بقي أن تذكر أن البغضاء لون من ألوان المحبة، فاغسل بالعطر شاربيك، وهات منهما قبلة! ...
سيرة المؤلف
بقلم المعجب به حتى العبادة
سعيد تقي الدين
قلت للمؤلف، وقد ربض بما يزيد عن المائة وعشرة كيلو من جسده على كرسي، يهتز من تحته، ويصيح: حدثني عن حياتك من يوم أن بكيت لأول مرة إلى هذه الثانية، التي أراك بها باسما ب «نخب العدو» فخورا. أجاب: يؤلمني أن تكون الأيام قد اضطهدتني إلى حد أنني أحتاج أن أحدث الناس عن نفسي، بدلا من أن يتولى ذلك عني المؤرخون. قلت: خل عنك المرارة، ولا تصقعن قرائي بخيلائك، فأنا محسن إليك إذ أسألك أن تتحدث عن نفسك ، فليس في الدنيا من لا يجيد التحدث عن نفسه ويستطيبه، وعد بي إلى الخامس عشر من أيار سنة 1904، وأعلمني ما الذي حدا في ذلك الأحد بأهل «بعقلين» إلى الحداء؟ وما بال دوي البارود يهين القانون؟ ولأي جليل أمر هزجت الرجال، وزغردت النساء في فجر ذلك اليوم؟ قال: نبذت سائر الدنيا، وتخيرت بعقلين، الشوف، لبنان، بلدة أسقط بها رأسي، ولو أعطي لي أن أتقمص ألف مرة، لما نزلت إلا بعقلين دار مولد.
أما الهرج لقدومي فخطل ألفه الناس، إذ يفرحون بالطفل حين يولد، قبل أن يتثبتوا أنابغة سيكون أم أبله. على أننا بدأنا نفهم الأمور، فأنت اليوم لا تجد أن بني بعقلين أقاموا لي التماثيل في شوارعها، ولا علقوا صوري في متاحفهم، ولئن غيبني الموت في غدي، فقد تسمعهم يندبون مني الأسد والنابغة، ولكنك تحس في أجوف ندبهم مرارة الخيبة في طفل مرد نجيبا، وشب شبه نابغة، وجاء في موسم القطاف كأشجار زيتونهم في سنوات الجدب، تزهر ولا تثمر.
قلت: أنا طالب سيرتك لا فلسفتك.
فاطرد محدثا: ولدت من أبوين ينتميان إلى عائلتين طيبتين من عائلات لبنان. إن لم تكونا من ذروة الجبل، فهما بدون ريب من أعالي سفحه، ولكن تلك الرفعة ما أيدتها أموال ولا ممتلكات. فجاءت ألقابنا أكثر من نقودنا، فقد دعيت بال «بيك» و«الشيخ» منذ طفولتي، ولا ينفك أصدقائي عن اتهامي أني في تجارتي أهاود من يدعوني «مستر» و«سنيور»، وأسلخ بالسعر من يناديني باسمي عاريا.
قلت: لقد استقبلني رجال الضيعة بدوي البارود، فنشأت ولوعا بالدوي، ولو أنه قرقعة تنك فارغ، ولئن بدأت أحس مرارة الفشل المالي تستقر في نفسي، وتحرق جوانبها، فليس لما يجلبه المال من راحة وبذخ، بل لما يصحبه من «دوي».
شب أبي - وأبوه من قبله قاض - على حب الوظائف، شأن أبناء «العيال» من لبنان، وإذا أنا أغفلت ذكر بعض مزايا أبي من مثل إباء وشدة بأس وفروسية - شأن أكثر أبناء قومه - وأردت أن أذكر الصفة الغامرة نفسه لقلت: إنها الطموح، ولكن ضغط أبناء القمة سمر ساكن أعلى السفح إلى أعلى السفح حينا، ودحرجه إلى الوادي أحيانا، وأبي اليوم وقد بلغ من العمر مرحلته الهادئة، لا يزال يتطلع إلى القمة، ويهز قبضة جبارة، ويصرف بصفين من أسنان اصطناعية، ويقول: إن لم أكن قد بلغت الذروة أنا، فساري أحد أبنائي يدق بيرقنا هناك. فيجيبه صدى صامت: يمكن!
صفحة غير معروفة