وهل هناك اعتراف أعظم من تلك الدعوة التي جاءت إليه عن طريق ضابط دخل إلى مكتبه بغير إذن، ليقول له في محاولة فجة للتلطف: سيادتك مطلوب. - أنا؟ - نعم. - من الذي يطلبني؟ - ستعرف حين تذهب. - أذهب؟ - سأذهب معك. - إلى أين؟ - ستعرف. - لماذا؟ - ستعرف ذلك أيضا. - أهو قبض؟ - لا، المسألة لن تصل لهذا. - لقد وصلت فعلا. - إنها مجرد دعوة. - هل أستطيع الاعتذار؟ - طبعا لا. - فهي أمر بالقبض، وليست دعوة. - سيادتك تستطيع أن تسميها كما تشاء. - ألا أخبر البيت؟ - لا داعي. - مجرد مشورة أم هو أمر ألا أتصل؟ - لا داعي، والسلام. - ومن أين يأتي السلام؟ - تفضل. - حاضر.
الفصل الثالث والعشرون
حين وقعت هزيمة 5 يونيو، كان باسل وشهاب في باريس، وشاهدا الفضيحة العالمية على شاشات التليفزيون، وراح كل منهما ينظر إلى الآخر تحجب صورة كل منهما عن الآخر دموع غزار لا تريد أن تنضب، ولم يكن عجيبا أن يفكر كل منهما أنهما كأنما يواجهان حادثة أمهما مرة أخرى، ولكنهما في هذه المرة أحسا أن العالم أجمع يعرف السر الذي ينطويان عليه، بل أحسا أن التاريخ أيضا أصبح يعرف هذا السر الذي لم يصبح سرا.
لم تصبح علاقة أمهما الآثمة حادثة يخفيها جدار بيت، وإنما أصبحت مثار اهتمام العالم أجمع؛ التليفزيون والسينما والإذاعة والصحف، لا حديث في العالم لها إلا عن أمهما. وتتكسر النصال على النصال!
لقد كانا يغفران للحكم المصري كل ما يسمعانه من قهر الآدمية، وقتل الأبرياء، وخنق الكلمات، ومحق الرأي، وهدم الإنسان، في سبيل أن يكون هناك جيش قوي يواجه العدو.
ثم، وفي ساعات، تصبح مصر والعروبة جميعا أهزوءة التاريخ على يد الجيش المصري.
قلبانا عليك يا مصر! عرفا أن أمهما أصيبت بالسرطان، وأنها تنتظر الموت في أية لحظة. - نذهب؟ - أتريد أن نذهب؟ - أمام الناس؟ - وأمام نفسينا كيف سنراها؟ - وأبي؟ - هل نستطيع أن نصنع له شيئا؟ - الكثير. - سيتجهم. - ولكن قلبه سيفرح حين يرانا. - هل رأيت قلبه؟ - لا لم أره. - كل الأبناء رأوا قلوب آبائهم في ابتسامة، في فرحة لقاء، في اهتمام بمرض، في سعادة بنجاح. هل رأيت قلب أبيك؟ - ولكن له قلبا. - كيف نعرف؟ - لقد ستر على أمنا. - يخشى على كبريائه. - كان يستطيع أن يطلقها، ولا يبدي الأسباب. - لقد تعود أن تكون بجانبه. - وهي لغيره؟! - إنه مشغول دائما بنفسه. - لعله خاف أن يذكرنا أحد بسوء. - تحاول أن تجعل لنا أهمية عنده. - إننا جزء منه. - شهادة الميلاد فقط. - إنه يخفي مشاعره. - كان يستطيع أن يجعل مشاعره تخونه مرة واحدة، ما دام استطاع أن يجعل زوجته تخونه دائما. - إننا لا نستطيع أن نعرف ما بداخله. - ما دمت لم أر له ظاهرا، كيف أعرف داخله؟ - هو الآن جازع. - مرض زوجته قاتل. - مصر كلها تعاني نفس المرض. - فهو يعاني مرض مصر، ومرض زوجته. - أتريد أن تسافر؟ - لا أعرف. - فكر. - أريد أن أرى أمي، وأريد أن أرى مصر، ولا أريد أن أرى أمي، ولا أريد أن أرى مصر. - لم يبق لنا إلا نفسانا. - أخشى أن نقتل أبانا بما نفعله. - وأنا أخشى أن نقتله، إذا رآنا ونحن على هذه الحال. - لا نذهب إذن. - لعلنا نكون أشفق عليه، لو لم نذهب! - ومصر؟ - سنكون أشفق بنفسينا إذا لم نذهب. - لعل مصر تحتاج إلينا. - إنما تحتاج للمنافقين والدجالين والهتافين والهازلين. - لعلها الآن تحتاج للجادين. - لو كانت ما سمت الهزيمة نكسة، وكأنها إنفلونزا. - إذن؟ - نبقى، فما بقي لنا إلا أنفسنا. - معك حق نبقى، فما بقي لنا إلا أنفسنا.
الفصل الرابع والعشرون
استطاع وجدي أن يغري زوجته بالإكثار من الحفلات؛ يدعو لها كل صاحب سلطة. وهذه الحفلات لا تكلف المأكل والمشرب فقط، وما هو بقليل، وإنما تكلف معها ملابس لكل حفل. وقد استطاعت ناهد في غمرة هذه الحفلات أن تبيع أملاكها جميعا، وراحت تشتري بأثمانها مجوهرات لا يعرف زوجها عنها شيئا، ودبرت ناهد أمرها أحسن تدبير، وراحت تفحص الأشخاص الذي تعرفت بهم في حفلاتها، واختارت أخطرهم شأنا، وساعدها الحظ فكان أيضا أشدهم غباء، فألقت عليه شباكا قناصة لا تفلت صيدا.
وكان من الطبيعي أن يظن نفسه ساحر نساء، وهادم قلاع، وفاتح حصون، وما كان ذا فكر ليمعن به النظر، وليتبين أن التي يتوهم أنه سحرها؛ إنما هي التي سحرته، وأن القلاع التي هدمها كانت بلا جدران إلا بابا على الصحراء، فهي مفتحة من جميع جوانبها، ومن ثم فلا حصون هناك لتفتح.
صفحة غير معروفة