والكذب هو الخبر الذي لا يطابق. ولما كان هذان الوصفان متقابلين بالسلب والإيجاب ، كان أحد ما لا محالة صفة ثابتة موجودة. وإذا كان كذلك ، وجب أن يحصل له موصوف معين. وحينئذ يحصل المطلوب.
ولا ينافي مذهبنا أن الصدقية والكذبية وصفان سلبيان ، لأن الوصف السلبي لا بد له أيضا من محل معين. لأن هذا السلب عبارة عن عدم شيء عن شيء من شأنه أن يكون حاصلا له فما لم يحصل إمكان حصول ذلك الوصف لذلك الموصوف ، امتنع أن يحكم الذهن بزواله عنه. فثبت : أنه وإن كان سلبيا إلا أنه لا بد له من محل معين.
الثاني : وهو إنه إذا كان هذا الطرف بعينه خاليا عن الصدقية والكذبية ، كان مجرد قولنا : «زيد غدا يمشي» : خاليا عن كونه كاذبا ، وخاليا عن كونه صادقا. فتكون هذه القضية بعينها خالية عن النقيضين معا. وذلك محال ، وكذا القول في الطرف الآخر. لا يقال : إنه وإن خلا عن الصدقية بعينها ، والكذبية بعينها ، لكنه ما خلا عن كونه. إما صدقا وإما كذبا. لأنا نقول : هذا الإيهام إنما يقع في الأذهان. أما في الأعيان. فالحاصل إما وصف الصدقية ، وإما وصف الكذبية. فإذا كانت القضية خالية عنهما معا ، لزم خلوهما عن النقيضين. وهو محال.
واعلم : أن هذا البرهان قد دل على أن جميع الحوادث المستقبلة ، مترتبة في أنفسها ترتبا ، يمتنع على المتقدم أن يصير متأخرا ، أو على المتأخر أن يصير متقدما. وذلك يبطل الاعتزال بالكلية. ثم إنا إذا أردنا أن نبين أن ذلك الوجوب إنما حصل بإيجاب الله تعالى وبتقديره. قلنا : إن ذلك الموجب يمتنع أن يكون بالذات. لما ثبت : أن الممكن لذاته ، لا يكون واجبا لذاته. بل لا بد وأن يكون واجبا بالغير. وذلك الغير ليس هو العبد. لأن هذا الوجوب حاصل قبل قصد العبد إلى إيجاده ، بل حاصل قبل وجود العبد. وكيف. وهذا الوجوب الذي قررناه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد. ولا بد وأن يكون المقتضى لذلك الوجوب أمرا كان مستمرا من الأزل ، وما ذاك إلا الله سبحانه. فثبت : أن هذا الوجوب إنما حصل في هذه الحوادث المستقبلة ، بتقدير الله وبإيجاده إما ابتداء وإما بواسطة. وذلك هو المطلوب.
وهذا برهان شريف ، لا بد من التأمل فيه ، ليحصل الوقوف عليه ، كما ينبغي.
وبالله التوفيق
* البرهان السابع
أفعال العباد معلومة الوقوع لله تعالى. أو معلومة اللاوقوع. وكل ما هو معلوم الوقوع ، كان واجب الوقوع. وكل ما هو معلوم اللاوقوع ، كان واجب اللاوقوع. وكل ذلك قد تقدم تقريره.
فنقول : ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الوجوب إما بسبب : أن الله رجح
صفحة ٦٩