وها قطعة من النقود ترن في الصحن بيده، فيقف عند القرار شاكرا، ثم يرفع صوته فوق ما كان منه.
يا أهل ودي أنتم أملي ومن
ناداكم يا أهل ودي قد كفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
كرما فإني ذلك الخل الوفي
إنه ليشجي هذا الصوت، وإنه ليبهج. هو يبهج أهل الحب؛ لأنه يردد من أصوات الماضي ذلك الصدى الخالد، صدى ما صفا من الروحيات والذكريات. وهو يشجي؛ لأنه يمثل طيفا من الأطياف التي يرسلها الماضي شادية في شوارع بغداد المسيرة اليوم بأصوات - وقل بسياط - العمل المرهقة، بتكاليف الحياة المدنية المادية.
إنما هناك، في قلب المدينة، الذي لا يمسه الشارع الجديد بعامل من عوامل المدنية الغربية، أصوات من الماضي يظهر أنها أبدية. هي الأصوات التي تسمعك إياها المطارق تطرق النحاس، والمنافخ تنفخ في نار الصاغة والحدادين. وهناك في قلب بغداد، يمشي العمل الهوينا مشية الورع القنوع، ولا يماشيه الهم، ولا يزاحمه التكالب. هناك يجري في عروق العامل والتاجر والصائغ والصانع؛ ذلك الدم الذي يجري في عروق الدرويش. وإن كان الشعر لا يجري على ألسنتهم كما يجري على لسانه، فإن لغة قلوبهم هي كلغة قلبه من قاموس واحد، هو قاموس القناعة والوداعة.
وهناك أيضا تتجسم تلك الظاهرة العربية - الشرقية - التي تناقض العبارة الذهبية، وهي أن النظافة من الإيمان. ولعمري إن بين الإيمان والنظافة - إن كان في الدراويش أو في الصاغة - وهدة سحيقة. وهاكم في السوق المثال الحي النابض لما في العامل العربي من الصبر والمثابرة، ومن التجويد والجمود، ومن الذوق والإهمال، ومن الورع والوداعة والقناعة والقذارة.
تعال فأريك أجمل الأشياء من ذهب وفضة تصنع أمام عينيك، تصاغ وتصقل في أماكن فرشت بالغبار، وطليت بالدخان، وازدانت بالعنكبوت. ليس الولد صاحب المنفخ من العبيد المناكيد. هو أسود الوجه واليدين، ولكنه عربي من الفتيان البيض، تراه مقرفصا أمام النار ينفخ بها، ويمسح عينيه بطرف قميصه الدكناء، وترى سيده في ثياب الزيات يمسح العرق من جبينه بالمنديل الذي يستعمله لمسح جواهره، وهو ينقش سوارا، أو يدق قطعة من الذهب على السندان.
وهذه امرأة في عباءة وحجاب تجلس على حافة الدكة، إلى جانب ركمة من الفحم والرماد، ثم ترفع طرفا من حجابها وتلقي السلام وتلوم، فيعتذر الصائغ إليها، ويقسم بالله إنه ما نسيها، ثم يفتح خزانة صغيرة، ويخرج منها صندوقا جميلا من النحاس المطعم، ثم يخرج من الصندوق منديلا أدكن كان في قديم الزمان أبيض أو أحمر، فيفكه ويأخذ مما فيه قرطين من الذهب المنقوش مرصعين بالماس، فيرفعهما بالإبهام والبنصر أمام السيدة، ثم يمسحهما بطرف المنديل، ويقدمهما قائلا: حلت البركة. فتتناولهما باسمة شاكرة، وتربطهما بطرف منديلها، ثم تفك الطرف الآخر وتدفع ثمنهما ذهبا وفضة، ثم تنهض وتمشي، ولا تبالي بما قد يكون لصق بثوبها من وسخ المكان.
صفحة غير معروفة