قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطيبة ، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال: إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية، وبسط النفس، وترويق الدم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها.
قال الغزالي في الإحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل هذا جار في الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال، إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها، وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل، وهي لا تشعر به لنشاطها.
فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى - رضي الله عنه - قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت، وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق، فتشفع في إلى مولاي، فإنه مكرم لضيفه، فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال: فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيبا، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها، إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل، وقطع حباله، ووقعت أنا على وجهي ، فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه.
قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص، مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة؛ ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود - عليه السلام - لاستماع صوته، ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب.
قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون، مفهوم المعنى، محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب، ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره، والموزون ينقسم إلى المفهوم، كالأشعار وإلى غير المفهوم، كأصوات الجمادات، وسائر الحيوانات، أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم، بل هو حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخمس حواس، ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن، وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة، وللشم الروائح الطيبة وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة، وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة، وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة، وللعقل لذة العلم والمعرفة، وهي في مقابلة الجهل والبلادة، فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها.
ونقل الغزالي أيضا عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال: لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي، وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية، قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان، فكان إخوانه يستمعون إليهما، قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون، فقال: وكيف أنكر السماع، وقد أجازه وسمعه من هو خير مني، فقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.
هذا ما قال الغزالي، ونقله في السماع وفوائده، والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعا عن العمل والعبادة محركا للشهوات البهيمية، كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين، وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث، ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط، والتوسط محمود في كل حال، فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة؛ لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع، وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة.
نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول؛ ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه، وتراعى به حالة المستمعين، وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في يوم ولا يطيب في آخر، وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها، ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغني والمغنى له دخلا كبيرا في الطرب، فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة، وأن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان، وكثيرا ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين، فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى، كأن النفس لا تميل إلا إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي.
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشيا، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب، وكانت العرب تسمي القينة الكرنية والعود الكران والمزهر أيضا هو العود وهو البربط، وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس، وهو علم ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى، وقالوا: غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا، وكانوا يقولون: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب منه مطرب محرك ويستخف، وضرب ثان له شجى ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة.
الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان، هو يؤثر في الطيور والهوام، ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغن مطرب وآلة موسيقية شجية، وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني، ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي، وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار، بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور ، وترتج رفوفها وحيطانها، ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع أو الوقائع ما يؤيده.
صفحة غير معروفة