بالإمكان على المؤثر. وحينئذ يلزم نفي الصانع بالكلية. سواء كان موجبا أو مختارا. فثبت أن القول الحق : إما القول باحتياج جميع الممكنات إلى المؤثر ، وحينئذ يلزم الجبر. أو القول باستغناء جميع الممكنات عن المؤثر ، وحينئذ يلزم نفي المؤثرات أصلا. فأما القول بأن الإمكان محوج إلى المؤثر في موضع دون موضع ، كما هو قول المعتزلة : فهو قول متناقض باطل. فثبت : أنه إن لزم على القول بالجبر : إثبات أن مؤثر العالم موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزم على القول بالقدر أن يكون رجحانا وجود العالم على عدمه لا لمؤثر أصلا والأول وإن كان قبيحا فلا شك أن هذا الأخير أقبح منه ، وأفحش بكثير على أنا سنذكر الفرق اليقيني بين الشاهد والغائب إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث : إن كثيرا من المحققين قالوا : إن مسألة الجبر والقدر ، ليست مسألة مستقلة بنفسها ، بل هي بعينها مسألة إثبات الصانع. وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع تعالى ، هو أن الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح. فنقول : إن صحت هذه القضية ، وجب الحكم بافتقار كل الممكنات إلى المؤثر والمرجح. وحينئذ نقول : القدرة على الفعل ، وإن لم تكن صالحة للترك ، فالجبر لازم. وإن كانت صالحة للترك ، وجب أن لا يحصل رجحان الفاعلية على التاركية ، إلا لمرجح. وذلك أيضا يوجب الجبر. فيثبت : أنه لو صلح قولنا : الممكن لا بد له من مرجح ، فالقول بالجبر لازم. وإن فسدت هذه المقدمة ، فحينئذ يتعذر علينا الاستدلال بإمكان الممكنات على إثبات الصانع. فثبت : إما القول بالجبر ، وإما القول بنفي الصانع.
فأما الحكم بأن الإمكان محوج في بعض الصور إلى المرجح ، وفي صور أخرى غير محوج إلى المؤثر كما هو قول المعتزلة فهو قول فاسد. ومثال هذه المسألة : سلسلة مركبة من خلق متشابهة في الخلقة ، والصورة ، والقوة ، والضعف. فإذا كان التقدير ما ذكرناه. وامتنع مع هذا التقدير أن يحكم على بعض تلك الخلق بالقوة ، وعلى بعضها بالضعف ، فكذا هاهنا : ما سوى الواحد الأحد ، الحق ، الواجب لذاته : لا بد وأن يكون ممكنا لذاته. وكل الممكنات مشاركة في طبيعة الإمكان. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات ، وإن لم يكن محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات. فأما الحكم على بعضها بالاستغناء مع اشتراك الكل في ماهية الإمكان ، فإنه محض التحكم الباطل. وبالله التوفيق.
فهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.
واعلم : أنه كان يجب علينا أن نبتدئ في الاستدلال بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسوله ثم بالدلائل العقلية. تقديما للنص. إلا أنا لما تأملنا ، وجدنا الاستدلال بتلك النصوص لا يظهر كل الظهور ، إلا بعد الإحاطة بتلك العقليات. فلهذا السبب قدمنا الدلائل العقلية .
وبالله التوفيق
صفحة ٣٧