والعجيب أنه في لحظته القاتمة القاسية العاصفة، بل التي سكنت فيها العاصفة عن خرابه الكامل، في هذه اللحظة كان يغبط نفسه؛ لقد وجد فيها شيئا أكرم من الغنى وأغلى من المال، لقد وجد الطمأنينة إلى السماء والإيمان بالله. ماذا يفعل غير المؤمنين لو تعرضوا لما يتعرض له؟ كان شامخا أن استطاعت نفسه أن تقر، وهي تحس أن في ثنايا نسيجها تنداح هذه النفحة الزكية الأمينة الحانية التي لا يستطيع أن يبقيها في نفوس العباد إلا اليد التي أبرأت هذه النفوس، وحنت عليه حنوا يتقاصر عنده حنو الأمهات على الفطيم.
تلك اليد الرءوم التي تشفع الكارثة باللطف، والجزع بالأمن، والفاجعة بالإيمان.
أسلم نفسه لها، واتضحت له الحجرة كما عهدها خالية من الطيوف، بريئة من الأخيلة، وانكشفت له تهاويل السقف عن فنها الرفيع الذي طالما بهره إذا ما سمت إليه عيناه. أهذه الرسوم محجوز عليها هي أيضا؟ إنها فن رفيع لا يقدر بمال، ولكن الدائنين لا يرون فيه إلا سقفا لا يكمل البيت بدونه، والبيت محجوز عليه؛ لا حياة للفن في صراع المال.
دخل إدريس إلى حجرة المكتب: فهمي بك عبد الحميد.
ولم ينزل الباشا قدميه عن المكتب، ولم يجزع، وإن كانت بعض الدهشة قد تولته. - ما له؟ - في الخارج يريد مقابلة سعادتك.
وصمت الباشا. ليس من المعقول أن يأتي ليتشفى والجرح جديد. إذن ... - دعه يدخل.
وأنزل الباشا قدميه، واستعد للقاء الرجل، فمهما يكن البيت محجوزا عليه إلا أنه حتى الآن بيته.
دخل فهمي عبد الحميد، وأسى صادق مرتسم على وجهه. - سعادة الباشا. - أهلا فهمي، اقعد، اقعد أولا. - سعادة الباشا، أنا لا أعرف ماذا أقول لك.
وعجب راشد أن رأى بواكير دموع تطفر إلى عيني الرجل، وكأنها تودع دموعا أخرى سبقتها. وأصبح الموقف أكبر من الإنسان، وأوشكت دموع راشد العصية أن تطفر، إلا أنه زجرها. فقد تكون دموع فهمي وفاء لصداقة قديمة، أو اعتذارا عن موقف سابق، أو أخوة صمدت في وجه الأحداث. أما دموع راشد فلن تكون إلا ذلة واستكانة وضعفا، ولن يفهم فهمي أنها إنما انهمرت إكبارا للإنسان حين يعلو على الإنسان. - لقد أصبح هذا البيت من نصيبي مقابل دين في الأوراق مقداره عشرون ألف جنيه، هذه أوراق الرهن اقرأها سعادتك. - وتريد البيت الآن؟ - أريدك أن تقرأ الأوراق يا سعادة الباشا.
ونظر راشد في الأوراق نظرة سريعة كانت كافية لمن هو في مثل خبرته، وقال وهو يرد الأوراق إلى فهمي: نعم فعلا. - هل ينقصها شيء؟ - لا أظن. - أعد النظر إليها يا سعادة الباشا واقرأها على مهل، ربما كان ينقصها شيء. - أعتقد أنها كاملة يا فهمي، لا ينقصها شيء. - سعادتك متأكد؟ - طبعا متأكد، وأنا على استعداد أن أسلمك. - سعادة الباشا، أرجوك تأكد من الأوراق. - يا أخي إذا كنت تريد أن تتسلم البيت الآن فأنا على استعداد. - سعادتك تقصد أن تخرج من بيتك الآن، ومعك أسامة والسيدة والدتك المريضة والسيدة حرمك؟ - هذا ما تقوله الأوراق، وما يقوله حقك؛ الرهن حيازي لمجموعة الدائنين.
صفحة غير معروفة