غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك. فهذا الذي أوردتموه علينا ليس اعتراضا على كلامنا بل هو تأكيد ، وتقوية ، وتقرير له فظهر أن هذا السؤال الذي ذكروه : سؤال ساقط ، لا يصدر إلا عن قلة الفهم.
والوجه الثاني في الجواب : إنكم إما أن تقولوا : إن القادر على الضدين ، يترجح صدور أحد الضدين عنه من غير مرجح البتة. أو تقولوا : القادر يرجح أحد مقدوريه على الثاني من غير مرجح. والأول باطل. لأنا نجد من أنفسنا بالضرورة : أن الذي يمشي في السوق إلى موضع ، إذا وقع في قلبه : أن الرجوع عن ذلك الجانب إلى جانب آخر : مصلحة من وجه. فإنه متى تعادلت الداعيتان في قلبه ، ولم يترجح أحدهما على الآخر البتة ، فإن ذلك الإنسان يبقى في ذلك الموضع ، ولا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ويبقى على تلك الحالة إلى أن يقع في قلبه : أن أحد الجانبين أكثر مصلحة. وعند ظهور هذا الرجحان يترجح الذهاب إلى ذلك الجانب. فثبت : أن القول بأنه يصدر عنه أحد الضدين من غير أن يكون هو مرجحا لذلك الضد كلام تدفعه بديهة العقل. وأيضا : فهل يقبل العقل أن يقال : العطشان إذا خير بين شرب قدحين ، ثم أنه لا يمد يده إلى أحدهما ، ولا يخص أحدهما بالأخذ والرفع. بل لمجرد كونه قادرا يرتفع أحد القدحين إلى فمه ، وينصب ذلك الماء في حلقه؟ فهذا مما يعلم بطلانه ببديهة العقل (1).
وأما إن قيل : إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح. فنقول : هذا الكلام في نفسه متناقض. لأن هذا القائل سلم أن ذلك القادر ما لم يجرح أحد ذينك المقدورين على الآخر ، لم يحصل الرجحان وسلم أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادرا. فإذا كان لا يحصل الرجحان إلا عند حصول ذلك الترجيح ، وثبت أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادر ، فهذا اعتراف بأن الرجحان لا يحصل إلا عند المرجح. فقوله : «القادر يرجح» مشعر
صفحة ٤٦