نقول : إنه لا بد مع حصول هذه القضية الشرطية ، أنه تعالى كان عالما في الأزل بأنه يؤمن ، أو كان عالما بأنه لا يؤمن.
فثبت : أن أحد هذين العلمين حاصل. وإذا كان ذلك حاصلا ، امتنع أن يقع نقيض ذلك المعلوم ، وإلا لزم أن يصير علمه جهلا وهذا محال. وأيضا : إن ذلك العلم ، لما كان علما في الأزل ثم قدرنا أن المعلوم لم يقع في الأزل ، فحينئذ ينقلب ذلك العلم جهلا في الأزل. وهذا مفضي إلى وقوع التبديل فيما حصل في الزمان الماضي ، وكل ذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن هذه الأجوبة في غاية الضعف ، وأن البرهان الذي عولنا عليه ، مما لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه.
وبالله التوفيق
* البرهان الخامس
لو لم يكن الله تعالى موجدا لأفعال العباد ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها. إلا أن خصومنا يوافقوا على أنه عالم بها قبل وقوعها. فيلزم القطع بأنه تعالى موجدا لها ، أو موجدا لما يكون موجبا لها. وهو المطلوب.
أما بيان أنه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها : فقد ذكرنا أنه متفق عليه بيننا وبين خصومنا. إنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية. وهو قولنا : لو لم يكن موجدا لها ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها.
والذي يدل على صحة هذه المقدمة : إن ماهيات أفعال العباد قابلة للمعدوم ، وقابلة للموجود ، قبولا على التساوي ، من غير رجحان أصلا البتة. فلو فرضنا أنه لا يرجح أطراف وجود هذه الأفعال على طرف عدمها ، إلا قدرة العبد. ثم إن قدرة العبد غير موجبة لذلك ، بل هي صالحة للفعل والترك ولم يكن أيضا هذا الرجحان. لا ابتداء ولا بواسطة. وإلا فالجبر لازم. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت أفعال العباد في أنفسها قابلة للعدم ، وقابلة للوجود على السوية. ولم يكن هناك البتة ما يقتضي رجحان وجودها على عدمها. فلو اعتقد معتقد فيها : كونها راجحة الوجود على العدم ، كان ذلك الاعتقاد : اعتقادا غير مطابق. فكان جهلا. والجهل على الله محال. فثبت : أنه تعالى لو لم تتعلق قدرته في الأزل بإيقاع تلك الأفعال في لا يزال ، ولم يتعلق أيضا بإيقاع ما يوجب وقوع تلك الأفعال في لا يزال ، كان اعتقاد أنها ستقع في لا يزال ، اعتقادا غير مطابق للمعتقد ، وإنه جهل. وهو على الله محال. وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إن قدرته تعالى في الأزل ، تعلقت بإيقاع هذه الأفعال في لا يزال ، أو بإيقاع ما يوجب هذه الأفعال في لا يزال ، حتى يكون علمه بأنها ستقع في لا يزال : علما ، ولا يكون جهلا.
فإنه قيل : إنه تعالى يعلم في الأزل أن فعل العبد سيترجح وجوده على عدمه ، في الوقت الفلاني ، وفي ذلك الوقت يكون المقتضى لترجح وجوده على عدمه حاصلا. فأما لما فرضنا أن
صفحة ٦٦