3
تقع دار الطلبة على ناصية شارع رشاد باشا. هي قلعة هائلة ذات فناء مستدير واسع، يقوم بنيانها على محيطه في شكل دائرة، مكونة من طباق ثلاثة، يتركب كل واحد منها من سلسلة دائرية، من الغرف المتلاصقة تفتح أبوابها على ردهة ضيقة تطل على الفناء. كان الأصدقاء الثلاثة يسكنون ثلاث حجرات متجاورة في الطابق الثاني، وقد صعد مأمون رضوان إلى حجرته الصغيرة، وأخذ في تغيير ملابسه، وكانت الحجرة مؤثثة بفراش صغير، يقابله صوان، يتوسطهما وراء النافذة الصغيرة مكتب متوسط وضعت عليه الكتب والمراجع. وكان الشاب ممن يحبون الكتب حبا بالغا؛ فما إن وقعت عيناه على معجم «لالاند» حتى لاحت على شفتيه ابتسامة خفيفة وشت بحبه وولعه، بيد أنه لم يضع وقتا، فتوضأ وصلى العصر، ثم ارتدى «ملابس العطلة» وغادر الحجرة إلى الطريق، ومضى يرسم جسمه الرشيق هيئة عسكرية جذابة في مسيره، وكان ذا قوام ممشوق، نحيفا في غير هزال، أبيض الوجه مشربا بحمرة، أجمل ما فيه عينان سوداوان نجلاوان، تلوح فيهما نظرة لامعة، تذكي ضياء وجمالا وذكاء، وكان يتقدم في مسيره لا يلوي على شيء، لقدميه وقع شديد، ولعينيه هدف لا تحيدان عنه، كان هدفه ذلك اليوم بيت خطيبته بمصر الجديدة. وكان مأمون يعالج أمور قلبه بنفس النزاهة والاستقامة اللتين يعالج بهما جميع أمور حياته ... خطب الفتاة - وهي كريمة قريب له من ضباط الجيش العظام - بعد مشورة أبيه، وتم الاتفاق على أن يعقد عليها عقب الانتهاء من دراسته، وصار يتردد على بيتها كل خميس، فيجالس الأسرة مجتمعة، ويمضي بضع ساعات في سمر لذيذ، ولم يخطر له على بال قط أن يدعو فتاته إلى السينما، أو أن يدبر حيلة للانفراد بها؛ ذلك أنه كان من الكافرين بالبدع الحديثة - على حد تعبيره - الثائرين عليها، فلقي سلوكه من أسرة الفتاة - أسرة حافظت على تمسكها بالتقاليد القديمة - كل إعجاب وتقدير، بيد أن ذلك لم يمنع قلبه من الخفقان وهو آخذ في طريقه المعهود، فبلغ طريق الجيزة بعد دقائق واستقل الترام. وبدا في جلسته المعتادة، ونظرته الصافية، وقامته العالية، شخصية غنية بعناصر الجمال والجلال؛ فلو أراد أن يكون عمر بن أبي ربيعة لكان، ولكنه كان ذا عفة واستقامة وطهر لم يجتمع مثلها لشاب. كان ضميرا نقيا، وسريرة صافية، كان قلبا مخلصا ينشد الدين الحق والإيمان الراسخ والخلق القويم، وقد نشأ في طنطا، وكان والده مدرسا بالمعاهد الدينية - رجل ذو دين وخلق - فشب في بيئة أقرب إلى البداوة بساطة ودينا وخلقا وقوة، وعرض له في صباه عارض ترك في حياته أثرا قويا؛ ذلك أنه أصيب بمرض أقعده عن اللحاق بالمدارس حتى الرابعة عشرة، فذاق مرارة العزلة، وعرف الألم، وانصهر في أتون تجربة قاسية، ولكنه استطاع أن يدرس الدين على والده فتفقه فيه غلاما يافعا. ولما دخل المدرسة الابتدائية دخلها فتى مراهقا، وقلبا كبيرا، وروحا حيا، وذكاء وقادا. على أنه لم يخل من تعصب وحدة، بل كانت تعتريه لحظات قسوة جنونية، تنضب فيها خصوبة نفسه، فينطلق كلسان من لهب يلقف ما يلقاه، ويلتهم ما يتصدى له، فيضاعف العمل إن كان يعمل، أو يستغرق في العبادة إن كان يعبد، أو يحتد في النقاش إن كان يناقش، أو تعلوه الكآبة والانقباض إن كان يعتزل. وفي تلك الحياة البسيطة لم يجد الفتى سبيلا إلى تحقيق ذاته إلا في العمل، فبز الأقران جميعا، وكان في قدرته أن يتعبد ساعات متتابعات لا يسكت لسانه عن ذكر الله، وكان يذاكر في الأيام الأخيرة من العام الدراسي عشرين ساعة في اليوم، فكان أول الناجحين في البكالوريا، كما ينتظر أن يكون أولهم في الليسانس، فصار التفوق من أحلامه العليا كالإسلام والعروبة والفضيلة، ولم يسمح لمخلوق أن يدانيه في تفوقه، ولكن لم ترسب للمنافسة في صدره أبخرة خبيثة، بفضل قوته الخارقة، وثقته الكبيرة بنفسه، وإيمانه الراسخ بالله، فسما بإنسانيته إلى أعلى المراتب؛ ولذلك لم يجعل من إيمانه سبيلا إلى الزهد العاجز أو الفناء في الغير، فكان يقول: إن الإيمان امتلاء بالقوة الربانية لتحقيق مثل الله العليا على الأرض. فكان شابا عظيما، وإن أخفق أن يكون محبوبا؛ لأن تفوقه مثار لحسد الحاسدين، وسلوكه احتقار صامت لحياة الآخرين، ثم إنه لم ينج من ميل للوحدة تأصل في طبعه منذ عهد مرضه العصبي الطويل، هذا إلى جهل بأصول اللباقة الاجتماعية، ونكران لروح الفكاهة، وولع بالصراحة جعلت من حديثه أحيانا سوط عذاب؛ فسماه منتقدوه تارة بالجامعي الريفي، وتارة بالمهدي غير المنتظر. وقال عنه طالب مرة: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا، وقديما أدخل عمرو بن العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغدا يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه.» وظل الشاب على ولائه للتفوق وإن خافه ومقته في أحايين كثيرة. أجل، كان يخاف ذلك الشعور بالتعالي والتفوق، ويستعيذ بالله من شره، ولكنه عجز عن قهره؛ ولذلك لم يرمق عظيما بعين الإعجاب الحق، وأعلن في صراحته يوم افتتح الملك الجامعة استهانته برجال الدولة الذين حضروا الاحتفال؛ ولذلك أيضا جعل يهز منكبيه استهانة كلما رأى الطلبة يتحمسون لمن يدعونهم بالزعماء، وكان ينكر الأحزاب جميعا، ويأبى الاعتراف ب «القضية المصرية»، ويقول بحماسه المعهود: إن هناك قضية واحدة هي قضية الإسلام عامة، والعروبة خاصة. ومن عجب حقا أنه لم يتأثر بموضة الإلحاد التي كانت ذائعة بين طلبة الجامعة على عهده بها، وإنما مرد ذلك إلى أنه التحق بالجامعة، في الثالثة والعشرين، وقد آمن إيمانا راسخا بثلاثة أشياء لم ينكرها بعد ذلك طول حياته؛ الله، الفضيلة، قضية الإسلام. فلم يزغ بصره حيال نور الجامعة الجديد، ولبثت صخرة إيمانه القائمة تتكسر عليها أمواج السيكولوجي والسسيولوجي والميتافيزيقا. تحدى بإيمانه العلم والفلسفة جميعا، وجعلهما من ذرائعه ومقوماته، وسره أيما سرور أن يجد أعلام الفلاسفة في ظل الله دائما؛ أفلاطون وديكارت وبسكال وبرجسون. كما رحب قلبه المخلص بالوفاق الذي بشر به القرن العشرون بين العلم والدين والفلسفة؛ فاليوم تنحل المادة إلى شحنات كهربية أشبه بالروح منها بالمادة، واليوم تسترد الروحية عرشها المسلوب، واليوم يشغل العلماء بالتفكير الديني، ويرد رجال الدين شرائع العلم والفلسفة؛ فطوبى للشاب الفيلسوف المؤمن! غير أن شاب الجيزة تغير عما كان عليه فتى في طنطا المصاب، صار أوسع صدرا وأرحب فهما، أمكنه أن يصغي إلى مجون محجوب عبد الدائم مبتسما، وأن يناقش علي طه في قيمة الدين والإلحاد، وأن يتلقى صابرا سهام الناقدين والساخرين، إلا إذا احتد واتقدت عيناه وعرته تلك اللحظة الرهيبة؛ فهناك يرتد عنه البصر وهو حسير! وكان الشاب يجد بين زملائه مؤمنين صادقين، فلم يشعر في إيمانه بعزلة، ولكنه لم يظفر بواحد يشاركه حماسه في الدعوة إلى الإسلام والعروبة؛ فقد استغرقت الأذهان أمور أخرى في ذلك الوقت كالقضية المصرية، ودستور سنة 1923، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ولكن الفتى لم ييئس في وحدته، ولا كان من الممكن أن يخالط اليأس قلبا كقلبه.
عاش مشغولا بالآمال الكبار، إلا أن قلبه استطاع أيضا أن يتنسم الحياة، وأن يخف مسرورا إلى استقبالها ... بل جعل ينظر من نافذة الترام إلى الخارج في شبه جزع، يود لو يطوي الترام في غمضة عين الطرق إلى مصر الجديدة ...
4
ولبث علي طه في حجرته حتى مالت الشمس إلى المغيب، وكان يجلس إلى النافذة وعيناه إلى شرفة دار صغيرة قديمة، تقع عند مدخلها دكان سجائر، تقوم على ناصية شارع العزبة - امتداد شارع رشاد باشا من ناحية عزبة الدقي - فيما يواجه دار الطلبة. كان مرتديا ملابسه إلا طربوشه ، متأنقا كعادته، يحسب الناظر إلى منكبيه العريضين أنه من هواة الرياضة البدنية، وكان فتى جميلا ذا عينين خضراوين، وشعر ضارب لصفرة ذهبية، ودلالة واضحة على النبل. لبث ينظر إلى شرفة الدار الصغيرة القديمة بعينين تتحير فيهما نظرة انتظار ولهفة حتى دبت فيهما حياة ويقظة بدخول فتاة إلى الشرفة، فنهض ملوحا بيديه، فابتسمت إليه وأومأت إلى الطريق، فلبس طربوشه وغادر الحجرة ثم الدار، وانطلق إلى شارع رشاد باشا، ومضى يتمشى متمهلا في الشارع الكبير، قامت على جنبيه الأشجار الباسقة تقبع وراءها القصور والفيلات، وجعل يرسل الطرف فيما وراءه بين لحظة وأخرى، حتى رأى - على ضوء الغروب الهادئ - صاحبة الشرفة قادمة تخطر، فدار على عقبيه خافق الفؤاد من السرور، واتجه نحوها مورد الوجه، حتى التقت أيديهما، فاشتبكت اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى، وغمغم الفتى: أهلا ...
فغمغمت ووجهها يشرف بابتسامة لطيفة: مساء الخير ...
واستخلصت يديها برفق، وتأبطت ذراعه، واستأنفا السير إلى شارع الجيزة يمشيان مشية المتمهل الذي ليس له وراء المشي من غاية. هي فتاة في الثامنة عشرة، تضيء محياها بشرة عاجية، وعينان سوداوان يجري السحر في حورهما والأهداب، أما شعرها الفاحم وما يحدثه تجاوب سواده مع بياض البشرة فيخطف الأبصار، وقد حوى معطفها الرمادي جسما لدنا ناضجا ينتشر سحرا ووهجا. سارا متمهلين يبهج منظرهما الشباب والحياة. وجعل علي طه يرقب أنحاء الطريق بطرف حذر كأنما يطلب غرة، والفتاة تلحظه بطرف خفي منتظرة على شوق وسرور، حتى اطمأن الفتى إلى غفلة العيون، فضم أصابعه تحت ذقنها، وأدار وجهها إليه، وألصق شفتيه بشفتيها حتى رطبتا برضابها، ثم رفع وجهه متنهدا من الأعماق، وتتابع خطوهما صامتين، ورأته يلقي نظرات فاحصة، فذكرت - على سحر الموقف وفتنته - معطفها الذي كاد يبلى، ففتر سرورها، وقالت بالرغم عنها: أيسوءك أن ترى دائما هذا المعطف العتيق؟
فلاح الإنكار في وجه الشاب، وقال مؤنبا: كيف تلقين بالا إلى هذه الصغائر؟ إن في المعطف كنزا جعله الحظ السعيد من نصيبي.
ولم توافقه على أن المعطف من «الصغائر»، بل كانت تقول لنفسها مرات متأسفة: إن العيش السعيد شباب وثياب! ولحظت بذلته الصوفية الأنيقة فرغبت في لومه، وقالت: يا لك من مراء! أتعد اللباس من الصغائر وأنت تتأنق مزهوا ...؟ فتورد وجهه حياء، وبدا كالطفل المرتبك، ثم قال كالمعتذر: البدلة جديدة ... وليس من الممكن ابتياع بدلة قديمة، ولكن الملابس أعراض تافهة، أليس كذلك يا حبيبتي؟
بيد أنها خافت مناقشته؛ لأنه كان يتوثب للمناقشة باهتمام، ويقف منها موقف المعلم، ولم تكن ترتاح إلى ذلك، والواقع أنه لم يكن يخلو من تناقض. كان كثيرا ما يستهين بالملابس والمآكل ونظام الطبقات، ولكنه كان يلبس فيتأنق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، وينفق عن سعة. أما إحسان شحاتة فكان لديها ما تقوله، وما تعلم أنه ينتظر رأيها فيه، فقالت بصوته الرخيم الذي يعابث الغرائز: كدت أتم الكتاب الذي أعرتنيه.
صفحة غير معروفة