الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
صفحة غير معروفة
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
صفحة غير معروفة
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
صفحة غير معروفة
نقوش من ذهب ونحاس
نقوش من ذهب ونحاس
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
هي قصة ذات عروق بعيدة في أغوار الزمن، لست بطلا من أبطالها ولكنني أحب أن أحكيها. كيف أحكيها وأنا لست واحدا من أبطالها؟ هل يهمك كثيرا أن أكون من أبطالها ما دمت سأرويها لك؟ لن أقول لك إنها من واقع الحياة فلا أحب أن أكون سخيفا إلى هذا الحد، ولكنني في الواقع لست أدري إن كنت أنت تحب الرواية من واقع الحياة أم من واقع الخيال. يقول الروائيون: إن أهم شيء في العمل الفني أن يكون مقنعا، ولا يهم من بعد المصدر الذي يصدر عنه، ولكن الحياة حين تؤلف لا تحاول أن تقنع، إنها تؤلف وتنفذ مؤلفها على الحياة، وعلى صلات الناس بعضهم ببعض، وعلى بدايات حياتهم وعلى نهايتها، ولا يعنيها في شيء أن تكون مقنعة أو غير مقنعة. والناس؟ الناس جميعا في كل مكان شهود في كل قصة وأبطال في كل قصة، وقد تلهيهم الأحداث عن محاولة الفهم، وقد يفكرون، والذين يفكرون هم الأغبياء؛ لأنهم لن يبلغوا من تفكيرهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم من طمأنينة، بل هم سيزدادون حيرة وقلقا، بل قد يزدادون سخطا وتبرما، ولا تعنى الحياة في كثير أو قليل بحيرتهم أو قلقهم، أو سخطهم أو تبرمهم.
تجرب فيهم وما يعلمون
كتجربة الطب في الأرنب
ولكن هل تجرب فيهم الحياة حقيقة كتجربة الطب؟ إن الطب حين يجرب يحاول أن يصل إلى نتيجة معينة من تجربته، فإلى أي نتيجة تحاول أن تصل الحياة؟ يبدو أنني سأصبح غبيا كهؤلاء الذين يفكرون! عادة ساذجة عادة التفكير هذه، وكلما ازداد التفكير عمقا يكون صاحبه أكثر سذاجة.
فالأذكياء وحدهم هم الذين يعرفون ألا أمل أن يصلوا بتفكيرهم إلى نتيجة مؤكدة واضحة المعالم، ولكن هناك أنواع من التفكير لا بأس بها؛ منها ذلك التفكير الجاد الخطير الذي كان يستغرق راشد بك برهان، وهو جالس بمكتبه الضخم في سرايه الواقعة بشارع خيرت. كان راشد بك يريد أن يسافر إلى أوروبا، وهو يبحث عن مواعيد السفن المسافرة، وهو حريص على أن يسافر على أول باخرة؛ فقد تشوق إلى باريس وإلى أصدقائه هناك. ولست في حاجة إلى ذكاء لتعلم أن هؤلاء الأصدقاء إنما هن صديقات، ولكن الحشمة تحتم أن نكتبها أصدقاء، إنهن كثيرات هؤلاء الأصدقاء. كان اليوم هو السبت، وقد وجد راشد بك سفينة في طريقه إلى مرسيليا في يوم السبت الذي يليه، وكان لا بد له أن يبلغ السيدة والدته عن هذا السفر؛ حتى تشرف على تجهيز ملابسه، وترى ما الذي يحتاج إليه قبل أن يسافر، وكان لا بد له أيضا أن يستقل القطار إلى التفتيش ليلقي نظرة نهائية على حسابات الزراعة، ويأخذ ما حصله حمزة أفندي البلاشوني من إيراد الأرض. وقام راشد بك إلى والدته، وراح يصعد السلم إلى الطابق الأعلى في هدوء وفي تفكير عميق. كان السلم يفضي إلى بهو عريض شامخ الأعمدة عميق الفخامة، تقوم فيه الأرائك الضخمة عليها القطيفة المزركشة القادمة من جنوا، وكانت والدته قد أنشأت لنفسها في هذا الطابق غرفة للجلوس تستقبل فيها صديقاتها، وكانت أمه جلفدان هانم أفندي تحب أن تجلس في هذه الغرفة، حتى وإن لم يكن لديها صديقات تستقبلهن. وهكذا لم يكن راشد بك محتاجا أن يتخلى عما يفكر فيه ليتجه إلى الغرفة، إنما هو يقصد إليها دون ومضة من تفكير، إنه يعلم أنه سيفتح الباب وسيراها في كرسيها الكبير المجاور للمرآة التي تواجه الباب، يعلم ذلك ولم يفكر فيه. لقد كان مشغولا بما يحتاج من نقود في باريس، وبما سيجده عند حمزة أفندي البلاشوني. ويفتح الباب، أمه بجانب المرآة، والمرآة ما زالت تواجه الباب. ولكن، ما هذا الجمال الذي يقف بجانب صورتي في المرآة؟ من هذه؟ كيف لم أرها قبل اليوم؟ وكيف كان يمكن أن أراها؟ طبعا سترفع اليشمك إلى وجهها، لقد بقيت العينان، تكفيني العينان، جمال الدنيا كلها في هاتين العينين! لم يحس راشد بك بالأعين الأخرى التي تعلقت به، ولا أحس بعيني أمه التي أدهشها وقوفه بعد تأكده من وجود حريم معها، لم يحس شيئا من هذا، وإنما ظل رانيا إلى العينين اللتين تطلان من فوق اليشمك، وطالت به الوقفة حتى اضطرت الأم آخر الأمر أن تقول: فيه حاجة راشد بك؟
صفحة غير معروفة
وانتبه راشد بك فجأة، لينحني قائلا وهو يقفل الباب: عفوا هانم أفندي.
ويعود إلى مكتبه ويجد جدول البواخر ينتظره، فيطويه في هدوء ويضعه في الدرج الأسفل من مكتبه، ويمد رجليه على المكتب، ويزيح طربوشه إلى الوراء ويستغرق مفكرا في لا شيء. •••
حين يسمع أقدام السيدات تعبر فناء السراي، يقف إلى الشباك وينظر إليهن وهن يركبن العربة التي تجرها أربعة خيول مطهمة، ولم يلتفت إلى العربة ولا إلى الخيول وإنما تثبت نظره على التي تسير خلفهن جميعا، فلم يشك لحظة أنها أصغرهن، وأنه لا بد لها أن تكون خلفهن جميعا، إن قوامها أكثر جمالا من عينيها. أكان لا بد أن يكون لهذه السراي سلم للحريم وآخر للرجال؟ أكنت أريد أن أراها عن قرب؟ وماذا ينفع القرب؟ إن جمالها لا يحتاج إلى كثير من إنعام النظر، إنها جميلة، أو هي فاتنة لا شك في ذلك، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أخطبها؟ هكذا مرة واحدة؟ وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟ - هانم أفندي. - إنها ابنة عثمان باشا فكري. - لا يفوتك شيء. - وقفتك أمام الباب كانت طويلة. - عيناها. - نعم جميلة. - أنت موافقة؟ - لا مانع.
سكت راشد بك ولم يسأل أمه عن شيء. وعم يسأل؟ ابنة عثمان باشا فكري، الأمر إذن لا يحتاج إلى سؤال. أما ثروته فمعروفة، كانت ألفي فدان بقي منها بضعة فدادين بعد البذخ الذي كان يعيش فيه، وراشد بك لا يحتاج إلى مال؛ فثروته لا يحصيها العد، وإن كان هو يجيد إحصاءها ويعرف كل خافية منها، وعثمان باشا رجل ذو مكانة مرموقة في الحياة المصرية، ولا شك أنه تولى ابنته بالتربية المعهودة، فهي تجيد التركية والفرنسية وعزف البيانو واختيار الملابس واستقبال الناس وتنسيق الأثاث وإعطاء الأوامر للخدم، ولا داعي إذن للسؤال، ولكن أمه. - لم تسأل عن خديجة؟! - اسمها خديجة؟ - يقولون إنها متحررة في آرائها. - كم عمرها؟ - بينك وبينها خمس عشرة سنة تقريبا. - أنا لست كبيرا. - ولست صغيرا. - ست وثلاثون سنة اكتمال الرجولة. - وعشرون سنة بداية الأنوثة. - ولكنها ابنة عثمان باشا فكري. - الأنوثة لا شأن لها بعثمان باشا فكري. - ما رأيك؟ - لن نجد خيرا منها. - فلماذا المناقشة إذن؟ - أريدك أن تعرف. - إذن؟! - أخطبها لك.
الفصل الثاني
المفروض أن أروي لك في هذا الفصل موقف خديجة من هذه الخطبة، ويمكن أن أروي لك هذا الموقف بطرق عدة. فمثلا أستطيع أن أقول إن خديجة كانت تحب ابن خالتها عزت بهادر الذي نشأ معها منذ الطفولة الأولى، وكان يقاربها في السن. وما دمنا نتكلم عن هذه الطبقة من الناس؛ فالمفروض أن أقول لك: إنه يهوى ركوب الخيل ويجيده، وإنه طلق اللسان - بالفرنسية طبعا - وإن لغته العربية لا تكاد تستقيم، وإنه ممشوق القوام تافه العقلية لا يفكر إلا في أتفه الأمور وأسخفها، وأكون بذلك سائرا وراء كل من كتب عن هذه الطبقة.
أو كان من الممكن أن أقول لك مثلا إن عثمان باشا فكري دخل إلى ابنته، فقال لها: أبشري يا خديجة، عندي لك أعظم خبر . - صحيح يا بابا؟
وطبعا حين تقرأ «بابا» لا بد لك أن تشدد الباءين، فهكذا تنطقها ممثلات السينما في أفلامنا العربية. نرجع الآن إلى الحوار الذي كان المفروض أن أقدمه إليك، يقول الأب وقد تهلل وجهه بالفرح: جاءك عريس لا مثيل له في مصر.
وهنا كنت سأحتار كيف أكمل المشهد، هل ستطرق خديجة في حياء؟ أم تراها كانت ستقول: من؟
وعلى الحالين، كان عثمان باشا يقول: راشد بك برهان.
صفحة غير معروفة
وكنت سأحتار أيضا كيف تتصرف خديجة بعد هذا، هل كانت ستسأل أباها عن العريس وأحواله جميعا من شكل وعمر؟ وطبعا لا داعي للسؤال عن الشهادة أو الثقافة، فقد كانت هذه الأشياء في ذلك الحين بعيدة عن مجال السؤال عند السيدات، وتوشك أن تكون كذلك عند الرجال أيضا.
أم تراها كانت ستطرق حياء وخجلا، وتقول الجملة التي لم يستطع كاتب حوار أن يغير منها شيئا على طول السنين: اللي تشوفه يا بابا؟
ولعلي كنت سأخرج من هذه الحيرة بوسيلة أكثر يسرا وأقرب إلى منطق الأمور، فأجعل خبر الخطبة ينتقل إلى الابنة عن طريق أمها، وأنتهز هذه الفرصة لأقدم إليك كل ما لم تعرفه بعد عن شاكر بك برهان على لسان الأم.
ولكن ما العجلة في تعرفك على شاكر برهان؟ ولماذا لا نتكلم عن خديجة قليلا؟ فأنت لم تعرف عنها إلا أن عينيها جميلتان، ولكنك أنت لم تعرف مثلا أن قوامها فارع رشيق لا تطغى عليه نحافة، ولا يفرط عليه سمن، وهي ذات شعر ناعم إذا أطلقت عنانه هدر على كتفيها في عربدة طاغية، وجبينها عريض فيه ذكاء، وعيناها اللتان عرفت أنهما جميلتان فيهما جرأة، وفيهما تطلع إلى المستقبل في وثوق الذكر وفي فتور الأنثى، وأنفها دقيق مائل قليلا إلى الخد الأيمن، هذا الميل الذي يراه بعضهم جمالا، ويراه بعض آخر عيبا في جمالها الفاتن. وإن كنت من الذين يحبون أن يوصفوا بالمثقفين، فلعلك تحب أن تعرف شيئا عن ثقافتها. قرأت كورني وراسين وفولتير وهيجو وفلوبير وروسو، حتى اعترافات روسو قرأتها، وقرأت شكسبير مترجما ، وقرأت ديكنز وهاري وتولستوي وديستويفسكي. أظنك عرفت الآن أنها كانت تحب القراءة وكانت تعبد الشعر، فقد كانت تحفظ روايات كورني وراسين جميعا، وتحفظ كثيرا من شعر هيجو، ولم تكن تميل كثيرا إلى مضحكات موليير. كانت القراءة عندها هي الوسيلة التي تفتح لها النافذة على عالم لم يكن من الممكن أن تخالطه أو تندمج فيه؛ فقد كان الحريم جزءا منفصلا عن المجتمع في ذلك الحين يحركنه من داخل البيوت، ولكنهن لا يشاركن في حركاته.
وكانت خديجة شأن كل فتاة تعرف أنها ستتزوج في يوم الأيام، وكانت تعتقد أنها ستتزوج رجلا مثقفا تستطيع أن تشترك معه في أحاديث طويلة عن الشعر والأدب، وكانت الخشية تخالجها أن يكون هذا المثقف ذا ثقافة عربية وإنجليزية، وليس ذا ثقافة عربية وفرنسية، فالمثقفون في ذلك العهد كانوا جميعا يجمعون إلى العربية ثقافة أجنبية أخرى، ولم يكن الغنى في ذاته أمرا ذا بال عند خديجة؛ فالغنى عند الأغنياء شيء مفروض يعتقدون هم أنه طبيعي، يصاحب التكوين البيولوجي لأجسامهم، فالمال عندهم شيء من المقرر وجوده، كما يوجد لهم عينان وأنف وشفتان. ولكن الثقافة هي التي كانت نادرة الوجود، فإذا وجدت فهي عميقة راسية الأصول بعيدة الأغوار. وقد كانت خديجة لا تتصور أن يكون خطيبها غير مثقف، ولم يكن تفكيرها هذا مجافيا للصواب؛ فإن والدها الذي أتاح لها هذا التثقيف لا يقبل أن ينالها شخص لا يقف مع ما بلغته من دراسة على درجة واحدة، فإن تفاوتت الدرجة فليكن هو في العليا لا في السفلى. وهي في سذاجتها الثقافية نسيت أن للمال عند الأغنياء نداء ولغة يفهمونها جميعا دون اتفاق بينهم، فمن الطبيعي ألا يتزوج الغني إلا ذات ثراء، ومن الطبيعي أن يسارع الثري بقبول الغني خطيبا لابنته.
وهذا الاتفاق غير المكتوب بين الأغنياء يتضمن أن كل شيء غير الثراء يمكن اغتفاره أو تجاهله.
وهكذا لم يكن عجيبا أن يقبل عثمان باشا فكري خطبة راشد بك دون ريث من تفكير، وخصوصا أنه أصبح غنيا سابقا، ولكنه ما زال يحمل اللقب «غني».
ومن الطبيعي أيضا أن تقبل خديجة الزواج، فهي تعلم أنها نهاية محتومة لحياة البنت في بيت أبيها، أو بداية محتومة لخلية جديدة من الحياة.
والاسم الذي تقدم لخطبتها اسم شهير في عالم الثراء وليس شهيرا في عالم الثقافة، فقد كان المجتمع في ذلك الحين لا يلقي ستارا من التجاهل على أي مهتم بالثقافة، فلو كان على جانب منها مهما يكن ضئيلا لذاع صيته، بل إن الحياة كانت تتيح لمن يهوى شراء الكتب أن يصبح شهيرا في عالم التثقيف، حتى وإن لم يقرأ هذه الكتب. وقد كان أغلب هذا النوع من الهواة يكتفي من الهواية بالشراء دون القراءة، فالقراءة لها ناس وشراء الكتب له ناس آخرون، والذين يقرءون لا يهمهم مطلقا طريقة الطبع التي يهتم بها الشراءون، كل ما يعني أهل القراءة أن تكون الحروف واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، وقد يكون هذا الوضوح في ذاته سببا في رخص الكتاب لا في غلو سعره.
ولا تنتظر مني أن أفيدك كثيرا في الشروط التي لا بد منها ليكون الكتاب تحفة أثرية ذات شأن، فأنا من ذلك النوع الساذج الذي يحب أن يقرأ ولا يهمه أن يقتني.
صفحة غير معروفة
على أية حال، لم يكن راشد من القراءين أو الشرائين المدمنين، وإن كان ملما بكثير من الكتب، وكان غنيا مدمنا للغنى، وإن كانت خديجة في آمال اليقظة وأحلام النوم ترجو أن يكون زوجها مثقفا يحب كورني وراسين أو المتنبي وشوقي على الأقل، إلا أن هذه الآمال وتلك الأحلام لم تكن شروطا أساسية في اختيار رجلها، فقد كانت ثقافتها تتيح لها قدرا من الذكاء تعرف به أنها هي لا تملك من حرية الاختيار القدر الكافي الذي يسمح لها أن تضع الشروط، ولو توفرت هذه الحرية؛ فما كانت لتجعلها تضع هذه الشروط. فهذه الآمال والأحلام لم تكن إلا خواطر تهفو إلى النفس أو تهفو إليها النفس، ولكن خديجة تعلم كل العلم أنها أمل لا يزيد، أو حلم مصيره المؤكد التيقظ على الحقيقة.
وهكذا أعفتني خديجة من الحيرة التي خشيت أن تتولاني أمامك في بداية الفصل، ولم توجه إلى أبيها إلا سؤالا واحدا: هل أنت راض عنه؟ - وأين أستطيع أن أجد مثله؟ - أمرك إذن.
لم تسأل كم عمره، فالمجتمع لم يكن قد أتاح بعد للفتاة أن تسأل عن عمر زوج المستقبل، وإذا كانت امتنعت أو منعتها التقاليد أن تسأل هذا السؤال الطبيعي المعقول، وهي أيضا لم تكن تحب ابن خالتها عزت، فالطرق إذن جميعها مغلقة دون أي أسئلة أخرى، بل لعلها لم تكن تحتقر أحدا في حياتها قدر احتقارها لهذا العزت، فهو فراغ تجسم في هيكل إنساني يعنى كل العناية بشاربه وشعر رأسه، ولكنه لا يبذل أقل عناية برأسه هذا من داخله، فإن رأيته رأيت تمثالا، وإن حادثته وجدت التمثال خيرا منه.
فأنا إذن لا أستطيع أن أقيم عقبة من أي نوع تمنع زواج خديجة من راشد، وتم الزواج.
الفصل الثالث
لو كان المتزوج أحدا آخر غير راشد، لكان من الطبيعي أن يكون شهر العسل في مصر، ولكن راشد يحب أن يذهب إلى أوروبا، ويحب أن يبهر زوجته بالحياة الباذخة التي يعيشها، والفتاة على ثقافتها في بواكير العمر ومطالع الحياة، فهي برعم يريده راشد أن يتفتح على يديه، وهو صاحب الخبرة الواسعة عن الورود التي لا تعرف الذبول، ولا يدركها ما يدرك الورود من شحوب.
يريدها امرأة كاملة المعالم يدعو إلى بيتها كبار الناس، فيبهرهم من بيته غنى وافر يصاحبه الذوق الرفيع، وهو يعلم منها أنها في بيت أبيها كانت تهتم بالكتاب، ولكنه أيضا كان يقدر أن التي تهتم بالكتاب تستطيع أن تهتم بكل شيء، وهو يريدها في حجرة نومه امرأة ناضجة خبيرة عالمة بما يرضيه، ويطمئن غرور الرجل فيه ونزوته في وقت معا.
وهو يريدها إذا ذهبت لمجتمع من النساء أوقعت في نفوسهن الحسرة والغيرة أو الإعجاب والإكبار، ويريد منها أن تكون أنموذجا للأناقة.
طراز عجيب راشد، فهو قد نال من التعليم المنتظم قدرا ربما اعتبره البعض ضئيلا، وخرج بعد ذلك إلى الحياة، فإذا هو يصاحب الحياة صحبة عميقة لصيقة، ويوغل فيها إيغالا رفيقا في بعض الأحيان، وفيه عنف شديد في بعض آخر من الأحيان، عرف الناس في كل متجه من متجهات الحياة، ودرس من القانون ما يعنيه من القانون، فإذا هو يفوق عتاة المحامين ومشاهيرهم، وضارب في بورصة الأوراق المالية والقطن فانسكب عليه المال يزيده غنى، وأصبح راشد شخصية مرموقة في المجتمع المصري تضطر الأنظار أن تلتفت إليه، فلم يكن التعليم المنتظم هو المصدر الوحيد للثقافة في ذلك الحين، بل إن المحامين كانوا يعملون بغير شهادة من الحقوق في ذلك الزمان. وقد اختار راشد من الثقافة ما يرى أنه يحتاج إليه؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يتقن الفرنسية، لا ليقرأ بها كورني وراسين، وإنما ليقرأ بها العقود وليضارب بها في البورصة، وليجتذب بها الأصدقاء من الفرنسيين، وتعلم الإنجليزية وأتقنها، ولكن شكسبير وملتن وهاردي وديكنز كانوا لا يعنون عنده شيئا إلا أسماء يرددها على مسمع الإنجليز الذين يتعرف عليهم.
قد كان نوع الثقافة التي يتمتع بها راشد من فصيلة أخرى بعيدة كل البعد عن تلك الثقافة التي أتقنتها خديجة، حتى لنستطيع القول في ثقة إنه من الطبيعي أن كلا منهما كان يعتبر الآخر غير مثقف.
صفحة غير معروفة
وراشد يعتبر الحياة عملا ومتعة، وهو يمازج بينهما في مقدرة بارعة، فلم يكن عجيبا أن يصحب زوجته إلى باريس. كان راشد يريد أن يستغني بزوجته عن كل نساء العالمين؛ ولهذا كان يريد فيها كل نساء العالمين.
لم تكن خديجة تتصور أن ترى هذا الذي رأته في فرنسا، وكان أبعد شيء عن ذهنها أن ترى هذا الذي رأته مع زوجها بالذات؛ فالأيام القليلة التي قضتها معه في بيته في مصر طالعتها منه مهابة لم تر في حياتها رجلا يتمتع بها، فحديثه أمر وإن تسربل بالرجاء، ورأيه نهائي وإن تزيا بالتواضع، نوع من المهابة لا يعرفه إلا صاحب الموهبة الكبيرة التي تجعل صاحبها كبيرا.
وفي الباخرة إلى باريس: تعرفين أنني عشت سنوات بلا زواج؟ - نعم. - كان طبيعيا أن أعرف نساء أخريات . - ما دام قبل الزواج، فهذا شأنك. - طبعا أنا لا أستأذن منك عن شيء صنعته في الماضي. - فلماذا تخبرني؟ - لا أريد أن أخفي عنك أولئك اللواتي عرفتهن في فرنسا. - أتريدهن أن يكن صديقات لك وأنت متزوج؟ - اسمعي يا خديجة، أنا في صداقاتي الفرنسية لم أكن أعرف إلا فتيات الملاهي. - إذن؟ - أنا أريد منهن أن يكن تسليتك في فرنسا. - إذن؟ - سنذهب إلى الأماكن التي يرقصن فيها، وسيقبلن علي وقد يقبلنني. - يقبلنك؟! - وماذا يهمك؟ - لا أريد. - كنت أستطيع أن أخفي عنك هذا، وأذهب بك إلى أماكن أخرى، وأزورهن دون علمك؟ - لا بأس، فلنذهب إليهن. - سيصبحن أداة تسلية لك. - أنت عندي الآن كل نساء العالم، وستجدين أنت عندي كل نساء العالم، وأنا لا أحب أن أعد بأشياء سأنفذها، فإني أحب أن يكون التنفيذ هو الوعد، وتحقيقه في وقت معا.
وكان عند الوعد والتنفيذ.
ورأت فرنسا، رأت منها باريس وغير باريس.
كانت في خيالها مسرح أحداث الروايات، ومعاني حب، وحدائق هوى، ونسمات قصص لبلزاك ودوديه وفلوبير وغيرهم، وكانت في أنحاء خيالها رؤى مجنحة لا يحيط بها تعريف واضح، كانت تبدو في خفي الوعي منها أحلاما يشملها ضباب فهي بلا وضوح، وتكسوها أستار شفيفة فهي في نفسها عميقة ولكن بلا معالم، موجودة ولكن بلا تثبت، سماوية أحيانا لعوبا أحيانا أخرى، أو أرضية مسرفة في عمق الواقع لما صنعه بها زولا وفلوبير وستندال والآباء الأوائل للواقعية الوليدة.
ثم رأتها وغاص بها زوجها في عميق حناياها، فازداد في عينيها جمالها ولم ترفض نفسها فيها، فهي واقعية إن أسرفت في الفجور، فهي تعنى في الوقت نفسه بتجميل هذا الفجور حتى يصبح نوعا من المتع البشرية التي تلتئم مع طبيعة الحياة في باريس، لا ترفضها باريس ولا من يزور باريس، حتى إذا خرجت عن باريسها هذه أصبحت تهتكا تعافه النفس وترفضه وتحتقر كل من يلم به.
رأت الغواني اللاتي كن صويحبات زوجها، وقبلن زوجها أمامها، فلم تحس لذعة غيرة في قبلهن.
لم تحس أن اللواتي يقبلنه نسوة عرفهن، وإنما أحست أن ماضيه هو الذي يقبله. وكانت قد بدأت تحب زوجها، فهي تحب أن يرضى عنه ماضيه كما يرضى عنه حاضره، وكما ترجو أن يرضى عنه مستقبله.
والغريب أن فتاة منهن طلبت أن تجلس معها في جلسة خاصة، كانت قد أحست من لقاء هذه الفتاة بزوجها أنها أقربهن إليه.
صفحة غير معروفة
وقالت لها الفتاة عجبا: أنت زوجته؟ - نعم. - حقا؟ - وأي عجيب في ذلك؟ - أردت أن أتأكد. - أنا زوجته. - أتعرفين كيف يظل زوجك؟ - أعرف كيف أخلص له. - هل أنت سخيفة إلى هذا الحد؟ - هل الإخلاص سخف؟ - الإخلاص مفروض لا يحتاج الرجل أن يكافئ زوجته عليه. - ماذا؟ - طبعا أنت مندهشة أن تسمعي هذا الكلام مني. - لا، أبدا. - بل أنت مندهشة. - لنفرض. - اسمعي، لقد كنت فتاة زوجك فترة من الفترات. - ربما أدركت ذلك من لقائك به. - إن ما نصنعه في الكباريه ليس هو الحب، إننا حين نحب لا نهب هذا الحب إلا لواحد، وكان زوجك يغيب عني فترات قد تصل إلى سنة، ومع ذلك لم أكن أهب حبي لأحد طوال فترة غيابه. - ولكن؟! - إن ما نهبه للزبائن إنما هي أجسامنا فقط، افهمي ما أقول، أنا أتكلم عن الحب. - متى كان هذا؟ - لم تتغلب علي واحدة من زميلاتي، أنت فقط التي تغلبت علي. - أتكرهينني؟ - لم يكن من الممكن أن يتزوجني، فهو شرقي وأنا أعرف ظروفه. - أشكرك. - أتعرفين كيف تحافظين عليه؟ - ربما. - إن لم تكن لك بضاعة إلا الإخلاص، فأغلب الأمر أنني سأستقبله قبل أن تمر على زواجكما بضعة أشهر. - الواقع أن هذه هي البضاعة الوحيدة التي أعرفها. - إذن فسأعلمك.
وعلمتها.
لقد رأت باريس، وتعلمت في أهم جامعات الحياة على أعظم أساتذة الحب والمتعة ومعرفة الرجال.
ولم يكن ما رأته من باريس وحدها هو حصيلة علمها، إنما ما رأته من زوجها كان أعظم، هذا الرجل المهيب الذي سمعت عنه في فترة الخطبة أن رجال المال العتاة لا يخشون أحدا في البورصة قدر خشيتهم منه، هذا الرجل الذي استطاع بهيبته الذكية الخارقة الذكاء أن يجعل حمزة البلاشوني، وكيل أعماله في الدائرة الزراعية، رجلا في غاية الأمانة، كان هذا الوكيل كما سمعت عنه يقول إن الإنسان حين يسرق أي صاحب مال يعرف أنه قد يفصل من عمله، فإن كان صاحب المال قاسيا غاية في القسوة فقد يذهب به إلى السجن، أما مع راشد بك فلا يعرف أي مصير ينتظره، فهو خليق أن يصنع به كل ما لا يتوقعه أحد.
راشد هذا ينكشف في ملاهي باريس عن هذا الشخص الذي يستطيع في مقدرة فائقة أن يجعل كل لحظة معه متعة، حتى يصبح الجالسون والجالسات جميعهم وجميعهن مغمورين في فترة من الحياة مليئة بالحياة، تلفهم سعادة غامرة تزلزل أعماق أعماقهم، فيزداد غوصهم في لحظاتهم، لا يريد أحد منهم أن يفكر فيما كان يصنع بأمسه أو فيما قد يصنعه به غده، وراشد هو روح هذه الغمرة الطاغية من الإمتاع وهو الينبوع أو هو إن شئت الشلال الهادر بالإسعاد، وهو في الوقت نفسه يستطيع أن يجعل كل فرد من الموجودين يعتقد أنه هو لا راشد سبب هذه السعادة وهذا الإمتاع. كيف استطاع هذا الرجل المهيب أن يكون خبير متعة لا يدانيه في خبرته المتخصصات من فتيات الملاهي في باريس أو أصحابهن؟
وتومض في ذهن خديجة فكرة تعمل فيها النظر، وتوشك أن تؤمن بها: إن معرفة الإنسان كيف يكون سعيدا، وكيف يعتصر لحظات السعادة اعتصارا لا يبقي من رحيقها على قطرة، موهبة لا تتأتى إلا لعبقري يعرف كيف يعيش، ويعرف من مسالك الحياة في جدها ولهوها ما لا يعرفه أبناء الحياة مجتمعين.
والذي لا تعرفه خديجة أن راشدا ترك في مصر مشكلة يضيق بها أشد الضيق تهدر قدرا من ماله، ولكنه مع ذلك أقنع نفسه بأنها مسألة هينة ميسورة، وأنها لا تستحق حتى أن يؤخر سفره من أجلها.
لقد اغتاله صديق له في عشرة آلاف جنيه.
والذي لا تعرفه أيضا أن سبب اغتيال صديقه لهذا المبلغ هو زواجه منها، ومعرفته لسيدة من سيدات مصر لها أهمية كبرى في المجتمع المصري، والذي لا تعرفه أيضا أنه فجع في صديقه وفي ثقته به فجيعة إن لم تزد على فجيعة المال، فهي تستوي معها.
ولكن أهذا الحديث يناسب لحظات المتعة التي يعتصرها راشد، ويسقيها صرفا غير مشوبة لزوجته الحبيبة خديجة؟ سننسى كل هذا الذي يضيق به راشد، ونتيح له ما أتاحه لنفسه من شهور صاخبات بالهناءة في ربوع فرنسا جميعا.
صفحة غير معروفة
وعرفت خديجة عن زوجها شيئا لم تكن تتوقع أنه يتخلق به، فهو لا يلعب القمار مطلقا، قد يشرب مع الشاربين، ولكنه لا يقرب مائدة القمار. - ولكنك تضارب في البورصة. - البورصة خبرة وبعد نظر مالي، ولا يصاب فيها الإنسان إلا إذا حدثت أشياء لم تكن في الحسبان، ولكن القمار تسليم أموالي كاملة ليد غير أمينة ولا مخلصة ولا صديق لها، وهي أيدي الحظ. أنا لا أقبل هذا لكرامتي ولا لثقافتي ولا لعقلي. - فهل المقامرون جميعهم أغبياء؟ - بل إن كثيرا منهم أذكياء. - فما لهم يقامرون؟ - لقد أخطئوا الطريق إلى المتعة، فتلمسوها على مائدة القمار، أما أنا ... - لا تكمل، لقد رأيت، نعم إن أحدا لا يعرف طرق المتعة كما تعرفها أنت. - ولكن هناك شيئا لم أقله. - وهو؟ - وهو أنني مع كل هذه المتع ظللت مخلصا لك، لا أهب نفسي إلا لك. - وهذا حق أيضا.
الفصل الرابع
لماذا يتوقف العقل عند بعض الناس، ويتصرفون تصرفات حمقاء، مع أنهم من ذوي العقل الراجح الذي استطاع أن يمكن لهم وينزلهم منزلة محترمة عند الناس؟
لو أن أحدا سأل زكريا باشا حسام الدين على سبيل الاستشارة: ما رأيك في زيجة الزوج فيها فات الخمسين منذ ست سنوات، وهو يحث الخطى نحو الستين، والزوجة فيها تمشي الهوينى إلى العشرين من عمرها لم تكملها؟ لكان جوابه متسما بالعقل والرزانة وبعد النظر؛ فالمسألة لا يختلف فيها عقلان على شيء؛ أن الرجاحة أو على الأقل لا ينعمان بالغباء الشديد.
ولكن العجيب أن زكريا باشا حسام الدين هو نفسه تزوج الآنسة سهير ممدوح كريمة ممدوح عزت باشا. أما زكريا باشا فهو مستشار في محكمة الاستئناف عرف بعلمه الواسع بالقانون، بل وعرف أيضا بحبه للأدب، وكثيرا ما كانت أحكامه قطعا أدبية يتغنى بها المحامون خاصة الذين صدر الحكم في صالحهم، وهو موسع عليه في الرزق، واسع الأفق، عميق النظرة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يصبح وزيرا. وقد سر بهذا؛ لأنه كان يفكر منذ زمن أن يترك القضاء الجالس إلى القضاء الواقف. ولعله في ذلك تأثر بالقصة التي تروى عن أحد مشاهير المحامين في فرنسا، وكان ابنه يعمل في القضاء، وكانت سمعة ابنه أيضا عظيمة، فقد عرف عنه أنه من أحسن القضاة. وفي يوم سأل أحد الصحفيين المحامي: لماذا تعمل أنت في القضاء الواقف، بينما يعمل ابنك في القضاء الجالس؟
فأجاب المحامي الذكي: لو استطاع ابني الوقوف ما جلس.
وأغلب الأمر أن الأب كان يريد ابنه أن يعمل معه في المكتب الكبير، ليظل محتفظا بمكانة المكتب بعد وفاته، والراجح أن الابن كان يفضل العمل في القضاء بطبيعة مواهبه أيا ما كان الأمر، فالمؤكد أن زكريا باشا تأثر بهذه القصة، وأراد أن يقف عن كرسي القضاء ليصبح محاميا واثقا من عمله القانوني، ومن لغته في وقت معا.
وهكذا جاء تعيينه في الوزارة خير طريق يخرج منه إلى مقاعد المحامين. كان زكريا باشا قد تزوج في أول حياته نعيمة هانم شهاب بنت مجدي باشا، وقد أنجب منها ابنهما عدلي.
ولكن زكريا باشا كان يحب النساء، وكان بارعا في الحصول عليهن، والطريق تجمع أصحاب القصد الواحد، فلم يكن عجيبا أن يجمع طريق النساء بين الباشا زكريا والبك راشد، فكانت صداقة قوامها الأول، وقد يكون الأهم، النساء.
ولكن «راشد» صاحب مصالح كبيرة، والباشا زكريا حين ترك الوزارة إلى المحاماة أصبح يتمتع بنفوذ كبير، وأصبحت الأبواب التي لا تفتح لغيره من المحامين تفتح له. ولراشد عين يقظى كعين الصقر تدري أين يكمن الخير لها، فقضايا راشد تنتقل إذن من تلقاء نفسها إلى مكتب الباشا، وتزداد الصداقة توثقا.
صفحة غير معروفة
لعلك الآن تعجب إن ذكرت كل شيء عن الباشا أو أكاد، ولم أذكر شيئا عن زوجه الأولى نعيمة هانم شهاب ، ولا عن زوجه الثانية الآنسة سهير حمدي.
وما كان لي أن أذكر شيئا عن واحدة منهن دون تفصيل لا يقبل الإجمال؛ فنعيمة هانم شهاب هي الابنة الوحيدة للغني الشهير مجدي باشا شهاب، وهي سيدة علمها الغنى أن تأمر فتطاع، وليس زكريا باشا بأقل منها غنى أو أدنى حسبا، وإنما تعلقه بالنساء وعلمه بأنه لا شك سيخونها جعله يسمح لها بأن تأمر فتجاب، وأن تبدو وكأنها هي رجل البيت. وكان ذكاء زكريا ومعرفته أنه آخر الأمر يستطيع دائما أن يفعل ما يريد داخل البيت أو خارجه يجعله يتيح لها هذا المظهر المتأمر الصلب تفرح به هي، ولا يخسر هو شيئا.
ولكن شيئا واحدا فات زكريا باشا، وما هذا بعجيب؛ فالأذكياء أيضا تفوتهم أشياء.
لقد استولت نعيمة هانم على ابنهما عدلي منذ ولادته، فهي وحدها صاحبة الشأن في تربيته وهي التي تدخله المدرسة، بل إنها هي التي اختارت له الكلية التي يدخل إليها، والعجيب أن هذه الكلية لم تكن الحقوق التي تخرج فيها أبوه، والتي تخرجت فيها الغالبية العظمى من وجوه البلاد ووزرائها وحكامها. لقد اختارت له كلية الهندسة وقد نشأ عدلي فكرة من أمه وخطرة منها وإشارة من يدها، فهو لا يعرف أن يختار ولا يريد أن يعرف، فالذي لم يعرف الحرية يوما لا يفكر فيها، بل لعله إذا منحها تمثلت له شيئا بغيضا لا يطيقه ولا يحتاج إليه. فالاختيار في الحياة شيء صعب ومهمة شاقة لا يتعرض لها إلا من لا يتمتع بأم كأم المهندس عدلي التي تختار عنه كل شيء يتعلق به، وكل طريق ينبغي له أن يسير فيه.
وحين تخرج عدلي في كلية الهندسة اختارت له نعيمة هانم زوجته وتزوجها، وكان عدلي على غناه دميم الخلقة، وأصبح بفضل السيدة والدته كريه الخلق ضعيفا تافها. وحين تزوج وانسلخ كيانه عن كيان أمه في السكن وخلا به وبزوجته بيت تجلى على حقيقته البشعة أمام زوجته؛ أنه لا يجيد في الحياة إلا أصناف الطعام، فما كان له في بيت أبيه بعد أمه إلا الطاهي يلازمه فتعلم عنه أصول الطهي حتى أجادها، وأحس بالرضاء عن نفسه واطمأن أنه صاحب موهبة، وسبحان رب العرش في علياء سمائه؛ يهب لكل عبد من عباده مهما يكن تافها شيئا تطمئن إليه نفسه أنه يملك ما لا يملكه الآخرون.
وربما كانت هذه الموهبة بالنسبة لزوجته في الأيام الأولى من زواجهما مثار ضحك ومزاح، ولكن ويل للزوجة وللزوج معا إذا تبينا أن الضحك والمزاح إنما هما جد كل الجد، وأن عبقرية المهندس ليست في شيء إلا في طهو أصناف الطعام.
ضاقت الزوجة راوية بزوجها أشد الضيق، ولما كان لا بد للضيق أن يتمثل في عمل؛ فما هو إلا شهر أو بعض شهر حتى كان عدلي مطية وزوجه راكبتها، ويبدو الأمر من النظرة السطحية أن مثله في ذلك مثل أبيه، ولكن وهلة من إنعام النظر سرعان ما تعود بها العين الخبيرة أن هدوء أبيه عن ذكاء وعن محاولة لإعفاء ما يصنعه خارج البيت. أما هدوء الابن فعن غباء؛ ولأنه لا يعرف إلا أن يكون هادئا. وحلت الزوجة محل الأم ولم يقم بينهما أي خلاف، فراوية ذكية تعرف كيف تبدو أمام حماتها دائما طيعة ذلولا، لا تخالف لها أمرا أو ترد لها كلمة، فملكت بذكائها الأم والابن جميعا.
وهكذا وقع زكريا باشا في خطأ لم ينجه منه ذكاؤه المتوقد، وبدلا من أن يكون ابنه جديرا بأن يحمل اسمه أصبح هزوة لكل هازئ، وأغلب الأمر أن زكريا باشا أراد لابنه أن يلهي زوجته عنه، فيستطيع هو أن ينصرف إلى نسائه ما شاء له الانصراف؛ فإن زوجته تعرف عنه ميله للنساء، بل لقد حدث بينهما حادث تدافعت أصداؤه في مصر جميعا، يوم أن دعت زوجته سيدات كثيرات في ليلة شاع فيها الأنس والسرور، بمناسبة عودتها من الأراضي الحجازية، بعد أن حجت بيت الله وزارت قبر نبيه.
وكان الباشا يوم ذاك في البيت، ولكنه كان في حجرته بعيدا عن مجتمع النسوة.
لم تكن نعيمة هانم تعرف أن صديقتها صالحة هي رفيقة الباشا في هذه الأيام، فلم يكن عجيبا أن تدعوها. وكم كانت المفاجأة صعبة حين تفقدت صالحة في أثناء الحفل، فلم تجدها فإذا خادمتها مبروكة تشير لها بإصبعها إلى أعلى، وتصعد نعيمة هانم إلى حجرة الباشا، فتجدها خالية فتكمل صعودها إلى السطح، لتجد صالحة في أحضان زوجها، وإذا بها تصرخ صراخا يتعالى على صوت المغنية في الطابق الأدنى، وإذا بها تخلع حذاءها، وتنهال به على معالي الباشا، وكان يومذاك وزيرا جديدا. وتصبح القصة حديث مصر جميعا، وتطلق صالحة من زوجها، وتنقطع صلة الباشا بها.
صفحة غير معروفة
ولكن الباشا لا يستطيع العيش من غير أخرى، ويتعرف في هذه الأيام على المستشار ممدوح بك عزت، وهو رجل اقترب من المعاش، وذهب إلى معالي الوزير يرجوه أن يسعى له أن ينال رتبة الباشوية، وهو في طريقه إلى مقاهي المعاش.
وممدوح بك عزت رجل تزوج وهو كبير السن من سيدة مات عنها زوجها، هي السيدة نبوية الباجوري، وقد أنجبت لزوجها فتاة كان عمرها يوم ذهب والدها إلى وزير العدل يدور حول العشرين.
في غمرة التقرب الذي يسعى به ممدوح بك إلى معالي الوزير دعاه إلى الغداء في منزله، وهناك رأى الباشا لأول مرة بيت ممدوح بك، ورأى أيضا ابنة ممدوح بك. أما البيت فكسير متواضع يدل على أن سعادة المستشار شريف وفقير، وأما البنت فتدل على أن سعادة المستشار أحسن اختيار زوجته، وأن الله جعل الابنة تشبه الأجمل في والديها.
راقت سهير في عين الباشا، ولكن هذه فتاة في حضن أبيها، فلا سبيل إليها أو على الأقل الطريق الذي تعود أن يسلكه لا يصلح معها، مع هذه الفتاة ليس هناك إلا طريق واحدة. - سعادة الباشا، ابنتك سهير غاية في الجمال. - لا تنس يا معالي الباشا أن صدور الرتبة منك يوشك أن يكون براءة للباشوية، فأنت الوزير المختص باقتراح الرتب للمستشارين. - سعادة الباشا أنا أعرف اختصاصاتي كل المعرفة. - إذن؟ - أظن جلالة الملك لا يرضى أن يكون أبو زوجتي «بك». - ماذا؟ ماذا قلت معاليك؟ - أنا يا أخي أخطب ابنتك لنفسي. - هذا شرف يا معالي الباشا. - ولي شرط. - أنا تحت أمر معاليك. - أن يظل الزواج سرا حتى أجد الفرصة مناسبة لإعلانه.
وتم الزواج، ونال ممدوح باشا رتبة الباشوية.
لم يكن عجيبا أن يقبل ممدوح بك أو باشا خطبة ابنته، فقد كانت المناصب والرتب ذات شأن أسطوري في ذلك الزمان، ولكن العجيب أن شخصا في ذكاء زكريا باشا يخطب فتاة تصغر ابنه بعشر سنوات. من المؤكد أنه ما كان ينصح أي إنسان ينتصحه أن يفعل ما فعل، ولكن الإنسان دائما يظن أنه شيء آخر غير الناس، وأن ما لا يجدر بغيره يجدر به؛ فزكريا مثلا كان يظن أن شبابه دائم، وأن الجاذبية التي يتمتع بها تستطيع أن تعوض سهير عن فتوة العشرين، وأن اللقب والمكانة أهم بكثير من تقارب السن.
ولم يكن الأب يسأل ابنته في شأن زواجها؛ ولهذا لم تحاول سهير أن تمتنع، فما دام أبوها قد اختار لها هذا فلا ترد إرادته، ولكنها في شبابها المتفتح كانت تعرف الطريق الذي فرشه لها أبوها برتبة الباشوية التي نالها.
وظل الزواج سرا.
شخص واحد كان الباشا يصحبه إلى بيت زوجته الجديدة، هو راشد بك برهان، فقد عرف فيه الباشا قدرته الفائقة على سكب حياة كاملة في لحظات متعة. وقد كانت السرية التي تحيط بالزواج تجعل الصلة بينه وبين زوجته يحيط بها جو المغامرات الذي كان يحيط بصلاته مع رفيقاته السابقات. وقد كان الزواج يحصن العلاقة إذا هي افتضحت من أن تلوك الألسنة اسمه كما لاكتها في حادثة الحذاء، وفي أحداث أخرى مشابهة.
أعجب راشد بزوجة الباشا وأعجبت به، رأت فيه الشخص الذي تستطيع معه أن تمارس شبابها وتحس بجمالها الآسر مقدرا عند خبير نساء. وهو وإن كان يكبرها في السن، إلا أن الفارق أقل من ذلك الفارق الذي يفصلها عن زوجها.
صفحة غير معروفة
أحست سهير في عيني راشد الإعجاب، وكانت تعلم أنه لن يقدم على مغازلتها على مرأى من زوجها، فالزوج لماح الذكاء، وراشد يعرف مقدار لماحيته وذكائه. إذن فلتقدم هي.
حين انتهت السهرة، وحان الموعد لراشد أن يترك الزوجين، قام واستأذن وصافح الباشا وصافح سهير، وإذا بشيء أدرك أنه ورقة تتكور في يده، فيطبق عليها يده.
ويقرأ راشد على ضوء سيارته الداخلي: «تعال غدا في الساعة السابعة، الباشا لن يأتي غدا.»
ويضع الورقة في جيبه ولا يتولاه عجب كثير، فقد كان يعلم أنه إذا لم يقم هو بدور العشيق لهذه الزوجة الشابة فسيقوم غيره، ولا بأس أن يخون صديقه الذي ائتمنه على حريمه، فهو خير ألف مرة من غيره، فقد يكون هذا الغير محبا للظهور، وقد يكون شابا فيه رعونة الشباب وزهوه، فيفتضح من أمر الباشا ما ينبغي أن يكون سرا.
فهو إذن يقوم بدور العشيق لزوجة صديقه؛ حماية لعرض هذا الصديق أن تنتاشه ألسنة حداد، وفي ميدان السياسة يباح كل شيء.
ذهب إلى بيته في هذه الليلة، فاستقبله بدوي خادمه الجديد بعد أن أحال خادمه السابق على المعاش. فقد كان عم محمدين، كما كان يسميه، قد بلغ من الكبر عتيا، فطلب إليه أن يظل في البيت يشرف على المأكل والمشرب ويترأس الخدم، دون أن يقوم بأي عمل، وطلب إليه أيضا أن يستقدم خادما له جديدا يقوم على خاصة شأنه، ويتولى شأن ملابسه. فكان بدوي.
خلع راشد حلته وألبسه بدوي الجلباب، واستلقى راشد على سريره. لقد بدأت مغامرة جديدة. لم يكن إلى ذلك الحين قد رأى خديجة، بل إنه لم يرها إلا بعد ذلك بحوالي عامين استمرت فيهما علاقته بسهير، وطبعا لم يعرف الباشا شيئا، فكان كثيرا ما يقضي مع الزوجة وزوجها السهرات. •••
اغتالت البورصة فهمي عبد الحميد، صديق راشد اللصيق وجاره في الأرض الزراعية، وشح المال في يده، وأوشك أن يبيع عزبته المجاورة لأرض راشد الواسعة، فاستدعاه راشد: كم تحتاج؟ - لماذا لا تشتري أنت العزبة؟ - هذا كلام فارغ. - المبلغ كبير. - ولكن البورصة لا تستمر على حال واحدة. - وهي أيضا بلا قلب. - إذا كانت خانتك اليوم وأعطت غيرك، فليس بعيدا أن تخون غيرك في غد وتعطيك. - إذا أعطتني أشتري أرضا أخرى، أو أسترد منك الأرض. - أنا لن أشتري. - ابحث عن مشتر. - وأنت لن تبيع. - غير معقول أن تسلفني مبلغا كبيرا كهذا. - إذا لم أحتمل أضمنك في البنك. - أريد عشرة آلاف جنيه. - عندي. - أبيع العزبة أحسن. - العزبة تساوي أكثر من هذا، خذ.
وأعطاه شيكا بالمبلغ، وكتب فهمي كمبيالة مستحقة الدفع عند الطلب، وضعها راشد في حافظة نقوده. •••
في سهرة عند الباشا أو عند سهير أيهما شئت، قال راشد: معالي الباشا، عندي خبر لا بد أن أقوله. - وهل تحتاج إلى مقدمات؟ - ولعل سهير هانم يهمها أن تعرفه أيضا. - خيرا؟ - ربما أصبح من العسير علي أن أكثر من زيارة معاليك بعد ذلك. - إذن فالخبر هام حقيقة. - أنا أيضا سأتزوج.
صفحة غير معروفة
واربد وجه سهير هنيهة، ولكن سرعان ما استجمعت قوة الأنثى. - ألف مبروك.
وقال الباشا: نعرفها؟ - يا معالي الباشا لو كنت تعرفها ما تزوجتها أنا أبدا.
وقهقه الباشا بصوت مرتفع.
وتبسمت سهير، وقال راشد مستطردا: نعرف أباها، وإلى هنا والمسألة سليمة والحمد لله. - من؟ - ابنة عثمان باشا فكري. - لقد اخترت. - حقا يا باشا؟ - سمعت عنها كل خير. - الحمد لله، معاليك متأكد أنه سمع فقط؟ - نعم، نعم، لا تخف. وماذا تريدنا أن نقدم لك هدية لهذا الزواج؟ - معاليك خير من يختار. - إنني أعد لك مفاجأة منذ بضعة أشهر، أظن أنها تصلح هدية لزواجك. - هل لي أن أسأل؟ - الآن أستطيع أن أقول لك. - عظيم. - أنت تعرف صلتي برئيس الوزراء. - نعم، ولو أنك رفضت أن تشترك في الوزارة. - الوزارة بالنسبة لي خسارة كبيرة، فهي تجعلني أترك الشركات التي أعمل بها. - ربما كنت على حق. - اعتذرت عن عدم قبول الوزارة، ولكن تستطيع أن تعتبرني مشتركا فيها، فرئيس الوزراء يستشيرني دائما، وقد طلبت أجرا لاستشارتي هذه. - طبعا استشارة زكريا باشا لا بد أن تكون مكافأتها كبيرة. - لقد طلبت لك الباشوية. - حقا؟ - وأظن أن اسمك سيظهر في إنعامات العيد.
لم يبق إلا أشهر قلائل، تصبح راشد باشا برهان. - اسمح لي أن أقبلك يا معالي الباشا. •••
حين ذهب إلى بيته راح خادمه الجديد إدريس يخلع عنه ملابسه، فقد غضب عم محمدين على بدوي، واتهمه بأن يده طويلة وحرامي، فطرده وجاء بإدريس بدلا منه، ولم يكن راشد بك يرد لعم محمدين أمرا يأمره في البيت، فقد كبر على يديه وهو يعتبر مربيا له.
لاحظ إدريس أن راشد بك سعيد حالم، وإن كان لم ينطق بحرف واحد، وبينما هو يخلع عنه بنطلونه إذا بعم محمدين: سعادة البك.
وقال راشد في نفسه بعد بضعة أشهر: ستقول سعادة الباشا، يا عم محمدين. - نعم يا عم محمدين. - فهمي بك تحت. - الآن؟ - لما رأى دهشتي، قال إنه يريدك في شيء مهم. - اللهم اجعله خيرا. ألبسني يا بدوي، آسف أقصد يا إدريس.
وحين لبس قال لمحمدين: هات دفتر الشيكات من درج الدولاب يا عم محمدين. ونزل راشد إلى حجرة مكتبه. - خيرا يا فهمي؟ - أين الكمبيالة؟ - يا رجل، أمن أجل هذا تأتي في هذه الساعة؟! - إن الحديث الذي أريدك فيه لا تصلح له إلا هذه الساعة. - هل رد الدين يحتاج إلى هذه الساعة؟ - إني سأرده نعم، ولكن ليس بالطريقة العادية. - ماذا؟ - معي ورقة تحتاج إليها. - وهل تريد أن تبيعها لي؟ - نحن نعمل في البورصة، وأنت قلت: إن البورصة لا قلب لها. - ولكن نحن لنا قلوب. - نحن أبناء البورصة. - بل نحن أبناء الإنسان. - المهم، ألا تريد أن ترى الورقة؟ - لا بأس.
وأخرج فهمي الورقة وفتحها لحظة، ثم أقفلها وأعادها حيث كانت.
صفحة غير معروفة
ودارت الدنيا براشد، واستمر فهمي: إنك على وشك الزواج، وفضيحة كهذه تقضي على زواجك. - هل هذا معقول؟ - وقد عرفت أنا بتحرياتي أن الباشا تزوج سهير ممدوح، وطبعا الورقة منها. - أيمكن هذا؟! - تصور لو وقعت الورقة في يد ابنه عدلي، لقد جن حين أخبرته أن أباه تزوج، وحاول أن يخبر أمه، ولكنها في مرض الموت ولا تعي شيئا. - أهذا فهمي الذي يكلمني؟ - تصور أن عدلي ينوي رفع دعوى سفه على أبيه؟! فكر في أثر هذه الورقة في القضية. - فهمي، المبلغ لا يهمني، وسأعطيك الكمبيالة، ولكن كيف تصنع أنت هذا؟ - ألم أقل لك إن البورصة لا قلب لها؟ - ولكن أنا أيضا ابن البورصة وأنا ... أنا ... - أعرف ما تريد أن تذكره من شهامتك، ولكن الناس معادن، أنت شهم وأنا نذل، أظن أن هذا يوفر عليك كثيرا من الكلام. - هات الورقة. - هات الكمبيالة. - لك حق، فأنت تظن الناس جميعا مثلك، نتبادلها في وقت واحد.
وتمت المبادلة. - هل اطمأننت الآن؟ - كنت أستطيع أن أطلب ضعفي هذا المبلغ، وكنت ستدفع. - الآن اعلم أنك أنت الذي ستدفع، وستدفع أضعاف ما أخذت. - أتظن ذلك؟ - سترى.
الفصل الخامس
وهكذا سافر راشد إلى أوروبا مع عروسه وفي ذهنه كثير يشغله، فقد ترك زوجة زكريا باشا نعيمة هانم بين موت وحياة، وابنه عدلي كاد يجن من خبر زواج أبيه، وهو لا يجد من أمه أذنا أو فهما ليبثها هذا الخبر، فتقضي على هذا الزواج قضاء مبرما، وهو وإن كان قد تجاوز الثلاثين إلا أنه غبي قاصر العقل هزيل التصرف، وليس ببعيد أن يرفع دعوى السفه على أبيه، فجهله يحول بينه وبين معرفة هزل هذه القضية وعدم جديتها. وكل ما يعرف عن أبيه أنه زوج أمه الذي يطيعها في كل شيء، ولو كان على شيء مهما يكن هينا من الذكاء، لعرف أن أباه لا يطيع أمه إلا في تافه الأمور، فلو قد فكرت أن تتعرض لآرائه الفقهية أو السياسية، لكان له معها شأن آخر.
وليس راشد بالذي يفكر هذا التفكير جميعه في شأن زكريا لمجرد الاهتمام بأمره، وإنما خشي أن يشغله شأن ابنه هذا عن السعي إلى الباشاوية التي وعده بها.
وهو يخشى أيضا أن تؤلبه سهير عليه، فقد قطع علاقته بها تماما منذ ذلك اليوم الذي أعلنها فيه أنه سيتزوج، وللسيدات إلى هذه الأمور مداخل لا يلج منها سوى ذكائهن.
ولكنه مع كل ذلك كان يفضل السفر فهو لا يحب أن يظهر أحدا على اهتمامه برتبة الباشوية، ثم لا تأتي، وهو يفضل أن يعرفها الناس من المرسوم لا منه، وأن له أصدقاء خلصا، وهو يخشى - وإن كان يعرف نفسه - أن تفلت منه كلمة تنبئ عما يدور بنفسه من آمال.
وقد حرص راشد ألا يخبر زوجته بما ينتظر، فالرتبة عند السيدات لها مكانة خاصة، وهو يخشى ألا تأتي فتهتز مكانته في نفسها.
لم يستطع شيء من هذا جميعه أن يحول بينه وبين أن يعيش الساعة في فرنسا ساعات مكثفة من البهجة، يشيعها من نفسه إلى قلب زوجته، وإلى قلب كل من يشاركهما في لياليهما أو في بياض نهارهما.
فهو من أولئك القلة التي تعرف لكل لحظة حقها، فلا يعدو التفكير على المتعة، ولا تعدو المتعة على العمل.
صفحة غير معروفة
وهو أيضا كان يعلم أن ليس في القاهرة شيء يستطيع أن يفعله، فالانتظار وحده ليس عملا.
أما عن فهمي؛ فإنه لم يبت ليلته التي زاره فيها ليعرض سفالته إلا وقد أعد له عدته، وعرف تفاصيل ما سيفعله بشأنه، ولم يكن الموعد الذي حدده قد جاء بعد.
حين عاد راشد إلى القاهرة في أوائل سبتمبر، كان الباشا قد أعلن زواجه من سهير بعد أن ماتت نعيمة، وأصبح الباشا يخرج مع زوجته في كل مكان.
وكان عدلي قد رفع دعوى السفه على أبيه، فجعل من نفسه أضحوكة بين الناس. فإن كان لا بد من دعوى ترفع، كان الأجدر أن يرفعها الأب العالم الذكي على ابنه الغبي الجاهل.
وكان زكريا باشا كبيرا كشأنه، فاكتفى بإرسال أصغر محام في مكتبه، وهو يعلم أن مهمة المحامي غاية في السهولة واليسر. ولم يكن عجيبا ألا يفكر زكريا باشا في حرمان ابنه من الميراث، وما كان أيسر من هذا بالنسبة إليه، ولكن لعله بروح القاضي العادل، والفقيه القانوني قد أدرك أنه هو الذي أهمل شأن ابنه وجعل منه هذا السخيف الذي أصبحه بما هيأت له أمه من مجالس فارغة مع نسوة جاهلات، وما هيأه له طاهي المنزل من ثقافة مطبخية.
ولم يشأ زكريا أن يعاقب ابنه على خطأ ارتكبه هو نحوه، ويعتبر نفسه مسئولا عنه.
وبقدر ما كانت أحاديث القاهرة تسخر من سخافة عدلي، بقدر ما كانت تكبر موقف أبيه وتعاليه عن الصغار، وعن أن يجعل نفسه في كفة ميزان مع ابنه السخيف.
كان العيد قد اقترب وذهب راشد إلى القرية ومعه زوجته، وراح يوزع على الفلاحين الملابس والنقود مضاعفة هذا العام، مدعيا أنها من أجل زوجته، فانطلقت الألسنة تدعو لها وله بكل هناء، وإن كان هو في خبيء نفسه يدبر لأمر ويعد له بهذه المنح عدته.
ظهرت أسماء الذين أنعم عليهم برتبة الباشاوية، وانفجر الخبر في البلدة حيث أحب راشد أن يكون، ففي الريف تصبح الأفراح والأحزان أكثر جلاء ووضوحا من المدينة.
في الريف ينطلق الفرح فيصبح في كل بيت، توشك تراه في الشمس وفي القمر وفي الزرع، وعلى وجوه الأنعام، مع زغاريد النساء ورقص الرجال وقرع الطبول وهتاف المزمار.
صفحة غير معروفة
وأعاد راشد المنح مرة أخرى بمناسبة الباشوية، وركب سيارته مع زوجته ليقيد اسمه في دفتر التشريفات، ثم ليذهب بعد ذلك فورا إلى زكريا باشا ليشعره أنه يعرف الفضل لأهله، وأخبره زكريا باشا بالأسماء التي ينبغي أن يمر بها ليقدم الشكر؛ مثل رئيس الوزراء ورئيس الديوان وكبير الياوران وغيرهم.
لم يمكث الباشا راشد في القاهرة أكثر من يومين، ثم أخبر خديجة أن لديه عملا في القرية وقد يضطر أن يغيب بها يومين، ولم تكن الزوجات إلى ذلك الحين يناقشن رغبات أزواجهن، وخديجة لها من ثقافتها ما يجعلها تعرف تماما متى يجمل بها أن تسأل ومتى ينبغي لها ألا تتدخل؛ فهي تدرك أن أعمال زوجها ليست مجال أسئلة لها أو تدخل.
وهكذا أخذ حضرة صاحب السعادة راشد برهان باشا طريقه إلى قريته.
الفصل السادس
في زيارته الأولى سأل: متى نجمع القطن؟ - بعد بضعة أيام. - والعزب التي تجاورنا؟ - بعدنا. - كلها؟ - كلها؛ نحن أول من زرعنا القطن في الجهة. - عظيم. سأحضر معكم الجمع هذا العام. - نزداد شرفا يا سعادة الباشا.
في زيارته الثانية ركب راشد حصانه وراح يمر بأرضه مع حمزة البلاشوني وكيل زراعته. وبدا وكأن «راشد» أخطأ الطريق فمر على حدود الأراضي المجاورة، وسأل حمزة: كم فدان قطن هذه؟ - ثلاثمائة فدان.
ولم يعقب.
وحين عاد إلى البيت قال لحمزة: أريد متولي الفراش. - سعادتك تقصد متولي صاحب الفراشة؟ - نعم. - سعادتك تنوي أن تقيم لنا ليلة بمناسبة الباشوية؟ - ستكون ليلة وأنت بطلها. - يا ليت يا سعادة الباشا لو كنت أعرف كيف أغني لغنيت للصبح. - ستغني يا حمزة. ستغني للصبح ولكن بأصوات أخرى. - سعادتك تتوقع أن أفهم؟ - مؤقتا المطلوب ألا تفهم.
وسأل متولي صاحب الفراشة: كم كلوب عندك؟ - أمرك يا سعادة الباشا. - أريد ثلاثين. - أمرك، سعادة الباشا. - خذ، اشتر ما ينقصك وحين تنتهي الليلة خذها لك. - ربنا يطيل عمر سعادة الباشا. - متى تكون مستعدا؟ - عندما تأمر. - الليلة. - أمرك.
وقال لحمزة: أريد كل نظار العزب. - أمر سعادة الباشا. - بعد ساعة. - أمرك. - ومعهم الخولية. - أمرك سعادة الباشا.
صفحة غير معروفة
قال لهم راشد: أريد أطفالا وشبابا ونساء في سن جمع القطن.
وقال حمزة: كم تريد؟ - لو كنت أريد عددا ضئيلا ما جمعت كل هؤلاء الرجال، أريد كل من تستطيعون أن تجمعوه. وأريد عربات نقل وجمالا وحميرا أيضا بقدر ما تستطيعون.
ونظر الرجال بعضهم لبعض وقال أحدهم: القطن عندنا لا يستحق الجمع الآن. - لا عليك يا حاج جودة ستعرف كل شيء في حينه. أنا أعرف أن أحدا لم يفتح في الجمع حتى الآن. كم نفرا تستطيع أن تجيئني به؟ - أمرك، أستطيع أن أحضر أكثر من مائتين؛ فالجميع الآن لا يصنعون شيئا. - وهذا بالضبط ما قصدت إليه. - وهو كذلك.
وراح كل ناظر وكل خولي يدل بعدد الأنفار التي يستطيع جمعهم، واكتمل العدد ألفا ومائتين، أدرك الباشا أنهم لن يتجاوزوا الألف وهذا ما أراد. - متى تستطيعون أن تحضروهم؟ - إن أردت الآن. - أنا فعلا أريدهم الآن. إن انتظرنا إلى الغد فشل كل الترتيب الذي أصنعه. - أمرك. - متى تحضرون؟
نظر الحاج جودة حوله لحظة ثم قال: صفار شمس يا سعادة الباشا.
وأمنت الأصوات على الموعد.
قبل أن تغرب الشمس كانت الأرض الفضاء الواقعة أمام سراي راشد باشا برهان تغص بالناس، منهم من جاء تلبية للطلب، ومنهم من جاء ليعرف السر وراء هذه الدعوة الغريبة للناس والأنعام جميعا. وفي نفس الوقت كان الباشا مجتمعا مع حمزة ونظار العزب في حجرة مقفلة لم يسمح لغيرهم بدخولها. وسأل الباشا حمزة: هل خفر العزب معكم؟ - طبعا. - هل معهم أسلحتهم؟ - طبعا. - كم بندقية عندنا؟ - كان عندنا عشر بنادق اثنتان منهما الآن في الإصلاح. عندنا الآن ثمان. - لا بأس، ما سأقوله الآن سينفذ دون أن يعرف أحد في الخارج شيئا إلا وأنتم في المكان الذي أحدده. - أمرك. - ستأخذون الأنفار جميعا إلى أرض فهمي عبد الحميد.
ونظر الرجال بعضهم إلى بعض، وأكمل الباشا: في ساعة زمن سينزل الجميعة الغيط، مع كل جماعة كلوب وحول الأرض الخفراء مع بنادقهم؛ يهددون فقط لا أريد عنفا، وقد تكتمت الخبر وأعتقد أن أحدا لن يأتي إليكم، وفهمي عبد الحميد غير موجود، وحين يأتي ستكونون قد جمعتم القطن.
الأكياس يا حمزة التي أتينا بها لقطننا أنا اشتريتها لهذه العملية. - أمرك يا سعادة الباشا. - تخرجون وتأخذون الأنفار دون أن تقولوا إلى أين حتى يجدوا أنفسهم أمام القطن يا حمزة، هذا أجر مضاعف للأنفار وكافئ كل من يبدي همة.
الناس في القرى لا يسمحون لفرصة كهذه أن تمر دون أن يعرفوا أعماق أعماق الأسرار التي تقف وراءها، إنهم واثقون أن هذا المشهد الذي يرون سيصبح تاريخا يتحاكون به ويجعلون منه على الأيام بصمة كعام الفيل الذي خلده التاريخ. فكل حدث ضخم في القرية عام فيل، ونراهم يقولون ... في سليقة مواتية، وكان هذا قبل حكاية الباشا وفهمي عبد الحميد بأسبوع أو بعدها بشهر، وهكذا ستصبح علامة زمنية يرويها أب إلى ابنه وابن إلى حفيده.
صفحة غير معروفة