* بسم الله الرحمن الرحيم
* مقدمة المؤلف
قال مولانا الداعي إلى الله ، أبو عبد الله «محمد بن عمر بن الحسين» الرازي قدس الله روحه ونور ضريحه :
الحمد لله المتعالي بكبريائه عن علائق عقول المخلوقات ، المتعظم بسناء صمديته عن مناسبة الكائنات والممكنات. مبدع المفردات والمركبات ، ومخترع الذوات والصفات ، وموجد الحيوان والنبات ، ومقدر الحركات والسكنات ، ومنشئ الباقيات والمتغيرات. داحي المدحوات ، وسامك المسموكات ، ومصلح أحوال الأحياء والأموات ، ومحصل الأرزاق والأقوات ، في جميع الأوقات. تقدست حياته عن السقم والألم والممات ، وتنزهت حكمته عن الشكوك والأوهام والشبهات. وتبرأت إرادته عن الميول والأماني والشهوات ، وتعالت قدرته عن الاحتياج إلى الآلات والأدوات ، وتعظمت خلاقيته عن جر المنافع والخيرات ، ودفع المضار والآفات. يرزق الوحوش في الفلوات ، ويحفظ الحيتان في قعور البحار الزاخرات ، ويعلم ذرات الأمواج المتلاطمات ، ويخلص المتحيرين من معضلات البليات ، ويجيب المضطرين عند الإخلاص في الدعوات. فبوجوب وجوده تقطع سلسلة الحاجات ، وبجود جوده يتناهى تصاعد درجات الافتقارات والضرورات.
فسبحانه. هو الله الذي لا يعزب عن فضاء قضائه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات.
أحمده. على ما أفاض علينا من الخيرات ، ودفع عنا من البليات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبقى آثار بيناتها إلى مصاعد الخيرات ، ومعارج البركات.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المؤيد بأظهر المعجزات ، وأبهر البراهين والبينات. وهو القرآن العظيم ، البالغ في كمال الفصاحة إلى أبلغ الغايات ، وأقصى النهايات ، وعلى آله وأصحابه ، صلاة توجب لهم مزيد الدرجات والكرامات. وسلم تسليما.
صفحة ٢٧
«أما بعد».
فهذا كتاب في غاية الجلالة والمرتبة ، ونهاية الشرف والمنقبة ، لاشتماله على جميع المباحث التي لا بد من عرفانها في مسألة الجبر والقدر ، ووصلت إليها غايات القدر. متوسلا به إلى رضوان الله العظيم ، وإحسانه العميم. وسألت الله سبحانه أن يعصمني من الغواية في الرواية ، ويسعدني بالإعانة على الإبانة. إنه خير موفق ومعين.
ومجموع الكتاب مشتمل على مسألة «خلق الأفعال» والكلام في هذه المسألة مرتب على مقدمة وأبواب.
وبالله التوفيق
صفحة ٢٨
* خلق الأفعال
صفحة ٢٩
* المقدمة
* في
* بيان تفاصيل مذاهب الناس في هذا الباب
أعلم : أنا نعلم بالضرورة : أن القادر على الفعل إذا دعاه الداعي إليه ، ولم يمنعه منه مانع. فإنه يحصل ذلك الفعل. وهذا القدر معلوم.
** ثم اختلف العقلاء بعد ذلك على أقوال :
القول الأول : إن المؤثر في حصول هذا الفعل ، هو قدرة الله تعالى ، وليس لقدرة العبد في وجوده أثر. وهذا قول «أبي الحسن الأشعري (1) وأكثر أتباعه. كالقاضي «أبي بكر الباقلاني (2) و «ابن فورك» (3) ثم حصل هاهنا بين «الأشعري» وبين «القاضي» اختلاف من وجه آخر. فقال
صفحة ٣١
الأشعري : قدرة العبد كما لم تؤثر في وجود الفعل البتة ، لم تؤثر أيضا في شيء من صفات ذلك الفعل (1) وقال القاضي : «قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود ذلك الفعل ، إلا أنها أثرت في صفة من صفات ذلك الفعل ، وتلك الصفة هي المسماة بالكسب» قال : «وذلك لأن الحركة التي هي [طاعة والحركة التي هي] معصية قد اشتركا في كون كل منهما حركة ، وامتازت إحداهما عن الأخرى بكونها طاعة أو معصية. وما به المشاركة غير ما به الممايزة. فثبت : إن كونها حركة غير ، وكونها طاعة أو معصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله تعالى. أما كونها طاعة أو معصية فهو صفة واقعة بقدرة العبد» (2).
هذا تلخيص مذهب «القاضي» على أحسن الوجوه.
صفحة ٣٢
القول الثاني : إن المؤثر في وجود ذلك الفعل هو قدرة الله تعالى ، مع قدرة العبد.
** ثم هاهنا احتمالان :
أحدهما : أن يقال : إن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير وقدرة العبد أيضا مستقلة بالتأثير إلا أن اجتماع المؤثرين المستقلين على الأثر الواحد : جائز.
والثاني : أن يقال : قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير ، وقدرة العبد غير مستقلة بالتأثير ، وإذا انضمت قدرة الله تعالى إلى قدرة العبد ، صارت قدرة العبد مستقلة بالتأثير بتوسط هذه الإعانة. ويقال إن هذا القول هو مذهب الأستاذ «أبي إسحاق» (1) إلا أنه يحكى عنه أنه قال «قدرة العبد تؤثر بمعنى».
والقول الثالث : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة مع الداعي واجب. وذلك لأن القادر من حيث إنه قادر يمكنه الفعل بدلا عن الترك ، وبالعكس ، ومع حصول هذا الاستواء ، يمتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر. فإذا انضاف إليها حصول الداعي : حصل رجحان جانب الوجود. وعند ذلك يصير الفعل واجب الوقوع. وهذا القول هو المختار عندنا.
ثم القائلون بهذا القول. إما أن يقولوا : المؤثر في دخول الفعل في الوجود : مجموع القدرة مع الداعي ، وإما أن يقولوا : ليس المؤثر في دخول الفعل في الوجود هو مجموع القدرة والداعي. وهؤلاء أيضا فريقان :
فأما الذين زعموا : أن مدبر هذا العالم موجب بالذات. قالوا : إن عند حصول القدرة مع الداعي يحصل الاستعداد التام ، لدخول ذلك الفعل في الوجود إلا أن هذه القوى الجسمانية ليست لها صلاحية الإيجاد والتأثير فعند حصول الاستعداد التام يفيض الوجود من واهب الصور ، على تلك الماهيات وتصير موجودة. فحصول القدرة والداعي يفيد الاستعداد التام. وأما الوجود والحصول ، فذاك من واهب الصور. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة.
وأما الذين زعموا : أن مدبر هذا العالم فاعل مختار. قالوا : إن مجموع القدرة والداعي يستلزم حصول الفعل ، إلا أن الملزوم واللازم إنما يحصلان بقدرة الله تعالى كما أن الجوهر
صفحة ٣٣
والعرض متلازمان ، ومع ذلك فإنهما لا يوجدان إلا بقدرة الله تعالى.
والقول الرابع : إن المؤثر في حصول الفعل هو قدرة العبد على سبيل الاستقلال. وهذا هو قول المعتزلة (1) ثم هؤلاء اختلفوا في مواضع :
فالأول : إن تأثير القدرة في حصول الفعل. هل هو موقوف على حصول الداعي؟ أما «أبو الحسين» (2) فقد اضطرب قوله فيه. فكلما تكلم مع الفلاسفة في قولهم : لم خصص الله إحداث العالم بالوقت المعين ، دون ما قبله أو ما بعده؟ قال : «الفعل لا يتوقف على الداعي» وكلما تكلم في سائر المسائل مع أصحابه. قال : «الفعل يتوقف على الداعي ، وأن الرجحان من غير المرجح : باطل في بدائه العقول».
وأما مشايخ المعتزلة فأكثرهم لا يوقفون حصول الفعل على الداعي. ثم إذا قلنا : إن الفعل يتوقف على الداعي. فهل يصير الفعل واجب الوقوع عند حصول الداعية الخالصة؟ فالأليق بكلام «أبي الحسين» أنه يسلم الوجوب. وقال صاحبه «محمود الخوارزمي» (3): «إن الفعل عند حصول الداعي يترقىمن حد التساوي ، ولكن لا ينتهي إلى حد الوجوب ، بل يصير أولى بالوقوع».
والثاني : إن العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري أو نظري؟ فالجمهور من مشايخ المعتزلة اتفقوا على أنه علم نظري. وأما «أبو الحسين» فإنه يزعم : أنه علم ضروري. وهو الذي اختاره «محمود الخوارزمي».
صفحة ٣٤
والثالث : إن الأقوال الثلاثة الأول مشتركة في القول بالجبر. لأن بتقدير صحة كل واحد من تلك الأقوال الثلاثة ، لا يكون العبد مستقلا بالإيجاد. فإن صدور الفعل عن العبد إذا كان موقوفا على إعانة الله ، أو كان موقوفا على حصول القدرة مع الداعي ، أو كان بحال متى حصلت القدرة مع الداعية وجب الفعل. ومتى لم يحصلا ، أو لم يحصل واحد منهما امتنع وقوع الفعل فكان الجبر لازما.
فهذا هو القول في تفصيل المذاهب الممكنة في هذه المسألة. واعلم : أن هاهنا أبحاثا غامضة في تعيين محل النزاع ، لا بد من التنبيه عليها. وهي من وجوه :
فالبحث الأول : إن المعتزلي إما أن يقول : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة والداعي : واجب. أو يقول : إنه غير واجب. فإن قال : إنه واجب. فقد بطل الاعتزال بالكلية. لأن تلك الدواعي لا يمكن أن يستند كل واحد منها إلى داعية أخرى ، لامتناع التسلسل والدور. بل لا بد من انتهائها إلى داعية تحصل بفعل الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فنقول : عند حصول القدرة والداعية ، لما كان الفعل واجبا ، وعند فقدانها أحدهما لما كان الفعل ممتنعا : فحينئذ يلزم الجبر ، ولم يحصل للعبد استقلال ، لا بالفعل ولا بالترك في شيء. وأما إن قال المعتزلي : إن حصول الفعل عند حصول القدرة مع الداعي : غير واجب. فنقول : فعلى هذا التقدير. عند حصول مجموع القدرة مع الداعي ، يمكن أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض أن القدرة مع الداعي كان حاصلا ، واستمرا. ثم تارة حصل الفعل ، وأخرى لم يحصل. فهذا الحصول ما كان من العبد البتة ، بل كان لمحض الاتفاق من غير سبب. لأن مجموع القدرة والداعي لما حصل بتمامه ، عند عدم الفعل تارة ، وعند حصوله أخرى ، ولم يتجدد أمر من الأمور عند حدوث الفعل ، حتى يقال : الفعل إنما حدث في ذلك الوقت لأجله. فعلى هذا التقدير يكون حدوث الفعل في ذلك الوقت محض الاتفاق ، ولم يكن ذلك في وسعه ، ولا في اختياره. وهذا أيضا : محض الجبر. لأنه لا سبيل له البتة إلى إيقاع الفعل ، بل إن اتفق وقوعه مع ذلك القدر من القدرة والداعي ، فقد وقع. وإن لم يتفق وقوعه لم يقع. ولم يكن البتة رجحان أحد الطرفين على الآخر ، بأمر من جهة العبد البتة.
فثبت : أن المعتزلي. إن قال : إن وقوع الفعل عقيب القدرة والداعي : واجب البتة فقد قال بالجبر ، من حيث لا يشعر به. وإن قال : إنه غير واجب. فقد قال أيضا بالجبر ، من حيث لا يشعر به فيثبت : أنه لا يمكنه أن يعبر عن نفي الجبر بعبارة معلومة ، إلا وتلك العبارة مشتملة على الجبر. فإن قال قائل : إني أقول : إن عند حصول القدرة والداعي يقع الفعل ، ولا أقول : إن ذلك الوقوع واجب أو غير واجب. وهذا القدر يكفيني في التعبير عن مذهبي. فنقول : هب أنك لا تذكر إلا الوقوع. إلا أنا نقول : ذلك الوقوع إما أن يكون مع الوجوب ، أو لا مع
صفحة ٣٥
الوجوب. وعلى كل من التقديرين : فالجبر لازم. فكان الجبر لازما على كل التقديرات.
فهذا بحث شريف لا بد من الوقوف عليه في هذا الباب.
البحث الثاني : لقائل من المعتزلة أن يقول : الجبر لا يتأتى إلا مع القول بكون الباري موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. لأن حاصل كلام الجبرية هو : أن عند حصول القدرة والداعية الخالصة يجب الفعل ، وعند فقدان هذا المجموع يمتنع الفعل. وهذا هو القول بالجبر. إلا أن هذا الكلام بعينه وارد في فاعلية الله. لأن كل ما لا بد منه في فاعلية الله تعالى. إن كان حاصلا في الأزل ، وجب حصول العالم معه ، وإن لم يكن أزليا ، افتقر حدوثه إلى سبب آخر ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود هذا السؤال.
قالوا : فثبت : أن دليلكم في إثبات الجبر ، إن تم وكمل فهو ، يوجب القول بالجبر شاهدا أو غائبا. وذلك يوجب القول بقدم العالم ، وبكونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. كما هو قول الفلاسفة (1).
وأما إن قلنا : إن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعية ، وإن توقف عليها لكان صدور الفعل عند حصول الداعية غير واجب. فهذا قول المعتزلة. وبطل القول بالجبر في الشاهد والغائب فثبت : أن الحق. إما القول بالجبر شاهدا وغائبا ، كما هو قول الفلاسفة. أو القول بنفيه شاهدا وغائبا ، كما هو قول المعتزلة. فأما القول بإثباته في الشاهد ، ونفيه في الغائب ، كما هو قولكم فكلام متناقض.
فهذا هو الكلام الأقوى من جانبهم.
واعلم : أن بتقدير أن يتوجه على القول بالجبر هذا الإلزام ، إلا أن القول بالقدر يتوجه عليه ، ما هو أقبح منه وأفحش. وذلك لأنا بينا : أن القول بالقدر لا يتم إلا إذا قيل : إن رجحان الفاعلية على التاركية ، يحصل لا لمرجح. وعند هذا القول. إما أن يكون الإمكان محوجا إلى مؤثر ، أو لا يكون كذلك. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لزم احتياج كل ممكن إلى المرجح. وعلى هذا ، يكون رجحان الفاعلية على التاركية ، لا بد وأن يكون معللا بعلة موجبة. وحينئذ يلزم الجبر. وأما إن كان الإمكان غير محوج إلى المرجح ، فعند ذلك لإخفاء أن يستدل
صفحة ٣٦
بالإمكان على المؤثر. وحينئذ يلزم نفي الصانع بالكلية. سواء كان موجبا أو مختارا. فثبت أن القول الحق : إما القول باحتياج جميع الممكنات إلى المؤثر ، وحينئذ يلزم الجبر. أو القول باستغناء جميع الممكنات عن المؤثر ، وحينئذ يلزم نفي المؤثرات أصلا. فأما القول بأن الإمكان محوج إلى المؤثر في موضع دون موضع ، كما هو قول المعتزلة : فهو قول متناقض باطل. فثبت : أنه إن لزم على القول بالجبر : إثبات أن مؤثر العالم موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزم على القول بالقدر أن يكون رجحانا وجود العالم على عدمه لا لمؤثر أصلا والأول وإن كان قبيحا فلا شك أن هذا الأخير أقبح منه ، وأفحش بكثير على أنا سنذكر الفرق اليقيني بين الشاهد والغائب إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث : إن كثيرا من المحققين قالوا : إن مسألة الجبر والقدر ، ليست مسألة مستقلة بنفسها ، بل هي بعينها مسألة إثبات الصانع. وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع تعالى ، هو أن الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح. فنقول : إن صحت هذه القضية ، وجب الحكم بافتقار كل الممكنات إلى المؤثر والمرجح. وحينئذ نقول : القدرة على الفعل ، وإن لم تكن صالحة للترك ، فالجبر لازم. وإن كانت صالحة للترك ، وجب أن لا يحصل رجحان الفاعلية على التاركية ، إلا لمرجح. وذلك أيضا يوجب الجبر. فيثبت : أنه لو صلح قولنا : الممكن لا بد له من مرجح ، فالقول بالجبر لازم. وإن فسدت هذه المقدمة ، فحينئذ يتعذر علينا الاستدلال بإمكان الممكنات على إثبات الصانع. فثبت : إما القول بالجبر ، وإما القول بنفي الصانع.
فأما الحكم بأن الإمكان محوج في بعض الصور إلى المرجح ، وفي صور أخرى غير محوج إلى المؤثر كما هو قول المعتزلة فهو قول فاسد. ومثال هذه المسألة : سلسلة مركبة من خلق متشابهة في الخلقة ، والصورة ، والقوة ، والضعف. فإذا كان التقدير ما ذكرناه. وامتنع مع هذا التقدير أن يحكم على بعض تلك الخلق بالقوة ، وعلى بعضها بالضعف ، فكذا هاهنا : ما سوى الواحد الأحد ، الحق ، الواجب لذاته : لا بد وأن يكون ممكنا لذاته. وكل الممكنات مشاركة في طبيعة الإمكان. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات ، وإن لم يكن محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات. فأما الحكم على بعضها بالاستغناء مع اشتراك الكل في ماهية الإمكان ، فإنه محض التحكم الباطل. وبالله التوفيق.
فهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.
واعلم : أنه كان يجب علينا أن نبتدئ في الاستدلال بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسوله ثم بالدلائل العقلية. تقديما للنص. إلا أنا لما تأملنا ، وجدنا الاستدلال بتلك النصوص لا يظهر كل الظهور ، إلا بعد الإحاطة بتلك العقليات. فلهذا السبب قدمنا الدلائل العقلية .
وبالله التوفيق
صفحة ٣٧
* الباب الأول
* في
* تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال
* العباد كلها بتقدير الله ،
* وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك
أعلم : أن الدلائل المذكورة في هذا الباب. إما عامة في جميع أنواع الأفعال ، وأما خاصة ببعض أنواع الأفعال.
أما العامة. ففيها : ما يدل على أن العبد لا يستقل بالفعل والترك ، من غير بيان : أن قدرته. هل تؤثر أم لا؟ وفيها : ما يدل على أن قدرة العبد غير مؤثرة. ولهذا السبب : رتبنا هذا الباب على فصول ثلاثة.
صفحة ٣٩
* الفصل الأول
* في
* الدلائل الدالة على أن العبد
* غير مستقل بنفسه بالفعل والترك
ولنا في هذه المسألة براهين :
* البرهان الأول
أن نقول :
القادر على الفعل المخصوص. إما أن يصح منه الترك ، وإما أن لا يصح. والقسم الثاني يقتضي أن تكون تلك القدرة مستلزمة لذلك الفعل. وعند حصول تلك القدرة يجب الفعل ، وعند فقدانها يمتنع الفعل. فكان القول بالجبر لازما.
وأما القسم الأول : فنقول : لما كانت تلك القدرة صالحة للفعل والترك ، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر. إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف.
والقسم الثاني : يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر ، لا لمرجح. وذلك يلزم منه نفي الصانع. وأيضا : فعلى هذا التقدير يكون وقوع الفعل بدلا عن الترك : محض الاتفاق ، ولم يكن مستندا إلى العبد. فيكون الجبر لازما.
وأما القسم الأول : فنقول : ذلك المرجح. إما أن يكون من العبد ، أو من غيره ، أو لا منه ولا من غيره. لا جائز أن يكون من العبد. وإلا عاد التقسيم الأول فيه ، ويلزم إما التسلسل وإما الجبر.
والقسم الثالث : فنقول : أيضا : باطل. لأنه يقتضي جواز حدوث الشيء ، لا لمحدث ، ولا لمؤثر. ويلزم منه نفي الصانع. ويلزم منه أيضا : القول الجبر على ما بيناه ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن ذلك المرجح ، إنما حدث بإحداث الغير. فنقول : ذلك المرجح إنما يكون مرجحا ، إذا اقتضى رجحان جانب الفعل على جانب الترك ، وعند حصول هذا الرجحان يجب الفعل. وذلك لأن طرف الترك ، حال كونه مساويا لطرف الفعل ، كان ممتنع الرجحان. فحال حصوله مرجوحا ، أولى أن يصير ممتنع الرجحان. وإذا صار المرجوح ممتنعا ، صار الراجح واجبا. ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فثبت : أن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على أن يفعل غيره فيه هذا المرجح.
صفحة ٤١
واعلم : أنه متى فعل ذلك الغير فيه ذلك المرجح ، وجب صدور الفعل عنه. فثبت : أن مجموع القدرة مع الداعي ، يوجب الفعل ، وأنه تعالى ، إن خلقهما : وجب الفعل. وإن لم يخلق مجموعهما : امتنع الفعل. فثبت : أن العبد غير مستقل بنفسه في الفعل وفي الترك. وهو مطلوب.
فإن قيل : هذا الاستدلال في مقابلة البديهيات ، فيكون مردودا.
بيان أنه في مقابلة البديهيات : إن على هذا التقدير ، متى حصل مجموع القدرة مع الداعي ، كان الفعل واجب الوقوع ، ولم يكن للعبد مكانة واختيار في الفعل. فعلى هذا التقدير ، يكون حال العبد دائرا بين أن يجب صدور الفعل عنه ، وبين أن يمتنع صدور الفعل عنه. وعلى هذا التقدير : يلزم أن لا يكون للعبد مكنة واختيار في الفعل والترك. وذلك باطل في بدائه العقول. لأننا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا أنا إن شئنا الفعل فعلنا ، وإن شئنا الترك تركنا. فثبت : أن ما ذكرتموه من الدليل : واقع في مقابلة البديهيات. فوجب أن لا يستحق الجواب.
سلمنا : أن ما ذكرتم من الدليل غير واقع في مقابلة البديهيات ؛ إلا أننا نقول : هذا الدليل الذي ذكرتم ، مطرد بعينه في الغائب. وذلك لأن كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في العالم. إما أن يقال : إنه كان حاصلا في الأزل ، أو ما كان حاصلا في الأزل. فإن كان الأول ، فحينئذ يلزم أن يقال : إن مجموع الأمور التي لأجلها كان الباري مرجحا لوجود العالم على عدمه ، كان حاصلا في الأزل. وأنتم زعمتم : أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى : موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. وإن كان الثاني : نقلنا الكلام في حدوث تلك الأمور ، ولا يتسلسل. بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود الإلزام المذكور ، وهو كونه تعالى موجبا بالذات. ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : القادر على الفعل وعلى الترك : يمكنه أن يرجح جانب الفعل ، على جانب الترك. وبالعكس من غير مرجح؟ ألا ترى : أن الهارب من السبع ، إذا ظهر له طريقان متساويان. فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح. والعطشان إذا خير بين قدحين متساويين فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح والجائع إذا خير بين أكل رغيفين. فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، لا لمرجح. فثبت : أن القادر يمكنه ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح.
سلمنا : أنه لا بد في الفعل من الداعي ، وأن حصول تلك الداعية بخلق الله تعالى. لكن لم قلتم : إن عند حصول تلك الداعية : يجب الفعل؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن عند حصول تلك الداعية ، يصير الفعل أولى بالوقوع ، مع أنه لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب؟.
بيانه : وهو القادر لما كانت نسبة قادريته إلى الضدين على السوية ، امتنع صدور أحدهما بدلا عن الثاني. لأن الاستواء يناقض الرجحان. أما إذا دعاه الداعي إلى فعل أحد الضدين ،
صفحة ٤٢
صار ذلك الضد أولى بالوقوع. لكن بشرط أن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب. فلأجل أنه حصل الرجحان ، بسبب حصول تلك الداعية ، لا يلزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. ولأجل أن تلك الأولوية ، لما انتهت إلى حد الوجوب ، لم يلزم الجبر. وحصل الامتياز بين المؤثر الموجب بالذات ، وبين الفاعل بالاختيار. أما قوله : «إنه حال الاستواء ، لما كان ممتنع الوقوع ، كان حال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح ، وجب الراجح. ضرورة : أنه لا خروج عن النقيضين».
فنقول : هذا مغالطة. وذلك لأن الفعل كان معدوما. وعدمه كان مستمرا من الأزل إلى الأبد. والعدم المستمر لا يحتاج إلى المقتضى. فنقول : عند حصول الداعية المرجحة لجانب الوجود. الأولى دخوله في الوجود. وإن كان لا يمتنع بقاؤه على ذلك العدم الأصلي المستمر. ولا نقول : إن هذه القدرة إنما تترجح بسبب الداعية المرجوحة ، وهي داعية الترك. لأن بقاء المعدوم على عدمه الأصلي ، لا يحتاج إلى مرجح ، بل يكون استمراره على ما كان عليه ، لنفسه. وعلى هذا التقدير ، فقد زال المحال الذي ذكرتموه.
والجواب عن السؤال الأول : إننا نسلم : أنا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا الفعل : فعلنا. وإن شئنا الترك : تركنا. ولكنا لا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا أن نشأ الفعل : حصلت لنا مشيئة الفعل. وإن شئنا أن نشأ الترك : حصلت لنا مشيئة الترك. وإلا لعاد الكلام في تلك المشيئة. ويلزم افتقارها إلى مشيئة ثالثة. ويلزم التسلسل. بل نجد قطعا ويقينا من أنفسنا : أنه قد يحصل في قلبنا مشيئة الفعل ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها وقد يحصل مرة أخرى مشيئة الترك ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها ونجد أيضا : أنه إذا حصلت المشيئة الجازمة للفعل ، في قلوبنا ، فإنه يحصل الفعل لا محالة. وإذا حصلت المشيئة الجازمة للترك في قلوبنا حصل الترك. فإذا اعتبرنا هذه الأمور ، علمنا : أنه ليس حصول المشيئة فينا : بنا. وليس ترتب الفعل الحصول مشيئة الفعل : بنا ، بل هذه أمور مترتب بعضها على البعض. والمبدأ من خلق الله. فيكون الكل من الله. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الاعتبار الذي نجده من أنفسنا : من أدل الدلائل على أن الكل من الله ، وأن الإنسان مضطر في صورة مختار.
وأما السؤال الثاني : وهو طلب الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين المؤثرات الاختيارية. فنقول : هذا الفرق حاصل من وجهين :
الأول : إن المؤثرات الطبيعية ، دائمة مستمرة غير مغيرة. فالمؤثر في التسخين يبقى أبدا موصوفا بالوجه الذي لأجله كان موجبا للتسخين ، ولا يتغير. وكذا القول فيما يؤثر بالتبريد. بخلاف الأفعال الاختيارية. فإن الموجب للحركة بمنة : هو مجموع القدرة مع حصول الداعي إلى الحركة يسرة. وهذه الدواعي سريعة التبدل والتغير. فالقادر إذا حصلت في قلبه داعية
صفحة ٤٣
الحركة يمنة ، صار ذلك المجموع موجبا للحركة يمنة. ثم إن تلك الداعية تزول سريعا وتتبدل بحصول الداعية إلى الحركة يسرة. فيصير الآن هذا المجموع موجبا للحركة يسرة.
والحاصل أن في الأمور الطبيعية ما لأجله صار الشيء موجبا للتسخين يبقى ولا يتغير . وأما في الأمور الاختيارية فتلك الاختيارات سريعة التبدل والتغير. فهذا هو أحد الفريقين.
والوجه الثاني في الفرق : أن المؤثرات الطبيعية لا شعور لها بآثارها ، ولا علم ، ولا إدراك وأما المؤثرات الاختيارية فهي إنما تؤثر بواسطة العلم والشعور والإدراك فإنه ما لم يحصل تصور كون ذلك الفعل مفضيا إلى حصول اللذيذ ، أو النافع لم يفعل. وما لم يحصل تصور كونه مفضيا إلى حصول المؤلم والضار لم يترك. ولهذا السبب : سمي هذا الفعل فعلا اختيارا ، وسمي هذا الفاعل مختارا. لأنه إنما يفعل إذا تصور خيرا. فلأجل أن هذا الفعل لا يحصل إلا عند تصور الخير ، سمي هذا الفعل اختياريا ، وسمي هذا الفاعل مختارا.
فظهر من هذين الوجهين : حصول الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين المؤثرات الاختيارية.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «إن الذي ذكرتم يقتضي كونه تعالى ، موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار».
فجوابه : إنا قد دللنا على أن الفعل يتوقف على حصول الداعية والإرادة المرجحة (1). ثم لما تأملنا أن كل ما للعبد من الدواعي والإرادات فهو محدث. فلا جرم افتقرت دواعي العباد وإرادتهم إلى مرجح آخر. فأما إرادة الله تعالى فإنها قديمة أزلية ، فلا جرم استغنت عن إرادة أخرى. فظهر الفرق بين البابين.
فإن قالوا : هب أنه ظهر الفرق من الوجه الذي ذكرتم. إلا أنا نلزمكم هذا الإلزام من وجه آخر. فنقول : إرادة الله تعالى تعلقت بإحداث العالم في الوقت المعين. فهل كان يمكن أن تتعلق بإحداث العالم في وقت آخر ، بدلا عن التعلق الأول ، أو يمكن (2)؟ فإن كان الأول لزم افتقاره إلى مرجح ، وإن كان الثاني لزم أن يكون موجبا لا مختارا. والجواب : إن هذا الإشكال
الأولى : أن الله تعالى تتناول إرادته الوقت والزمان ولو كان ذلك الخلق «قبل» خلق العالم الذي يرتبط بالوقت والزمان. وهذا يعني أن أفعال الله تعالى تقع في زمان أو أنها على الأقل ترتبط بآنات. والثاني : قياس أفعال الله على أفعال الإنسان وإرادته على إرادته واختياره على اختياره.
وفي كلا المسألتين عدم فهم للأزلية الإلهية وتشبيهها بالزمان المخلوق المبني على الأزمنة الثلاثة وأخضاعها للأبعاض أو للأجزاء وكأنها مجموع أجزاء لا متناه. كما أن فيها دور منطقي ظاهر.
صفحة ٤٤
الذي أوردتم علينا في الإرادة : وأورد عليكم في العلم. فإن لزم من هذا القدر كونه تعالى موجبا ، فهو أيضا وارد عليكم بسبب العلم.
وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «القادر يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» فنقول : هذا محال. ويدل عليه وجوه :
الأول : إن نسبة القادر إلى الضدين. إما أن تكونان على السوية ، أو لا على السوية. فإن كان على السوية ، امتنع حصول الرجحان. وإلا فحينئذ يكون ذلك الرجحان حاصلا ، لا لمؤثر. لأن الاستواء لا يوجب الرجحان البتة. وحصول الرجحان قول بحدوث الأثر ، لا لمؤثر. وذلك يوجب نفي الصانع وهو محال. وإن كانت نسبة القادر إلى أحد الضدين راجحة ، فهذا اعتراف بأن الرجحان لا لمرجح محال. وهو المطلوب.
الثاني : إنه لو حصل الرجحان لا لمرجح ، لكان حصول ذلك الرجحان على سبيل الاتفاق المحض. وقد دللنا على أن ذلك يوجب الجبر.
الثالث : إنا لما اختبرنا أنفسنا ، علمنا : أن عند حصول تعارض الدواعي يتعذر الفعل وذلك يدل على أن عند عدم الدواعي يمتنع صدور الفعل.
وأما السؤال الخامس : وهو الهارب من السبع ، إذا عن له طريقان.
فجوابه : من وجهين :
الأول : وهو أن الهارب من السبع ، ما لم يقصد الذهاب في أحد الطريقين ، فإنه لا يترجح ذهابه في أحد الطريقين ، على ذهابه في الآخر. وكذلك العطشان إذا خير بين شرب قدحين فإنه ما لم يقصد أخذ أحد القدحين فإنه لا تمتد يده إلى أحد القدحين دون الثاني حتى إنه لو لم يحصل في قلب الهارب من السبع ، قصد إلى سلوك أحد الطريقين بعينه ، فإنه يبقى هناك ولا يتحرك. وكذلك العطشان إذا لم يخص أحد القدحين بمد اليد وأخذه ، فإنه لا يتحرك ذلك القدح ، ولا يرتفع إلى فمه ، ولا ينصب بنفسه إلى حلقه. فثبت : أن القادر ما لم يخص أحد الطريقين بالقصد إليه ، وما لم يخص أحد القدحين بمد اليد إليه ، فإنه لا يترجح وهو على غيره. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يصير هذا الكلام حجة لنا في قولنا : «إن القادر لا يصدر عنه الفعل المعين ، إلا إذا دعاه الداعي إليه».
بقي أن يقال : فلم حصل في قلب هذا الهارب : القصد إلى هذا الطريق ، دون ذلك الطريق؟ ولم حصل في قلب هذا العطشان : إرادة أخذ القدح ، دون ذلك القدح ، إلا أن نقول هذا عين الدليل الذي تمسكنا به. وذلك لأنا بينا : أن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعية المخصوصة في قلبه. وحصول تلك الداعية بعينها في قلبه ، ليس بداعية أخرى من قبل العبد وإلا لزم التسلسل. بل لا بد وأن يكون من الله ، وحينئذ يلزم أن يكون العبد
صفحة ٤٥
غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك. فهذا الذي أوردتموه علينا ليس اعتراضا على كلامنا بل هو تأكيد ، وتقوية ، وتقرير له فظهر أن هذا السؤال الذي ذكروه : سؤال ساقط ، لا يصدر إلا عن قلة الفهم.
والوجه الثاني في الجواب : إنكم إما أن تقولوا : إن القادر على الضدين ، يترجح صدور أحد الضدين عنه من غير مرجح البتة. أو تقولوا : القادر يرجح أحد مقدوريه على الثاني من غير مرجح. والأول باطل. لأنا نجد من أنفسنا بالضرورة : أن الذي يمشي في السوق إلى موضع ، إذا وقع في قلبه : أن الرجوع عن ذلك الجانب إلى جانب آخر : مصلحة من وجه. فإنه متى تعادلت الداعيتان في قلبه ، ولم يترجح أحدهما على الآخر البتة ، فإن ذلك الإنسان يبقى في ذلك الموضع ، ولا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ويبقى على تلك الحالة إلى أن يقع في قلبه : أن أحد الجانبين أكثر مصلحة. وعند ظهور هذا الرجحان يترجح الذهاب إلى ذلك الجانب. فثبت : أن القول بأنه يصدر عنه أحد الضدين من غير أن يكون هو مرجحا لذلك الضد كلام تدفعه بديهة العقل. وأيضا : فهل يقبل العقل أن يقال : العطشان إذا خير بين شرب قدحين ، ثم أنه لا يمد يده إلى أحدهما ، ولا يخص أحدهما بالأخذ والرفع. بل لمجرد كونه قادرا يرتفع أحد القدحين إلى فمه ، وينصب ذلك الماء في حلقه؟ فهذا مما يعلم بطلانه ببديهة العقل (1).
وأما إن قيل : إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح. فنقول : هذا الكلام في نفسه متناقض. لأن هذا القائل سلم أن ذلك القادر ما لم يجرح أحد ذينك المقدورين على الآخر ، لم يحصل الرجحان وسلم أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادرا. فإذا كان لا يحصل الرجحان إلا عند حصول ذلك الترجيح ، وثبت أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادر ، فهذا اعتراف بأن الرجحان لا يحصل إلا عند المرجح. فقوله : «القادر يرجح» مشعر
صفحة ٤٦
بحصول المرجح الزائد. وقوله بعد ذلك : «إنه لا لمرجح» مشعر بنفي المرجح الزائد ، فكان قوله : «القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» جمع بين النقيضين. وهو كلام باطل.
وأما السؤال الخامس : وهو بقوله : «لا يجوز أن يقال : الفعل عند الداعي يصير أولى بالوقوع ، مع أنه لا ينتهي إلى الوقوف» فنقول : هذا باطل ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ما ذكرنا : أنه حال الاستواء كان ممنوع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا كان طرف المرجوح ممتنعا ، كان الراجح واجبا. لأنه لا خروج عن التقصير. قوله : «إن بقاءه على العدم ، لا يكون لأجل حصول الداعي إلى الترك ، بل لأجل أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان» قلنا : هذا محال. لأن الممكن هو الذي يكون دائرا بين الوجود وبين العدم. فكما أن وجوده يتعلل بوجود ما يقتضي الوجود ، فعدمه معلل بعدم ذلك المؤثر. فإما أن يقال إنه يستمر عدمه لنفسه. فذلك محال. لأنه يقتضي ، إما انقلاب الممكن واجبا ، وإما استغناء الممكن عن المؤثر. وكلاهما محال.
الحجة الثانية في بطلان هذه الأولوية : أن نقول : لا شك أن عند حصول القدرة مع الداعية المرجحة ، قد حصل قدر من الرجحان. فنقول : عند حصول ذلك القدر من الرجحان. إن امتنع ، العدم ، فقد حصل الوجود. وذلك هو المطلوب. وإن لم يمتنع العدم ، فلنفرض ذلك واقعا. فإن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. وعلى هذا التقدير يكون قد حصل عند حصول ذلك القدر من الرجحان : الوجود تارة ، والعدم أخرى ، بامتياز أحد الوقتين عن الآخر. بحصول الأثر في أحدهما ، وعدم حصوله في الثاني ، إن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فقد يرجح الممكن المتساوي لا عن مرجح. لأن نسبة ذلك القدر من الرجحان إلى الوقتين ، لما كان على السوية ، ولم يختص أحد الوقتين بمزية ، لأجله صار هو أولى بالوقوع ، فحينئذ يكون تمييز أحد الوقتين عن الثاني تمييزا لأحد طرفي الممكن المتساوي عن الآخر ، لا لمرجح. وإما أن يتوقف على انضمام قيد إليه ، فحينئذ يكون المرجح هو المجموع الحاصل من الأمر الذي كان حاصلا ، مع انضمام هذا القيد إليه. فيلزم أن يقال : إن مجرد الأمر الذي كان حاصلا قبل ذلك ، ما كان تمام المرجح. مع أنا فرضنا تمام المرجح. هذا خلف. وأيضا : يتحقق بقيد التقسيم عند حصول ذلك المجموع. فنقول : إن كان الفعل واجبا فهو المقصود. وإن لم يكن واجبا ، عاد التقسيم فيه. ولزم التسلسل. وهو محال.
الحجة الثالثة : إن عند حصول الداعية المرجحة للوجود. إن امتنع العدم ، فقد حصل الوجوب وهو المقصود. وإن لم يمتنع العدم ، فليفرض العدم حاصلا مع حصول ذلك القدر من رجحان الوجود. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يكن من فرض وقوعه محال. لكن هذا الفرض محال ، لأن حال حصول رجحان الوجود. لو حصل العدم يحصل في تلك الحالة رجحان العدم لأن عند حصول العدم ، يكون العدم راجحا ، لا محالة. وهذا يوجب أن يقال : إن عند حصول
صفحة ٤٧
رجحان الوجود ، حصل رجحان العدم. وذلك يقتضي كون وجوده راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على وجوده ، باعتبار واحد ، في حال واحد وإنه محال.
الحجة الرابعة : إنه إذا حصل ترجيح الوجود ، ثم فرضنا أن بقاء هذا الترجيح حصل العدم فحينئذ يكون ذلك العدم حاصلا ، لا بترجيحه ولا بإبقائه ، فإن كان ذلك الترجيح لمرجح آخر ، فيكون هذا اعترافا بأن ترجيح العبد لا أثر له في اقتضاء الرجحان ، وإنما المؤثر في الرجحان ترجيح غيره. فإن قلنا : بأن ذلك الترجيح وقع لا لمرجح أصلا ، كان هذا قولا بأن ذلك العدم إنما ترجح لمحض الاتفاق من غير مرجح أصلا. إلا أن القول بالاتفاق يوجب القول بالجبر على ما بيناه غير مرة ويوجب نفي الصانع ، ونفي جميع الآثار والمؤثرات.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن العبد إذا رجح جانب الوجود فهذا الترجيح إن بقي بحيث لا يعارض ترجيح مرجح آخر ، وقع الفعل. وإن عارضه ترجيح مرجح آخر ، فحينئذ خرج عن مضاد العقل؟ لأنا نقول : إذا بقي ذلك الترجيح ، خاليا عن العوارض. فإن وجب ترتب الأثر عليه ، فذاك هو المقصود. وإن لم يجب ترتب الأثر عليه ، فحينئذ أمكن أن يبقى ذلك القدر من الترجيح ، مع أنه لا يقع الوجود بل يقع العدم.
فحينئذ يلزم أن يكون ترتب الوجود عليه تارة ، وترتب العدم عليه أخرى ، لمحض الاتفاق. وذلك يوجب نفي التأثير والمؤثر. ويوجب القول أيضا بالجبر
الحجة الخامسة : الترك ترك. وهذا يفيد أن العلم الضروري حاصل ، بأن القادر إذا شاء الفعل ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بد وأن يفعل. وإذا شاء الترك ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بد وأن يترك. ولا نرى في الدنيا عاقلا يقول : إني إن شئت أن أفعل لم أفعل. وإن شئت أن لا أفعل فعلت. فثبت : أن هذا دليل قاطع على أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة : أن القادر متى أراد الفعل ، ولا مانع له عنه ، فإنه يفعله لا محالة. وإذا أراد الترك ، ولا مانع له عن الترك ، فإنه يترك. وثبت : أن القول بحصول الفعل عند إرادة الترك ، وبحصول الترك عند إرادة الفعل إذا كان لا مانع له عن المراد. أمر لا يجوزه عاقل أصلا.
فثبت بهذه الوجوه : أنه متى حصل الرجحان ، لزم القول بالوجوب. وذلك يبطل ما ذكروه من الاحتمال.
وبالله التوفيق
صفحة ٤٨
* البرهان الثاني على ما ذكرناه
** أن نقول :
لا شك أن كل موجود. فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو لا يكون. والقسم الأول هو الله سبحانه والقسم الثاني هو كل ما سواه. وهذا القسم تكون حقيقته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. أما كونها قابلة للعدم ، فلأن حقيقته إن لم تكن قابلة للعدم ، كان واجب الوجود لذاته. وكنا قد فرضنا : أنه ليس كذلك. هذا خلف.
وأما كونها قابلة للوجود. فلأنا فرضناها موجودة.
ولو لم تكن تلك الحقائق قابلة للوجود ، لما كانت موجودة. فثبت : أن كل ما سوى الله سبحانه ، فإن حقيقته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. وكل ما كان كذلك ، فهو مفتقر إلى المؤثر. فكل ممكن ، فهو مفتقر إلى المؤثر. والشيء الذي يفتقر إليه كل الممكنات لا يكون ممكنا. وإلا لكان ذلك الممكن مفتقرا إلى نفسه فثبت : أن جميع الممكنات مستندة في سلسلة الحاجة والافتقار إلى واجب الوجود.
ولا شك أن أفعال العباد ، قسم من أقسام الممكنات ، فوجب القطع بانتهائها في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود لذاته. وهو المطلوب.
فإن قيل : عندنا : أن فعل العبد واقع بالقدرة القائمة بالعبد ، وبالداعية القائمة به. وتلك القدرة وتلك الداعية ، إنما حدثت بإيجاد واجب الوجود. فكان فعل العبد مستندا إلى واجب الوجود بهذا الطريق. إلا أن إسناده إلى واجب الوجود ، بهذا الطريق ، لا يمنع من وقوعه بقدرة العبد. فثبت : أن الدليل الذي ذكرتم لا يفيد مقصودكم من هذه المسألة.
الجواب : نحن ندعي أن عند فقدان القدرة والداعي ، يمتنع حصول الفعل. وعند حصولهما يجب الفعل. ومتى كان الأمر كذلك ، لم يكن العبد مستقلا بالفعل. أما أنه لا بد من القدرة ، فلأن العاجز عن الفعل ، لا يفعل. وأما أنه لا بد من الداعية ، فلما بينا في البرهان الأول : أن القادر إذا خلا عن الداعية ، امتنع صدور الفعل عنه وأما عند مجموع القدرة والداعي ، يجب الفعل. فلأن عند حصول هذا المجموع ، يحصل رجحان جانب الفعل. ومتى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. للدلائل الجمة التي قررناها في البرهان الأول.
فثبت : أن عند فقدان مجموع القدرة مع الداعي ، يمتنع الفعل. وثبت : أن عند حصولهما يجب الفعل. فإذا فعل الله ذلك المجموع ، وجب الفعل وإذا لم يفعل ذلك المجموع ، امتنع الفعل. فحينئذ لا يكون العبد مستقلا بالتكوين والإيجاد.
وبالله التوفيق
صفحة ٤٩