وقال عليه الصلاة والسلام: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (1) وإذا كانت جوارح الوضوء مواضع الغرر والتحجيل والأنوار، وحلية الجنة الوجوه مواضع النور المشرق والغرر الزاهرة، والرؤوس معاقد التيجان، والأيدي مواضع الأسورة، والآذان مواضع الشنوف والأقراط، والأرجل مواضع التحجيل، والرقبة موضوع القلائد والأطواق، لا جرم استحب الشارع أن يعمها الوضوء لتستحق أمانها من ذلك الوعيد، وتأخذ ما يناسبها من الحلية في دار الكرامة الأبدية والنعيم الخالد، اللهم بجاهك العظيم يا عظيم، أعتق رقابنا من العذاب، واجعلنا مع الذين أوجبت لهم رضوانك في دار الجلال ومقر الفوز والخلود.
* المطلب العاشر:
اتفق العلماء على طهارة الرجلين إلى الكعبين من فرائض الوضوء بنص الكتاب، واختلفوا في نوع طهارتها، فقال الجمهور: بالغسل، وقال قوم: بالمسح (2)، وقال آخرون: بتخيير المكلف بين الغسل والمسح (3).
__________
(1) أخرجه مسلم، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، ص127، ح (250)، من طريق أبي هريرة، وأخرجه أحمد بن حنبل، مسند أبي هريرة، ص623، ح (8827).
(2) ذهب إلى القول بمسح الرجلين الإمامية من الشيعة. (ينظر: المبسوط في فقه الإمامية، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، 1/ 22، الشرق الأوسط للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 1412ه / 1992م).
(3) ذهب إلى التخيير بين المسح والغسل الحسن البصري، والطبري. (ينظر: جامع البيان، للطبري، 6/ 130).
وسبب الاختلاف القراءتان المشهورتان في لفظه {وأرجلكم} من آية الوضوء في سورة المائدة، فقرئت بالنصب عطفا على المغسول، وقرئت بالجر عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، والثانية في المسح، فالقائلون أن الغرض إحدى الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على الثانية، وصرفها بالتأويل إلى معنى ظاهر القراءة المترجحة معه، ومن اعتقد أن مدلول القراءتين غير مترجح لإحداهما، وأن الدلالة متساوية صادقة على كلا الطهارتين ليس أحد الطرفين على ظاهره بأدل من الثاني جعله من الفرض المخير فيه مثل كفارة اليمين، وبه قال الطبري وداود.
صفحة ٨٥