يحيلان المقدورية ، وما يحيل المقدورية لم يفد صحة المقدورية. ولما ثبت أنه لا مدخل لهما في هذا الباب ، لم يبق إلا الإمكان. والإمكان قضية مشتركة بين كل الممكنات ، فلزم من هذا كون جميع الممكنات مقدورة للعبد.
الثاني : إنه لو قدر العبد على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير ، إلا في إعطاء الوجود. لأنا بينا في سائر كتبنا بالدلائل الكثيرة : أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها (1). ولا يمكن أن يكون تأثير القادر في تكوين الماهيات. فإن الشيء ما لم يكن ممكن الوجود ، لم يتصور أن يكون للقادر فيه تأثير. فتأثير القادر فيه ، مسبوق بكونه في نفسه ممكن الوجود ، وكونه في نفسه ممكن الوجود يقرر ماهيته المخصوصة. لأن إمكانه صفة له ، وصفة الشيء متأخرة بالرتبة عن الموصوف. فثبت : أن تأثير القادر فيه : متأخر عن تقرر ماهيته بمرتبتين. ولو كان تأثير القادر في ماهيته ، لكان تقرر ماهيته متأخرا عن تأثير القادر فيه ، وحينئذ يلزم أن يكون المتقدم على الشيء بمرتبتين ، متأخرا عنه. وذلك محال. فثبت بهذا الوجه : أن تأثير القادر ، تبين في جعل الماهية ماهية ، بل ذلك التأثير في جعلها موجودة. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على الإيجاد ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود.
واعلم : أن هذا كلام حسن قوي. إلا أنه يشم منه رائحة : أن المعدوم شيء. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود. فنقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقدر على كل الممكنات. وذلك لأنه لما كان لا تأثير
الأول : مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري أن الوجود نفس الحقيقة في الكل أي في الواجب والممكن.
الثاني : مذهب الحكماء أنه نفس ماهية الواجب وإن زاد في الممكن.
الثالث : أن الوجود زائد في الواجب والممكن» (ص 48 49).
وهكذا يكون وجود الممكن زائدا على ماهيته في المذهبين الثاني والثالث. ولم ينقل المذهب الأول عن الأشعري صراحة إلا أن أتباعه كأبي منصور البغدادي والرازي أسندوه إليه. وكذلك الإيجي في المواقف ويتحفظ التفتازاني في نسبته إليه. والمذهب الثاني ذكره الفارابي في «عيون المسائل» و «فصوص الحكم» ورسالة في إثبات المفارقات والتعليقات. وهو أيضا مذهب ابن سينا في «الشفاء» و «النجاة» و «الإشارات والتنبيهات» و «المباحث». وهو مذهب المعتزلة في بعض المنقولات عنهم. والثالث يعزوه الرازي في «نهاية العقول» إلى طائفة عظيمة من المتكلمين وذكر منهم أبا هاشم الجبائي وأصحابه.
والرازي رحمه الله قد توقف ابتداء في «الإشارة في علم الكلام» في هذه المسألة واستمر متوقفا في «الخمسين في أصول الدين» ،. ولكنه في أواسط حياته نصر مذهب أبي هاشم في «المباحث المشرقية» و «الملخص في أصول الدين» و «شرح الإشارات» و «نهاية العقول» ، وعاد إلى مذهب الأشعري في «المحصل» والتفسير الكبير. ثم أخيرا إلى مذهب أبي هاشم في «المعالم» و «المطالب العالية».
(عن كتاب الدكتور الزركان : فخر الدين الرازي 166 174).
صفحة ٨٩