رغم أن همنجواي قد اشتهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تقدم هي الأخرى نماذج قصصية ذات معمار فني محكم، مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالا خالدة ضمن إنتاج الكاتب، وجعل عددا منها يتحول أيضا إلى أفلام سينمائية وتليفزيونية ناجحة.
وقد صدرت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرت في مجموعات هي: «في زماننا» عام 1925م، و«رجال بلا نساء» عام 1927م، و«المنتصر لا يربح شيئا» عام 1933م. كما نشر الكاتب عددا آخر من القصص في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وقد بلغت قصصه القصيرة حوالي الثمانين قصة.
والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتشرك القارئ في مطالعة تجربة إنسانية. وأسلوب الكاتب فيها يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثمن حجمه فقط، بينما بقيته مختفية تحت الماء؛ فالرواية عنده يمكن أن تظهر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف؛ فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تقدم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرب البقية وفقا لإحساسه ومقدار تجاربه في الحياة. وقد سمحت له القصة القصيرة أن يتجلى في أسلوبه اللغوي المشهور بالاقتصاد في التعبير، وهو أيضا يستخدم فيها الحوار الذي يتصف بالإيجاز والتكرار المقصود واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لمن يتحدث من شخصيات القصة.
ونقدم فيما يلي نص قصة قصيرة مشهورة لهمنجواي تعتبر نموذجا جيدا لهذا النوع الذي أبدع فيه.
1
قطة تحت المطر
لم يكن في الفندق من أمريكي سوى رجل وزوجته، ولم يكونا يعرفان أي شخص يصادفانه على السلالم في طريقهما من الحجرة وإليها. كانت حجرتهما في الطابق الثاني وتطل على البحر، وكانت تطل أيضا على الحديقة العامة وعلى النصب التذكاري المقام لذكرى الحرب. كانت الحديقة العامة تغص بالنخيلات الضخام وبالمقاعد الخضراء. وحين يكون الجو صافيا، كان يفد إليها باستمرار أحد الفنانين حاملا معه لوحة الرسم. وكان الفنانون يحبون طريقة نمو النخيل، والألوان الناصعة للفندق المواجه للحدائق وللبحر. وكان الإيطاليون يفدون من أقصى البقاع لمشاهدة النصب التذكاري، وكان مصنوعا من البرونز ويلتمع حين تهطل عليه الأمطار. أخذت السماء تمطر، وطفق ماؤها يقطر من على أفنان النخيل، وتكونت بحيرات صغيرة من الماء على الممرات المغطاة بالحصباء. وتدفقت موجات البحر في خيط طويل تحت الأمطار ثم انحسرت ثانية على الشاطئ لتعود مرة أخرى متدفقة في خيط طويل تحت الأمطار. وانفضت السيارات من حول النصب التذكاري في الميدان. وعبر الميدان، وقف نادل في ممر المقهى، يتطلع أمامه إلى الميدان المقفر.
ووقفت الزوجة الأمريكية تتطلع إلى الخارج من النافذة. وهناك ، وتحت نافذتها تماما، كانت ثمة قطة تقبع تحت مائدة خضراء تقطر بمياه المطر. وكانت القطة تحاول أن تلملم نفسها حتى لا يصيبها رذاذ الماء.
قالت المرأة الأمريكية: سأهبط إلى أسفل لأحضر هذه القطيطة.
فتطوع زوجها قائلا وهو يرقد على الفراش: سأقوم أنا بهذه المهمة. - كلا .. سأحضرها أنا بنفسي، تلك القطيطة المسكينة في الخارج تحاول أن تتقي الأمطار تحت المائدة.
صفحة غير معروفة