جلس أبي على الكثير من كراسي الحكومة، فما علق بأثوابه شيء من أقذارها، وخرج طاهر اليد، ومن طهرت في وظائف الحكومة يده نظفت جيبه، فما ارتشى، ولا هاود متزعما، ولا حالف مجرما، وما اشترك بتهريب؛ لهذا لا أذكر أنه مر بنا يوم لم نكن به في حاجة قصوى إلى المال وما نزال، وإني لأذكر قولا سمعته من أمي - وهي الأمومة مجسدة: بني، إن الله ربط على باب دارنا ذئب الفاقة، وأكبر همنا في الحياة أن نطرده عن الباب. بلى، لم ينهشنا ذلك الذئب، ولكن لهاثه أبدا يحر سنا الوجوه، وعواءه يملأ منا القلوب، وفي أيام الحرب كاد يقبلنا بأنياب حداد. - ولماذا أشرق وجهك، إذ ذكرت أيام الحرب؟!
قال: لقد ذكرت عمنا أمين تقي الدين، وقد أشرف في ذلك الحين على تهذيبنا، حين نبت العشب في ملاعب المدارس الأجنبية، فإن جريمة اتجاه ميولي إلى الأدب تلقى عليه، إذ كان يملأ البيت شعرا وأحاديث أدباء، ويغرينا على ارتكاب الشعر، واقتراف النثر، وكم من ليلة أعوزنا الطعام، فأولم لنا عمنا أمين من «مختارات الزهور»، و«كليلة ودمنة» عشاء فاخرا، تجتره ترويقة في الصباح، وعنه أخذت وجهة نظري المالية، فهو يحسب أن المال قنينة ديناميت، إذا اشتبكت عليها أصابعك فارم بها إلى أقصى ما تقدر، مخافة أن تنفجر في يديك. وأغلب ظني، أنه اليوم في بيروت، ما برح يرى في المال سلعة يملكها سواه، ولا يغبطه عليها.
أما المدارس، فقد نزلت منها في بحور مشتبكة التيارات، متدافعة الأمواج، فمن رهبان يحفرون العلم حفرا وترتيلا، إلى شيوخ يهذبون بالفلق والعصا، إلى مدارس تبشيرية إفرنجية، تزيد بالرقة حتى التأنث، إلى راهبات يسألنني في صمت : لماذا لا تتنصر يا كافر؟ وقد حملت من هذه الجنائن الزهور ويابس العشب والتبر والتراب، ودفعتها إلى تلك المطحنة الكبرى في رأس بيروت، فصهرتها وصهرتني، إلى فتى صلب، براق، بالحياة فوار، يحاول الركض إلى كل الجهات في آن واحد، فيجد نفسه بعد العناء أنه لم يبرح مكانه. كثير الأصدقاء، كثير الأعداء، لا أعلم بلدا نزلته، وليس فيه من لا يفتديني حتى بروح حماته، أو من لا يود مصرعي، ولو شنقا بحبل يحيكه من شعر أسنانه، وفي، ودود، حقود، شديد الثقة بنفسي إلى درجة الاعتداد، مسرف حتى التبذير، كثير المطالعة والاطلاع، حتى لتكاد تضايقك وفرة معلوماتي. فكه الحديث، ولكني مبتور العبارة، فما أنا بالمتحدث القصاص. مغامر في التجارة، حتى أكاد أن أسمى فيها مقامرا. كثير الحركة ولو لغير فائدة. حشري من أعلى طبقة، أفضل أن أفك العقدة بأسناني من أن أفكها بيدي. متفائل، كثير أحلام اليقظة، عقلي كقطيع من الماعز منتشر على الهضاب والأودية، ولا يجتمع إلا ساعة المغيب، حين يقبل حبري ورقي. يقال لي لو أني لملمت قواه، وشددته إلى بئر في حقل مسيج؛ لجنيت من ثمار الحياة أكثر مما جنيت حتى الآن. سريع التنفيذ إلى درجة الهوس. عاطفي، كثيرا ما ترى الدمع في عيني لذكرى حادثة طمسها الزمن، أو شخص غاب.
قلت للمؤلف: لقد أعياني تتبع خطواتك يا أستاذ، فهلا بدأت الحروف الأبجدية بالألف بدلا من الياء، وهلا سرت في حديثك سيرا متسقا، فبدأت الطريق من أولها، فإني أراك تقفز من نصف الطريق إلى آخرها، ثم ترجع القهقري، ثم تدور على نفسك. أشفق عليك أن تصاب بدواخ. فسر في طريقك كما يسير الناس.
قال: أشكرك لتذكيري، فقد فاتني أنني لا أسلك طريقا ما كما يسلكها الناس.
قلت: إنك مصيب، فأنت أفضل من الناس جميعا، ولكن بربك تابع حديثك، وقلل من حكمياتك، وخفف من مضمن مباهاتك.
أجاب متابعا سيرته: «كنت في القرية بسبب مقام أهلي فوق معظم صبيان القرية، فحرمت من الاشتباك بقتالهم وألعابهم، فأنا في طفولتي «محمي». لم أكن بالغلام الصلب الذي تتوقعه ممن ربي في جبل لبنان، وفي الشوف من جبل لبنان، ونشأت بفضل هذه الحماية وديعا، وزادت وداعتي حتى الجبن؛ إذ كنت بعد ذلك التلميذ الدرزي الوحيد في مدرسة ساحلية، كل تلاميذها مسيحيون، وفي زمن كان الدين فيها الماركة المسجلة الوحيدة، التي بها تعرف الهوية. فلقيت من ضروب الاضطهاد قبل الحرب من تلامذة تلك المدرسة ما لا أزال أرجف لذكراه. لذلك شببت وأكبر طموحي أن أخضب يدي بدماء المسيحيين، وكنت أؤثر أن تكون ضحاياي من الموارنة، فإذا اعتبرتني اليوم وزوجتي مسيحية، وخلص خلاني يحملون أسماء مثل ميشال، مارون، عازار، جورج؛ علمت أي فشل لقيته في الحياة.
وكر ثالث صيف علي المجزرة العالمية، وأنا عن المدارس منقطع، وأبي منفي في الأناضول، وليس في سوريا ولبنان مدرسة مفتوحة أبوابها إلا الجامعة الأميركية، وليس عندنا مال، والجامعة عن بعقلين بعيدة، وحدث أنني كنت أسرع المشي في البيت، فعثرت قدمي بعتبة الباب، فوقعت، وطارت من شفتي شتيمة تجديف سمعتها أمي، فأكبرت أن يزلق كبير صبيانها إلى آداب صبيان الأزقة، وأن يشب على السفه والجهل، فصاحت: «لأرسلنك إلى المدرسة، ولو بعت سقف البيت.»
الخروف الذي سمناه تقدمت ساعة إعدامه، فكان لي من صوفه «سوتر (جرزي)»، وأهوت على سجف البيت فصيرت لي منها قميصين وستة مناديل، وذهبت ببعض ألبسة أبي وأعمامي إلى الخياط فقلبها، وقلصها إلى بدلات لي، وزرت الكندرجي، فدكتر بعض الأحذية إلى أن استقامت على قدمي، واقتطعنا قيراطين من أهرام طربوش خالي، فإذا الطربوش يتوج رأسي متقلقلا، كتاج ملك بعد ثورة، وبطنت بالورق بعض القماش، فصيرت منها محفظة دراهم، وإن لم يكن هناك من دراهم، على أنها محفظة على كل حال، هكذا تهيأت في خريف 1917 إلى الرجوع إلى الدراسة، متوهما أنني سأبهر بيروت بأناقة ثيابي.
حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم، وينشدون الأغاني في أبطالهم، تراهم لا ينشرون صفحة مجيدة، يجب أن تكون من ألمع صفحاتها، تلك أسطورة لم يكن أبطالها أمراء ولا مشايخ ولا بكوات، لا عمقت جذورها في ظلام ماض بعيد ، ولا نفخها الغلو، وزركشتها الأكاذيب، بل هي بنت الأمس؛ أبطالها أكارون، أطعموا جياع جنوبي لبنان في زمن الحرب، حين سور الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود، يمنعون الغلال والقوت عن أفواهنا، ويصدون ما قد يتسرب إلينا من مدن سوريا الداخلية وقراها. إذ ذاك شخص في جنوبي لبنان فتيان وكهول تزنروا بالرصاص، وشدوا على الدواب، وراحوا يتسلقون الجبال، ويقطعون السهول، لا يصدهم ثلج ولا حر، ولا عواصف ولا أوبئة، يتسترون بالليل عن عيون الجند وغزاة البدو، يتثعلبون اتقاء للخطر، ويستأسدون إذا الخطر واجههم، إذا بلغوا حوران بعد جهاد أربع ليال رجعوا إلى جنوبي لبنان بالحنطة، وزغردت أجراس بغالهم منشدة: «لا جوع في جنوبي لبنان، ونحن صبيانه»، ولا يزال بين أحيائهم من يحمل في صدره رصاصة بدوي، أو جرحا من جنود الأتراك، أو يغص بدمعة ذكرى لرفيق تخلف عن القافلة مجندلا برصاصة، وكانت «بريطانية» تلك القوافل قافلة بعقلين، ولست أدري كيف ندعي الأدب، ولا تستفزنا مغامرات تلك القافلة إلى ملحمة، أو رواية، أو قصة. من أشاوس تلك القافلة شيخ معمم، لنسمه «أبا سلمان»، خدع الهرم بصلابة جسد خفيف، وموه على الناس عمره بأن حلق شعر رأسه ووجهه فلم يبق لهم حجة بأن يقولوا له: لا تنضم إلى القافلة، فأنت شيخ مسن. كنا في ثالث أعوام الحرب، حين حزم «أبو سلمان» ضرفي زيت من نتاج أملاكنا، وبوأني بينهما أريكة بغلته «ذئبة»، وانحدر بي إلى بيروت؛ ليبيع الزيت، ويشتري لي به ثقافة سنة في جامعة بيروت الأميركية، رحم الله من قال لي حين رجعت إلى الضيعة في آخر تلك السنة المدرسية: «يا غبن الزيت.»
صفحة غير معروفة