ذات يوم تهبط علي غمغمة ممطوطة منغومة فيهتز لها قلبي. اليمامة تبعث لحنا، أعرف شدوها، وأحبها حبا جما. أرفع رأسي المغطى بطاقية مزركشة فأراها مستقرة ناعمة البال عند أصل غصن. لها لون الدوم، وفي وداعة النسمة، ووحيدة مثلي، ولكنها لاهية عن حبي. أترنم في شغفي:
يمامة حلوة
ومنين أجيبها
طارت يا نينة
عند صاحبها
إنها من أغاني المفضلة. ترى أأحب اليمامة لافتتاني بالأغنية أم أحب الأغنية إكراما لليمامة؟ أقول لها بتوسل: اهبطي .. لا تخافي .. عندي الأمان كل الأمان .. عندما أذهب إلى الكتاب أودعك سريري الصغير.
يبدو أنها لا تعرف لغتي. سارحة في دنياها الخضراء، ولسبب ما تطير بغتة فتقطع نصف الميدان، ثم تحط على سور الزاوية الصغيرة على كثب من قبة الضريح. أندفع جاريا تحتها بجلبابي المقلم، وصندلي العتيق غير منتبه لما تحت قدمي. لا فكرة لدي عن صيد اليمام، ولا يحركني إلا الحب. أقف أسفل سور الزاوية على قيد أشبار من المدخل. أبتغي الوسيلة إلى بلوغ المرام بتلاوة الفاتحة. لكن من المؤكد أنها لا تأبه لي، أو أن الحذر خالط هواجسها. لا تريد أن تمكث فوق السور حتى أسترد أنفاسي فتطير مرة أخرى. أجري تحتها وأصوات خشنة تهتف بي «يا ولد .. فتح عينك».
وتحط اليمامة على حافة شرفة مدرسة خان جعفر. أقف تحت شرفة المدرسة، بصري متعلق بها، وأنسى تماما تعليمات أمي المشددة. وأتساءل: ماذا يخيفك مني؟
شد ما تحزنني لامبالاتها! فضلا عن أنها لا تريد أن تستقر على حال، فما هي إلا لحظات حتى نطير معا، هي في الفضاء، وأنا فوق الأرض الغائبة عن بصري. وأستيقظ على فرقعة سوط فأنتبه إلى قدوم كارو أوشك أن أصطدم بها. أتفادى منها على عجل، وسباب السواق يلاحقني. عيناي مشدودتان إلى محبوبتي حتى تهبط فوق غطاء دكان لبيع البقالة والسجائر والخمور. أقف وأنا ألهث غير ملق بالا إلى الزبائن. ما أطول المسافة التي قطعتها ولكن طولها نفسه يحرضني على الاستمرار. ربما يساورني شيء من الضيق والكدر، ولكن الأمل لا ينقطع. وأقول بعناد: وراك .. وراك .. مهما طال الزمن وراك.
سوف تحاسبني أمي علي اختفائي، ولكن سرعان ما يتلاشي غضبها عندما ترى اليمامة في حضني. وها أنت تطيرين للمرة الرابعة يا قليلة الرحمة فأجري أنا كالمجنون في إثرك. أكاد أعثر هذه المرة بشيء فوق سطح الأرض ولكن الله سلم. أتبعها بإصرار حتى تهبط فوق حافة شباك المستشفى. الدنيا زحام، عشرات يدخلون وعشرات يخرجون. يختلط الدعاء بالشكر بالبكاء. أغرق في تيار البشر، ولكن عيني لا تتحولان عنها. يخيل إلي أنها ترمقني، إنها الآن تعرفني أكثر من أي وقت مضى. وأسألها: ألم تشبعي من الطيران؟!
لكنها تطير للمرة الخامسة، دون أدنى اكتراث بي. أطلق ساقي في عناد يقهر أي تعب. وفجأة تزل قدمي في نقرة فأندلق على وجهي. أنهض مسرعا متوجعا والدم ينز من ركبتي. يمزقني ألم قاس، فأفحم في البكاء كالأطفال. لكني أنظر من خلال الدموع الى أعلى. أحس بعوج في كاحلي يمنعني من الجري. وتجول عيناي في الفضاء، فلا ترى أثرا لمحبوبتي الهاربة. أنتبه إلى ما حولي فألمس العتمة في الخلاء المحدق بالمدينة. تختفين بعد مشوار طويل مبلل بالعرق والدموع؟ ويتبين لي أن الخلاء ليس بالغريب علي؛ فطالما أقطعه حاملا الخوص بصحبة أمي ونحن في طريقنا إلى المقابر. ولم أجد من الخلق إلا أحادا عابرين. وها هو المساء يهبط بكل جلال.
القرار الأخير
رجل جاد لا موضع فيه للمرح. رجل يحب الكمال بإفراط مهلك. وقيل عنه أيضا إنه وحش، لم ينبض قلبه بنبضة رحمة واحدة، ولو على سبيل الراحة. يوم مات انتشر الخبر في الحي كالشعاع الحار مفجرا مزيجا من الدهشة والرهبة والارتياح. وثارت شكوك حول حقيقة موته، فتهامس جيران بأنه قتل. وتصاعد الهمس حتى شرحت الجثة قبل دفنها. وثبت أنه مات كما يموت كثيرون بنزيف في المخ، ورغم ذلك ألصقت بابنه تهمة قتله، واشتهر الشاب في كل مكان يحل فيه بقاتل أبيه، وحلت به اللعنة في هالة من عطف كبير. ويهتف الشاب: كل واحد يعرف أن التهمة كاذبة، ولكن كيف أدفع اللعنة؟!
ألم يلكم أباه فيطرحه أرضا؟ ماذا يهم بعد ذلك أن يموت الرجل من أثر اللكمة أو يموت حزنا وكمدا؟! وعلى ذهول الشاب وكآبته فإنه لم يعلن ندمه، وصارح كل مخلوق بأنه كره أباه حيا وميتا. كان رجلا يستحق المقت. قيل إنه عشق الكمال، وأصر على أن يتحلى بالكمال كل من خرج من صلبه، فمن كان ذلك الرجل الذي هام بالكمال لحد الجنون؟ كاتب حكومي لا أكثر، الابتدائية غاية تحصيله، قرأ بعض كتب الرواد فراودته أحلام بأجنحة وبلا أقدام. أفلتت منه الفرص، وذاب في الزحام، فأراد أن يجعل منا؛ أنا وأخي الكبير، وأختي أمثلة حية للكمال البشري. صدقوني، لم يكن إلا مجنونا. لا خبرة له على الإطلاق بالتربية، ويؤمن بأن القوة هي الوسيلة السحرية لخلق المستحيل. كم من مرة صب زوبعة غاضبة على أمي لأن طبق طعام بات دون غسيل، أو خصلة من شعرها الكستنائي تسربت من حافة المنديل. أخي الأكبر جلد بقسوة مرات لأن ترتيبه تأخر عن الأول، وأختي الجميلة تعرضت لنفس العقوبة دون اعتبار لرقة أعضائها وتوفر نضجها. وهو يجلد إذا جلد بوحشية المتعطش للانتقام لا حكمة المربي الزاجر. ولم يكن يبتسم، دائما يعلوه الحزن، وكأنما يتوقع قدوم موت وشيك. عشنا في رعب، عشنا بلا حب، نتبادل نظرات التشكي، وأمنا تتأوه باكية وتصيح: أنت تهلك الأولاد، ربنا لن يسامحك أبدا.
فيرد عليها بصوت كالرعد: اسكتي يا داعية الانحلال.
وقالت له مرة: أنت أسوأ أب.
فصاح بها: ما أنت إلا امرأة سوء .. والموت عندي خير من الضياع.
وذاعت أخبار بيتنا بين البيوت، قالوا إن في بيتنا محكمة تفتيش منعقدة بصفة مستمرة. ولم يكن لديهم ما يأخذونه عليه كجار؛ فهو يشيع الأموات، ويعود المريض، ويبرق مهنئا في الأفراح. لكنه لا يذهب إلى المقهى، ولا يوثق علاقة بأحد، ولا صديق له. يؤدي فريضة الجمعة في المسجد، يتبادل بعض التحيات في تحفظ، وسرعان ما يرجع إلى مسكنه. وتجرأ عليه جار يوما، فاعترض سبيله ليعترف له بأن صراخ أبنائه يكدر صفو حياته، وأن التربية تقوم على الحزم والرحمة معا، ولكنه عبس ومضى مقاطعا الحوار. وبلغ حزننا مداه عندما قبلت أختي زيجة غير متكافئة لا لشيء إلا أن تهرب من قبضة أبيها الحديدية. لا السن مناسبة ولا الشكل، ولكنها وجدت في جواره الكئيب النجاة. وذهب أخي الأكبر ذات يوم ولم يعد. اختفى من حياتنا فلا هو حي، ولا هو ميت. وتحطم قلب أمي. أما أبي فقد ثار غضبه طويلا، ووجم أحيانا، ودارى هزيمته بكلمة فظة انطلقت من فيه كالحجر، صاح: في داهية!
هل يتغير سلوكه مع الابن الأصغر؟ لا يبشر وجهه بأي خير. والولد على صغره لم يسلم من الجلد، ولكنه استعد للدفاع بطريقة تلقائية. راح يدرب جسمه تدريبا رياضيا ويتمرن على الملاكمة. واتسع له المجال في ذلك داخل المدرسة وخارجها. واصل استعداده لمواجهة يوم أسود أغبر. والرجل رغم كهولته متين البنيان، وتمده التقاليد بقوة متجددة. والولد من ناحيته حزين على أمه وأخته وأخيه حزين. وعمل ألف حساب ليوم ظهور النتيجة، ولكنه انتظره بعضلات متوترة وقبضة متمرسة. كرهت بسببك العلم والحياة. أتخيلك تماما وأنت تنتظر قدومي، إليك بالأخبار.
قلت دون تحية: سقطت.
صمت وقتا ثقيلا ثم تساءل: هل تعرف ماذا يعني هذا؟
فقلت بنبرة حادة لم يسمعها من قبل. - لا يهمني أن أعرف!
هب قائما أحمر البصر. أقبل نحوي بسرعة، وبكل ثقله. تلقى أول لكمة في حياته من حيث لا ينتظر. تهاوي وهو يشهق فيما يشبه الإغماء. أمي صوتت. لم أنبس بكلمة. غمرني شعور باليأس والتحدي. جاءت أمي بقارورة كولونيا، وجعلت تدلك وجهه. ساعدته على القيام ومضت به نحو الفراش وهي تصيح بي: أنت مجنون وملعون.
وانفجرت باكية. فكرت في الاختفاء مثل أخي، ولكن موته لم يمهلني. وثبت أنني لم أقتله، ولكنني قاتل أبيه في نظر الجميع حتى المتعاطفين معنا. أورثنا موته هما لا يقل عن جنونه حدة. وطلقت أختي، ورجع أخي دون أن يستقر في عمل يليق به، وماتت أمي، وكنت الوحيد الذي أتم تعليمه وتوظف، ولكني أتعس الجميع.
الخنافس
أول ما ترددت الشكوى في المنزل رقم 4، ومنه انتقلت إلى رقم 9، ثم إلى رقم 22. ولم يكن يمضي أسبوع حتى انخرط الحي كله في ترديد الشكوى. يعثر شخص على خنفساء، ساكنة أو متحركة، فيهرسها دون مبالاة. في اليوم التالي يرى اثنتين وربما ثلاثا. ما هذا الوافد الجديد؟ بل تصبح ظاهرة تثير الضيق والحيرة، ويشملها السمر في المقاهي. - لا خوف منها، ولكن لم تظهر بكثرة على غير عادة؟ - ولا تنسوا ما يقال من أنها تجذب وراءها العقرب.
تواصل القتل بلا هوادة، سهرت أعين الرعاية حول الأطفال والصغار، وباتت الخنافس الشغل الشاغل والحديث الغالب. واستمر تكاثرها، وانتشر الخوف منها ومن العقارب. ورجع بياع جوال ذات مساء وقال: إنهم يحطمون الأحجار فوق الجبل بالديناميت، ومن الجبل تنهال علينا هجرات سكان الجبل بادئة بالخنافس.
ثم واصل بعد لحظة صمت: وتتبعها بعد حين العقارب والحيات!
إنه قضاء يتحدى الحي، ولا بد من دفاع من نوع ما. واتجهت الآمال أول ما اتجهت نحو المحافظة. وفي الحي موظفون ومتعلمون، فما علينا إلا أن نجس النبض، والله المستعان. لكن الشكوى لقيت من المحافظة استخفافا وسخرية، أتريدون أن تعطلوا المصلحة العامة خوفا من خنفساء؟! أما ما يقال عن العقارب فما هو إلا خرافة من خرافات الأولين. هذا والخنافس تتكاثر والقتل يستفحل حتى حلف الحلاق أن جثث الخنافس جاوزت بالأمس المائة في مسكنه. وفازت غرف النوم بعناية مركزة، وعرضت للتفتيش الدقيق الحشيات والأغطية والوسائد، فما يحتمل أحد أن يستيقظ من نومه على زحف خنفساء فوق جبينه أو اندساسها بين شفتيه، وقال رجل: لولا أزمة المساكن ما بقيت هنا يوما واحدا.
وقال آخر: سكنى المقابر أفضل وآمن.
وراجت تجارة المبيدات، وانهالت الاستشارات علي الصيادلة، أما جموع الخنافس فلم تتوقف أو يعترها ضعف، وانتشر لونها في مواقع فصبغتها بالسواد، إضافة إلى الرائحة الكريهة، وعندما تجيء العقارب فقل علينا السلام. وحل اكتئاب عام كأنه غبار تحمله الخماسين، فقد الناس المرح، واشتدت حساسيتهم لأقل سبب، يتشاجرون حتى مع أنفسهم، وفي البيوت توترت الأعصاب، وتعددت أسباب النزاع، وكثر الحلف بالطلاق، وضرب الصغار لأتفه الفعال. وكل شخص قال إن العقارب آتية لا ريب فيها. يا إلهي، ما سر البلاء؟ أهو الديناميت؟! أهو سوء النية؟ أهو غضب الله؟ ولكن ما جدوى التخبط بين الفروض، وها هو ديناميت الحكومة لا يسكت دقيقة واحدة؟ الحكومة وراء الخنافس، وراء العقارب، لا تعاني مثلنا، ولا تبالي بنا، تقيم في الأحياء الآمنة بعيدا عن الديناميت والجبل، وتتركنا لمصيرنا. أي حياة هذه؟ لا عمل لنا إلا قتل الخنافس في ضجر وقرف، وشحن الصفائح بالجثث عمل أثقل، والتخلص منها أمر محير. كأننا لم نخلق إلا من أجل مقاومة الخنافس. واقترح رجل فاضل أن ينقل ميدان المعركة إلى الخلاء الفاصل بين سفح الجبل ومشارف المساكن. وتحمس كثيرون للفكرة، فانطلقوا إلى الخلاء حاملين العصي وانقضوا على الجموع الزاحفة بهمة وتصميم، وتواصل العمل حتى هبوط العتمة، ولكن ذلك كله لم يقلل من انتشار الخنافس في البيوت، ولا خفف من مخاوف النساء والأطفال، بل راحت الخنافس تتسلل إلى الطرقات والمقاهي والدكاكين، ويعثر عليها مرات في قوارير الخل والزيت والمرطبات أو مدفونة في حشو العيش والطعمية. الحياة ضجر وقرف وترقب لخوف داهم. ودعا قوم للهجرة وليكن ما يكون. وحرض آخرون على قتال طغاة الديناميت. وقال ولي صالح إنه لا نجاة لنا إلا بالبخور. وسعي من سعى إلى الهجرة، وخطط من خطط للقتال. ومال كثيرون لفكرة البخور لسهولتها وسحرها. والبخور متوفر والمبخرة جاهزة، ولكن الولي اشترط الطهر والنقاء فيمن يقوم بالتبخير وإلا رفعت اللعنة، وحلت العقارب والحيات مكان الخنافس. وكلما عرض الأمر على رجل مشهود له بالطيبة جفل وقال الكمال لله وحده. وبدا أسهل الحلول وكأنه أصعبها. حتى جيء بطفل في الرابعة من عالم البراءة، فطوقوا وسطه بعلاقة المبخرة النحاسية، وحمله أبوه فطاف بالبيوت والأماكن. وكف الناس عن المقاومة أملا في البخور، ولكن الخنافس تكاثرت لدرجة تعذرت معها المقاومة. وهجر الناس بيوتهم إلى الطرقات، وهم في كرب ما بعده كرب، وانهالت الاتهامات على البخور والولي، وحتى الطفل لم ينج من تهمة تناسبه. واختلطت الأمور وذهل الناس عن الحقيقة، وازدادوا ذهولا والأيام تمر. ولا أحد من المعاصرين يدري كيف انكشفت الغمة وتلاشى الكابوس. أجل، قد رجع الناس إلى المساكن، ورجعت المساكن إلى الناس، ولكن كيف؟ يهمس قوم إنها الهجرة. ويشيد آخرون بقتال الأبطال. ويتغنى فريق بشذا البخور.
وراء العامود
بكافيتريا الفندق الكبير لذت فرارا من حر يتأجج في الشوارع. ما أجمل الجو المكيف عقب احتراق وعرق! وثمة مكان خال وراء عامود ضخم مطعم بالمرايا والأصداف الملونة، فأسلمت نفسي لمقعد لين. يكاد يخلو المكان، سوى ذلك الركن الغربي تتهادي منه ضحكات رزينة وروائح السيجار. لمحتهم من ناحية العامود جالسين حول مائدة معدنية اصطفت فوقها أقداح المرطبات. عرفتهم رغم أنني لم أرهم من قبل، يدل عليهم مظهرهم الرائع، وسمات مشتركة كاللغد الممتلئ والسيجار والنظرات الهابطة من عل. ورغم طفرة الزمن فهم يتنادون بسعادتك ومعاليك، وانعقد فوق هاماتهم نصر مؤكد. تجول عيناي في أرجاء المكان تابعة الفتيات ذوات السترات الحمر وهن يؤدين الخدمة، ثم يرجعن إلى الركن، فوضح لي هذه المرة أن صاحبي «الأستاذ» مندس بينهم كأنه أحدهم. يقينا هو ليس منهم، ولكنه حائز لرضاهم، يكتب إذا كتب في حياء، متناولا طرائف الشرق والغرب، ولكنه عند الحديث يضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب، فما من طائفة إلا وتظنه وليها. أراهن على أنه يروي نكتة، صوته غير مسموع وإشاراته دالة، وهم يصغون باهتمام، ثم تتهادى الضحكات الرزينة. هم في حاجة إليه، وهو في حاجة إليهم. ابتسمت لكثرة ما تذكرت. تلك الليالي الحافلة بالكلام والسمر. إنه الآن ينافق. يقوض أبنية ليداهن أحلامهم. أنا أيضا أجلس في مجلسي الرطيب لأحلم. النوم العميق يجد في الأحلام مفتاح الفرج. أما في مجالسنا المرحة فقد استحق الأستاذ لقب مؤرخ العصر ومفشي الأسرار. لكنه صادق معنا وإلا، كانت تلك الأقدار التي تحيط بنا. إنه يحيل الشائعات إلى حقائق بمشاهداته وأسانيده وأخباره. مؤرخ خبير بالصفقات والسلب والنهب. بل لعله في أعماقه متمرد أو ثائر، ولكنه يؤثر السلامة والربح. إنه يعلم أن ذلك الركب غاص بالموبقات، ولكنه آثر أن يتعلق بذيله ولو على كره. في مجالسنا فقط ينطلق على سجيته ويكفر بالكلام عن سلوكه. يسأله أحدنا: حتى متى تمضي الأمور هكذا؟
فيقول بحماس عابر وحقيقي: حتى تلفظ السلبية أنفاسها. - لكننا شهدنا أكثر من ثورة؟
فيقول ضاحكا: لي عمة لم يشف كبدها من أوجاعه حتى أجرت به ثلاث جراحات!
وأمد بصري نحو ركنهم وعاصفة تموج في صدري، ألا يفكرون في العواقب؟ أم هو قدر يحمل الجميع إلى غاية مرسومة؟ وأتسلى بالنظر في قعر فنجان القهوة الفارغ، كأنما أشوف البخت. أري رسما في راسب التنوة يشبه القاطرة. أتذكر ما يقال عادة: «أمامك سكة سفر!» ورأيت الركن يتحول إلى حجرة هادئة للتدخين معزولة تماما عن الفندق مغلقة الباب، والسادة هائمون بين الاسترخاء والسمر، ولكن الباب فتح، وانسل منه شاب غريب، أغلق الباب، ولاه ظهره، وتوجه نحوهم في توتر وتحد. نحيل طويل ذو سروال رمادي وقميص غامق اللون، معروق الوجه شاحبه، زائغ البصر. ترتفع نحوه الأبصار مستطلعة، ويسود صمت داهم. لا أحد من السادة يعرفه أو ينتظره، لعله جاء لمقابلة الأستاذ، المهم ألا تطول الزيارة. يدس الشاب يده في جيب سرواله ثم يسدد نحوهم مسدسا، يقول: حذار .. أي حركة ستجر وراءها الموت.
حلقت فيه العين، أي مفاجأة؟ كفوا عن التدخين. مجنون؟ ما أكثر المجانين في هذه الأيام! لكن الحياة ليست باللعب. وتساءل أحدهم: أي شيء بيننا وبينك؟!
فهتفت: كثير .. كثير .. للأسف ليس في المسدس ما يكفي من رصاص.
فقال الرجل بحرارة: لماذا؟ تمهل وفكر .. أنت تهدر حياتك وأنت في عز الشباب. - حياتي مهدرة .. الحياة مهدرة.
استحوذ عليهم رعب شديد وقال صوت متهدج: فكر أنك قد تقتل بريئا.
صاح بعصبية: يا أوغاد .. يا أوغاد.
ووجه الشاب بصره نحو الأستاذ وسأله: ألا يستحقون الموت؟
فخرج الأستاذ من جلده وقال: إنهم يستحقون الموت، ولكنك لا تستحقه!
فتساءل متهكما: متى حظيت حياتي بكل ذلك الاهتمام؟
ثم واصل بإصرار نهائي: ما دمت لا أستطيع أن أقتلكم جميعا، فسأقتل أشدكم إجراما.
اعتقد كل واحد منهم أن حياته انقضت.
على غير توقع من أحد حول مسدسه نحو الأستاذ، وأطلق النار. •••
شعرت بإعياء، أشعلت سيجارة. ألقيت على الركن نظرة من جديد. الضحك لا يتوقف ولا السمر، ولا الأحلام.
تيزة أم عزيز
ذات قامة طويلة متينة البنيان، ووجه أسمر جذاب رغم طوله وحدة تقاطيعه، وعينين سوداوين نافذتين ذاتي كحل رباني، وفي غمازة الذقن وشم. لا أذكر أني رأيتها في أي فترة من العمر إلا مقبلة في ضجة من المرح، كأنها محترفة المزاح في ليالي السمر. أما بالنسبة إلي فهي دائما تيزة أم عزيز. لم تتغير. في عيني لم تتغير أبدا. حتى بعد أن تغير كل شيء فيها وحولها. الضاحكة، المبدعة من كل لفتة أو موقف صورة كاريكاتورية حية. حتى حين لم تعد تملك إلا الجلباب المرقع الذي يسترها ولا تصيب من غذاء الدنيا إلا اللقمة والدقة. أصلا من رشيد جاءوا، بلد الاقتصاد والعمل والنكتة. بصحبة ابنها الكبير اختارت إقامتها. أما الابن الآخر المزارع هناك، فقد ضاقت بها زوجته. أليس كل مكان ينبت العز طيبا؟ ثم إنها صاحبة أرض، مستورة، إذا حلت بمكان جرت فيه البركة، وبكريها ما شاء الله موظف بالبكالوريا يسر الخاطر، يدخن ماتوسيان، ويفسر القرآن، وفي بعض ليالي السمر يشرب الويسكي، ويغني ولا يفوته فرض. من محاسن الصدف أن زوجته القاهرية كانت عاقلة مهذبة، كسول فلم يحدث ما يكدر الصفو، وحصل تكامل بين العروس المحبة للراحة، وتيزة أم عزيز المغرمة بالعمل، وسبحان من يوفق بين الأضداد بحكمته ورحمته. بدا طويلا أن الحظ سيستقر في بحيرة الطمأنينة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الابن الرشيدي ذكي وذو همة. ينظر فيما حوله فيلتقط لباب الأشياء. فكر ثم فكر، وشاور ودبر، ثم قرر أنه لم يخلق للعمل الروتيني البسيط، وأن حياته لا يمكن أن تضيع بين إشارة إلى كتابكم الرقيم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. كلا .. ما عليه إلا أن يبيع أرضه، ويعمل بالتجارة، وخير التجارة البقالة. الناس قد تستغني عن السلاح، ولكن هيهات أن تستغني عن الجبن، والزبد، والعسل، والزيتون، وقد فعل. وتيزة أم عزيز لم تعترض، بل تشجع وتحرض، وإذا تأففت الزوجة قومتها بالأمثال والنكت. تيزة لا تحب المرح وحده، ولكنها تقدس العمل والربح أيضا. وتتحسن الأحوال تحسنا جميلا، فيتجدد الأثاث والمظاهر، وتدب حيوية جديدة في مجال تيزة أم عزيز. تتجلى مواهبها المأثورة في طهي الطواجن والضلمة والأسماك، وتعلو همتها في الولائم يشهدها عملاء ابنها، فيلتهمون الطعام، ويثنون على صانعته داعين لها بطول العمر والعمار. كل شيء حسن ويبشر بما هو أحسن، ولكن ماذا أغراك بالقمار يا عزيز؟ ولم تستجيب لندائه الماكر بعد أن أنجبت من الذرية ستة؟ وكيف غاب عن سكرتك أنه مغامرة لا تصلح لأهل التجارة، أليس لكل شيء ميزان؟ وتمضي الليالي الصاخبة الحمراء بين الفول آس والكاريه والبلف، والضحك والوجوم والأرق، والأحلام لا تجدي والويسكي عابث خداع، حتى وقعت الواقعة وتقوض البناء، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. يا له من موقف يستحق أن تنوح عليه الرباب! وتماسكت أم عزيز وقالت له بيقين: لا تنس أنه موجود، وأنه لا ينسى عباده.
وهو أيضا مؤمن بالرغم من معاصيه، وذو همة ونضال؛ سعي في سبل شتى حتى عمل مدرسا في مدرسة ابتدائية أهلية بمرتب بسيط يصرف تبعا للظروف والأحوال. وأقدمت تيزة على مغامرة جريئة فباعت أرضها لابنها الآخر، وأعطاها الثمن بعد أن حجز منه نصيه الشرعي، نظير إنفاق نصيبها على أبناء أخيه. ورصدت المال للإنفاق منه عند الطوارئ. وظل الحال كذلك حتى نفد المليم الأخير والأولاد لا يتوقفون عن النمو. وتتعدد المطالب والكل يعيش من أجل الأولاد والمطالب. شد ما صبروا على ضنك وحرمان! أما تيزة أم عزيز فظلت تيزة أم عزيز. أو هكذا تبدت لعيني المرحة القوية المتحدية، والله أعلم بالسرائر. اليوم يا تيزة تعلمت أن المآسي قد تحكى في كلمات، ولكنها تعاش على أنات الكدر وعذاب المعاناة، وفي غيابات القهر. ولا أنسى حديث المتحاورين والمعلقين من بعيد: الله يسامحك يا عزيز، نسي أمه وأهملها، تأكل ما يعافه الخدم، وترتدي الرث المرقع، يا خسارتك يا أم عزيز! - الرجل معذور يا أختي، طالما أنه لا توجد إلا لقمة واحدة فالأولاد أولى بها! - ألم تبع أرضها من أجله؟ - هي الدنيا، والحكم لله وحده.
كيف شقت تلك السفينة العارية المتهالكة طريقا في خضم الأمواج الكاسحة؟ كيف عانى الرجل الذي لبث حياته كلها يدفع ثمن خطئه؟ ولكن رغم كل شيء أكرمه الله، فأهدى إلى الحياة ستة من أروع الشباب المتفوق. لعلهم لا يذكرون عذاب الأب وهوان الجدة. وأشهد أنني ما رأيتك إلا باسمة حتى وجلبابك الرث يشف عن جسد جاف أعجف. وعجيب أنني لا أذكر رحيلك عن دنيانا التي تراقب الحوادث بعين واحدة. لعلك مرضت فلم يدر بمرضك أحد. ولعل الليل تلقى من شكواك ما ضننت به على البشر. أو لعل ذاكرتي أبت أن تحفظ من ذكراك إلا صورة السيدة القوية المرحة ذات العينين النافذتين والوشم المطل من غمازة الذقن. صورة الصبر الجميل والحب العميم.
حملة القماقم والمباخر
شهد شارعنا أروع جنازة في تاريخه الطويل، حينما توفيت ست بطة. انعطفت مقدمة الموكب إلى الشارع العمومي على حين لم تدب الحركة بعد في ذيول المشيعين الواقفين داخل السرادق في مؤخرة الشارع. تقدمتها فرقة موسيقي حسب الله تعزف لحن الموت التي تنقبض الصدور لوقعه، فيهرع الأحياء للفرجة، وتطل رءوس النساء من النوافذ. وتبع الفرقة صفان متوازيان من حملة القماقم والمباخر، بدلهم السوداء بوجوه مغضنة كالحة. وتهادي النعش محمولا علي الأعناق، يمشي وراءه مباشرة الأهل وعلية المعزين، يسبقهم الباشا - زوج الراحلة السابق - وأبناؤها الأربعة؛ منهما اثنان من وكلاء الوزارة، واثنان من مديري العموم، ورئي بين كبار المشيعين وزير الحربية، وكثيرون من ضباط الجيش العظام، ونفر من الشخصيات السياسية والاقتصادية المرموقة. بين هؤلاء جميعا سار علي صريمة زوج المرحومة الجديد، كاتب حسابات الفرن الإفرنجي، ببدلته العتيقة وطربوشه المتجرد، وحذائه الغليظ، وجسمه النحيل القصير، ووجهه الدميم. مشهد مثير للخواطر مفجر للذكريات، قضي بحكم واقعه أن تجمع الجنازة بين الصفوة والكادحين. تابعه المشاهدون على الصفين باهتمام، وحاروا غالبا في تفسير قراره المذهل. شاهدنا الجنازة فيمن شهدها من الخلق، ثم مضينا بعد ذلك إلى المقهى. انطلقت الضحكات من حناجرنا بغير حساب، واندفعنا نفصح عن انفعالنا. من منا لا يعرف ست بطة؟ من منا لم يعجب بفخامة سراي الباشا، ومن منا لم يطلق لسانه على السراي، وما يجري فيها من أحداث؟ وسرعان ما تدفقت التعليقات ساحبة الذكريات بلا ضابط ولا نظام. •••
برافو صريمة، تمكنت أخيرا من أن تتحرك بين الباشوات، كأنك واحد منهم. لكن اليوم يوم ست بطة؛ فهي صاحبة النصر. ما هي إلا جثة لا تميز بين الهزيمة والنصر. إنه يوم علي صريمة، ولو صفع بعد ذلك على القفا. يا سبحان الله يا إخوان! كانت يوما أجمل وأبهى امرأة في الحي. وكانت السراي تحفة لا ينقصها إلا الحرس، والحنطور الأنيق وأول فورد يسير في شارعنا. ما أحلاها وراء الياشمك! كأنها الأميرة عين الحياة. والحقيقة أن الباشا هو المذنب. مهلا، لا يخلو طريق الإنسان من أزمات، وهي امتحان يكشف عن قوته كما يعري ضعفه. وما وقع يقطع بأنها كانت امرأة مستهترة نزقة، وما أصابها إلا ما يصيب زوجات لا حصر لهن كل يوم. أنتم تطالبون المرأة بأن تكون قديسة أما الرجل فله أن يفعل ما يشاء. دعنا من آرائك الإفرنجية، وبطة لم تكن مجرد امرأة. كانت أما لصبيان وبنات. لماذا يحق للباشا وهو في الخمسين أن يتزوج من فتاة في العشرين، فيهجر أسرته وذريته، ولا يجوز للمرأة أن تخطئ؟ تقاليدنا يا رجل. الأمومة مسئولية وقداسة. طلقت في سن اليأس مهجورة وجريحة، وككل محسودة أرقها لهيب الشماتة فاجتاحها اليأس. هذا منطق قواد .. ها ها ها. دعه يدافع عن مامته ها ها ها. ووقع الانفجار وكان مفزعا. ولم يحرك الأبناء ساكنا دفاعا عن شرف أسرتهم. أليس ذلك بعجيب؟ كانت على أي حال أمهم، ولم يكونوا دونها سخطا على أبيهم المتصابي. ولا تنس سطوتها عليهم. كانوا يقفون بين يديها كالخفراء أمام الباشا المدير، بخلاف أبيهم الذي لم يكن له وزن يذكر. ما أكثر الضباط المهابين في ثكناتهم، الوديعين في بيوتهم! كاللواء حماد باشا، مثلا. وربما كانت الحكايات مجرد شائعات! شائعات! لا لا، حتى الخدم كانوا يتغامزون، وعم مجاهد بعد طرده من السراي أقسم أنه ما من رجل تردد على السراي لشأن ما إلا وكان له معها مغامرة؛ الخضري .. الجزار .. الكواء .. حتى جاء الختام على يد علي صريمة، صل على النبي ولا تقل شائعات. يا ناس، لو كانت امرأة شبقة، ألم تجد في طبقتها من يرافقها؟ خانها الزمن يا بطل، وللعمر أحكام، وفي أمثال تلك الظروف تقوم الطبقة الشعبية بالواجب . وفي الوقت المناسب شبت ثورة الأبناء. ألم تجئ متأخرة عن الوقت المناسب؟ الثورة لا تشب إلا في الوقت المناسب، إنه يعني أنهم بلغوا سن الرشد، وتشمموا رائحة كريهة، فأحكموا إغلاق الأبواب، وقالوا بلسان واحد لا مهازل بعد اليوم. وماذا كانت النتيجة؟ نشبت ثورة مضادة، وقالت الهانم أنا حرة وملعون أبوكم. وغادرت السراي مضحية بكل شيء في سبيل شهوتها، ولكن لماذا كانت من نصيب علي صريمة؟ إنه أقبح الجميع وجها وأحقرهم مظهرا؟ يوجد شيء اسمه السر الباتع ها ها ها. زواج عجيب بين امرأة تشارف الستين، ورجل في الثلاثين. سلمت له نفسها بكل ما تملك من حلي، وعاشت راضية في أصغر شقة في شارعنا تغدق عليه الحب والمال. زواج متكافئ فيما أرى. هل رأيتموها في أعوامها الأخيرة؟! منظر يثير الرثاء ويشهد للرجل بجميل الصبر. ما هو إلا ثعلب، وكان على علاقة مع شمس بنت بياعة المنزول. له عذره. كل إنسان له عذره حتى الباشا نفسه. ما شاء الله! وإذن فليحي الملك وليحي الاحتلال. ماتت فلم يصوت عليها أحد، هجرت وقوطعت كأنها لم تنجب بنتا ولا ولدا. ربنا لا يحكم عليك. أشهد أني رأيت علي صريمة دامع العينين. الثعلب! القلوب أسرار، مثل أسرار الثورة العرابية. لكنه عرف كيف ينتقم من جميع من احتقروه. كيف واتته الجرأة على نشر هذا النعي الذي أورد جميع باشوات وبكوات الأسرة؟ ضربة معلم تعلم أصولها ولا شك في الفرن، ولكنه جاملهم فوصف نفسه في النعي أحمد صريمة من رجال الأعمال ها .. ها. كفاية، واذكروا حسنات موتاكم. هل وجدنا حسنة واحدة وسكتنا؟ أقول لكم لا يعلم الحقيقة إلا الله. ترى ماذا يدور بسرائر أبنائها وبناتها اليوم؟ حلمك. سينضح كل إناء بما فيه، وتظل الحقيقة حيث هي. حكاية ست بطة تذكرني بحكاية ست أوسة! وتذكرني بامرأة العزيز. كفاية .. كفاية .. كفاية دعوها الآن بين يدي من لا يظلم.
الغد قادم أيضا
فيلا؟ لا والله إنها لسراي. تشغل حيزا هائلا فوق جبل المقطم. ويضفي عليها طرازها العربي مذاقا خاصا من الأبهة والعظمة. حديقتها زهراء مترامية، تشمل ثلثي المساحة الكلية، وحمام السباحة في الوسط علامة عز نادرة، جلسنا من حوله للعشاء، ولسماع نخبة من المغنين والمغنيات، يصبون الكلمات المصرية في أوزان إفرنجية، تحت عناقيد المصابيح الكهربائية المغروسة في الغصون. الداعي صديق قديم، هو اليوم نجم سينمائي يحظى بشهرة متطايرة ومحبة آسرة، أراد السميع العليم أن يمتعه وهو في عز الرجولة والجمال.
واختصت مائدتنا بنفر من الرجال، لا يمتون للفن بصلة، ولكنهم يمثلون صداقة الصبا والزمان الأول. جلسنا في شبه غربة نتهامس في غمار صخب الوسط الفني، ونتطلع إلى الوجوه فنقول هذا فلان، وهذه فلانة، وذاك بين بين. ولا نكف عن الأكل والسمر. الحق أن عريس الليلة الذي يحتفل بافتتاح مقامه الجديد أغدق علينا ألفة وأنسا بوفائه، وتمسكه بأصول ماضيه، رغم انهماكه في العمل المتصل ما بين السينما والمسرح والتلفزيون. وعمق من جذور الصلة القديمة أن أحدنا يعمل محاسبا لضرائبه، ومستشارا ماليا له، وآخر تزوج من عمته في الأيام الخالية.
رحت أراقبه وهو يتنقل بين الموائد مرحبا ضاحكا مداعبا مؤانسا، يكاد يتوهج تألقا وجمالا وصحة وعافية. هي السعادة عندما تجود بنفسها بسخاء، وتجعل من الواقع حلما من أحلام اليقظة.
وقال أحدنا بحرارة: ربنا يديم عليه النعمة.
فقلنا آمين. وحل بعدها صمت مباغت كأنما لم يجئ مصادفة. وتجلى في الأعين نظرة جادة كأنها لون الصمت. هل رحنا نتذكر تقلبات الدنيا، وما حفظناه في ذلك من الشعر والنثر؟! وتذكرت زملاء كانوا مثالا للوجاهة، وكيف عصفت بهم الثورة، وحولتهم إلى صعاليك تعاف النفس منظرهم. وليست الثورة وحدها التي تعبث بالمصائر، فلأي حشرة دور، وربما لفحة هواء أو نزق النشوات. ما علينا، اللهم احفظنا، واحفظ لنا صديقنا الوفي الكريم. وإذا بصديق يعبر الصمت متسائلا: هل تتذكرون؟
نظرنا نحوه مستطلعين بقلوب خالية إلا من السرور، فابتسم مواصلا: ليلة الشطرنج في مقهى إيزيس!
وأكثر من صوت قال: عليك اللعنة، ماذا ذكرك بها؟
وندت عنا ضحكات خافتة تناسب المقام، فعاد الصديق يقول: الذكرى مقيمة في أعماق ذاكرتي.
ونحن أيضا مثله ، ولكنها لا تكاد تخطر بالبال! إلا كل حين ومين. كان صاحبنا يلاعبني شخصيا، وسط حلقة من المشاهدين. بدأت بتحريك جنديين وانتظرت أن يبدأ. لكنه لم يبدأ، بل نظر في وجوهنا نظرة غريبة وقال: سأغادر دنياكم بعد دقائق!
ظنناه يمزح، ولكن وضح لنا أن وجهه شديد الشحوب، وأن نظرة خابية تطل من عينيه. مع ذلك قلت له مازحا: العب أو سلم!
سرعان ما انطرح جذعه إلى مسند الكرسي، وشهق شهقة مخيفة ثم غاب عن الوجود. من ينسى ذلك المنظر؟ من ينسى ارتباكنا وفزعنا؟ من ينسى ضياعنا في قصر العيني، حتى صباح اليوم التالي؟ ما كان أيأسك يا صديقي في تلك الأيام! ألم نطلق عليك بحق الشاكي الباكي؟ دائما تشكي من عمك الوصي عليك، كما تبكي حبك الخائب، ولكن ماذا، هل أفلتت منا بعض التفاصيل؟ يقول أحدنا: كان الحب وراء محاولة الانتحار.
فيؤكد آخر: بل عمه، كان فظيعا حقا وصدقا.
لا أهمية الآن لذلك. المهم أن صديقنا الذي أرجعنا إلى الماضي تساءل: ألا يعني ذلك أن الانتحار خدعة وخرافة؟!
وخضنا في حديث الانتحار طويلا، وهو ذو إحصائيات مثيرة وخاصة إذا تعلق بالأمم الراقية، ولكن الجو الجميل الذي نتنفسه دفعنا إلى التهوين من شأنه ووحشيته. - اليأس حال تمر وكأنه لم يكن. - تصوروا لو لم تنقذه العناية، فمن كان يحظى بالنجومية؟ ومن كان يشيد هذه السراي؟ ومن كان ينعم بهذه السعادة؟!
واقترح أحدنا أن نذكره بليلة الشطرنج، ولكنا رفضنا الاقتراح رفضا قاطعا. وإذا بالعريس يقبل نحونا، وجلس بيننا وهو يتساءل: هل ينقصكم شيء؟
فشكرنا، وأثنينا عليه بما هو أهله، وقال أحدنا: لا مطلب لنا إلا أن يديم الله عليك نعمته.
فحمد الله، ودهمه صمت مريب، ثم قال بنبرة اعتراف: صدقوني، أشعر أحيانا بأنني نلت فوق ما أتمنى، وأتمني ولو للحظة عابرة أن يأخذني الله من فوق قمة السعادة!
مؤامرة
الجو يقطر ظلاما، ولكن الأشباح تترامق في رجوم. السيد يتطاير غضبه شررا، والأتباع بين يديه يقومون في ذلة وكآبة، ويهدر السيد قائلا: يا لها من هزيمة لم تخطر لي على بال طيلة الأجيال المتعاقبة! ها نحن نتخبط في مستنقع البطالة السافرة.
وسرت همهمة مليئة بالاكتئاب، حتى قال أحد الأتباع: ما قصرنا ولا أهملنا ولا ترددنا، عني شخصيا فقد تخيرت رجلا صالحا لا تقاربه الإشاعات، وموضع ضعفه لا يخفى على أحد، فهو ذو دخل محدود وأعباء ثقيلة، أغريته بالمال رشوة، أو اختلاسا، ولكنه أبى بصلابة عجيبة، عرضت عليه اقتراحا براق المظهر؛ أن أقرضه مبلغا محترما ليستثمره في مصرف أو شركة، فتسد الفوائد القرض، ويبقى له بعد ذلك رزقا حلالا، فأعرض عني في استياء وكبرياء!
فتساءل السيد: ألم تذكره بما يجري حوله؟ - إنه يعرف كل شيء، حتى الأسماء يحفظها عن ظهر قلب.
وتحول نظر السيد إلى التابع التالي فقال: انتقيت رجلا يعتبر مثالا في التقوى والعفة، واستبشرت خيرا بحيويته الدفاقة وقوته الموفورة، سلطت عليه امرأة يذوب الصخر في دفء عينيها ورشاقة بنيانها، ولكني لم أدر من أين واتته المناعة الراسخة!
فصاح السيد: لعل الخطة لم تكن محكمة، ألم يزل أبوهم وهو في كنف ذي الجلال؟! - صدقني يا مولاي، تحدتني صلابة تفجر اليأس في ينابيع الأمل.
وجاء دور التابع الثالث فقال: عثرت على أرملة جميلة وتعيسة، تكرس حياتها لتربية أربعة من الأبناء، وتشقى بأكثر من عمل وبلا معين، اعتقدت أنها لقطة لمن يريد أن يغوى، وأنني خصصت بمهمة يسيرة، ولكني وجدت الخيبة في بيت الرجاء، رغم تعدد الوسائل، وكثرة القوادين، والشقق المفروشة، كأنها ليست من ذرية حواء!
فتفكر السيد مليا وعيناه تتوهجان في الظلمة ثم قال: حسبنا ما سمعنا، لا نريد مزيدا من القرف، أنا نفسي منيت بالفشل، ولكن لا شيء يدعو لليأس؛ فالمسألة أنه إذا وجدت قلة صالحة في محيط من الفساد، فلا بد أن تكون على درجة من المناعة يتعذر غزوها، فلندعهم في سجنهم الاختياري، ولنلتفت إلى الفاسدين.
فقال أحد الأتباع محذرا: ليسوا في حاجة إلى إغواء، إنهم يسبقوننا إلى السقوط قبل أن تبدر منه حركة واحدة.
فضحك السيد بمرارة حتى تطاير الشرر من فيه، وقال : هنا يكمن سر أزمتنا، لم يعد الشر بحاجة إلى مهارتنا؛ لذلك انضممنا إلى زمرة العاطلين، وعلينا أن ننقذ أنفسنا من شرك البطالة.
تضمن حديثه دعوة إلى إبداء الرأي دون إفصاح، فقال تابع: لنعد الكرة بتصميم أشد.
فرمقه بازدراء ناري وقال: بل علينا أن نغير الخطة من جذورها.
فتطلعوا إليه بانتباه مركز فقال: لم يبق لنا إلا أن نرتدي أردية التقوى، ونسير في الأسواق لنوقظ الضمائر من جديد.
وتبادلوا نظرات الذهول فواصل السيد: للضرورة أحكام كما يقول بنو آدم. - ولكن لم نوقظ الضمائر الميتة؟ - كي يكثر الصالحون، فيتسع مجال الإغواء أمامنا.
فقال تابع بعد تردد: أفكار مولانا دائما صائبة، ولكننا لم ندرب على إيقاظ الضمائر! - من السهل تعلمها بالاندساس في الجوامع، ومتابعة أجهزة الإعلام. - يا سيدنا ومولانا، لو أن للكلام أثره المجدي لما تردى الحال إلى ما تردى إليه. - بقوة سحري نحصل على نتائج مشجعة.
وقال تابع: هل يكفي الكلام وحده؟ .. هناك سلسلة من الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، تستل عن أي كلام فعاليته؟ - أعلم ذلك، وأعلم ما لا تعلمون، دعوا الأزمات؛ فقد تسندنا فيما بعد، وكما وجدت قلة صالحة في مناخ فاسد، لن يتعذر علينا مضاعفة أعدادها، انطلقوا فتعلموا الوعظ والإرشاد، وبثوه بسحري الذي لا يقاوم وسوف ترون. - يا له من جد! ولكنه بالمزاح أشبه.
فضحك السيد وقال: خير من اليأس والبطالة، بادروا إلى عملكم دون إبطاء؛ فالوقت من نار. •••
بعد حين من الدهر جمع الظلام السيد وأتباعه على حال جديدة من الإشراق، وقال السيد في شيء من المرح: هاتوا ما عندكم.
قال أكبر التابعين: الحق أنني وجدت صعوبة في ممارسة دوري الجديد، ولولا تأييد مولاي وسحره ما ذقت طعم التوفيق، ولكنني درست الوعظ بهمة عالية، وانتفعت كثيرا بما ينشر في صحف المعارضة، وما تلهج به الألسنة في الشوارع، وكان في المدينة رجل من ذوي المعاشات يقيم في بيت قديم ذي فناء غير ذي زرع، له من الأبناء أربعة، يشغلون مراكز مرموقة رغم أنهم من ذوي الدخل المحدود، الرجل يا مولاي طيب أبيض الصفحة، وذو دين ومبادئ، ولم يكن معاشه يكفيه أسبوعا أمام الغلاء الوحشي، ولكنه وجد في بر أبنائه ما جنبه أسباب القلق، وفي ظل تلك الطمأنينة تزوج من أرملة تجاوره في المسكن، وتصغره بعشر سنوات، تسللت إليه في مشرب عصير على كثب من مسكنه، واقتحمت خلوته قائلا بجرأة الدراويش: لدي ما أقوله لك.
فنظر إلى جلبابي الأبيض، وعمامتي الخضراء، وابتسامتي الحنون، وتساءل بفتور: من تكون يا حضرة؟
فقلت بهدوء وثقة: ناداني صوتك الحار، وأنت تضرع إلى الله عقب صلاة العشاء «ربي اكتب لي ولأبنائي الرضا في الدارين».
ودهش الرجل ودب في عينيه الاهتمام ولم ينبس فقلت: تأثرت لضراعتك، وقلت هذا رجل طيب يندر وجوده في هذا الزمان الكالح، والله لأزورنه.
تمتم الرجل: إنك ولا شك من أولياء الله الصالحين! - دعنا من إغداق الصفات، إنما جئت لأنقذك. - تنقذني! .. ولكن الدنيا بخير. - ليست كما تبدو، كان يجب أن تسأل نفسك من أين يجيء أبناؤك بالمال الذي يكرمونك به!
فقال الرجل مقطبا: إنهم يشغلون مراكز كبيرة كما لا بد أن تعلم. - في زماننا هذا لا ينفع مرتب ولا بنون! - ماذا تعني؟ - كلامي واضح، أبناؤك منحرفون والانحراف مغبته وخيمة.
فهتف الرجل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنا لا يداخلني شك في أبنائي. - من أجل ذلك جئتك ناصحا.
فقال الرجل بحرج: أنا لا يمكن أن أمس ذلك الجانب من حياتهم. - أفهمك جيدا، ولن أطالبك إذا اجتمعوا عندك إلا بأن تدعو لهم بالنجاة من شر الزمان.
فقال الرجل بارتياح عابر: هذا ما أفعله دائما. - ولكنني سأبثك قوة من عند الله قادرة على تحويل الصخر إلى ماء عذب.
وتناولت راحته بين يدي وضغطت عليها طويلا.
وسأله السيد في صمت من اهتمام التابعين: ولم لم تقصد الأبناء مباشرة؟
فقال التابع بزهو: اصطدت أربعة برمية واحدة!
فقهقه السيد قهقهة تطاير منها الشرر، وقال: أحسنت.
وواصل التابع حديثه في ارتياح وطمأنينة: وتابعته من موقعي يا مولاي، لم يحلم العجوز الطيب بما لدعائه الجديد من أثر، ولا خطرت بباله العواقب المتوقعة، لم يدر أنه أصبح أبا لأربعة من التائبين المستغفرين، ولكنه شعر بمعاملة أخرى قوضت حصن سلامه السعيد، عجز الأبناء عن مواصلة البر به، تلقى أعذارا وتأوهات كثيرة ونقودا قليلة، لا تغني ولا تجدي، ودب الشقاق في بيوت الأبناء فشمل الزوجات والأبناء، أما العجوز فانقلبت حياته عناء متصلا حتي ضاق بزوجته، كما ضاقت به، ووجدت في ذلك الكرب ما عزاني بعض الشيء لممارسة خير لم أخلق لممارسته، وسوف نجد في ذلك المناخ المتوتر المشحون بالقنوط ما ينفعنا عندما نرتد إلى أداء رسالتنا الأصلية!
فهتف السيد: جميل .. جميل .. جميل.
وتقدم تابع ثان فقال: أما أنا فتبعت السيدة الجميلة حتى استقرت في الشقة المفروشة، استعدت تنتظر صاحب الحظ، فرأتني أمامها في زي عظيم من رجال الشرطة، فزعت فزعا شديدا، حتي جحظت عيناها، استحلفتني بأولادي أن أستر عرضها رحمة بأسرتها .. وتظاهرت بالتأثر وقلت لها: في وسعي أن أسوقك إلى القسم لتنالي جزاءك، ولتعترفي هناك بالدور الخسيس الذي يلعبه الوغد زوجك.
فاشتعلت حرارتها في توسلات دامعة حتى خفت عليها الموت، وعندها دعوتها للتوبة، وتقويم المعوج من سلوكها، ثم غادرت الشقة وهي لا تصدق، ما حدث بعد ذلك لم أتوقعه؛ فقد تمردت على زوجها ورمته بما يستحقه، فنشب بينهما نزاع عنيف، وانساق الرجل مع غضبه، فانهال عليها ضربا وركلا حتى فارقت الحياة.
فصاح السيد: ما أنت إلا غبي، كان يجب أن تلقي الموعظة عليهما معا في آن، أما أن تقتل المرأة ويعاقب الرجل، فقد ضيعت علينا فرصة عمل فريد.
فقال التابع بصوت متراجع النبرة والشعور: معذرة يا مولاي، ما أنا إلا مبتدئ عديم الخبرة في طريق الخير.
وتحول عنه والشرر يتطاير من نوافذه إلى من يليه، فقال: ذهبت إلى رجل تحسبه في حاجة إلى إغواء لا إلى موعظة، جذاب المظهر، نصف كلامه قرآن وحديث، حمال لا يفتر على الفساد والمنحرفين، متطوع كلما سنحت فرصة لإلقاء خطبة الجمعة، كثيرون يظنونه داعية، رغم وظيفته المرموقة، هائم زوار للبقاع المقدسة، أما خطاياه فهو قواد لكبار الفاسقين، وشحاذ مداح في رحاب الأمراء، وهو بعد ذلك خبير في المناقصات، ولولا أنني ذهبت إليه في زي خليجي لما أصغى إلي، ولكنني استطعت أن أهرب إليه موعظتي، وتجلت أمام عينيه صورته الحقيقية البشعة فاقتحمه الاكتئاب وراح يتبرع بالأموال الطائلة، حتى أحرج المستثمرين أموالهم في الخارج.
وقال السيد بارتياح: إنجاز متقن.
وجاء دور الرابع فقال: وقع في يدي رجل يدفع سيارة إلى الخلاء؛ ليغتصب فتاة مغلوبة على أمرها، ترتعد إلى جانبه. وجداني أطل عليهما من المقعد الخلفي على هيئة رياضي مفتول العضلات، ذعر الرجل، وتعلقت بي الفتاة، ولكنهما لم يلقيا مني إلا خيرا، كلمات طيبة مفعمة بالقوة الخفية عن الاستقامة، والاحتشام، والعفة، والشهامة، ثم رجعنا إلى العمار بسلام، وتفرقنا في وئام، وهما الآن يا مولاي مثالان للأدب، وموضوع طيب للعمل!
وتتابعت الحكايات عن تجار المخدرات، والمدمنين، والمهربين، والعملاء، ووحوش الغلاء، والإرهابيين، والمتطرفين، واللصوص، وقطاع الطرق .. وارتاح السيد لما سمع ثم تساءل: هل لديكم أقوال أخرى؟
فقال تابع متحمس: توجد مجالات أخرى للعمل؛ فلا يخلو نشاط من أزمة يمكن حلها من جذورها أو تخفيف وطأتها، فلا بد من جولات بين المسئولين!
فقال السيد: اسكت يا قصير النظر، إن اقتراحك يفضي بنا إلى خلق مجتمع صالح ومناخ نقي يتعذر علينا فيه إغواء أحد من البشر إلا بطلوع الروح، لنترك القلة الصالحة في صراعها مع الكثرة الفاسدة، ولندع الإصلاح في مسيرته المتمهلة؛ ففي ذلك عون لنا لا يصح أن نفقده.
وزفر بارتياح حتى ملأ الفراغ شررا وقال: يمكننا الآن أن نقول إننا تغلبنا على مشكلة البطالة، فهلموا إلى العمل.
طبقات السعادة
مثال الرقة والعذوبة كان. زميلي على قمطر واحد على مدى خمس سنوات هي مدة دراستنا الثانوية. أبوه مدرس اللغة العربية، شيخ مقتدر قوي الشخصية مهاب الجانب، يسود فصله النظام والقانون. أما ابنه فهو قدوة في الأدب، والحياء، والسلوك السوي. بعيد كل البعد عن شقاوة الأقران، مسالم، في حاله، لا يند عنه لفظ خشن أو يصدر عنه سلوك منحرف. ذكره دائما يفوح بأريج الطيبة والدماثة، ذلكم هو حلمي أبو هجار. •••
عند محط البكالوريا افترقنا. ولما لم يكن من حينا لم أعد أدري عن مصيره شيئا. واصلت دراستي الجامعية، وتوظفت فأنسيته تماما، وتمزقت علائق الزمالة القديمة ساحبة وراءها جميع متعلقاتها. •••
ذات صباح، في زمن لعله الأربعينيات، مررت أمام قسم الموسكي في طريقي إلى دار الكتب للقراءة أو الاستعارة، فرأيت الزميل القديم واقفا عند مدخل القسم، وسط منظر درامي مؤثر؛ ضابط شرطة برتبة لم أعد أذكرها، يمثل أمامه مخبر قابضا على رجل من أهل البلد من أعلى جلبابه، الزميل القديم يتفحص ابن البلد بحنق شديد، صارخا في وجهه: رجعت إلى عادتك القديمة يا ابن ...
وانطلقت من فيه مجموعة وافية من أقذع الشتائم، مخترقة حرمات الأم والأب والجدود، وهوى على وجهه بضربة هائلة، ثم أردفها بركلة نترته مترا، وصاح بالمخبر: ارمه في الحبس حتى أرجع.
ذهلت ذهولا لا مزيد عليه. استوت الصورة الغليظة الوحشية الماثلة أمامي إلى جانب الصورة الوردية الملفوفة في الحياء والعذوبة التي استدعاها الخيال من ظلمات الماضي؛ رددت بصري بين الاثنتين وأنا لا أصدق. ومنعا للإحراج أردت أن أزوغ قبل أن يراني، ولكنه لمحني وهو يهبط سلم القسم في خيلاء وثقة، ثبتت عيناه علي قليلا وسرعان ما هتف: أنت! .. والله زمان!
تصافحنا في حرارة، ولما عرف مقصدي قال: طريقنا واحد حتى دار الكتب.
سرنا جنبا إلى جنب كالزمان الأول، أخبرته بإيجاز عن دراستي ووظيفتي، وإذا به يقهقه فجأة قائلا: لا شك أنك عجبت لما رأيت مني وسمعت؟
فقلت مرتبكا بعض الشيء: الحق أني ...
فقاطعني قائلا: المهنة تخلق الإنسان خلقا جديدا.
فسألته: أليس في القانون ما يكفي؟ - القانون! لا تجرني إلى عالم النظريات، القانون مفسدة لهؤلاء، إني بحكم عملي لا أتعامل غالبا إلا مع الأوباش، فلا مفر من استعمال لغتهم وتبني سلوكهم القانون؟!
وضحك ساخرا ثم مضى في حديثه: لو تعاملت معهم بما يرضي القانون، واحترام الحقوق، لاعتبروا الحكومة مهزلة، وتمادوا في شرهم إلى غير نهاية.
فقلت متحديا: ولكنكم تعاملون المتظاهرين نفس المعاملة وهم صفوة الشباب! - لا .. لا .. هذه مسألة أخرى .. لا تمل بنا إلى السياسة .. للسياسة كما تعلم قوانينها الخاصة.
ثم مواصلا بعد فترة صمت: الحياة الحقيقية في الشارع لا في دار الكتب، السجن لا يعتبر عقوبة مناسبة مع هؤلاء، شعبك غير الشعوب الأخرى.
فتساءلت: أليسوا أناسا مثل الآخرين؟! - كلا، اعلم أن السجن يوفر لهم مأوى أفضل بكثير مما يتهيأ لهم في حياتهم العادية، وطعاما لا يظفرون بمثله في غالبية أيام السنة، فالسجن لا يعتبر عقوبة رادعة لهم.
وهز رأسه في ثقة من اطمأن منطقه، ثم قال: العقوبة الوحيدة المجدية هي ما قبل العقوبة الرسمية، أعني الشتم والضرب والإهانة.
واسترسل ضاحكا: لا تنزعج، ولكن عليك أن تصدقني، منهم نفر إذا ضاق بهم الحال افتعلوا خناقة كيفما اتفق، لا لشيء إلا ليقبض عليهم فيعيشوا في ضيافة الحكومة وعلى حسابها مدة ستة أشهر.
تفكرت قليلا ثم قلت: كنت أتصور أنني ملم بتعاسة شعبنا، ولكنني لم أعرف مداها إلا الساعة.
فقال لي مصدقا على قولي: في ذلك لا خلاف بيننا على الإطلاق.
مسافر بحقيبة يد
في الصباح المبكر تبدو المدينة هادئة، شبه خالية، نقية، تجود شمسها البازغة بدفقات من الحرارة، تلطف من جو الشتاء، اجتمعت الأسرة في الفيات، الأم تقود، وهو بجوارها تفصل بينهما حقيبة سفر يدوية، وفي المقعد الخلفي جلس الغلامان في زي المدرسة الرسمي. نظر الرجل إلى الطريق بارتياح وقال: شد ما يبدد الزحام من وقار الشوارع!
لم تعلق، ولكنها دفعت السيارة بشيء من السرعة، حتى بلغت المدرسة في ربع ساعة. وغادرها الغلامان مسرعين، فهمس الرجل «إلى الصيدلية»، فانطلقت المرأة بالسيارة نحو الصيدلية الواقعة على كثب في الجانب الآخر من الطريق. مضى الرجل إلى الصيدلية وابتاع أدوية مختلفة له ولزوجه، ورجع إلى مجلسه وهو يقول: لا تهملي في تعاطي الدواء من فضلك.
فساقت سيارتها وهي تقول باسمة: إلى البنك وهو الأهم.
الحركة الآن انفجرت في الطريق. إنها لا تجيء تدريجيا، ولكنها تنقض كزلزال، سيارات وباصات وشاحنات كأنما تندفع في سباق. وقطعت الفيات طريقا قصيرا في زمن طويل نسبيا. وغادرها الرجل إلى البنك، فوجده شبه خال، فأخذ من حسابه رزمة ودسها في جيب بنطلونه ورجع مسرعا. ووضع الرزمة في حقيبة زوجه قائلا: تصرفي في نطاق وقتك ودعي الباقي لي. - تعود غدا؟ - أو بعد غد على الأكثر.
ومضت به نحو المحطة؛ حيث وقفت أمام مدخلها الشرقي وسألته: هل أصحبك حتى يقوم القطار؟
فقال بسرعة: لا .. ما وراءك أهم، إلى اللقاء يا عزيزتي.
يعجبه في المحطة ألا يغمض لها جفن، هناك دائما من يدخل ومن يخرج، ملتقى دائم للغادين والراحلين. وتحت سقفها العالي تتضخم الأصوات وتتردد الأصداء، وتصدر عن القطارات الواقفة نفثات حارة صاخبة تحرك نوايا الوداع الكامنة. وخفق فؤاده رغم انشغاله بما خلف وراءه، وبما ينتظره هناك. وتذكر رحلات ورحلات، ودموعا وبسمات، ثم علق بلسان خاطره «سبحان من له الدوام». وفدت نحوه جماعة من المسافرين، لمح وسطها امرأة في سن النضج جذبت بصره بقوة. ذهل بعنف قبل أن يتمكن من استرداد توازنه. كان يظن أنها انتقلت إلى جوار الله من زمن غير قصير، لا يتذكر الآن كيف استقرت تلك المعلومة في رأسه. ربما عن تشابه خاطئ في الأسماء أو الخبر أسيء فهمه. ولما اقتربت منه رأته بدورها فابتسمت، وتلقائيا تصافحا. تمتم: مفاجأة سارة!
فقالت ضاحكة: كم مضى؟! إنه عمر.
وتبادلا التمنيات الطيبة، ثم سارت في سبيلها. ماج صدره بالانفعال. قال لنفسه: لو أنني رجل آخر لكان لي معها شأن كالأيام الخالية. وتقدم في طريقه المحتوم نحو شباك التذاكر. ومضى نحو القطار المنتظر. هناك جماعة من المودعين، ولكن ما هذا! ثمة وجوه يعرفها، بل لا يوجد وجه غريب؛ فهم إما أقرباء، أو جيران، أو زملاء! وها هم يتجهون نحوه كأنهم ما جاءوا إلا لتوديعه. ما الحكاية؟ وما هي إلا رحلة يوم أو يومين لا يعلم بها أحد. وما اعتاد أن يودعه أحد حتى في الرحلات الطويلة. وجرت المصافحة من يد إلى يد وهو يقول: أي مصادفة أن نسافر جميعا في قطار واحد؟!
ولكن أكثر من صوت قال: نحن جئنا لتوديعك !
فقال ذاهلا: من أدراكم بسفري؟ وما هي إلا رحلة يوم!
لم يعبأ أحد بكلامه، وأحاطوا به بمودة ظاهرة، ودعوا له بالسلامة فهتف ضاحكا: أمركم عجيب!
فقال له عمه، وكان أطعن الحاضرين في السن: ليته كان في الإمكان أن أسافر معك.
فقال بتأثر شديد: شكرا .. شكرا .. يؤسفني إزعاجكم، والمسألة لا تستحق.
وسألته خالته: لم لم تصطحب أمينة هانم معك؟ - أنا ذاهب لعمل، وهي البيت لا يستغني عنها.
ولم تكن الدهشة قد فارقته فتساءل: ولكن كيف عرفتم بالخبر؟ ولماذا تجشمتم هذا العناء؟
وأكثر من صوت قال: أهذا كلام يقال؟!
وأطلق القطار صفارة كالنذير، فلوح لهم مودعا، وصعد إلى المقطورة، وصعد معه بعضهم فوضع حقيبته فوق الرف، ووقف بينهم يتبادلون كلمات طيبة، وغادروا المكان واحدا في إثر واحد، وأغلق الباب، فتنهد في ارتياح واتخذ مجلسه. وتبين له لأول مرة أنه وحيد في العربة كلها، وأنها خالية من الركاب. يا للغرابة! لم يحدث أن قام القطار في الأعوام الأخيرة وبه مقعد واحد خال. ماذا حصل في الدنيا؟ وكيف يستقل قطارا خاليا وكأنه الملك في زمانه؟! حقا إنه يوم حافل بالمذهلات. وتحرك القطار .. انساب على مهل مفارقا المحطة والمودعين. وأخذت السرعة تزداد، والإيقاعات الرتيبة تهزج بلا انقطاع. سيجد وقتا لتأمل جميع ما مر به وفهمه. وتنهد متسائلا: ما معنى هذا كله؟!
رجل أفلس
غادر البيت الكبير ممتنا. توجه نحو الطريق الذي أشار إليه الوكيل عند حافة القرية. إنه طريق طويل ضيق يشق الخلاء بين ترعة تجري إلى يمينه، وحقول تترامى إلى يساره، ويفضي في النهاية إلى البيت الصيفي حيث يخلو صاحبه إلى نفسه أو يجتمع بنفر من خاصته. الجو يعبق بحنان الصيف المولي وبشائر الخريف، والشمس على وشك الاختفاء وراء الأفق ماسية اللون رفيقة الحاشية. المشوار غير قصير، والأرض متربة، ولكنه سيلقى الصديق الكبير بعد أن سدت السبل في وجهه واكفهر الجو، والفضل لعم محمد وكيل البك في تيسير مهمته وإرشاده إلى مقر صديقه. قال: ما كنت أدل غيرك على مكانه.
فشكره منوها بمودتهما القديمة . سار على هدي الخط الذي رسمته عجلات سيارة البك في الأديم المترب، والمساء يهبط وئيدا مجللا بهدوء عميق، يكدره نباح كلاب متقطع، والنخلات القليلة المبعثرة تذوب على مهل في الظلام الزاحف. وتراءى لعينيه شبح يتقدمه لا يدري من أين أتي. تباطأ في سيره ليبتعد عنه، ولكن الشبح تباطأ أكثر فيما بدا حتى قصرت المسافة بينهما، فوضحت معالمه عن امرأة تلتف بثوب أسود من العنق حتى الكعبين، وتدس رأسها في شال أسود كذلك، ولما التفتت نحوه طالعته بوجه ناضج في أواسط العمر، مقبول المنظر فياض بالأنوثة، وتأخرت حتى حاذته في مسيرته، وقالت: أنت ذاهب إلى لقاء جلال بك؟
فأجاب: نعم، هذا الطريق لا يوصل إلا إلى بيته الصيفي.
فقالت وهي تتنهد: وأنا كذلك، ولكنني لم أبلغه إلا بعد التحايل للفرار من أعين الرقباء.
فتساءل الشاب: ولكن لماذا يمنعونك من مقابلته؟ - إنه غاضب علي، وأنا مظلومة وأود أن تتاح لي فرصة للدفاع عن نفسي ليجري علي ما قطع من الرزق.
فقال الشاب صادقا: الحق أني لا أفهم شيئا. - أنا أنتمي في النهاية إلى أسرته، من الفقراء الذين كان يطولهم إحسانه، وبعد طلاقي أساءت إلي ألسنة السوء عنده، فقطع إحسانه عني، وأصبحت أخشى أن ينالني سوء أكثر.
فقال الشاب: على أي حال فها أنت في الطريق إليه، وهو رجل معروف بالأخلاق الكريمة، والرحمة الواسعة، وربنا معك.
فقالت المرأة بقلق: لن يسمح لي الخفير بمقابلته. - لا تقدري البلاء قبل وقوعه. - أنا على يقين من تعاسة حظي.
فصمت الشاب متضايقا لا يحير جوابا، فقالت المرأة برجاء: لعلك صديقه، فاذكرني عنده بما يفتح لي باب الرجاء، قلبي يحدثني بأنني لم أعثر عليك صدفة، ولكن الله أرسلك إلي لتفرج كربتي.
كان الظلام قد أخفاهما تماما، فما يشعر إلا بيدها تخطف يده لتلثمها في توسل حار. والتصقت به مستعينة به. بتلك الحركة انتقل الشاب من حال إلى حال. طيلة الوقت، وهو يتهرب من تأثيرها، ولكن التأثير استفحل في الوحدة والظلام، وبلغ ذروته في التلاصق. إنها صاحبة حاجة، هو أيضا صاحب حاجة، تربطهما تعاسة من نوع ما، ورغبات خفية. وشده الطريق وتناسى هدفه إلى حين، فأسكرته الرغبة. ومد ذراعه فطوق خصرها فأشعل جنونه استسلامها. وجذبها إلى جانب الطريق فرأتهما النجوم التي بدأت تومض في السماء الصافية. ورجعا إلى الإحساس بالظلام في هدأة الصمت الثقيل، وهمست: لا تنسني.
فأجاب بفتور: من الأوفق أن تنتظري هنا حتى أمهد لك السبيل.
فقالت برجاء: عين الصواب.
ومضى في سبيله واجما حتى اعترضه الخفير تحت تكعيبة العنب المحيطة بالبيت الصغير، فذكر له اسمه، فغاب الرجل دقيقة ثم عاد ليدعوه إلى الدخول. رأى صديقه على ديوان في صدر الحجرة الشرقية تحت قنديل مضاء، وبين يديه طبق كبير فيه تفاح وجوافة وموز. قام جلال بك مرحبا به، فتعانقا، وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: مضى وقت على آخر لقاء، كيف حالك؟
فأجاب الشاب: نحمده على كل حال. - لكنك لا تبدو في أحسن أحوالك.
وجاء الخفير بالشاي فراحا يحسوانه، ويتناولان بعض الفاكهة، ويستحضران ذكريات من الأيام الماضية. وأخيرا قال جلال بك: حدثني عن أحوالك.
فقال الشاب: الحق أنها سيئة جدا. - لماذا لا سمح الله؟ - إني على حافة الإفلاس. - أعوذ بالله، ما أكثر ما تتردد هذه الكلمة في أيامنا! - السوق راكدة. - والعمل؟ - تلزمني سلفة، ولا بد لي من ضامن، هذه هي مشكلتي، وليس لي في الدنيا سواك.
فابتسم جلال بك وقال: طالما وجدت فيك المثل الطيب للأخلاق النبيلة، وما عليك إلا أن تحضر غدا في الدار الكبير لتنهي المسألة مع المحامي.
أشرق وجه الشاب بنور الأمل وتمتم: أنت ملاذي دائما في الشدائد.
فقال الرجل: إنك تستحق كل خير.
وساد صمت مريح، فتذكر الشاب المرأة المنتظرة، ولكنه خشي أن يتجاوز بطلبه حدود الذوق، أو أن يثير استياء صاحبه فقرر تجاهلها، ولما سأله صديقه: أي خدمات أخرى؟
أجاب بحماس: لم يبق إلا أن أدعو لك بطول العمر.
ولما هم بالذهاب قال له البك: سيارتي تحت أمرك؛ فالطريق طويل والظلام شديد.
فرحب بذلك ليتفادى من لقاء المرأة المنتظرة.
وجاء في عصر اليوم التالي لينهي الموضوع مع المحامي، فقابله عم محمد، وجلس معه في الشرفة الكبيرة، وسرعان ما لاحظ أن الرجل ليس على تلقائيته المألوفة. أخبره أنه جاء في الميعاد المتفق عليه ليقابل المحامي، فقال الوكيل: يؤسفني أن أبلغك أن جلال بك عدل عن رأيه.
نظر إليه نظرة بلهاء وتساءل: ماذا تعني يا عم محمد؟ - لا محام ولا عقد ولا ضمان.
فقال بذهول: ولكنه وعدني ومناني!
فقال الرجل بوجوم: الحق أنك خيبت أمله فيك. - مستحيل يا عم محمد.
فقال الرجل مقطبا: ما كان يتصور أن تفعل بامرأة من أسرته ما فعلت بشلباية في الطريق الموصل إلى مقره، وأنت ذاهب تطلب معونته.
فذهل الشاب وخرس فلم ينطق، على حين واصل الرجل: ولا كان يتصور بعد ذلك أن تتخلى عن تعهدك لها عنده!
استمر خرسه وهو يتساءل في باطنه عما فضحه عنده، هل فضحته المرأة اليائسة؟ هل له عيون في كل مكان توافيه بالأسرار؟ وقال عم محمد: وقال لي البك: «أي إنسان فاسد ذلك الصديق الذي لم أعرفه على حقيقته من قبل؟ لا عجب أن يفلس، ولا عجب ألا يكون جديرا بأي ضمان!»
وصمت الشاب وهو يتخبط في يأس عميق، ولكنه لم يجد أية بارقة أمل، ولم يستطع أن يدافع عن موقفه المخزي بكلمة.
وأخيرا غادر القرية لآخر مرة.
لحظة عابرة
فرارا من حر لافح ورطوبة خانقة، لذت بكافتيريا الكوكب المكيفة الهواء. جميع الموائد مشغولة في المحل الصغير الأنيق ذي الجدران المحلاة بالخشب والمرايا، والجو ساحر مريح كحلم. وقفت عند المدخل أجول بعيني مفتشا عن مكان خال، ومشفقا من الاضطرار للعودة إلى الجحيم. جذبتني عينان في أقرب مائدة إلي. نظرت فتذكرت ولكنني ترددت. إنه ذلك الزميل القديم الذي يرى كثيرا في هذا الموقع من المدينة، والذي يعد من زبائن المحل. لم نتبادل تحية مذ فارقنا. ترى ما زال يتذكرني؟ منظره يقصيه بعيدا عن سكان كوكبنا، ولكن ما معنى نظرته نحوي؟ عجيب أن توجد ذاكرة سليمة في رأس مختل فصلت صاحبها عن بقية البشر. لما التقت عينانا ابتسمت، فأشار إلي يدعوني إلى مشاركته في مائدته، فمضيت نحوه، وجلست دون أن أخلو من خوف: أشكرك.
فقال بأريحية وبصوت متهدج تصاحبه صرخات عصبية في الوجه واليدين: أنا الوحيد الذي يشغل مائدة بمفرده.
زالت مخاوفي. لو كان خطرا مع الآخرين ما ترك حرا طوال ذلك الدهر.
قلت راجعا إلى الماضي المشترك: الجو في الخارج لا يطاق، ولكني لم أحلم بلقاء يعيد لي ذكريات الماضي الجميل.
فقال بازدراء واضح: الماضي! .. أنا ليس لي ماض على الإطلاق!
لم أدهش كثيرا، فنظرته تطل علي من عالم غريب عن عالمنا، حقيقته لا تخفى على إنسان من النظرة الأولى، ولكني قلت: أعني أيام شبابنا.
فقال بنفس الازدراء: أي شباب يا هذا؟ أنا لم أعرف حضرتك من قبل.
ثبت إلى الواقع قانعا بالمجلس الذي فزت به. حصل ما حصل على عهد الشباب، وبدء طريق العمل. كان بلا شك سليما، فقطع مراحل التعليم بنجاح، واستقبل حياة العمل والأمل. وتميز عنا بدخل خاص وشيء من الجاه. ولم يتأخر عنا خطوة في اهتمامه بالحياة العامة، ولكن مضى يصدر عنه ما يعتبر شذوذا في القول والسلوك. واستفحل الأمر حتى اضطر إلى الاختفاء. مأساة تذكر، وما أكثر المآسي! قال بثقة: لا أهمية للحلم الذي تعجبون به، يوجد حلم حقيقي واحد وهو مضنون به على غير أهله.
أدركت وأنا أستقبل الدندورمة التي طلبتها أن علي أن أجاريه بحكمة وحذر، فهززت رأسي هزة المقتنع. التفت نحوي متسائلا: ماذا تعمل؟
فقال بأدب: من رجال التربية والتعليم.
فقال باستخفاف: طظ.
فضحكت ولكنه تجهم قائلا: هذا إجرام!
فقلت كالمعتذر: الناس العاديون في حاجة إلى ذلك. - بهائم ضالة وقعت في الشرك، وعميت عن النور الحقيقي!
فقلت ملاطفا: هذا النور لا يتطلع إليه إلا الخاصة. - بل هو متاح لكل قادر على النجاة من السجن. - السجن؟ - أعني مخزن القمامة الذي تسمونه العقل!
فقلت مداهنا: صدقت.
ترى ألم ينتبه إلى الأحداث التي عاصرها؟ الحروب، المآسي، الغلاء، الديون، الفساد؟ تذكرت الأجيال؛ من اعتقل، ومن شنق، ومن هاجر، ومن فسد، ومن يتعذب. تذكرت ضحايا الأزمات القلبية، والانفجارات المخية. أكان الأفضل أن يهيموا في النور والملكوت؟ أهو جدير بالرثاء أم الحنق؟ وألح علي سؤال فسألته: أأنت راض عن حال بلدنا؟
فقال بغضب: كل شيء جميل إلا الناس.
فقلت كاظما غيظي: حدثت أمور خطيرة، وكل يوم تحدث. - ما أنت إلا أسير للأشكال والألوان.
وسكت، فاستدرك: لم يحدث شيء على الإطلاق، هذه هي المأساة!
لم أعد أجد فيه ما يثير اهتمامي. سرعان ما تجاهلني سابحا في فضاء المحل، وبصفة خاصة في سقفه المزخرف بالتهاويل. وندت عنه إشارات كأنما يخاطب المجهول. قلت لنفسي إنه الحي الميت أو الميت الحي. ورغما عني عقدت مقارنة بين غيبوبته السعيدة، وأرقي المرهق، فحسدته للحظة عابرة.
مجرد لحظة عابرة.
عودة القرين
وقفت المرسيدس السوداء أمام الكازينو. غادرتها الهانم بجمالها الملحوظ وعمرها الناضج، ونظرتها المطمئنة، وتبعها ولد في الثامنة، وبنت في السادسة، ثم تبعهم رب الأسرة. ذهبوا لتوهم إلى الحديقة الخلفية واتخذوا مجلسهم تحت شجرة وارفة، يتلقون من الشمس دفقات متفرقة حسبما تسمح الأغصان المورقة بهبة طيبة يجود بها صباح خريفي رائع. وانطلق الطفلان نحو الجدول لمشاهدة الضفادع ومعابثتها. وتجري الأمور كالعادة يوم عطلة الأسبوع حتى تناول الغداء ظهرا. ولعله اليوم الوحيد الذي ينسى فيه البك هموم مكتبه ودورة رأس المال وحساب الوارد والمنصرف. قال الرجل بحبور: يوم جميل.
فقالت الهانم: يجب أن نفكر في السفر أيضا. - الأماكن الجميلة لا حصر لها.
ومضت الأسر السعيدة تجيء تباعا، حتى علت أصوات الأطفال على أصوات العصافير، وهمست الهانم في أذنه: ثمة رجل غريب ينظر نحوك كأنه يعرفك.
التفت نحو رجل يقف في الشرفة المطلة على الحديقة، حسن الهيئة يوحي منظر وجهه الطويل النحيل بالعناء، بيده قارورة شراب، وسرعان ما تحول واختفى في الداخل، عرفه من النظرة الأولى، فاخترقته موجة عاتية من الكآبة والتشاؤم بددت بهجته وطمأنينته، والظاهر أنه لم يحسن مداراة أثره فسألته الهانم: هل عرفته؟
فأجاب متمالكا نفسه: عميل لا أرتاح إليه ممن يعرضون لنا في عملنا المتشعب.
ووجد الحل الأمثل في الهروب من عينيها بتصفح الصحف التي جاء بها. لكن منظر الرجل لم يفارق مخيلته. ظنه شق طريقه مثله، وأن غيبته الطويلة تشي بنجاحه واستقراره. وهو لم ينسه، ولا في وسعه أن ينساه، وكلما خطرت بباله الذكرى السوداء الدامية أطل عليه وجهه، وثمة أمور لا يمكن أن تنسي. المهم أن منظره يخفي وراءه نذير كارثة. ويقينا لقد رجع إلى العدم، وراح يحوم من حوله، وعما قليل يطالعه بوجهه الكالح ويمارس بأسه معه.
وفي ضحى اليوم التالي جاء مكتبه واستأذن في مقابلته. لم يجد مناصا من استقباله كصديق قديم، دخل حجرته جريئا باسما كأنما تسوقه المودة والأشواق، وفتح ذراعيه قائلا: بالأحضان!
وتعانقا، ثم دعاه إلى الجلوس، وقال: أهلا .. أهلا، غيبة طويلة ولكنها مبررة ومفهومة.
فقال الآخر باسما: طبعا .. شق حياة وبناء مستقبل. - لعلك بخير. - ولى الخير إلى غير رجعة.
هذا ما توقعه، وعليه أن ينتظر الأسوأ فالأسوأ، وسأله: لم لا سمح الله؟
فضحك الرجل ضحكة لا سرور فيها وقال: أنت رجل عاقل متفوق، اعترفنا لك بذلك، أخذت نصيبك لتجعل منه ركيزة عمل عظيم، حتى صرت من الشخصيات المرموقة، أنا لا أملك مواهبك، أحرزت نجاحا محدودا، وتهاونت مع الاستقامة، وتستطيع أن تستنتج الباقي، ضاع كل شيء، وما جاء من الحرام، ففي الحرام ضاع.
يا له من تذكير بالماضي وقح، ووعيد مضمر، وتمهيد سافر! اشتد امتعاضه، ولكنه تجاهل تلميحاته، وتظاهر بالأسف متمتما: أنباء مؤسفة! - في مأزقي ذكرتك فأنت نعم الصديق!
إنه يائس. وعلى قدر يأسه تكون خطورته. ولا بد مما ليس منه بد. وقال بنبرة جديدة حاضة على الصراحة: حدثني عن حاجتك؟
فقال الآخر جادا: يلزمني مال لأبدأ المحاولة من جديد، ولكنها ستكون محاولة مسبوقة بدرس قاس لا ينسى.
لم يخدع بأسلوبه الوعظي، وتكاثفت كآبته الباطنة فسأله: كم؟
فقال بجرأة مثيرة: عشرة آلاف.
هتف الرجل: عشرة آلاف؟! - هي نصيبي في مشروع ناجح، إن نقصت عن ذلك جنيها واحدا صارت كعدمها. - لكنه مبلغ ضخم جدا. - لا حيلة لي، اعتبره قرضا يرد بعد فترة سماح.
المسألة واضحة. لا يستطيع أن يرفض، ولا أن يتعلل بالعلل، فلينه هذا الموقف الكريه. وحرر له شيكا وهو متجهم، وأعطاه له، فتناوله باسما، وقام وهو يقول: عوفيت من صديق كريم.
فقال بلهجة ذات مغزي: إنه الأول والأخير!
فانحنى الرجل شاكرا، وغادر الحجرة بخطى ثابتة.
حدثه قلبه بأن اللعبة ستتكرر، وأن الابتزاز لن يقف عند حد. الماضي لا يموت. قد شيد قصرا من الرمال على أرض من السراب، لكن الأسرة البريئة التي كونها لا يجوز أن يمسها سوء. فليقتله إن ضيق عليه، ولينتحر بعد ذلك. إن الجثة التي ووريت في تراب الخلاء تهب الآن للتنكيل بقاتليها. وشرد طويلا في غم وكآبة، ثم قال وكأنما يخاطب الآخر: عد وقتما تشاء، ستعود - إذا عدت - إلى المصير الذي يستحقه كلانا.
الرجل الوحيد
أقدم إليكم نفسي. أنا إبليس. لا حاجة بي إلى مزيد، حكايتي معروفة لديكم من قديم. رسالتي في الحياة مشهورة كالشمس إلى يوم الدين. غمرتني الدهشة، ولفتني الحيرة مذ تناهى إلي أنه يوجد رجل شريف في بلدكم، رغم كل ما قيل ويقال. وتفاديا من سوء الفهم أصارحكم بأنه لا فضل لي ألبتة في تفجر طوفان الشر الذي أغرق الجميع. تكفلت بذلك كله بدع جديدة، لم تخطر ببالي قديما، وأنا أذعن لقدري؛ فأتحدى ثم أستمهل. فعلت هذه البدع في جيل ما أعجز عن فعله في أجيال وأجيال. كان إغواء رجل أو امرأة يقتضيني بذل الجهد، وتجريب شتى الحيل. لكني شهدت الناس يندفعون بجنون نحو الهاوية، ويتساقطون جماعات وطوائف دون أن تنبس شفتاي بكلمة، أو تند عني حركة. انغمس الجميع في الوحل وأنا أنظر مبهوتا مذهولا، ضاربا كفا على كف. أعترف بأنه عهد عظيم حقا، ونصر مبين بلا جدال، وكم تمنيت أن أكون علته ومحركه وصاحب الفضل فيه، ما هذا الذي يجري؟ من أين جاء هذا الفساد كله؟ أعترف مرة أخرى بأن الزمن قد تغير، وأنه يجيء كل يوم بالعجيب والمبهر. علي من الآن فصاعدا أن أدرس الاقتصاد والسياسية، وأتمرس بالخطابة والتصريحات، وألم بالعلوم والتكنولوجيا، والمقاولات ، والعمولات، ووسائل الهروب إلى الخارج. يجب أن أوسع من مجالي الثقافي وأغير وسائلي العتيقة، وإلا غلبت على أمري، وفقدت مسوغ وجودي، وانطوى عصياني الخالد بلا ثمرة أو أثر. وإذ أنا على تلك الحال من الكآبة والحيرة أبلغتني العيون بأنه يوجد رجل شريف في البلد. قالوا: اسمه محمد زين، مهنته قاض، مسكنه رقم 15 بشارع زين العابدين.
وفي الحال راقبته بعناية، مسكنه بيت قديم لا يليق بوظيفته. نشأ فيه مع الأسرة، ثم بقي له وحده بعد رحيل من رحل، فاعتبره سترا من الله في زمن السكنى في المقابر والخيام، متزوج، له ابن في الجامعة وابن وابنة في المرحلة الثانوية. يذهب إلى المحكمة مستقلا الباص، فيغادره قبل محطة المحكمة بمحطة حتى لا يرى، وهو يتملص من زحمة الركاب متأبطا حقيبته. يفتتح الجلسة في ميعادها المعلن عنه، ويتابع مناقشات النيابة والدفاع والشهود بعناية وتركيز عجيبين. عدا ذلك فهو لا يكاد يغادر بيته إلا حين الضرورة، ليواصل دراسة القضايا من ناحية، وتوفيرا للإنفاق من ناحية أخرى. بث روح العمل والتقشف في أولاده، فلا يتميزون بشيء عن أولاد الفقراء. عموما البيت تغلفه البساطة القصوى في مظهره وملبسه وطعامه. وزوجته تتصبر في امتعاض، وتروح عن نفسها بالتشكي حينا، وبلعن الزمن حينا آخر، لكنه يقول لها: مرتبي كله بين يديك، لا أستطيع أن أحول المعادن الخسيسة إلى ذهب، ولا أسأل عن الغلاء الضاري، وأخيرا فإنني أعيش في رحاب الله، وأصون ذاتي عن التلف حتى النفس الأخير.
رجل كبير ومسكين معا. تحدق به المغريات من كل جانب كالماء والهواء. إن عز علي الاقتحام فأمامي الزوجة والأبناء، ثم إنها أسرة واعية تماما بما يدور حولها. إليك حديثا دار على انفراد بين الرجل وامرأته؛ تقول: أي أرض هذه الأرض؟! أيكتب علينا كل هذا العناء لا لشيء إلا لأننا شرفاء!
فيقول بحزم قاطع: هذا نصيب الشرفاء في الزمن الجهنمي. - الجميع لصوص، أنت تعرف ذلك جيدا. - أي نعم، الجميع لصوص. - والنهاية؟ - لا أملك إلا الصبر.
إنه اعتراض على ما يجري، واحتجاج على الشرف في آن. الابنة نفسها تسمع الكثير، وتقرأ الصحيفة، وتقف طويلا أمام الحوادث. تتساءل: هل يتيسر الزواج في هذه الظروف القاسية؟ لن يتعذر علي أن أسوق إليها شابا غاويا، أو زميلة ذات خبرة بالشقق المفروشة. ولكن الشابين يقفان على حافة التمرد: اللصوص آمنون، يعبثون فوق القانون، القانون مسكين ولا يطبق إلا على المساكين. - الأبواب مفتحة لأبنائهم، ولهم وحدهم الفرص الطيبة. - ولنا المعاناة والكلمات الكاذبة المعسولة. - أبونا رجل شريف، وقاض شريف أضعف من مجرم غني.
سررت بما سمعت، وتحفزت للعمل. كل شيء يتم في دنياي في ثوان، وبدت مهمتي غاية في السهولة. استحسنت أن أتجاوز الرجل إلى أبنائه. على من يريد أن يقتحم حصنا، أن يبحث عن موضع ضعف في سوره. في هذا ضمان لمأساة أفجع وأشد. واندلعت في قلبي النشوة التي تسبق العمل، لكنها ارتطمت بشيء ما. يا للسرعة ويا للغرابة! شيء ما كرائحة مجهولة المصدر. تراجعت النشوة كالموجة المتقهقرة عن الساحل وسقطت في الفتور؛ فتور كأنه الإحباط، وكأنما أخجل من نفسي لأول مرة في تاريخي العريق. ترددت ولم أكن أتردد أبدا، أحجمت ولم أكن أحجم أبدا، ما لذتي في معركة، النصر فيها جالب للسخرية والهزيمة محققة للعار؟ كلا يا إبليس، ما هو بالفتور فقط ولكنه الزهد. لم أصادف تجربة كهذه من قبل. سأتركك يا سيد محمد لشأنك وظروفك أنت وأسرتك المعذبة، لست سعيدا فتحسد ولا أنت متحد فتستفز. لا أحد يحبك. لا أحد يعطف عليك. يضمرون لك الشر، ويبيتون لك أسوأ النوايا. إني تاركك، سأتابع أخبارك من بعيد. ستظل في حياتي نقطة سوداء، وإذا سئلت يوما عنك أجبت: هذا الرجل زهد إبليس في القيام بواجبه.
العودة
أي عالم هذا؟!
ينظر فيما حوله بعجب. كأن القيامة قد قامت. تغيرت معالم الطرق وتبدلت حالا بعد حال. هذه العمائر الضخمة متى حلت محل البيوت العتيقة المتهاوية؟ والسيارات المنتظرة على الجانبين، والمركبات المنطلقة كالقلاع. والزحام .. الزحام .. الزحام. متي ولد كل هؤلاء، متي نموا وتربعوا على عرش الشباب؟ ها هم يضربون الأرض بأقدامهم محدثين ضجة كبري. هل حدث ذلك كله على مدى خمسة وعشرين عاما؟! المساجين المستجدون جاءوه في السجن بمعلومات جديدة، ولكنه لم يصدق أو لم يستطع أن يتخيل الواقع، ولكن ما يراه اليوم يذهل الإنسان عن عقله. ويتساءل بقلق: ترى ما شأن الحارة؟ قد تحتفظ الحارة بطابعها، وتتحدى الزمان. سيجدها كما تركها منذ ربع قرن، وسيجد رجاله في انتظاره، وسيتطلع إليه الناس بانبهار وسرور، ويستقبلونه بالزغاريد، ويتبادلون التهاني لعودة فتوتهم. أجل، طعن الرجل في السن، ولم تبق في رأسه شعرة واحدة، وتخلت عنه قوته، ولكن الفتوة هيبة ومقام وشجاعة. في سبيل الدفاع عن كرامتهم فقد عينه اليسرى، وقضى في السجن تأبيدة، فأي إنسان يمكن أن ينسى ذلك؟ لم يعد له أهل في مصر، وماتت زوجته منذ خمسة عشر عاما، فانقطع ما بينه وبين الأهل، ولم يبق إلا رجاله. في الأيام الغابرة كانت تتبعه الأبصار أينما حل ويحدق به الرجال الأشداء، وعندما يهل على الحارة وينتبه الناس إلى عودة الغائب ستنقلب الحارة رأسا على عقب، ويرجع كل شيء إلى أصله، فتحلو الأيام وتصفو.
واخترق الميدان وجاز عتبة الحارة. انتفخ وشملها بنظرة جامعة. هي هي والحمد لله ببيوتها العتيقة الصغيرة المتلاصقة. بيت واحد هدم وقامت مقامه عمارة نحيفة مثل العامود. الكتاب القديم باق، ولكن سقفه تهدم وبابه نزع. لكنه لم يعثر على وجه واحد من الوجوه القديمة، لا بين المارة أو العاملين في الدكاكين. محل كواء مكان محل عم سليمان بياع الطعمية. المقهى في مكانه، ولكن يديره شاب ببنطلون وقميص، وأعدت كراسيه صفوفا لتشاهد مباراة كرة القدم في التلفزيون، لا يعرف أحدا ولا أحد يعرفه. أين الرجال؟ .. أين الاستقبال؟ تلاشت كما تلاشت أيام العمر. سار في الحارة من أولها لآخرها، ومن آخرها لأولها، ولا حياة لمن تنادي. ودق كثيرا من الأبواب سائلا عن أصحابها، فأجابه قوم أغراب لا يعرفونه، ولم يسمعوا عمن يسأل عنهم. كأنه لم يكن فتوة الحارة وسيدها وحاميها، بل ولا واحدا من سكانها. لقد انساق إلى المعركة المشئومة دفاعا عن أحد أبناء الحارة حين تعرض للأذى في حارة مجاورة، أين رجاله؟ أين التجار الذين حماهم بقوته وجبروته؟ كيف لا يذكرهم أحد، أو يفيده بنبأ عن أحدهم؟ وشعر بضياع لم يشعر بمثله في السجن نفسه. وقال لنفسه «ما أنا إلا ميت». ودنا في تخبطه من زاوية سيدي الصبان، فلمح خادمها جالسا على بابها، غيره الزمن، ولكنه لم يمح معالمه، فاستخفه الفرح وهرع إليه قائلا: يا شيخ!
وتبين له أنه نسي اسمه فارتبك، ولكنه دارى ارتباكه بأن احتضنه وقبله وهو يسأله: ألا تتذكرني؟
فتفحصه الرجل بعينيه الذابلتين ثم هتف: المعلم زيد. - جزاك الله كل خير، أنا المعلم زيد.
فتمتم الرجل: إن مع العسر يسرا.
فسأله بحرارة: أين الرجال والجيران؛ فإني لم أجد منهم أحدا. - الرجال والجيران! سبحان من له الدوام.
وجلسا معا على باب الزاوية، وراح يسأل، والآخر يجيب. البقية في حياتك، ربح أموالا طائلة، وهاجر إلى حيث لا نعلم، لا أدري عنه شيئا، البقية في حياتك.
أما عن أعوانه القدامى فقال الرجل: بعد المعركة إياها ضيقت الشرطة عليهم، فتفرقوا إيثارا للسلامة، والله أعلم بهم.
فتساءل الرجل بصوت حالم: ألا يمكن الاهتداء إليهم بالسؤال والبحث؟ - فيم تفكر يا معلم زيد؟ - غريب بلا مأوى ولا رزق يبحث عن رجاله! - يا معلم، الدنيا غير الدنيا، والزمان غير الزمان، غير أفكارك، لا فتونة اليوم ولا فتوة، حسبك أنك قضيت زهرة عمرك في السجن. - وكيف أعيش يا مولانا؟ - أي عمل يصلح لك في هذه السن؟ .. ومن يمنح ثقته لخارج من تأبيدة؟
وتفكر الشيخ مليا ثم واصل حديثه: أتريد رأيي حقا؟ طيب، توجد مهنة وحيدة، شريفة وميسرة للرزق.
فتساءل الرجل بلهفة: ما هي؟
مسح الأحذية ولا مؤاخذة!
فهتف الرجل: الأحذية! - حلمك، الغضب لا يحل المشاكل، الأدوات رخيصة وإتقانها يسير، ولا يوجد شخص اليوم بغير حذاء، والمسحة بالشيء الفلاني. - أنا .. أنا زيد. - اعقل ووحد الله، لا أحد اليوم يعرف زيد، العمل يناسب سنك وصحتك، ولن يتعذر عليك مهما تقدم بك العمر .. ماذا قلت؟
قال بامتعاض: يلزمني وقت للتفكير.
فقال الرجل بوضوح: لا تبدد وقتك، الزمن لا يرحم.
ندت عن الرجل ضحكة جافة مباغتة كالعطسة، ووازن في صمت حزين بين السيادة التي حلم بممارستها على الحارة، وبين مسح أحذية أبنائها، ولكنه لم يرفض، وقال للشيخ بأسي: لو خمنت هذا المصير من قبل لارتكبت أي جناية في السجن لأضمن بقائي إلى نهاية العمر.
بيت المستشار
أعرف بيوت الشارع كلها. هي من الخارج واضحة مميزة، كالوجوه البشرية، ومن الداخل فهي غير محجوبة عنا، ولا موصدة في وجوهنا. نذهب ونجيء ونلعب بين صفين منها، وبحكم حداثة سننا فتحت لنا أبوابها دون حرج، رأينا الحريم، عشقنا من بعيد البنات الصغيرات، ونعمنا بقبلات الهوانم. إلا هذا البيت الذي يطل مباشرة على شارع العباسية، بطابقه الواحد الكبير، وحديقته المحيطة بأركانه، ونوافذه المغلقة غالبا، أو تفتح إحداها دون أن يلوح فيها إنسي. وتسأل بيت من هذا؟ فتسمع أنه بيت المستشار، لا أذكر أنني رأيته، ولا رأيت أحدا من ذويه. تري أهو وحيد، أهو صاحب أسرة؟ وفهمنا بطريقة ما أن رجال القضاء من طينة أخرى غير طينة البشر؛ فبحكم عملهم الخطير لا يختلطون بالناس، ولا يترددون على المقاهي، ولا يقيمون وزنا للجيرة. والحق أن البيت وصاحبه وما عرف عنه ملأ نفوسنا هيبة ورهبة للقضاء ورجاله، فاعتبرناهم نوعا خاصا ممتازا، يحتل منزلة خاصة فوق البشر. وصاحبنا ذلك الشعور ونما مع الزمن، حتى صارت كلمة المستشار تعادل في درجتها الأمير، أو الوزير، أو الزعيم، أو تتفوق عليها جميعا. ويوما قال لنا صديقنا سليمان: أختي هيام خطبت.
فباركنا له، وتذكرنا البنت الصغيرة التي منعت من اللعب معنا منذ سنوات. آية في الجمال، وصورة طبق الأصل من أمها الشركسية، فأحيانا كنا نلمحها في السيارة الكبيرة التي تحملها إلى مدرسة سان جوزيف. وتساءل صديقنا: أتعرفون من يكون خطيبها؟
فلم نحر جوابا؛ فقال بفخار: المستشار!
وبدهشة قلنا: صاحب البيت إياه؟ - دون غيره. - ما عمره؟ - ليس شابا، يماثل بابا في السن تقريبا. - وشكله؟ - نحيف، قصير القامة، غليظ الشارب، أشيب الشعر، وذو نظارة كحلية. - ووالدك وافق طبعا ؟ - طبعا، ولكن أختي لم توافق.
ولم نخف دهشتنا فقال: أخيرا أذعنت لمشيئة بابا وماما.
حسدناه على الخط الذي خص به. سيألف صديقنا المستشار، وسيألفه المستشار، وسيفتح له البيت الغامض أبوابه، ولكن صورة المستشار اهتزت بعض الشيء في وجداني. ها هو يخرج من عزلته المقدسة، ويسعى إلى بيت صديقنا الذي لا يختلف عن بيت أي واحد منا، ويتودد إلى أبيه الموظف الصغير مثل أبي، ويطلب منه القرب مبتسما في حياء وأدب، بل رفضته العروس أول الأمر؛ فلم يعجبها سنه ولا منظره. وإذن فهو بشر مثلنا، يجري عليه ما يجري علينا، وإن يكن في سلطته أن يرسل أيا منا إلى المشنقة. ورأيناه بأعيننا يوم كتب الكتاب، وهو في الغاية من الأناقة والوقار. ولأول مرة تسيل جدران البيت الغامض بالأنوار، ويجيء المدعوون أشكالا وألوانا، ولأول مرة تلعلع الزغاريد، ويترامى إلينا صوت صالح عبد الحي وهو يغرد «افرض حبيبك هجر» فترتفع آهات الاستحسان من حناجر حررتها الخمر من حيائها. واهتزت الصورة مرة أخرى، فقلت إن المستشار عريس لا يختلف عن بقية العرسان، يضحك ويشرب ويطرب، وتخيلته في مخدع الزفاف مثل كل الرجال. سيضطر مع الزمن إلى التعامل مع زوجته كما يتعامل مع نصوص القانون المقدسة، فيذعن لمشيئتها ويغضي عن نزواتها. وحدثت ثورة في كيان البيت، فتحت نوافذه نهارا لتستقبل الهواء والنور، وأضاءت ليلا لترحب بالزوار من الجنسين، وكثيرا ما تظهر هيام في النافذة لتتشمس، أو تجلس في الشرفة. وكان يجلس معها في العصاري فرأيناه، في الجلباب والروب. أو تحملها الفورد إلى نزهة أو زيارة. ولكن الاستقرار لم يدم طويلا؛ حمل إلينا الهمس أن هيام رجعت إلى بيت أبيها غاضبة معلنة تمردها، ولكن المستشار لحق بها مصرا على الصلح. قال سليمان: لاطفها بكل حيلة حتى رق قلبي له. - واستأنفا حياتهما الزوجية كما كانت.
وتساءلنا: إذا كانت هذه هي البداية فكيف تكون النهاية؟
ولم تكن تملك من التجارب إلا ما تمدنا به السينما، فتخايلت لأعيننا المأساة، قبل أن تقع.
واهتزت الصورة الاهتزازة الأخيرة، بت أرثي للرجل الذي ألفت يوما أن أرمق بيته بإجلال، لا يكون إلا لأماكن العبادة.
الرجل القوي
اعتقد السيد طيب المهدي ساعة من الزمان أن مهمته في هذه الدنيا قد انتهت، وغمغم في ارتياح عميق، وأسى مخيف «الحمد لله رب العالمين». تسلم تأمينا حسنا، ومعاشا لا بأس به، وهو يقيم في شقة تمليك بمدينة نصر؛ فاز بها كجائزة عن خدمة غير قصيرة في الخارج، وتزوجت بناته الأربع، ولم يبق له إلا السمر مع زوجته، ومؤانسة التلفزيون، وقراءة الصحف، وسماع القرآن في إذاعته الخاصة، فأي غرابة في أن يعتقد أنه أدى رسالته في الحياة على أحسن وجه؟ لكنه لم يدر شيئا مما تخبئه له الأيام، فرأى ذات ليلة فيما يرى النائم رجلا بهي الطلعة فائض الأنوار، يرفل في ثوب ناصع البياض، ويقول له في حنان: من هذه الساعة وحتي يشاء الله تستطيع أن تقول للشيء كن فيكون، فافعل ما يحلو لك.
وتساءل لما صحا من نومه عن تأويل حلمه، ولكنه سرعان ما نسيه كما تنسى الأحلام. العجيب أن الحلم تكرر بحذافيره في الليلة التالية، والليالي الأخريات، حتي شعر بأن في الأمر سرا، ورأى من الحكمة أن يحتفظ به لنفسه، فلم يبح به ولا لست هنية رفيقة عمره. وفي الوقت نفسه تلقى دفقة قوية من طاقة ملأته ثقة وإلهاما وحبورا، لم لا؟ إنه رجل طيب، أخطاؤه هفوات تغتفر، ورع متدين، محب للخير، عاش حياته ورغم تواضع شأنه، وكأنه يحمل هموم الدنيا والناس. ومن شدة إلحاح الحلم عليه ومطاردته له، قرر أن يجرب قوته سرا، فذات مساء وهو يتابع مناقشة في القناة الأولى للتلفزيون، وست هنية في المطبخ، طلب أن ينتقل الإرسال إلى القناة الثانية، وفي الحال ودون أن يبرح مجلسه اختفت القناة الأولى، وظهرت القناة الثانية عارضة فيلما أجنبيا. ارتعد الرجل من عنف ذهوله واجتاحته عواطف متناقضة من الخوف والفرح. أراد أن يتأكد من قوته فراح يجربها بين القنوات، وفي رفع بعض المقاعد في الفراغ، وإعادتها إلى مواقعها الأصلية، حتى اطمأن إلى المعجزة التي أوتيها . وسلم أن مغزاها فوق مداركه، ولكنه أدرك أن مهمته في الدنيا لم تنته، وأنها لم تبدأ بعد. تذكر أحلامه الطيبة لوطنه، والدنيا التي كانت تضيء وتتلاشى في ثوان، الآن آن لها أن تتحقق، وسيتم إصلاح الوجود على يديه، دون جزاء واعتراف بفضله، ولكن حسبه أن يلبي هواتف قلبه التي واكبت عمره الطويل، وأرقت نومه وصحوه، وفي ميعاد ذهابه إلى قهوته، ارتدى ملابسه، وغادر مسكنه كالعادة، طاويا بين جوانحه قوته الجديدة، متوكلا على الله. أشار إلى تاكسي ليحمله إلى قلب المدينة، ولكن السائق لوح له بيد رافضة متعجرفة، وواصل سيره غير مبال به. ومع أنها لم تكن المرة الأولى إلا أن غضبه هذه المرة كان أشد. مال لحظة إلى أن يصعقه في حادثة من حوادث الطريق، ولكنه جمح غضبه، وقال لنفسه: «من يوهب قوة مثل قوتي فعليه أن يوجهها للخير». وركز بصره على إطاري السيارة الخلفيين فانفجرا دفعة واحدة، مثل قنبلة. وركن السائق السيارة، وراح ينقل عينيه بين الإطارين، ويضرب كفا بكف متشكيا «الاثنين في وقت واحد». شعر بأنه أدبه ولقنه درسا، ولكن هل يمر الدرس كأنه لقيط المصادقة؟! ومر بالرجل وألقى عليه نظرة ذات معنى وسأله «أيمكن أن أعاونك؟» ولكن الرجل أعرض عنه خانقا حاقدا. وبلغ محطة الباص فوقف تحت مظلتها. وجاء الباص مكتظا بالخلق، فرأى صراعا ناشبا بين سيدة ورجل يقف وراءها. لم يسمع ما يدور بينهما، ولكنه درس أبعاد الموقف، وما يدري إلا والرجل يلطم المرأة على وجهها في تهور فاق كل تصور. واستفزه الحدث فسلط غضبه على معدة الرجل وأصابها مغص شديد حاد مباغت جعله ينحني من شدة الألم، ويتأوه صارخا، فلم يتحرك الباص حتى حمل خارجه حتي تجيئه الإسعاف. وأكثر من صوت ارتفع قائلا: «يستاهل .. جزاء سوء أدبه ووقاحته». وراقب طيب المهدي المنظر بارتياح مطمئنا إلى أنه يؤدي واجبه على خير وجه. وفي طريقه إلى المقهى قدم خدمات تذكر؛ صادف مطبا غائرا فسواه، وأحكم إغلاق صندوق كهربائي، ورفع كوما من القمامة، وجفف عطفة من مياه المجاري حتى آمن كثيرون بأن صحوة حقيقية تسري في أعصاب الدولة، أو أنها انتقلت من الصحوة إلى النهضة. واتخذ مجلسه في القهوة ليتحف رأسه بفنجان قهوة. وانتبه إلى ما يذيعه الراديو، وإذا بمتحدث يستعرض جملة من الإنجازات الموعودة للمستقبل. امتعض السيد طيب وناوشته وعود مماثلة وتصريحات أسعدته زمنا، ثم لم تخلف إلا الإحباط، فضاق صدره بالحديث، وقال مخاطبا الرجل عن بعد «تكلم عما تم إنجازه لا عما سينجز»، وقال لنفسه: إن هذا الرجل لن يوقفه عن الكلام إلا العطس. وعطس المتحدث عطسة مباغتة قطعت حديثه فصمت، لعله كان يجفف بمنديله فاه وأنفه. وهم بمواصلة الحديث، فقطعته عطسة أشد من الأولى. ولم يستطع بعد ذلك أن ينطق بجملة مفيدة واحدة، فالعطسة تقف له بالمرصاد حتى اضطر إلى الاعتقاد بمرض طارئ، فغير المذيع البرنامج مذيعا أغنية طوف وشوف. وسكر الرجل بنشوة الارتياح والنصر. سيطهر الإذاعة السمعية والمرئية، مما لا يليق برسالتها الحقة. وسيوقف أي كلام لا يعجبه بالعطس والزغطة والإسهال المباغت، ويكون الرقيب الشعبي الصادق على جهاز الإعلام الخطير. عند ذاك لمح المدعو سليمان بك الحملاوي وسط مريديه ومماليكه، غير بعيد من مجلسه، يتقربون إليه بالملق والنفاق فيتيه كبرا وخيلاء. إنه ثري من أثرياء الانفتاح، ولكنه محسوب علي محدودي الدخل أمام مصلحة الضرائب. عظيم .. عظيم .. يا سليمان بك، اذهب من فورك إلى مأمورية الضرائب تائبا نادما، وأد ما في ذمتك من ضرائب تبلغ الملايين. وفجأة قام الرجل إلى سيارته في الخارج. فرك السيد طيب يديه حبورا. سيكون الرجل غدا حديث الصحف تضربه مثلا ليقظة الضمير، وعندما يرجع إلى فيلته سيتساءل عما دهاه، ويضرب رأسه في الجدار.
وجرب معجزاته بقية اليوم والأيام التالية في أماكن متفرقة كيفما اتفق، فطاف بمستشفى ولادة، وجمعية استهلاكية، ومصنع للأدوات الكهربائية، وغيرها وغيرها، فكان بلاء ونقمة على فريق ورحمة للكثرة من الخلق. وحيثما حل خلف وراءه دهشة وحيرة للفريقين، وتساءل كثيرون: كيف يتغير الناس من النقيض إلى النقيض، وماذا حدث في الدنيا؟ هل يمكن أن تستقيم الأمور في هذا الوقت القصير ودون مقدمات؟! غير أنه شعر في الوقت نفسه بأن الأمور لا يصح أن تسير بلا تخطيط واع. واقتنى دليل المصالح الحكومية والمصانع والشركات، ومضى به إلى حديقة الشاي بحديقة الحيوان ليرسم خطة شاملة. المصالح الحكومية وكر البيروقراطية، مراكز الإنتاج والخدمات، مجلس الشعب، السجون وما يقال عنها، الصحف، الأسواق، الأحزاب، المدارس، الجامعات. كل خطوة يجب أن تتم بتؤدة، كل اعوجاج يجب أن يقوم، كل انحراف يجب أن يردع، وعندما يفرغ من وطنه يلتفت بحماسة إلى العالم. المهمة المضطلع بها ثقيلة ومتشعبة، ولكن القوة التي يملكها هي معجزة الدهر. وشيء جذب انتباهه في مدخل الحديقة فرأى امرأة قادمة لتجلس إلى المائدة التي تليه مباشرة. جميلة وجذابة ونسخة من أحلام شبابه الدابر. اقتحمه شعور بالرضا، وثار انفعاله لدرجة لم يجدها قط منذ تزوج من ست هنية، فضلا عن الزهد الذي خشيه مذ طرق باب الشيخوخة. وعجب لانجذابه غير المتوقع. حقا إنه انجذاب غير عادي لا يتفق وانشغاله بمهمة تنوء بها الجبال، إنها لم تنتبه إليه ألبتة. وسرحت بعينيها النجلاوين فوق سطح البحيرة الخضراء والبط السابح، فهل يخطر ببالها أنه يستطيع أن يسيطر عليها في ثوان فيقلبها ظهرا لبطن؟ وتردد طويلا قبل أن يبعث إليها برسالته الخفية. في الحال تطلعت إليه وبنظرة مستجيبة توشك أن تنطق. وتحول انجذابه إلى نشوة، فاستسلم على رغمه. هل من ضير لمن يرغب في إصلاح الدنيا أن يهتم أيضا بإصلاح ذاته؟ ومن خلال ابتسامة متبادلة نسي دينه ودنياه، فأغلق دفتره وقاما معا مسلمين لقدرهما.
وعندما رجع إلى بيته مساء كان قد ثاب إلى رشده، وأدرك أنه أخطأ. ولاحظت ست هنية أنه ليس في مرحه المألوف، فزعم أن نزلة برد ألمت به. ومع أنه لم يفكر أبدا في معاودة الخطأ، إلا أن الكدر لم يفارقه. الأدهى من ذلك أنه لم يعد يحظى بالثقة الباطنية التي أسكرته طويلا. وأراد أن يجرب نفسه؛ انتظر حتى غابت ست هنية لبعض شأنها وتوجه إلى التلفزيون كما فعل مرارا.
لم يستجب التلفزيون له ، ومضى في سبيله.
جن جنونه.
أعاد التجريب فلم يلق إلا الخيبة.
تلاشت المعجزة كحلم.
الندم لا ينفع، الحسرة لا تفيد، التوسل لا يجدي.
يركبه حزن ثقيل لن يفارقه حتى الموت.
البهو
إنه عيد الميلاد. عيد الحياة المتجددة. يجمعنا البهو الكبير فتدفئه عواطفنا في عز الشتاء، حول كل ما لذ وطاب من مأكل، ومشرب، وعذب الألحان. نجيء فرادى وأزواجا وجماعات. يسوقنا الحب، وتربطنا المعاشرة الطيبة، ويؤلف بين قلوبنا تقارب الأمزجة. لسنا في حاجة إلى مطربين أو راقصات؛ ففينا من يحسن الغناء ومن يجيد الرقص. ما هي إلا انطلاقة تعبير عن فرحتنا بالحياة. أما عن السمر والمزاح؛ فحدث ولا حرج. ويضوع المكان على سعته بشذا الأزهار، ويتألق بالسرور والرضا. وتمتد السهرات حتى مطلع الفجر، ثم نمضي في الانصراف كما تتابعنا في الحضور، بجفون أثقلها الشبع، وحناجر أرهقها الصخب، وأحلام تحن إلى النوم السعيد. - نقسم ألا يفرقنا إلا هادم اللذات. وهو بعيد فيما يبدو، ويوشك أن يضفي علينا الأمان. أجل، بمضي الأيام ينكمش العدد، وتختفي وجوه. للعمر حكمه وللظروف حكمها، وهل دام إلا الدائم؟ وفي غمرة السرور وحرارته نتناسى الخسائر، ونرضى بما قسم لنا، مع شيء لا مفر منه من الحسرات؛ ذلك الوجه الجميل الساحر! - وصديقتها التي لم تكن تكف عن الضحك. - وصاحب الهمة العالية الذي نصب نفسه مايسترو لكل حفل. - ونتفلسف ونقول إنها الحياة، وعلينا أن نقبلها كما هي. منذ عهد آدم وهي تتعامل مع الناس هكذا، فما معنى الدهشة؟
ولكن انتهى الجدل بأن فرغ البهو من أبطاله. اليوم لا يجيء أحد؛ لا رجل ولا امرأة. وأنتظر وأنتظر لعل وعسى، ولكن بلا فائدة. ضقت بوحدتي كما ضاقت بي. ولا علم لي بما يجري وراء مجال البصر. لم تبق إلا خيالات محنطة في توابيت الذاكرة. أحيانا أصدق وأحيانا لا أصدق. ليس في القلب إلا كدمات وجروح. وعطف على ذلك الذي يقيم في داخلي فسألني: هل أخبرك بالحقيقة؟
فقلت: تفضل.
قال: قبض عليهم جميعا، الحارس يؤدي واجبه، وأنت بذلك عليم. - ولكنهم مختلفون، فكيف يقبض عليهم بلا تفرقة؟ - إنه لا يبالي بالفوارق.
فتساءلت في امتعاض شديد: ترى متى يفرج عنهم؟
فأجاب بصوت حاسم بارد: لن يفرج على أحد.
آه، إنه يعني ما يقول. لن يفرج عن أحد منهم. وها هو زمن الوحدة يخيم ويستطيل. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، الحركة دائمة لا تتوقف. وكنت أراقب فراشة تدور حول مصباحي حين همس في أذني: حذار .. إنهم يتحرون عنك!
حقا؟! لا بد من صنع شيء، وإن طال السفر. ولم يمسسني الجزع كما كان يفعل قديما. وأصغيت إلى همسه، وهو يقول: ثمة فرصة للنجاة؟
أصغيت بلا مبالاة. إنه يحرضني على المستحيل، وكثيرا ما يعابثني. ولم أشعر بأي خوف أو احتجاج. ولم أخل من سرور غريب. قلت: لا.
ومضيت أعد حقيبتي.
وأراوح بين إعداد الحقيبة، وبين التسلي بمشاهدة الرائح والغادي، ألتف في روبي اتقاء لبرد الشتاء، أقف وراء زجاج النافذة، الأرض لامعة مظللة بغصون الأشجار، والسماء متدثرة بالسحب وعيناي تترقبان. أكثر من مرة أراه وهو يعبر الطريق بقامته الفارعة، التي لم يحنها الكبر، ولكنه لم يقصد بيتي بعد. في صباي خدعت بصداقة أبي له وثنائه عليه، ثم ماذا كانت النتيجة؟! ذلك الرجل العجيب. في فترة انخداعي بما بين أبي وبينه صادفته في الطريق قريبا من بيتنا، وبكل براءة دعوته لزيارتنا كما يقضي الأدب فابتسم قائلا: ليس اليوم، شكرا لك يا بني.
طالما تحير الناس بين سمعته الطيبة، وفعاله القاسية. وفي حديث صحافي سألته الصحافية عما يوجه إليه من اتهامات فأجاب: إني أؤدي واجبي على أكمل وجه.
فأشارت إلى ما يقع من ظلم أحيانا فقال: عملي يتسم بالعدل المطلق. - ألم تؤد واجبك مرة وأنت كاره؟ - أبدا، إني أنفذ قانونا كامل العدل. - ثمة حوادث تستحق التفسير؟ - لو دخلنا في التفاصيل الفقهية فلن يستطيع القراء معي صبرا!
وختمت الصحافية الحديث بالتنويه بطمأنينته الكاملة. ذلك الرجل الذي ينفخ اسمه الرعب في الأفئدة، الذي قال مرة جهرا: أنا لا أذهب إلى الناس لألقي القبض عليهم، ولكنهم هم في الحقيقة الذين يجيئون إلي بأنفسهم .
كما أنكر بشدة جميع ما يقال عن التعذيب الذي يمارس في السجون. •••
ها أنا أقف وراء زجاج النافذة أترقب، في الدقائق القصار التي أستريح فيها من إعداد الحقيبة.
ذوو الدخل المحدود
دهمنا الانفتاح كالطوفان؛ أناس طفوا فوق سطح الماء الهادر، وآخرون مضوا يغطسون نحو القاع. بادئ الأمر فرحنا لانهزام الانغلاق. قلنا: ولت أيام الحصول على علبة ثقاب بالطابور والبطاقة، وتسول الأدوية من المحسنين. ولكن رويدا رويدا تحرك القلق جارا وراءه الخوف، وأخذت تكاليف الحياة تتجهم وتكشر عن أنيابها، ولأول مرة عرفت اسم طبقتي الجديد في العهد الجديد، وهو ذوو الدخل المحدود. قبل ذلك دعينا بالبرجوازية أو الطبقة الوسطى، وقالوا عنا إننا العقبة الكئود في طريق البروليتاريا المبشرة بالغد. اليوم البروليتاريا تصعد، وذوو الدخل المحدود يرددون في نفس واحد: عشانا عليك يا رب.
وأذهب ذات صباح لأحلق شعري فأجد المحل مغلقا، ثم يخبرني أهل العلم بأن صاحبه باعه بثمن خيالي، وأنه يعد الآن ليكون بوتيكا. في عام واحد ترددت في ثلاثة شوارع رئيسية على حلاقين سرعان ما يختفون كالأول، حتي تساءلت: ترى كيف تعيش مدينة بلا حلاقين؟ وما الحيلة لو تبعهم الحانوتية والترابية؟ وساءني الانفتاح أكثر في المكتبات التي كنت أغازل الكتب في معارضها الخارجية؛ فقد كتب عليها نفس المصير وتحول غير قليل منها إلى محال أحذية، حتي قهوتي المفضلة انقلبت مطعما. هكذا تحسنت أحوال البروليتاريا وأصبحت طبقة جديدة ذات شأن، وتدهورت الوسطى في منحدر التقشف، وراحت تفكر في وسائل دفاعية جديدة تناسب العصر، وتقتدي في حدودها برجاله العظام.
وفرح من فرح، وحزن من حزن. وكان عم محمد العجوز من المحزونين، إنه صاحب محل صغير لتصليح الأحذية وتلميعها. يجلس في عمق دكانه المستطيل وراء ماكينة الخياطة، ويعاونه ثلاثة شبان لمسح الأحذية، يجلسون صفا أسفل الكراسي المتحركة، وبما أنه في طريقي اليومي، فإني زبونه من قديم. وذات يوم غاب أحد العمال، ولما طال غيابه سألت عنه فأجابني العجوز بصوت لا يكون إلا لأصحاب الأفواه الخالية: سافر إلى الخليج لتحسين الأحوال. - وهل هم في حاجة إلى ماسح أحذية؟ - الأعمال كثيرة، والأرزاق على الله.
وعقب مرور شهر اختفى العامل الثاني جريا وراء الهدف نفسه. وبطبيعة الحال انصرف زبائن كثيرون عن المحل، وجعلت أنتظر دوري لمسح الحذاء كأنني في طابور جمعية استهلاكية. ثم ما لبث الثالث أن لحق بزميليه، فاضطر عم محمد العجوز إلى هجر ماكينة الخياطة، والجلوس لمسح الأحذية. سألته مرة: لماذا لا تستخدم عمالا جدد؟ - أين أجدهم؟ .. العثور على شغالة اليوم أصعب من العثور على وزير!
ومضت الأيام، وحطت هموم جديدة على الحلاقة، ومسح الحذاء ومغازلة الكتب والذهاب إلى المقهي. جاءت هموم الخيار، والطماطم واللحوم، والملابس، والتيارات المنحرفة، والمخدرات. وعم محمد يتقدم في السن ويمسح الأحذية بيد مرتعشة. وسرقنا الزمن حتى قال لي ذات صباح: هل تذكر عمالي الثلاثة؟
ولما أجبت بالإيجاب قال: رجعوا على أحسن حال، وجاءوني يعرضون علي خلوا لترك المحل!
سألته بقلق: وافقت؟ - المبلغ قيم، ويكفيني حتى آخر العمر؟
أدركت أن مسح الحذاء سيجشمني إرهاقا جديدا، مثل حلاقة الشعر، ومثل كل شيء، وتساءلت: ألا يوجد وسط بين الانغلاق والانفتاح؟ ألا توجد استراحة لذوي الدخل المحدود؟
الحزن له أجنحة
استحال صديقي شخصا آخر، عندما ماتت زوجته. كانت زوجته الثانية، والشقيقة الكبرى لزوجته الأولى التي رحلت مخلفة له ولدا وبنتا. لم يبدأ التفكير في الزيجة الثانية مدفوعا بقوة الحب، وإن بادلها الاستلطاف من بدء مصاهرته لأسرتها. بدأ الأمر بدراسة وتأمل ووزن للجدوى الاقتصادية؛ فهي قد جاوزت سن الحبل غالبا، وهي أرملة لم تنجب، وهي تحب الولد والبنت حبا صادقا، فتطوعت لتنقلهما إلى مسكنها ليلقيا الرعاية والحب. نشأت الفكرة والدراسة، وهمس بها أهل الخير، فوجدت ترحيبا من الطرفين، وتم الزواج بيسر وبأقل التكاليف. واستحال صديقي شخصا آخر. قال لي: لم أتصور أبدا أن الحياة الزوجية يمكن أن تجود بهذه السعادة كلها. تماثله في سن الأربعين، ولا يزيد جمالها عن درجة مقبول، غاية في اللباقة والذكاء وخفة الدم، وتحب الولد والبنت حبا صادقا.
وعند المناسبة يقول: أخاف أن أحسد نفسي، الولية دكتوراه في كل شيء طيب.
ويتقدم الزمن وتتغير أشياء كثيرة، وتستمر تلك السعادة الغريبة أو تتزايد، حتى تساءلت في حيرة: أي امرأة تكون تلك المرأة العجيبة؟!
وتزوجت البنت، وتخرج الولد ضابطا في البحرية، وأقبل على الزوجين عصر الشيخوخة، ولكنهما تمتعا بصحة جيدة، ومحافظة غير عادية على مظاهر الشباب، ويظل صديقي الزوج السعيد. حتي يدهم ذات صباح بوفاة القرينة إثر أزمة قلبية مباغتة. ما زلت أتذكر العناء الذي بذله ليحافظ على توازنه كي يؤدي واجبه نحو الراحلة. ولما جاء دوري لأقول له شد حيلك، همس لي بتسليم حاسم: أنا انتهيت.
وكرجل ذي خبرة بالحياة لم آبه لقوله. عرفت الأفراح والأحزان والزمن، ولم تعد تؤثر في كثيرا الأقوال الساخنة التي تصدر في الظروف الساخنة. نعم سنتسامر قريبا، ونحن نقهقه، وربما كلفني يوما بالبحث عن زوجة ثالثة، ولكن الحزن طال كليل الشتاء، ورسخ وتغلغل وكأنه أزمن. الحسرة تكاد تقتله، ولا عزاء له إلا في تذكر العشرة الجميلة المولية. كيف أمكن ذلك الحب أن ينجو من افتراس الزمن ومكر العادة وسم الضجر؟! - لا طعم لشيء بعدها.
الحق أقول إنه رغم شدة ارتباطنا لم أخل من ضيق لثباته على كآبته وتكراره لحديث واحد لا يتغير. مللت الشكوى، والنبرة الباكية، وسيرة الراحلة وذكرياتها، ولكن سيناريو الأحداث لم يتوقف. ماتت ابنته وهي تلد! يا للداهية! هل يتحمل الرجل هذه بعد تلك؟! ووقفنا نسنده، وهو والحق يقال يحسن التماسك أمام الناس.
وتأثرت للحدث مرتين؛ مرة من أجل صديقي، وأخرى من أجل الراحلة العزيزة. ويوما ونحن نتناجى أذهلني بقوله: تصدق بالله؟! لقد احترق قلبي لموت عزيزة، ولكن حزني عليها لا يعد شيئا بالقياس إلى حزني على المرحومة!
أذهلني حقا، جعلت أسترق إليه النظر باستغراب. ألم يمض من الوقت ما يكفي للتعزي عن المرحومة؟ كيف يكشف عن ذلك الاعتراف عقب دفن كريمته بأسبوعين؟ وداخلني شعور بأنه شخص غير طبيعي، أو أن الحزن شتت اتزانه القديم. وانصرفت عن مراجعته رثاء لحاله. ولم تتوقف الضربات المنهالة عليه، فبلغت ذروتها عندما قتل ابنه في الحرب. أداء واجب العزاء يشق على النفس أحيانا، ويتجاوز الطاقة. وساورني وأنا مقبل عليه ما يشبه الشعور بالذنب، ولكن شد ما وجدته هادئا ساكنا كأن الأمر لا يعنيه! وحافظ على ثباته الغريب طيلة وقت الجنازة والمأتم. توقعت أن تحدث أمور أو ردود فعل تعيسة، لم يحدث شيء على الإطلاق. حتى قال لي يوما: ما رأيك؟ تضاربت الأحزان فهلكت جميعا.
فأردت أن أقول شيئا عن الرحمة الإلهية، ولكنه قاطعني: صدقني، أنا لا أشعر بأي حزن، لا نحو المرحومة ولا الابنة ولا الابن، لا أدري كيف حل هذا السلام كله!
ثم بلهجة حكيم: صدقني، لا شيء يستحق الحزن، دع الحزن للحمقي، أنا الآن مثل طير لا تربطه علاقة بالأرض، إني أيضا أتذوق الطعام وأحبه، وأسمع الأغاني الحلوة حتى الثمالة، ويخيل إلي أنني لم أعرف السعادة من قبل كما أعرفها الآن.
تساءلت في نفسي: أهي حال من الحزن المفرط؟!
كلا. صديقي سعيد حقا. صحته في أحسن أحوالها، واسترد لونه الطيب وابتسامته. يجلس نهاره في مقهى أصحاب المعاشات، يتسلى بالحديث والنرد. ويمضي أماسيه أمام التليفزيون أو في سماع أغانيه المفضلة. إنه يحظى بحرية لا يعرفها إلا قلة من البشر.
العود والنارجيلة
إن ما يثير الطفل وهو مقبل على ذلك البيت، التمساح المحنط المعلق بالجدار، فوق هامة الباب. تبع أمه وهي تدخل، ثم وهي تميل إلى الحجرة على يسار الداخل. حيت المرأة، وجلست على كنبة جاذبة ابنها للجلوس إلى جانبها. ترتدي ملاءة لف وبرقعا ذا عروس مذهبة، والطفل يرتدي جلبابا، وجاكتة، وطاقية، وصندلا. قالت بعد أن نزعت برقعها: إن شاء الله تكون أحسن.
ووقفت قاطعة المسافة القصيرة بين الكنبة والفراش المقابل لها في خطوتين لتضع لفة تحملها، ثم تمتمت وهي ترجع إلى مجلسها: جئتك بالفطائر والبرتقال.
أجاب في إعياء الرجل الراقد فوق الفراش: ربنا لا يحرمني منك يا امرأة خالي.
الحجرة صغيرة، مغطاة أرضها بكليم مزركش قديم، الفراش ذو أعمدة نحاسية، وإلى اليمين دولاب تستقر على سطحه نارجيلة وعود. الطفل معجب دائما بالنارجيلة، وزجاج قارورتها الملون، كما يذكره العود بالألحان؛ فهو يحب الغناء على حداثة سنه. وثمة نافذة نصف مفتوحة تطل على الطريق الضيق، ومن خلالها ترى رءوس المارة. لم يخف على المرأة تدهور صحة الرجل، تجلت عظام وجهه وشحب لونه، وتوارى شبابه وراء غمامة كئيبة. سأل الراقد: كيف حالكم يا امرأة خالي؟ - نحمده، شد حيلك أنت.
فأسدل جفنيه قائلا: لا أمل في الشفاء يا امرأة خالي. - ربك كبير، ويأمر إذا أمر بالشفاء فلا راد لأمره، وأم عبده .. ألا تواظب على المجيء؟ - تنظف الحجرة، وتعد اللقمة، ثم تتركني لوحدتي، أما أبي فنادرا ما يزورني، غفر الله له، استعبدته المرأة، وما كان كان، البركة في خالي وامرأته وأولاده.
وانطلق الطفل يقول بصوته المسرسع: كنت تزورنا وتضرب على العود، وتغني، متي تزورنا؟
فتر ثغر المريض عن ابتسامة أخفى من السر، وقالت المرأة: إن شاء الله ترجع الأيام الطيبة.
حتى الطفل لم يغب عنه الفارق الكبير بين الراقد أمامه، وبين القديم بشبابه ورونقه وضحكته العالية، وصوته وهو يغني:
يا ريت زماني مرة.
وحط الصمت فترة، والمرأة تتلو في باطنها آيات من القرآن الكريم، حتى قال المريض: ما زالت المرأة القاسية تتسلل من حين لآخر إلى النافذة لتلقي علي نظرة متلهفة على موتي!
وهتفت المرأة: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن الحق على والدك، وربك كبير، ورحمته فوق كيد الكائدين.
واستغرق الطفل في أفكاره فسأله: متى تزورنا وتغني «يا ريت زماني مرة»؟!
لقاء خاطف
مضيت أهبط درجات السلم العريض نحو الطريق، مخلفا ورائي العمارة الشاهقة. اعترض سبيلي عند نهاية السلم فتي في الثلاثين من عمره، حدق في وجهي باسما. دهشت لغريب يستوقفني، ولكنه لم يكتف بذلك، فمد يده مصافحا وقال: نحن أقارب!
ابتسمت بدوري وقلت: حقا؟ الذنب ذنب زماننا الغريب.
فقال برقة: أنا محمد ابن زينب صفوت!
غزتني فرحة طاغية كادت تهتك ستر الماضي العذب، شددت على يده بحرارة، وتلقيت سيلا من الذكريات الناعمة، وهتفت: أهلا بك، فرصة سعيدة حقا.
وفارقني كما فارقته، ولكن لم تفارقني الذكريات.
صفحة غير معروفة