النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
تصانيف
تتابعت أيامها الحسان،
شبيهة بأيام البرامكة.
وقد حيرت القصيدة شراح الديوان
13
واختلفت اجتهاداتهم في تفسير المقصود بالعشرين عاما التي أمضاها أو بالأحرى تركها تمضي من عمره، هل كانت الأعوام التي ساد فيها السلام منذ انتهاء حرب السنوات السبع وحتى اندلاع نيران الثورة الفرنسية، مع أن تلك الفترة الزمنية كانت أطول من ذلك الرقم بكثير؟ أم هي الفترة التي توثقت فيها عرى الصداقة بينه وبين الشاعر شيلر (1759-1805م) واستمرت بعد رحيل هذا الشاعر الكبير حتى عام 1814م؟ أم هي أخيرا تلك الفترة (من 1786-1806م) التي تقع بين رحلته إلى إيطاليا ومعركة يينا المشهورة التي دارت رحاها بين نابليون والجيوش المتحالفة ضده، وكانت فترة ثرية بالسعادة في حياته الشخصية والنضج الفني في أعماله الأدبية والازدهار الثقافي في حياته الشخصية في إمارة فيمار الصغيرة - التي شبهها بالازدهار الحضاري والعلمي على عهد الرشيد والبرامكة - حتى هبت عاصفة نابليون على أوروبا مثلما وقعت محنة البرامكة في بغداد فاحترق الربيع الرائع في الحالين؟
ولكن هذه التفسيرات كلها غير مقنعة ولا صحيحة لأسباب تاريخية وموضوعية عديدة يمكن أن يستنتجها القارئ بنفسه، وقد قدمت السيدة «مومزن» حلا للغز العشرين عاما المذكورة في البيت الأول، واقترحت فيه أن يكون جوته قد كتب الأبيات الأربعة وفي ذهنه حكايات محددة من حكايات ألف ليلة وليلة (التي عرفت جمهور قرائها الغربيين تعريفا كافيا بالبرامكة وروت فيها شهرزاد عددا كبيرا من الحكايات عن جعفر وزير الرشيد وأمين سره ورفيق جولاته، لا سيما في ترجمة جالان وشروحه التي أشاد فيها بنبل البرامكة وسماحتهم ونزاهة حكمهم، وبوجه خاص في تعليقه على الحكاية رقم 91 في ترتيب جالان، وهي حكاية شاك باك والبرمكي).
والظاهر أن شاعر الديوان الشرقي قد أحس من هذه الحكاية بوجود تناظر بينها وبين قصة حياته وقدره الذي ساقه إلى العمل مع أمير فيمار والحياة في ظله. وقد كان من رأيه - كما روى ذلك على طريقة شهرزاد في فقرات طويلة من شعر وحقيقة - أن حياته العجيبة كانت نوعا من الحكاية الخرافية التي تداخل فيها الواقع مع مصادقات القدر التي تلاعبت بمصيره تلاعب القوى السحرية والشيطانية بأبطال الحكايات في ألف ليلة وليلة. كذلك بدت له السنوات العشر الأولى التي قضاها في فيمار في صحبة الأمير أشبه بحكاية خرافية، وذلك كما قال قبل وفاته بقليل للمستشار فون مولر.
والمهم أنه كتب الأبيات التي قدمناها وأطياف ذكريات شبابه الذي يشبه الحكاية الخرافية العجيبة تحوم حوله، والأهم من ذلك أن الحكاية السالفة الذكر تروي قصة بطلها شاك باك الذي ساقه القدر لدخول قصر البرمكي القوي - كما دخل هو في حياة البرمكي كارل أوجست! - فكسب عطفه إلى الحد الذي جعله يصفه بأنه أعز صديق له وأقرب الناس إلى قلبه، بل عهد إليه بإدارة أملاكه وتدبير شئون خدمه وخلع عليه ثوب رضاه، والأغرب من ذلك أن الشاكي الباكي قد تمتع بهذه الحظوة عشرين سنة كاملة تنعم فيها بكرم البرمكي ونبله وحبه.
14
فإذا رجعنا إلى الأبيات السابقة وقرأناها على ضوء الحكاية التي قدمنا فكرة سريعة عنها، وجدنا نوعا من التشابه بين البطل الشاكي (الذي أغدق عليه البرمكي عطاياه وقلده أرفع المناصب في الدولة بعد اجتيازه للامتحان الذي أوقعه فيه، وهو دعوته له على وليمة وهمية ختمها بخمر وهمية فصبر المسكين الجائع الظامئ على شطحته الخيالية وشخص الأكل والشرب كأنهما حقيقة، وبذلك أثبت نجاحه في الامتحان وصلاحيته للتمتع بالحظوة والجاه!) وبين جوته الذي أكرمه أمير فيمار وصادقه ووثق في مواهبه الفائقة وأشركه - أيام شبابهما الأول! - في نزوات مجونه وطيشه ونزقه التي طالما تحملها الشاعر على مضض، كما كلفه بعد ذلك بتسيير بعض أمور الدولة وإدارة مسرح فيمار والإشراف عليه، فنهض بالمسئوليات المرهقة بحكمة وحزم ونشاط لا نظير له. كل ذلك قد جعل شاعر الديوان يقول عن سنوات شبابه التي قضاها في ظل صديقه وراعيه إنها كانت «جميلة كعهد البرامكة.»
صفحة غير معروفة