أخلاقه. فإذا انضمت تلك الأسباب الخارجية الاتفاقية ، إلى هذه الأسباب الستة التي ذكرناها ، ظهر حينئذ أن القول بالجبر لازم. ومثاله : إذا اتفق أن نفس الإنسان وقعت في أصل خلقتها : نفسا شديدة الاستعداد للغضب. ثم اتفق أن كان مزاج بدنه شديد الاستعداد للصفراء ثم اتفق أن كانت أعضاؤه : مواتية للقهر والاستعلاء. ثم اتفق أن كان قد نشأ فيما بين أقوام يستحسنون إمضاء الغضب ويستحقون ترك تلك الأعمال. ثم اتفق أن صار بقاء دولته ورئاسته : معلقا بإمضاء أعمال الغضب.
ثم إن اتفق أن رأى شيئا ، لا يلائم طبعه. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام يعينونه على إمضاء الغضب. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام ، لو ترك إمضاء ذلك الغضب ، لكانوا يذمونه ويلومونه عليه. فعند اجتماع هذه الأمور بأسرها ، صار ذلك الإنسان بحيث لا يمكنه ترك تلك الأفعال الغضبية ، وأما إن اتفقت أسباب مضادة للأسباب التي ذكرناها ، فإنه يكون بحيث لا يمكنه الإتيان بالأفعال الغضبية وإن اختلط البعض بالبعض ، وتعارضت وتقاومت فالعبرة بالطرف الراجح فثبت بما ذكرنا : أن الجبر لازم على جميع التقديرات.
فإن قالوا : الإنسان مع حصول جميع الأمور التي ذكرتم ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية فعلمنا : أن صدور تلك الأفعال عنه على سبيل الاختيار ، لا على سبيل الاضطرار.
فنقول : هذا هو الغلط الأخير . وعند ظهور الجواب عنه ، لا يبقى البتة فيما ذكرناه إشكال. فنقول : ما الذي تعني بقولك : «إن الإنسان مع هذه الأمور ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية»؟ إن عنيت به أنه يمكن أن يعرض له في مقابلة تلك الخواطر : خاطر آخر. وهو أن الأولى ترك هذه الأفعال الغضبية. فنحن نسلم : أن عند ظهور هذا الخاطر ، قد يترك تلك الأفعال الغضبية. إلا أن على هذا التقدير ، صارت تلك الدواعي التي ذكرناها ، معارضة بهذه الداعية. فصارت لتلك الدواعي التي ذكرناها ، عند حصول هذا المعارض : فائدة غير جازمة. ونحن بينا : أن الفعل إنما يجب عند حصول الداعية الجازمة. فأما عند فتور الداعية ، فالفعل ممتنع. فثبت : أن ما ذكرتموه يقوي كلامنا ، ولا يوجب ضعفه. وأن أردتم أن تلك الدواعي حال بقائها على قوتها وسلامتها عن المعارض ، يمكن أن لا توجد الفعل. فهذا ممنوع. وكيف يمكن أن يقال : الإنسان حال اجتماع تلك الأسباب الموجبة للأفعال الغضبية ، وبراءتها عن الدواعي المعارضة لها ، فإنه يمكن أن لا يأتي بتلك الأفعال؟.
فالحاصل : أنكم إن أردتم أن سلامة أعضائه حال انضمام دواعي الترك إليها ، بدلا عن دواعي الفعل. لأمكنه ذلك. فهذا مسلم. ولا يقدح في قولنا. وإن أردتم بها أن سلامة أعضائه حال انضمام دواعي الفعل إليها ، وكانت تلك الدواعي خالية عن المعارض ، فإن مع التقدير يمكنه الترك. فهذا ممنوع. والعلم بامتناعه ضروري. ولما عرفت الكلام في هذا المثال ، أمكنك
صفحة ٥٦